Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    د ر ا ســــــة ¦¦ حوار مع الذات حول الثقافة وهمومها () ¦¦

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 60786
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 32

    د ر ا ســــــة ¦¦ حوار مع الذات حول الثقافة وهمومها () ¦¦ Empty د ر ا ســــــة ¦¦ حوار مع الذات حول الثقافة وهمومها () ¦¦

    مُساهمة من طرف GODOF الثلاثاء 15 سبتمبر - 15:19

    خاطرات.. وأحلام..

    وبصرى الشام..؟‏

    عندما دخلت مدينة بصرى الشام، وسرت فوق طرقاتها الأثرية المرصوفة بالحجر المصقول.. وأقواس النصر تستقبلني بدون أبواب موصدة.. والأعمدة السامقة الشامخة، تقف على جانبي، كأنها فصيلة من الجنود الجبابرة، تقدم لي التحية...!‏

    عندما دخلت مدينة بصرى الشام أحسست برعشة من الاعتزاز الممزوج بالحزن القومي.. تكتسح كياني..! وبمزنة من هموم الوطن، تغمرني بدموع الحيرة، والشوق.. وتذكرت الجزائر ومدينة /تيمفاد/...!؟‏

    من اللافت للنظر أن هناك أشياء، وصفات.. وطبائع وعادات.. معالم ومعتقدات.. كثيرة، وكثيرة، تربط بالتماثل والتشابه بين الجزائر وسورية، رغم ما يبن البلدين من آلاف الكيلو مترات..‏

    ها هي مدينة بصرى الشام الأثرية، في قلب حوران الأشم بألوان حجارتها وأفياء أزقتها، وملامح ماضيها العتيد.. إنها تتشابه تماماً مع شقيقتها مدينة تيمفاد الأثرية في حضن الأوراس الأشم..!‏

    كانت تيمفاد، في عهد الأمن والاستقرار، تقيم مهرجاناتها الدولية للموسيقا والرقص، كشقيقتها بصرى، الشام.. فلماذا الآن يتقلص العطاء، وينكمش التواصل، وتحرم الجماهير البريئة من معايشة لحظات سعيدة عزيزة..!؟‏

    لماذا لا أشاهد اليوم فرقة فنية من الجزائر في سورية..؟‏

    ولماذا يعيش المواطن الجزائري الآن بعيداً عن أفراح تيمفاد، وأعراس بصرى الشام..!؟‏

    هل هي مشيئة الحاقدين!؟ أم أنه مجرد إمتحان سنجتاز مرحلته بنجاح..!؟‏

    أنا لست مؤرخاً، ولا علاقة لي بعلم الآثار، ولكنني أقدس تاريخ بلادي، وأعتزّ بكل أثر عريق فوق أرضي العربية ما كان مصدره.. إذ يكفي أنه ملك لوطني.. فوق تربته وتحت سمائه..‏

    عندما تجولت في أرجاء بصرى الشام، أحسست بأنني أعيش تاريخاً حياً متواصلاً.. من أوابده، وروافده البائدة، إلى موارده وعوائده السائدة..‏

    الحياة التي كانت تنبض وتدب منذ عشرات القرون، أراها ما زالت تتحرك بحيوية، وقوة، ووعي، ونحن في نهاية القرن العشرين..!؟‏

    بصرى الشام.. إذن، هي مدينة لآثار الحياة ومدينة لحياة الآثار، كدوحة خضراء يانعة، ترمي بجذورها إلى أعماق الأرض، تتمايل أغصانها المورقة، لتعانق أشعة الشمس...‏

    مسرحها اليوناني العظيم الضخم، يقال أنه من أكبر المسارح الأثرية في العالم.. وإنني شخصياً زرت كل أقطار أمتنا، ولم أر له مثيلاً في كبره وتماسكه وروعته في الوطن العربي على الأقل..‏

    هذا المسرح، الذي يضم اليوم حوالي عشرين ألف مشاهد جالس، في احتفالية ثقافية راقية.. ألا يدل على أن التاريخ العربي، هو سيد التواريخ.. وإن التاريخ العربي ظل متسلسل الأمجاد، مرتبط الحلقات، منذ بزوغ إنسانية الإنسان، وأنه سيظل على نفس المنوال.. هكذا وإلى الأبد.. لأنه، وببساطة -ممتنع عن التلاشي والذوبان..!‏

    لقد كان مهرجان بصرى الشام، الثالث عشر، فرصة ممتازة لي، للمتعة، وللاكتشاف، وللتأمل، وللحلم الجميل..‏

    تمتعت خلال أربع ليال زاهرة، بمتابعة لوحات ساحرة، في الرقص، والموسيقا، والغناء، قدمتها فرق أجنبية وعربية، فتية ناضجة..!‏

    وما زاد في متعتي، وأثار إعجابي، هو هذا الجمهور الفنان الغفير، بتفاعله وتناغمه وتواكبه مع الفرق الناشطة إلى درجة الاندماج الكلي معها..!‏

    كان المشاهدون.. يقفون صفوفاً صفوفاً.. أمام خدود مقاعدهم الحجرية العريضة، يصفقون ويهتفون، وهم يتمايلون بطرب وانسجام، وعندما تهزهم المقطوعات واللقطات الفاتنة، ينخرطون معها -شباناً وفتيات- في رقصات جماعية متناسقة مثيرة للبهجة والعجب، مما جعلني أرصد، بلهفة، تلك التدخلات العفوية الجميلة، والف برأسي نحو كل الجهات كي لا تفوتني مشاهدها الطريفة المحببة.. حتى شعرت بالتوعك يجتاح عنقي.!؟‏

    لقد كانت مدرجات المسرح، المفرطة في الارتفاع بمقاعدها الصخرية، وجوانبها الشبه دائرية.. كانت تبدو وكأنها مرآة عملاقة، ينعكس ويرتسم عليها كل ما يحدث على الخشبة من حيوية، وحركة ونشاط.. وكانت الموسيقا تملأ الفضاءات، والفرح يبتسم في عيون الجميع..‏

    تمنيت لو لم تفتني كل سهرات المهرجان، الخمس عشر.. ومع ذلك شعرت بغبطة الارتياح وواجب الامتنان للصديق الذي أتاح لي بدعوته ومرافقته سانحة غالية كريمة. لا تنسى.‏

    لقد اكتشفت في بصرى الشام، أن هذه المدينة العريقة تمتاز بظاهرة نادرة، وهي توقف الزمن بين عتباتها، وخلوده فوق أمكنتها..! فالزمن فيها دائم الانسياب كالشلال ولكن جريانه لا يختفي بعد مروره، ولا يتلاشى ليحل محله زمن آخر..‏

    بل يظل دائم التراكم والدوران، والحضور الحي..!‏

    مواقع الآثار الشامخة، والمتماسكة بإصرار ومنازل السكان العامرة، بالأطفال، والحياة.. بناء حجري متماثل في الشكل واللون، والتحدي.. والأصوات واحدة، سواء تلك التي تعترضك في الدروب وأمام الأبواب مرحبة محيية.. أم تلك التي تحس بها من أطياف الجدود.. الأبعدين، والأقربين تناجيك من خلال كل الزوايا، والأكمات..‏

    السومريون،، الآشوريون، الكلدانيون، الأراميون، السريانيون النسطوريون، النبطيون، الكنعانيون، الفينيقيون، كل أجدادنا العرب، القدامى وأبناؤهم العرب المسلمون، هذه الأواصر العريضة الكبيرة، أحسست بوجودها أمامي، وأنا أطوف أحياء مدينة بصرى.. الصغيرة..!‏

    وقفت أشاهد مسجد المبرك، هذا المكان الذي بركت فيه ناقة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.‏

    عندما رافق عمه في تجارة إلى الشام، وكان وقتها شاباً يافعاً وتذكرت كيف اهتم بأمره الراهب بحيرا النسطوري وألح على رؤيته، وأكرمه، وتنبأ برسالته، وحث عمه على ضرورة حمايته، وحراسته من مؤامرات اليهود عليه..!‏

    إذن فالحقد قديم، وعداوة اليهود للعرب والمسلمين عميقة الجذور..!؟‏

    ورأيت جامع الخضر عليه السلام.. ومدرسة أبي الفداء والمسجد المملوكي، ومسجد عمر، وقلعة الأيوبيين، والخنادق، المحيطة بها، وخزانات المياه الهائلة والحمامات، وأقواس النصر، والسوق الحجري، والطرق المرصوفة بالصخر المصقول والأعمدة العملاقة حولها، والكاندرائية والمعابد، والكنائس التي تشير إلى أقدم العهود.. رأيت..‏

    ورأيت غابات الزيتون.. وبساتين الفواكه والكروم، وآثار السواقي والأنهار والحصون..!‏

    - قلت في نفسي: لماذا علق بعض الكتاب على مسلسل /الجوارح/ الذي عرضته التلفزة السورية منذ شهور وقالوا بأنه مسلسل خيالي لا ينطبق مع واقع التاريخ العربي ولا مع حياة البدو في أجوائهم القاحلة..‏

    وأتصور لو تذكر هؤلاء الكتاب، بعض المناطق الزاهرة في حوران وغيره.. ولو ساروا بخيالهم إلى مضارب الغساسنة في تحديهم لمظاهر القياصرة.. لربما اكتشفوا أن حياة /البدو/ في تلك العهود، كانت أكثر مما شاهدناه في الجوارح -فروسية، ورفاهاً، وجمالاً.. وخضرة، وألواناً وألحاناً..؟‏

    اجتمعت بمشايخ مسنين، تتجاوز أعمارهم التسعين وكانت دهشتي عارمة، عندما استمعت إلى ذكرياتهم التاريخية المجيدة، خاصة ما يتعلق منها بنضالهم الشجاع أيام ظلم الأتراك وغزو المستعمرين الفرنسيين.‏

    كان أحدهم يشبه تماماً /الوهاج والد الباشق/ ويحتفظ بعدة رسائل وأوسمة شرفية، ورثها عن جده الذي سجل في حياته مواقف إنسانية، وقومية بطولية خالدة شهد بها له، حتى الأجانب..!‏

    - تمنيت لوان تلك الذكريات والحكايات، تحولت إلى كتب.. أو أفلام للتواصل مع ذاكرة الأجيال.‏

    - وتمنيت لو كان مهرجان بصرى الشام الفني، مرفوقاً بمعارض، وأنشطة ثقافية، وفكرية، تثريه، وتلبي أذواق كل الزائرين، وهذا ليس على همة وزارة الثقافة ببعيد، وتمنيت أن أعود إلى بصرى الشام مرة أخرى، وأرى بعض أسرارها التي ما زالت خافية.. وأرى وجهها أكثر بهاء في أناقته وصفائه.. وجماله وجلاله.. وهو حلم، يبدو أنه سيتحقق، ما دامت الإرادة الواعدة متوفرة.‏

    تشرين 3/10/1995‏



    --------------------------------------------------------------------------------


    ثقافة الجزائر قبل الاستقلال:

    لا يمكنني الإدعاء، بأنني سأفي الحديث حقه من الإحاطة في موضوع ثقافتنا في الماضي، ولا حتى في عهود الأمس القريب، فذلك فوق إمكاناتي الراهنة، وأمره يحتاج إلى مراجع كثيرة، وجهد كبير..‏

    ولعل أبرز من تصدى إلى هذا الجانب، وأجاد فيه هو الدكتور بلقاسم سعد اللَّه، في مجلداته حول تاريخ الثقافة الجزائرية.. وفي كتبه الأخرى في نفس الموضوع.‏

    إن ما أريده فقط، هو الإشارة إلى أن ثقافتنا خلال الثورة المسلحة.. وفي فترة عهد الاستعمار الفرنسي أي طيلة قرن وثلاثين سنة، كانت فارضة وجودها، سائدة بمعالمها ومعانيها، متمتعة بقوتها وحيويتها، مقتدرة بصمودها وتحدياتها، مما خيب كل مؤامرات المستعمرين، وأعجز كل محاولاتهم التخريبية لإبادتها، أو تذويبها في ثقافتهم، أو مسخها وتشويهها.‏

    وظلت الثقافة العربية الإسلامية دائماً هي منبع الشعب الجزائري، الذي ارتوت منه كل ملاحمه، وبطولاته عبر تاريخ الطويل الحافل بالصراعات والانتصارات...‏

    بالطبع -كان هناك القمع والحرمان، والفقر والجهل والإغراء والترهيب... وكل أساليب محو الشخصية، وتدميرها وتخريبها.. ولكن مقابل ذلك، كان الشعب الجزائري بفضل أصالة ثقافته، وقوة مصادرها الحضارية.. متماسكاً في وحدته متشبثاً بلغته وعقيدته، متحلياً بقيمه وتقاليده السامية، ضمن خصاله العربية النبيلة، وأخلاقه الإسلامية الفاضلة.‏

    كان رجال الثقافة وأقطابها هم الذين قادوا معارك الجهاد ضد الدخلاء، ابتداء من الأمير عبد القادر الجزائري ووالده الشيخ محي الدين.. مروراً بعشرات الثورات والانتفاضات.. إلى حركة الأمير خالد في مطلع القرن العشرين.‏

    وعندما انطلقت الحركة الوطنية السياسية في بداية هذا القرن، كانت حصانتها الأساسية وسلاحها الأول هو الثقافة الوطنية. فأسست الجمعيات الثقافية المنبثقة عن حزب الشعب، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. والكشافة الإسلامية الجزائرية.. وافتتحت المدارس الحرة، والنوادي، وظهرت الجمعيات الرياضية الخاصة، وكذلك الجمعيات المسرحية، والفنية، والأدبية.. وكانت كل الجمعيات الوطنية، واضحة المبادئ والأهداف، حثيثة النشاط السري والعلني، وثيقة الصلة بالجماهير.. يحدوها أمل واحد، وهو النضال من أجل الوصول إلى الحرية والاستقلال.‏

    وطيلة عهد حكم الاستعمار، كانت الصناعات الحرفية التقليدية منتشرة داخل كل أحياء المدن والأرياف والقرى والبوادي في الجزائر، وقد استطاع الشعب بواسطتها أن يستغني عن كل منتوجات الأجانب، من ألبسة وأدوات عمل وأثاث منزلي ووسائل نقل وكل ما له مساس بحاجات المواطنين حتى الكماليات منها.‏

    وكانت الأراضي الصعبة والضيقة التابعة لأبناء الوطن، فوق قمم الجبال أو داخل بعض الواحات الصحراوية النائية، مزدهرة بزراعاتها القليلة، وأنعامها ودواجنها، حافظة لكرامة أهلها من الفلاحين، مؤمنة لهم عيش الكفاف والعفاف، لأنها كانت مدعومة بالتعاون والجهد، محصنة بكل أساليب الرعاية الثقافية الغنية بتجاربها وقيمها الإنسانية الموروثة عن الأجداد عبر عشرات القرون.‏

    ولعل كل الجزائريين، والمطلعين العرب، يعرفون عملية ما يسمى في الجزائر بـ "التويزة" وكيف كانت تبرز حقيقة التآزر والتعاون والتضامن في أجمل وأروع الصور.. حيث أن أي مواطن كان إذا عزم أمره على بناء منزل، أو عزق أرض أو حرثها وزراعتها أو إحاطة بستانه بالأسوار الطوبية. أو جني الثمار، وجمع الغلال.. أو أي عمل صعب فما عليه سوى أن يخبر أهل حيه أو جيرانه بأنه عازم على إقامة "تويزة" -وهي تعني العمل الجماعي الصعب -في يوم كذا.. وإذا بالمتطوعين يهرعون إليه من كل حدب وصوب حتى من خارج حدود قريته، أو مدينته، وممن لا يعرفونه وكأن المشاركة في عمل التويزة، هو أمر واجب، وشيء مقدس فيساعدونه بجهدهم وخبرتهم، وينجزون العمل الذي كان يمكن أن يستغرق شهراً أو أكثر، في يومين أو ثلاثة.‏

    ومن الطريف أن المشاركين في "التويزة" يرفضون أن يأتيهم طعامهم من مكان خارج عملهم، بل يقوم بعضهم بطبخه في عين المكان، ضمن قدرة كبيرة أو عدة قدور ويتناولونه في جو من المرح، والغناء، والسعادة..‏

    كان من النادر أن تجد جزائرياً لا يمتلك في ذاكرته حصيلة معتبرة من القصص والأشعار الشعبية الرقيقة، ومن الحكم والأمثال الشعبية الهادفة، ذلك لأنه يتلقاها من أجداده ووالديه منذ طفولته الأولى، ويستمر على سماعها واستيعابها في الشارع، وفي السوق، وحيث اتجه.‏

    أما الشعراء الشعبيون ونطلق عليهم "أصحاب الشعر الملحون" أي غير الفصيح، فكانوا يعدون بالمئات ومع الأسف أغلبهم ضاعت أشعارهم بعد موتهم لأن أغلبهم كانوا أميين، ولم تسجل قصائدهم.. هنا أريد أن أسجل اسم واحد منهم، كان اسمه: بعطوش الإبراهيمي، وكان بدوياً وشاعراً فحلاً، وفارساً شجاعاً، يذكرنا بامرئ القيس، كان يلقي قصائده الفخرية والوطنية على نفس واحد، وبنبرة تثير الدهشة والإعجاب، وكانت القصيدة الواحدة من قصائده تتجاوز المئة بيت، ولكنه لم يكن ليتلعثم أو يتردد.. كانت ذاكرته جبارة.. ومات، وماتت قصائده معه..!‏

    وكانت الصحف والمجلات -رغم خطورة مهنتها، وقساوة ظروفها، وحساسية نشرها.. كانت تتحدى العراقيل ويتحمل أصحابها أفدح المصاعب، وأقسى المصائب لتواصل إشراقاتها المتقطعة، ونضالها الدائب ولو من خلف قضبان السجون...‏

    ولعل أغلب المثقفين العرب يذكرون كفاح الشيخ الصحفي والشاعر والمؤرخ أبي اليقظان إبراهيم، الذي أصدر بمفرده عشر صحف ما بين العقدين الثاني والثالث لهذا القرن وكيف تحمل السجون والأذى من أجل ذلك.‏

    وغيره العشرات من أمثال عمر راسم، والطيب العقبي، وعبد الحميد بن باديس أمام النهضة الجزائرية.. وعندما نلتفت إلى الجوانب السلوكية الاجتماعية والأخلاقية في الشخصية الثقافية للشعب العربي في الجزائر... نجد أن العلاقات الأخوية المبنية على التراحم، والتسامح، والصدق، كانت هي العلاقات السائدة والشاملة... وكان المواطنون.. أفراداً وجماعات -يتنافسون، ويتسابقون في البرهنة على اتصافهم بخصال الشهامة والشجاعة والنخوة، والكرم والفروسية والنجدة... وكان أقدس شيء عندهم، هو موضوع الشرف خاصة إذا تعلق الأمر بالمرأة أو الأبناء.. إنه الفصل الوحيد بين الموت والحياة.. إذ.. لا حياة دون شرف...‏

    كان الأميون.. وما أكثرهم في عهد الاستعمار "سجل التاريخ أن فرنسا عندما دخلت الجزائر سنة 1830 -كان عدد الأميين في الجزائر، أقل بكثير مما هم في فرنسا.. وعندما استقلت الجزائر سنة 1962 -كان عدد الأميين من الجزائريين يفوق 90% من المواطنين...!"‏

    - كان الأميون، وما أكثرهم... مدركين لجهلهم، متواضعين خجولين بين قوم عشيرتهم، وفي علاقاتهم الحذرة مع غيرهم يخاطبون المتعلم مهما كان مستواه بسيطاً بكل إكبار واحترام وتقدير، وقليل جداً.. ما كان الإنسان يصادف في طريقه جاهلاً يجهل أنه جاهل..!؟‏

    - كان الحوف العربي شقيقاً لقطعة الخبز، محبوبان مقدسان، عند كل أفراد الشعب، ومن المحرمات أن يلقى بأحدهم في الأرض أو فوق قارعة الطريق... أو داخل قمامة الفضلات.. فالخبز هو غذاء الجسد والحرف هو غذاء الروح، ومن الجريمة رميهما، دون إيداعهما مكاناً أميناً منعزلاً...‏

    - الاحتفالات الدينية، والتاريخية والوطنية، والموسمية، وحتى الأسطورية العريقة، كانت تحيا من طرف المواطنين كلهم، ونعد لها المحافل، وتقام الزينات والعراس، ويشارك الجميع في الابتهاج بها مما يثير حنق الأجانب.. خاصة مناسبات عيد الفطر والأضحى، والمولد النبوي، ويوم عاشوراء، والهجرة ومنتصف شعبان، وكل شهر رمضان، وبعض الذكريات الانتصارية ضد المستعمرين في العصر الحديث، وفي الماضي مثل غزوة بدر وفتوح مكة...!‏

    ومن الجدير هنا.. الإشارة إلى جامعة الزيتونة بتونس، وجامعة القرويين بفاس، والجامع الأزهر بالقاهرة، إن هذه المراكز العلمية والثقافية الهامة كان لها أعظم الأثر في تزويد الكثير من الجزائريين بالعلم والمعرفة.. وبالاتصال المباشر، برواد الاصلاح والثورة مما قيظ للجزائر نخبة معتبرة من رجال النهضة والتطور...‏

    وفي الوقت نفسه، لا يجب أن ننكر دور بعض الوطنيين من الثوريين التقدميين الذين تخرجوا من معاهد الغرب الأوروبي وكان لهم نعم الأثر في إحياء الشخصية الوطنية المعاصرة، وتدعيمها رغم افتقارهم أحياناً، لفهم ومعارف الحضارة العربية الإسلامية، وتقديرها حق قدرها..‏

    والخلاصة أن الثقافة العربية الجزائرية كانت قبل الاستقلال -بكل جوانبها- قائمة بدورها العفوي والطبيعي على أحسن ما يرام.. وكانت هي المناعة والحصانة ضد كل الدسائس... وكانت أعظم تعبير عن شخصية الشعب الجزائري المستقلة، رغم غياب الاستقلال في ذلك الوقت.‏

    تشرين 4/5/1996‏

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء 8 مايو - 4:28