Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    سقوط بغداد

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 60756
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 32

    سقوط بغداد Empty سقوط بغداد

    مُساهمة من طرف GODOF الإثنين 26 أكتوبر - 20:11

    سقوط بغداد

    اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة "بغداد"، وكان هولاكو قلقاً من أي مفاجئات، وبالذات من الأمراء المسلمين الذين انضموا إلى جيشه، ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضموا إليه لم يكن في نيتهم أبداً الغدر "بهولاكو"، إنما كان العزم - كل العزم - أن يغدروا "ببغداد"!!!!..

    كان مجلس الحرب معقوداً في مدينة "همدان" الفارسية (في إيران حالياً) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي.. وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
    ـ الجيش الأول: هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيرسلها "باتو" زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مروراً بمدينة كرمان شاه، وستكون مهمة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية..
    ـ الجيش الثاني: هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده "كتبغا" أفضل قواد هولاكو، وسيتحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضاً، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً على أن هذا الجيش ستكون له مهمة اختراق سهول العراق، والتوجه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية..
    ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلومترًا إلا أن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين ـ إن كانت هناك عيون ـ فلم يكتشف العباسيون الجيش إلا وهو على بعد كيلومترات معدودة من بغداد!!..
    ـ أما الجيش الثالث: فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن) والذي كان مكلفاً بفتح أوروبا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير "بيجو"، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب..
    لكن هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث:
    أما المشكلة الأولى: فإن عليه أن يضبط توقيته حتى يأتي بغداد في نفس الوقت الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيداً أمام العباسيين إن جاء مبكراً، أو ترك هولاكو وحيداً إن كان متأخراً.. فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحركات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة السرعة بدقة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلا عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهدة علمنا صعوبة هذه النقطة.. ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد، دلالة على دقة حساباته، ومهارته في التحرك بهذا الجيش الكبير..
    المشكلة الثانية: من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى.. وهي أن هذا الجيش الثالث - لكي يصل إلى بغداد - عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلومتر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلومتر أخرى في الأراضي العراقية.. وهذه كلها أراضٍ إسلامية..!! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلومتر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد.. وتذكر أننا نتحدث عن زمن ليس فيه طائرات.. أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يقابله من معوقات.. لقد كانت أقل المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد - على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعد له الجيش العباسي قبل وصوله، أما المخاطر الأكبر التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه المليء بالتجمعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتوضع له الشراك.. وتذكر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرة الأولى في حياته، لكن ـ سبحان الله! ـ كل هذا لم يحدث.. لقد قطع "بيجو" بجيشه 95% من الطريق (أي حوالي950 كيلومترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئاً..!! لقد باغت "بيجو" الخلافة العباسية على بعد خمسين كيلومترًا فقط شمال غرب بغداد!! لقد اكتشف العباسيون جيش "بيجو" تماماً كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!!..
    وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نفسر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!!
    إن تبرير اختراق "بيجو" للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين:
    أما المصيبة الأولى: فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تماماً، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها..
    أما المصيبة الثانية والأعظم: فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين... هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أي نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنب شره، وخافوا أن يدلوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك..
    خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول..
    وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل..
    فبدر الدين لؤلؤ لم يكتف بتسهيل مهمة التتار، وبالسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تعينهم على عملية "تحرير العراق" من حكم الخلافة العباسية!!..
    ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عاماً! وقيل: مائة..!!! وجدير بالذكر أيضاً أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!!!..
    ونسأل الله حسن الخاتمة..
    كانت هذه هي تحركات الجيش التتري..

    الوضع في بغداد قبل السقوط:
    كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة.. وكانت أسوارها من أقوى الأسوار.. فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وأنفق على تحصينها مبالغ طائلة وجهود هائلة.. لكن وا أسفاه على المدينة الحصينة!!..
    لقد كانت الحصون تحتاج إلى رجال.. ولكن ندر الرجال في ذلك الزمن!..

    من على رأس الدولة في الخلافة العباسية؟
    إنه الخليفة السابع والثلاثون والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد..
    إنه "المستعصم بالله"..
    اسم كبير "المستعصم بالله".. ولقب كبير أيضاً: "خليفة المسلمين"..
    ولكن أين مقومات الخلافة في "المستعصم بالله"؟..
    عندما تقرأ عن صفات الخليفة الذاتية في كتب السير مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي، أو البداية والنهاية لابن كثير أو غيرها من الكتب تجد أمراً عجباً..
    تجد أنهم يصفون رجلاً فاضلاً في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس.. (رجل يتميز بالطيبة.. مثلما يقولون)..
    يقول ابن كثير مثلاً:
    (كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتدياً بأبيه "المستنصر بالله" في العدل, وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد.. وكان سنياً على مذهب السلف..)
    ولا أدري في الحقيقة ماذا يقصد بأنه كان على مذهب السلف؟!
    ألم يكن في مذهب السلف جهاد؟!
    ألم يكن في مذهب السلف إعداد للقتال؟!
    ألم يكن في مذهب السلف دراسة لأحوال الأرض ولموازين القوى؟!
    ألم يكن في مذهب السلف حمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وغيرها؟!
    ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟!
    لقد كان الخليفة المستعصم صالحًا في ذاته.. كان رجلاً طيباً.. لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم..
    ـ لقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات..
    ـ افتقر إلى كفاءة القيادة..
    ـ افتقر إلى علو الهمة، والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله..
    ـ افتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب..
    ـ افتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف، وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية..
    ـ افتقر إلى حسن اختيار أعوانه، فتجمعت من حوله بطانة السوء.. الوزراء يسرقون, والشرطة يظلمون, وقواد الجيش متخاذلون..!!
    ـ افتقر إلى محاربة الفساد، فعم الفساد وطغى.. وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة.. وانتشرت اماكن اللهو ولفساد والإباحية والمجون.. بل وأعلن عنها صراحة!! ودعي إليها على رءوس الأشهاد!! الراقصات الخليعات ما كنَّ يختفين في هذا البلد الإسلامي بل يعلنَّ عن أنفسهن صراحة!!..
    نعم كان الخليفة محسنًا في أداء شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة.. نعم كان لسانه نظيفاً.. وكان محباً للفقراء والعلماء.. وكل ذلك جميل في مسؤوليته أمام نفسه، لكن أين مسؤوليته أمام مجتمعه وأمته؟
    لقد ضعف الخليفة تماماً عن حمل مسؤولية الشعب..
    لقد كان باستطاعة الخليفة أن يدبر من داخل العراق مائة وعشرين ألف فارس فضلاً عن المشاة والمتطوعين.. وكان الجيش التتري المحاصر لبغداد مائتي ألف مقاتل، وكان هناك أمل كبير في رد الغزاة، لكن الخليفة كان مهزوماً من داخله.. وكان فاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربّ شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال..
    وإلا.. فأين معسكرات التدريب التي تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار؟!
    أين الاهتمام بالسباحة والرماية وركوب الخيل؟!
    أين التجهيز المعنوي للأمة لتعيش حياة الجد والنضال؟!

    أنا لست متحاملاً على الخليفة!!..
    لقد حكم هذا الخليفة بلاده ما يقرب من ستة عشر عاماً..
    إنه لم يفاجأ بالحكم.. ولم يأته الأمر على عجل..
    لقد رُبّي ليكون خليفة، وتولى الحكم وهو في سن الحادية والثلاثين.. وكان شاباً ناضجاً واعياً.. وأعطي الفرصة كاملة لإدارة البلاد.. وظل في كرسي حكمه ستة عشر عاماً كاملة.. فإن كان كفئاً فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعز رأيها.. وإن كان غير ذلك فكان عليه ـ إن كان صادقا ـ أن يتنحى عن الحكم.. ويترك الأمر لمن يستطيع.. فهذه ليست مسؤولية أسرة أو قبيلة.. إنما هي مسؤولية أمة.. وأمة عظيمة كبيرة جليلة.. أمة هي خير أمة أخرجت للناس..
    لكن الخليفة لم يفعل أياً من الأمرين.. لا هو قام بالإعداد، ولا هو قام بالتنحي.. فكان لابد أن يدفع الثمن، وكان لابد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه..
    وعلى قدر عظم الأمانة التي ضاعت، سيكون الثمن الذي يدفعه الخليفة ومعه الشعب.. وسترون كيف كان ثمنًا باهظاً!!..
    والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، بل كانت خزائن الدولة ملأى بالسلاح، لكنه إما سلاح قديم بالٍ أكل عليه الدهر وشرب، وإما سلاح جديد عظيم لم يستخدم من قبل.. ولكن - للأسف الشديد - لم يتدرب عليه أحد..
    والنتيجة: جيش الخلافة العباسية جيش هزيل ضعيف، لا يصلح أن يكون جيشاً لإمارة صغيرة، فضلاً عن خلافة عظيمة..
    كان هذا شأن الخليفة في بغداد!!
    أما حكومة بغداد.. فكيف كان حالها؟!... لقد كانت البطانة كالحاكم، وكان الحاكم كالبطانة.. كانت الحكومة - كالجيش - هزيلة ضعيفة مريضة.. مكونة من "أشباح" وزراء! ليس من همهم إلا جمع المال والثروات، وتوسيع نطاق السلطة، والتحكم في رقاب العباد، والتنافس الشريف وغير الشريف فيما بينهم, والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية...! وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة، وعادى أبناءها!!.. لقد كانت تلك الوزارة سيفًا مسلطًا على رقاب وأموال المسلمين.. ولم تكن علاقاتهم بالمسلمين الذين يحمونهم علاقة الإخوة بإخوانهم.. وإنما كانت علاقة السادة بعبيدهم..


    وماذا عن الشعب في بغداد؟
    كيف كانت طبيعته؟ وكيف كانت طموحاته؟!
    لا تتوقعوا أنه شعب قد ظُلم بخليفة ضعيف أو هزيل.. فالحكام إفراز طبيعي جداً جداً للشعوب..
    "كما تكونوا يُوَلَّ عليكم"..
    الشعب في بغداد آنذاك كان شعباً كبيراً ضخماً.. كان يبلغ ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، وبذلك تعد بغداد أكثر مدن العالم ازدحاماً في ذلك الوقت، هذا إلى جانب السكان في المدن والقرى المحيطة.. فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية، ولكنهم كانوا شعباً مترفاً.. ألِف حياة الدعة والهدوء والراحة.. الملتزم فيهم بدينه اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، ونسي الفريضة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه سلم ذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد، وغير الملتزم منهم بدينه ـ وهم كثير ـ عاشوا لشهواتهم وملذاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وفي أنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب، ومنهم من التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد.. وفوق ذلك فإنهم ظلوا قرابة الأربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة التي تتم في إخوانهم المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وفارس وأذربيجان والشيشان.. سمعوا عن كل هذه المذابح ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سبي النساء المسلمات ولم يتحركوا.. وسمعوا عن خطف الأطفال المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن اغتصاب بنات المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا.. بل سمعوا أن خليفتهم "الناصر لدين الله" جد "المستعصم بالله" كان يساعد التتار ضد المسلمين الخوارزمية ولم يتحركوا!!..
    سمعوا بكل ذلك وأضعافه ولم يتحركوا..
    فلابد أن يكون الجزاء من جنس العمل!!..
    "كما تدين تدان"
    سيأتي يوم يذوق فيه هذا الشعب كل ما كان يُفعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرك له أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم كما ساعدوهم على إخوانهم من قبل.. وهكذا تدور الدوائر..
    ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره.. فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة شعوب لا تستحق الحياة.. الشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها شعوب ليس لها أن ترفع رأسها..

    ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟
    أين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟
    أين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟
    أين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولأصول الدين؟
    أليس في بغداد رجل رشيد؟!

    لقد كان هذا هو الوضع في بغداد..
    أما خارج بغداد فالوضع كما تعملون.. فهناك جيوش التتار تتحرق شوقاً لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب!..

    وبدأ الحصار!!
    وبينما المسلمون على هذه الحالة إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة "بغداد"، وكان ذلك في يوم 12 محرم من سنة 656 هجرية.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك "كتبغا" بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية..
    وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعاً عاجلاً طارئاً، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!..
    ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟
    "ونادوا ولات حين مناص..!"
    وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يؤيدون مهادنة التتار وإقامة "مباحثات سلام" معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جداً بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة.
    كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!

    لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة..
    لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد.. والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية.. لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت "غريبة"!.. قام "مجاهد الدين أيبك" و"سليمان شاه" يحضان على المقاومة.. نعم جاءت الإشارة متأخرة.. بل متأخرة جداً.. لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. ومع العلم أن العلاقات كانت متوترة جداً بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولابد للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتر.. لكن - للأسف - لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!..

    واحتار الخليفة!!..
    هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي .. فقلبه لا يقوى على الحروب..
    وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا "توهب" وإنما "تؤخذ"..
    احتار الخليفة، ثم استقر أخيراً..
    لقد استمع - والحمد لله- لكلام العقل.. لقد قرر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين ..
    والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات..
    الجهاد ليس قراراً عشوائياً..
    لا يوجد مجاهد "بالصدفة"!!..
    الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. . ومشوار طويل في طريق الإيمان..
    الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام.. ولكن على كل حال "فلنجاهد.." (على سبيل التجربة..!) وسمح الخليفة - للمرة الأولى تقريباً في حياته - باستخدام الجيش!..

    وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها "مجاهد الدين أيبك" لتلاقي جيش هولاكو المهول.. وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك" أن هناك جيشاً تترياً آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش "بيجو" القادم من أوروبا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلومترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك"..
    أدرك "مجاهد الدين أيبك" أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يطوقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تماماً على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر "مجاهد الدين أيبك" بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش "بيجو"، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة "الأنبار"، وهي المنطقة التي شهدت انتصاراً خالداً قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد "خالد بن الوليد" رضي الله عنه، ولكن في هذه المرة - للأسف - لم يكن الانتصار حليف المسلمين.. لقد بدا "بيجو" وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة، وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر "بيجو" الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع "مجاهد الدين أيبك" بفرقة صغيرة جداً من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوباً حتى عاد إلى بغداد، ولكن - للأسف - هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار!..
    تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم "بيجو" مباشرة ولم يضيع وقتاً حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التف حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: "هولاكو" من الشرق، و"بيجو" من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جداً، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!..
    والخليفة ـ ابن الخلفاء والسلاطين ـ ما تخيل أنه يحصر هذا الحصار أبداً.. وشل عقله تماماً عن التفكير!!..

    وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة..
    أيها الخليفة.. لابد أن نجلس مع التتار على "طاولة المفاوضات"..
    ولكن الخليفة يدرك أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني "مفاوضات" أبداً، وإنما يعني "استسلامًا".. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض..
    ومع ذلك وافق الخليفة المسكين- وهو مطأطئ الرأس - على الاستسلام.. أقصد على "المفاوضات!"..
    وقرر أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟!
    لقد أرسل "مؤيد الدين العلقمي الشيعي" والذي يُكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية!!..
    وأرسل معه "ماكيكا.." البطريرك النصراني في بغداد!!!!..
    وهكذا، فالوفد الرسمي الممثل للخلافة "الإسلامية" العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط:
    أحدهما شيعي والآخر نصراني!!!..
    ولا تعليق!!..

    ودارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية..
    وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في "مجلس الحكم" الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد "تحريرها" من الخليفة!!!
    وبالطبع كان رد فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفاً..
    إن كليهما يتحرق شوقاً لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو بدون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومن الذي يعد؟ إنه "هولاكو" سيد الموقف في كل المنطقة..
    وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلباً عجيباً من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين "المتطرفين" في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون "بالجهاد".. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات "السلام".. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رؤوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - "مجاهد الدين أيبك" و "سليمان شاه" اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة..
    وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلمهما فعلاً أم لم يسلمهما.. لكن وضح للجميع الغرض التتري.. ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائماً في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين..

    الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدة..
    والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة..
    والرسل طبعاً هم أهل الثقة عند الخليفة: "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"، والبطريرك النصراني "ماكيكا".. !!!
    وجاءت نتائج المفاوضات "مرضية جداً" كما صور ابن العلقمي للخليفة.. فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصراً سياسياً كبيراً، وفي نفس الوقت كانت هناك بعض الشروط "البسيطة" التي على الخليفة أن ينفذها..

    أما الوعود فكانت:
    1ـ إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم..
    2ـ يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم "المستعصم بالله"..
    3ـ يبقى "المستعصم بالله" على كرسي الحكم..
    4ـ يعطي الأمان لأهل بغداد جميعاً..
    هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية:
    1ـ تدمير الحصون العراقية..
    2ـ ردم الخنادق..
    3ـ تسليم الأسلحة..
    4ـ الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية..

    وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور ـ وفق الرؤية التترية ـ فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم!..
    وتجددت الآمال في نفس الخليفة!!..
    هل يصدق هولاكو في وعوده؟!
    إن هناك شكاً كبيراً في قلبه..
    ثم إن الشروط قاسية جداً، فهو سيتخلص تقريباً من كل إمكانية للمقاومة.. ولكنه - على الجانب الآخر - قد يظل حاكماً للبلاد.. نعم تحت رعاية تترية.. أو تحت قهر تتري.. لكنه - في النهاية - سيظل جالساً على كرسي الحكم، هذا طبعاً إن صدق هولاكو السفاح!..
    ولكن هذا احتلال!.. أيقبل به؟
    ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: "واقعية"..!! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوة فإنه حتماً سيموت.. أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال ـ ولو بسيط ـ للنجاة بالروح!!..
    نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش..
    نعم سيعيش وضيعاً.. لكنه في النهاية قد يعيش..
    نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش..

    الخليفة ما زال متردداً..
    والشعب الضخم من ورائه يعيش نفس التردد..
    نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً.. أما عامة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار..
    لقد عظمت الدنيا جداً في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحوا بها..
    لقد كثر الخبث فعلاً في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً!!..

    واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جداً.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير!! لكن - على الناحية الأخرى - فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير.. والحصار في شهر محرم سنة 656 هجرية، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258 ميلادية.. والجو شديد البرودة.. هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!..

    مصرع عرفة!!
    لم ينتظر هولاكو وقتاً طويلاً.. ولم يعط "لصديقه" الخليفة ما يريده من الوقت للتفكير المتعمق، ولكنه قرر أن يجبره على سرعة التفكير، وذلك عن طريق بدأ إطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، مستخدماً في ذلك أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الزمان.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تُروع للمرة الأولى تقريباًً في تاريخها..
    بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة 656 هجرية ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر..
    ويذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية موقفاً "بسيطاً" لا يعلق عليه، ولكنه حمل بالنسبة لي معاني كثيرة..
    يقول ابن كثير:
    "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت "تلعب" بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى "عرفة"، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي "ترقص" بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!"..
    وعجيب أن يذكر ابن كثير هذا الخبر دون تعليق!!..
    والحدث - وإن كان ظاهره بسيطاً عابراً ـ إلا أنه يحمل معانٍ هائلة..
    لقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة.. فها هو الخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.. نعم قد تكون الجارية ملك يمينه.. وقد تكون حلالاً له.. وإذا لم يكن هناك من يشاهدها غيره فلا حرج من أن يشاهدها الخليفة وهي ترقص.. لكن أين العقل في رأس الخليفة؟! العاصمة الإسلامية للخلافة محاصرة، والموت على بعد خطوات، والمدفعية المغولية تقصف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري!!..
    أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
    لقد أصبح رقص الجواري في الدماء، فصار كالطعام والشراب.. لابد منه حتى في وقت الحروب.. ولا أدري حقيقة كيف كانت نفسه تقبل أن ينشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة..
    وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة وقتل الراقصة المسكينة إذ قالوا: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فالله عز وجل قد قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب فعلاً عقول الخليفة وأعوانه وشعبه، ولا شك أن هذه العبارات المنتقاة بدقة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة التي كان يمارسها التتار بمهارة على أهل بغداد..
    ويكفي كدليل على قلة عقل الخليفة أنه بعد هذه "الكارثة" (كارثة قتل الراقصة) لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، فقد وصل الخطر إلى داخل دار الخلافة، وإنما أمر فقط بزيادة الاحتراز، ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية ولزيادة الوقاية وستر الراقصات!..
    ولا حول ولا قوة إلا بالله..


    مفاوضات النهاية..
    وظل التتار على قصفهم مدة أربعة أيام من أول صفر إلى الرابع منه سنة 656 هجرية، وفي يوم الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. ومع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً..
    لقد بقيت لحظات قليلة جداً في العمر..
    هنا لجأ الخليفة إلى صديقه الخائن مؤيد الدين العلقمي، وسأله ماذا يفعل؟ وأشار عليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه المفاوضات..
    وذهبت الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة، ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه، وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع..
    ولم يكن أمام الخليفة الضعيف أي رأي آخر..
    وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد.. خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه..
    لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن..
    وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين بن العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجلاً فقط، أما الباقون فسيخضعون - كما يقول الحرس - للتفتيش الدقيق.. ودخل الخليفة ومعه رجاله، وحجب عنه بقية الوفد.. ولكنهم لم يخضعوا لتفتيش أو غيره.. بل أخذوا جميعاً....... للقتل!!!..
    قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه.. قُتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية..
    ولم يُقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى..

    وبدأ هلاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر..
    واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله..
    اكتشف الخليفة ما كان واضحاً لكل الخلق.. ولكنه لم يره إلا الآن.. لقد اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.."
    واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه.. فإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك.. لكن - وللأسف - جاء هذا الاكتشاف متأخراً جداً..

    وبدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو:
    1ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة .. وقد كان ذلك أمراً سهلاً؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً..
    2ـ يقيد الخليفة المسلم، ويساق إلى المدينة يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال..
    3ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه!! فقُتل الولد الأكبر "أحمد أبو العباس"، وكذلك قُتل الولد الأوسط "عبد الرحمن أبو الفضائل".. ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم..
    4ـ أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل.!!. لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!!
    ذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، واللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه "صدر الدين علي بن النيار"، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن!!..
    كل هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان سيختلف جذرياً لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، ولكن ليس من سنة الله عز وجل أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جداً..

    استباحة بغداد!
    وبعد أن ألقى أهل المدينة السلاح، وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد أن انساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة.. أصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع "باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية".. والأمر بالاستباحة يعني أن الجيش التتري يفعل فيها ما يشاء.. يقتل.. يأسر.. يسبي.. يرتكب الفواحش.. يسرق.. يدمر.. يحرق.. كل ما بدا لهؤلاء الهمج أن يفعلوه فليفعلوه!!..
    وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين..
    واستبيحت مدينة بغداد العظيمة..
    اللهم لا حول ولا قوة إلا بك..
    كم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذه المدينة!!..
    كم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة!!..
    كم من طلاب العلم شدوا الرحال إلى هذه المدينة!!..
    أواه يا بغداد! .. لم يبق لك أحد!..
    أين خالد بن الوليد؟
    أين المثنى بن حارثة؟
    أين القعقاع بن عمرو؟
    أين النعمان بن مقرن؟
    أين سعد بن أبي وقاص؟
    أين الحمية في صدور الرجال؟!
    أين النخوة في أبناء المسلمين؟!
    أين العزة والكرامة؟!
    أين الذين يطلبون الجنة؟
    أين الذين يقاتلون في سبيل الله؟
    بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟
    أين؟!!!
    لا أحد!!..

    لقد فتحت بغداد أبوابها على مصاريعها..
    لا مقاومة.. لا حراك..
    لم يبق في بغداد رجال.. ولكن فقط أشباه رجال!!..
    استبيحت المدينة العظيمة بغداد..
    استبيحت مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل..
    استبيحت مدينة الرشيد.. الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً..
    استبيحت مدينة المعتصم.. فاتح عمورية ببلاد الروم..
    استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون!!..

    وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل!!..
    لقد بدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع أو ميدان.. في كل بيت أو حديقة.. في كل مسجد أو مكتبة.. واستحر القتل في المسلمين.. والمسلمون لا حول لهم ولا قوة، فكان المسلمون يهربون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، فيحرق التتار الأبوب أو يقتلعونها، ويدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أسطح الديار، فيصعد وراءهم التتار، ثم يقتلونهم على الأسطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة (والميازيب هي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح)..
    ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط.. إنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن؛ فإنهم كانوا يأخذونها سبياً.. بل وكانوا يقتلون الأطفال.. بل كانوا يقتلون الرضع!!..
    وجد جندي من التتار أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي، وقد قُتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً!!.
    قلوب كالحجارة.. أو أشد قسوة!!..

    وتزايد عدد القتلى في المدينة بشكل بشع..
    ومر اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر.. والقتل لا يتوقف.. والإبادة لا تنتهي..
    ولا دفاع.. ولا مقاومة.. فقد دخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون.. ولا يجرحون.. بل إنهم لا يموتون!!..
    كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه..
    هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟!
    هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيداً يشاهد كل هذه المآسي؟!
    1 - قتل ولدان من أولاده..
    2 - أسر ابنه الثالث..
    3 - أسرت أخواته الثلاث..
    4 - قتل معظم وزرائه..
    5 - قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته..
    6 - اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه "مؤيد الدين العلقمي الشيعي.."
    7 - دمر جيشه بكامله..
    8 - نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته..
    9 - استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه..
    10 - أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة..
    11 - انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد.. فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعاً صفصفاً..
    12 - وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير..

    لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه..
    وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه..
    لا شك أنه قال مراراً: "يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً"..
    لا شك أنه نادم "..ما أغنى ماليه.. هلك عني سلطانيه"..
    ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات..
    ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: "رب ارجعون! لعلي أعمل صالحاً فيما تركت"..
    يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!!..
    يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان..
    يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم..
    يا ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات..
    ليتني ما عشت لجمع المال..
    ليتني ما استكثرت من الجواري.. وليتني ما سمعت المعازف..
    ليتني اخترت بطانة الخير..
    ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء..
    ليتني.. ليتني.. ليتني....
    لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبداً إلى الوراء..
    روى أبو داود وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    "إذا تبايعتم بالعينة (نوع من الربا)، وأخذتم أذناب البقر (العمل في رعي المواشي)، ورضيتم بالزرع، (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أياً كانت في وقت الجهاد المتعين)، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"..
    لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة.. بل وفي العلم والتعلم.. وتركوا الجهاد في سبيل الله.. فكانت النتيجة هذا الذل الذي رأيناه..
    وهذه دروس قيمة جداً إلى كل مسلم.. حاكم أو محكوم.. عالم أو متعلم.. كبير أو صغير.. رجل أو امرأة...
    ـ لابد للحق من قوة تحميه..
    ـ الحقوق لا تُستجدى ولكن تؤخذ.. ويُبذل في سبيلها الغالي والثمين..
    ـ ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا..
    ـ أعداء الأمة لا عهد لهم..

    الموت رفسًا!!..
    وسيق الخليفة "المستعصم بالله" إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته..
    أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو بعض أعوانه بشيء عجيب..! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف..
    وهذا بالطبع نوع من الدجل .. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل ودماء المسلمين جميعاً الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة قتلهم..
    لكن هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله!!.. كأن الله عز وجل قد أراد ذلك، حتى يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين..
    لقد أمر هولاكو أن يقتل الخليفة "رفساً بالأقدام"!!!..
    وبالفعل وضع الخليفة العباسي على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم..
    وتخيل الرفس والركل بالأقدام إلى الموت!!..
    أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!!..
    لقد ظلوا يرفسونه إلى أن فارقت روحه الجسد..
    وإنا لله.. وإنا إليه راجعون..
    إن بغداد لم تسقط فقط!!
    إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد..
    وسقط معه شعبه بكامله!..
    وكان ذلك في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها.. في يوم 14 صفر سنة 656 هجرية..

    ولم تنته المأساة بقتل الخليفة.. وإنما أمر هولاكو - لعنه الله - باستمرار عملية القتل في بغداد.. فهذه أضخم مدينة على وجه الأرض في ذلك الزمان.. ولابد أن يجعلها التتار عبرة لمن بعدها..
    واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً كاملة منذ سقوطها..
    وتخيلوا كم قتل في بغداد من المسلمين؟!
    لقد قتل هناك ألف ألف مسلم (مليون مسلم..!!) ما بين رجال ونساء وأطفال!!!..
    ألف ألف مسلم قتلوا في أربعين يوماً فقط!!..
    وتخيل أمة فقدت من أهلها مليوناً في غضون أربعين يوماً فقط..
    كارثة رهيبة!..
    نذكر ذلك لنعلم أن المصائب التي يلقاها المسلمون الآن ـ مهما اشتدت ـ فهي أهون من مصائب رهيبة سابقة.. وسنرى أن المسلمين سيقومون بفضل الله من هذه المصيبة.. لنعلم أننا - بإذن الله - على القيام من مصائبنا أقدر..
    وللعلم فإنه لم ينج من القتل في بغداد إلا الجالية النصرانية فقط!..!

    وبينما كان فريق من التتار يعمل على قتل المسلمين وسفك الدماء اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مبرر إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.. لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقاً في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة..
    ماذا فعل مجرمو التتار؟!
    لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة.. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. من علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، ومن علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان..
    لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله!!.. لقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة التي مرت بها مكتبة بغداد!!!..
    عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تماماً.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى بنفسه.. وكان اسمه "كمبيس"، وحرق كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد..
    لكن هذه سنتهم!..
    حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 2 مايو - 19:03