بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
ثم أما بعد...
فلحكمة يعلمها الله خلق سبحانه الخلق على صفات مختلفة، وأحوال للنفس متقلبة، وسجايا وطبائع متعددة، فجعل منهم الغني والفقير، والقوي والضعيف، والرقيق الرفيق والفظ الغليظ، والمجتهد الحريص والكسول المتهاون.
ثم أرسل لهم رسله وشرع لهم شرائعه بما يسمو بهم عن دني الصفات، ويزكِّي قلوبهم من رين المعاصي ويطهرها من سخيف الشهوات، وينوِّرها من ظلمات الريب وحوالك الشبهات، ويُجلي البصائر الكليلة عند عشو الجهالات، فجاءت أحكامه المحكمة موافقة لمطالب الفطر التي فطرها، ومرشدة للعقول وحاكمة لها عن التفلت لئلا تتجاوز حدودها، وزاجرة للنفوس ومانعة لها من اتباع أهوائها، فهي الحق الذي ليس بعده إلا الباطل، والهدى الذي ليس دونه غير الضلال، والنور الذي ما وراءه إلا الظلمات، والسكون الذي لا يُفارَق إلا إلى اضطراب، والانشراح الذي لا يقابله إلا الضنك والضيق؛ {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124-126]، وقال الحكيم العليم: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50]، وقال سبحانه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164].
فمن آمن بربه، واستسلم له بجوارحه وقلبه، وأذعن لشريعته ظاهراً وباطناً، طابت بذلك نفسُه فآتت أكلها، واستقامت أحوالها، وحصَّلت زكاءها، ونالت تقواها، وهو الفضل العظيم الذي ما بعده فضل، والنعمة البالغة التي لا تعدلها نعمة، والمنة السابغة التي لا تقابلها منة، كيف وما ذلك إلا لازدياد رسوخ قدم العبودية لله سبحانه، وسير في الصراط المستقيم والطريق القويم الذي لا ترى فيه عوجاً ولا أمتا، والذي نسأل الله كل يوم مراراً أن يهدينا إليه وفيه ويثبتنا عليه، {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7].
وهو منتهى الطلب، وغاية الأرب، قال الله سبحانه ممتناً على عبده ورسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113]، وقال سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} [البقرة: 231]، وقال عز من قائل: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان إولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} [الحجرات: 7-8] فالمسلم مستسلم، والمؤمن مطمئن، بأن أحكام الله كلها حِكَم عُلِم منها ما علم وجهل ما جهل، وجميعها رحمة، وكلها خير وفضل.
ولما كانت النفوس كما ذكرنا، من شرودها إن لم تُلجم، وكللها ومللها إذا لم تُرَح، جعل الله سبحانه وتعالى شرائعه وأوامره وأحكامه مقسمة على أوقات وهيئات تلائم صفات النفس المختلفة وتناسب طبائعها المتنوعة فأعطت كلَّ ذي حق منها حقه، وأوفته نصيبه... بلى فإنها شريعة مَن خَلَق لمن خُلِق وهو أعلم بحاجياتها ومواطن ضعفها وقوتها، ومكمن قَبولها وشرودها: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]
وها نحن اليوم نقف على أبواب موسم من مواسم الرحمات، ونستقبل نسيماً من نسائم البركات، تعظُم فيه الطاعات، وتتضاعف الحسنات، وتُكفَّر السيئات، وتفتح أبواب السماوات، وتُكبَّل وتصفَّد فيه مردة الشياطين، وترطب وتُبلل أكباد الفقراء والمساكين، ويُلجم فيه كثيرٌ من أهل العصيان عن عصيانهم، ويرجع التائهون الشاردون إلى ربهم، لياليه خير الليالي، وأيامه من أفضل الأيام، فضائله لا تحصى، وهو منبع فيَّاض ومعيين صاف يغترف منه لنيل التقوى، فيه ينادي المنادي: يا باغي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر، تُفتَّح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران... ألا وهو: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]، كتب الله صيامه فقال: {كتب عليكم الصيام}، وهوَّن عليهم طول أيامه، وواسى قلوبهم بالاقتداء بمن سبقهم، والاهتداء بهديهم رحمة بهم وحضاً وتحريضاَ لهم، وقطعاً لعلائق النفوس التي قد تكبلهم وتكسِّلهم فقال: {كما كتب على الذين من من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات} [البقرة: 183-184]
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معرِّفاً لأمته بمكانة هذا الشهر العظيم، ومبيناً لهم فضائله، ومرشداً لاغتنامه، وحاثاً للحرص على لياليه وأيامه، جاعلاً لهم من نفسه في ذلك القدوة الحسنة قولاً وفعلاً، فهديه في ذلك كله خير الهدى، ونوره أفضل وأعظم ضياء: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21]، فمما أبانه النبي صلى الله عليه وسلم من فضائل هذا الشهر الكريم ومنزلة صيامه وقيامه، والتي تجعل النفوس تحرص أشد الحرص عليه، وتجتهد في الإخلاص لله بالعمل فيه:
أولاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال أيضاً: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [متفق عليها كلها].
ثانياً:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون) [متفق عليه].
ثالثاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل؛ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته، وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) [متفق عليه].
رابعاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – لما حضر رمضان -: (قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) [رواه أحمد والنسائي والبيهقي].
والأحاديث في ذكر فضائل هذا الشهر الكريم، والتي تبين تضاعف الحسنات فيه، وتحرض على اغتنام أوقاته لا تكاد تحصى، وليس المقصود تتبعها في هذه العجالة، وفيما أشرنا إليه كفاية لمتغي الخير، فحريٌ بكل ناصح لنفسه، حريص على تزكيتها، راغب في الخيرات لها، صادق في طلب درجات الجنان العُلى، أن يُهيأ نفسه لذلك بالتشمير عن ساق الجد وساعد الاجتهاد، فيصلح من حاله بكثرة القربات، ويُنير قلبه بتنويع الأعمال الصالحات، ويؤدِّب نفسه بمحاسن الأخلاق وآداب الربانيين، ويأطرها أطراً لئلا تحيف به عن سبيل المؤمنين إلى رذائل العصاة المتهوكين، ولا ينبغي أن تقصر في ذلك همته، وتتوانى جوارحه، ويتبع هواه، ويتمنى على الله الأماني.
فما هي إلا أيام معدودات يوشك أن تنقضي يفوز فيها من يفوز ويخسر من يخسر، ولا يعلم أحدنا أيدرك قابلَه حياً قوياً صحيحاً معافىً قادراً طائقاً لما تيسر له اليوم أم يكون في بطن الأرض ورهين التراب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم أكثر اجتهاداً على طرْق أبواب الخيرات بأنواعها، معرفة منه بفضله، وتعريفاً لأمته بمكانته، وإرشاداً إلى سلوك سبل الهدايات فيه ظاهراً وباطناً، محذراً من خيبة وخسران من ضيَّعه وفرط فيه، ناعياً من قعد يمني النفس ويعدها ولا يحرك لها في ذلك ساكناً أو يسكن متحركاً حتى إذا انفرط الوقت وانقضت الأيام وولى الشهر وقد رأى ما ناله أهل الطاعة والصبر عليها من الشرف والزكاء: {قال يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً}، ولكن هيهات أن يرد الندم فائتاً، أو يعوِّض ضائعاً.
فعلى المسلم أن يجدِّ في تحصيل كل خير تيسرت له أسبابه وفتحت أمامه أبوابه، فالصغير يكبر، والكبير يعظم، والقليل يكثُر، ولا يحتقرنَّ من المعروف شيئاً، ولا يزهِّدنَّ نفسه في شيء القُرَب، وليقتدِ في ذلك بأسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم الذي كان الناصح الشفيق علينا بقوله وفعله الموصوف من عند ربه بقوله عز وجل عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] فذي بعض أخلاقه وسننه وإرشاداته فلتعض عليها بالنواجذ ولتحذُ حذوه وتخطُ في ذلك خطوه:
منها: الإكثار من الصدقات وأنواع الصلات، وتلاوة القرآن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) [متفق عليه].
ومنها: الحرص على تفطير ما استطعت من الصائمين لتنال من الأجور مثلما نالوا فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (من فطَّر صائماً، كان له مثل أجره، غير أنه لا يُنقص من أجر الصائم شيء) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
ومنها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الصيام والقيام، وإبعاد القلب عن شوائب الرياء ومفاسد المقاصد لينال بذلك أعظم عطاء في رمضان على الإطلاق وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه كما مر في الأحاديث السالفة.
ومنها: الاجتهاد في قيام لياليه لا سيما في العشر الأواخر منه والتي فيها ليلة هي خير من ألف شهر ألا وهي ليلة القدر، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيى الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) [متفق عليه].
ومنها: الجهاد في سبيل الله بأنواعه قتالاً، وإعداداً، وإمداداً، وتحريضاً، وقياماً على أسر المجاهدين، وإخلافاً لهم فيهم بخير، فإن أعظم وأشرف غزوتين في تاريخ الإسلام كانتا في شهر رمضان، غزوة بدر وهو يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وفتح مكة الفتح المبين، والذي طُهِّرت به أشرف بقعة من نَجَس الشرك ورجس المشركين، وكما أن أجر المجاهد في شهر رمضان عظيم عظيم، فكذلك الصوم في الجهاد – لمن لا يضعفه ويذهب قوته – كبير.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
ثم أما بعد...
فلحكمة يعلمها الله خلق سبحانه الخلق على صفات مختلفة، وأحوال للنفس متقلبة، وسجايا وطبائع متعددة، فجعل منهم الغني والفقير، والقوي والضعيف، والرقيق الرفيق والفظ الغليظ، والمجتهد الحريص والكسول المتهاون.
ثم أرسل لهم رسله وشرع لهم شرائعه بما يسمو بهم عن دني الصفات، ويزكِّي قلوبهم من رين المعاصي ويطهرها من سخيف الشهوات، وينوِّرها من ظلمات الريب وحوالك الشبهات، ويُجلي البصائر الكليلة عند عشو الجهالات، فجاءت أحكامه المحكمة موافقة لمطالب الفطر التي فطرها، ومرشدة للعقول وحاكمة لها عن التفلت لئلا تتجاوز حدودها، وزاجرة للنفوس ومانعة لها من اتباع أهوائها، فهي الحق الذي ليس بعده إلا الباطل، والهدى الذي ليس دونه غير الضلال، والنور الذي ما وراءه إلا الظلمات، والسكون الذي لا يُفارَق إلا إلى اضطراب، والانشراح الذي لا يقابله إلا الضنك والضيق؛ {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124-126]، وقال الحكيم العليم: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50]، وقال سبحانه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164].
فمن آمن بربه، واستسلم له بجوارحه وقلبه، وأذعن لشريعته ظاهراً وباطناً، طابت بذلك نفسُه فآتت أكلها، واستقامت أحوالها، وحصَّلت زكاءها، ونالت تقواها، وهو الفضل العظيم الذي ما بعده فضل، والنعمة البالغة التي لا تعدلها نعمة، والمنة السابغة التي لا تقابلها منة، كيف وما ذلك إلا لازدياد رسوخ قدم العبودية لله سبحانه، وسير في الصراط المستقيم والطريق القويم الذي لا ترى فيه عوجاً ولا أمتا، والذي نسأل الله كل يوم مراراً أن يهدينا إليه وفيه ويثبتنا عليه، {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7].
وهو منتهى الطلب، وغاية الأرب، قال الله سبحانه ممتناً على عبده ورسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113]، وقال سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} [البقرة: 231]، وقال عز من قائل: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان إولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} [الحجرات: 7-8] فالمسلم مستسلم، والمؤمن مطمئن، بأن أحكام الله كلها حِكَم عُلِم منها ما علم وجهل ما جهل، وجميعها رحمة، وكلها خير وفضل.
ولما كانت النفوس كما ذكرنا، من شرودها إن لم تُلجم، وكللها ومللها إذا لم تُرَح، جعل الله سبحانه وتعالى شرائعه وأوامره وأحكامه مقسمة على أوقات وهيئات تلائم صفات النفس المختلفة وتناسب طبائعها المتنوعة فأعطت كلَّ ذي حق منها حقه، وأوفته نصيبه... بلى فإنها شريعة مَن خَلَق لمن خُلِق وهو أعلم بحاجياتها ومواطن ضعفها وقوتها، ومكمن قَبولها وشرودها: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]
وها نحن اليوم نقف على أبواب موسم من مواسم الرحمات، ونستقبل نسيماً من نسائم البركات، تعظُم فيه الطاعات، وتتضاعف الحسنات، وتُكفَّر السيئات، وتفتح أبواب السماوات، وتُكبَّل وتصفَّد فيه مردة الشياطين، وترطب وتُبلل أكباد الفقراء والمساكين، ويُلجم فيه كثيرٌ من أهل العصيان عن عصيانهم، ويرجع التائهون الشاردون إلى ربهم، لياليه خير الليالي، وأيامه من أفضل الأيام، فضائله لا تحصى، وهو منبع فيَّاض ومعيين صاف يغترف منه لنيل التقوى، فيه ينادي المنادي: يا باغي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر، تُفتَّح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران... ألا وهو: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]، كتب الله صيامه فقال: {كتب عليكم الصيام}، وهوَّن عليهم طول أيامه، وواسى قلوبهم بالاقتداء بمن سبقهم، والاهتداء بهديهم رحمة بهم وحضاً وتحريضاَ لهم، وقطعاً لعلائق النفوس التي قد تكبلهم وتكسِّلهم فقال: {كما كتب على الذين من من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات} [البقرة: 183-184]
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معرِّفاً لأمته بمكانة هذا الشهر العظيم، ومبيناً لهم فضائله، ومرشداً لاغتنامه، وحاثاً للحرص على لياليه وأيامه، جاعلاً لهم من نفسه في ذلك القدوة الحسنة قولاً وفعلاً، فهديه في ذلك كله خير الهدى، ونوره أفضل وأعظم ضياء: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21]، فمما أبانه النبي صلى الله عليه وسلم من فضائل هذا الشهر الكريم ومنزلة صيامه وقيامه، والتي تجعل النفوس تحرص أشد الحرص عليه، وتجتهد في الإخلاص لله بالعمل فيه:
أولاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال أيضاً: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [متفق عليها كلها].
ثانياً:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون) [متفق عليه].
ثالثاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل؛ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته، وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) [متفق عليه].
رابعاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – لما حضر رمضان -: (قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) [رواه أحمد والنسائي والبيهقي].
والأحاديث في ذكر فضائل هذا الشهر الكريم، والتي تبين تضاعف الحسنات فيه، وتحرض على اغتنام أوقاته لا تكاد تحصى، وليس المقصود تتبعها في هذه العجالة، وفيما أشرنا إليه كفاية لمتغي الخير، فحريٌ بكل ناصح لنفسه، حريص على تزكيتها، راغب في الخيرات لها، صادق في طلب درجات الجنان العُلى، أن يُهيأ نفسه لذلك بالتشمير عن ساق الجد وساعد الاجتهاد، فيصلح من حاله بكثرة القربات، ويُنير قلبه بتنويع الأعمال الصالحات، ويؤدِّب نفسه بمحاسن الأخلاق وآداب الربانيين، ويأطرها أطراً لئلا تحيف به عن سبيل المؤمنين إلى رذائل العصاة المتهوكين، ولا ينبغي أن تقصر في ذلك همته، وتتوانى جوارحه، ويتبع هواه، ويتمنى على الله الأماني.
فما هي إلا أيام معدودات يوشك أن تنقضي يفوز فيها من يفوز ويخسر من يخسر، ولا يعلم أحدنا أيدرك قابلَه حياً قوياً صحيحاً معافىً قادراً طائقاً لما تيسر له اليوم أم يكون في بطن الأرض ورهين التراب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم أكثر اجتهاداً على طرْق أبواب الخيرات بأنواعها، معرفة منه بفضله، وتعريفاً لأمته بمكانته، وإرشاداً إلى سلوك سبل الهدايات فيه ظاهراً وباطناً، محذراً من خيبة وخسران من ضيَّعه وفرط فيه، ناعياً من قعد يمني النفس ويعدها ولا يحرك لها في ذلك ساكناً أو يسكن متحركاً حتى إذا انفرط الوقت وانقضت الأيام وولى الشهر وقد رأى ما ناله أهل الطاعة والصبر عليها من الشرف والزكاء: {قال يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً}، ولكن هيهات أن يرد الندم فائتاً، أو يعوِّض ضائعاً.
فعلى المسلم أن يجدِّ في تحصيل كل خير تيسرت له أسبابه وفتحت أمامه أبوابه، فالصغير يكبر، والكبير يعظم، والقليل يكثُر، ولا يحتقرنَّ من المعروف شيئاً، ولا يزهِّدنَّ نفسه في شيء القُرَب، وليقتدِ في ذلك بأسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم الذي كان الناصح الشفيق علينا بقوله وفعله الموصوف من عند ربه بقوله عز وجل عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] فذي بعض أخلاقه وسننه وإرشاداته فلتعض عليها بالنواجذ ولتحذُ حذوه وتخطُ في ذلك خطوه:
منها: الإكثار من الصدقات وأنواع الصلات، وتلاوة القرآن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) [متفق عليه].
ومنها: الحرص على تفطير ما استطعت من الصائمين لتنال من الأجور مثلما نالوا فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (من فطَّر صائماً، كان له مثل أجره، غير أنه لا يُنقص من أجر الصائم شيء) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
ومنها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الصيام والقيام، وإبعاد القلب عن شوائب الرياء ومفاسد المقاصد لينال بذلك أعظم عطاء في رمضان على الإطلاق وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه كما مر في الأحاديث السالفة.
ومنها: الاجتهاد في قيام لياليه لا سيما في العشر الأواخر منه والتي فيها ليلة هي خير من ألف شهر ألا وهي ليلة القدر، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيى الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) [متفق عليه].
ومنها: الجهاد في سبيل الله بأنواعه قتالاً، وإعداداً، وإمداداً، وتحريضاً، وقياماً على أسر المجاهدين، وإخلافاً لهم فيهم بخير، فإن أعظم وأشرف غزوتين في تاريخ الإسلام كانتا في شهر رمضان، غزوة بدر وهو يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وفتح مكة الفتح المبين، والذي طُهِّرت به أشرف بقعة من نَجَس الشرك ورجس المشركين، وكما أن أجر المجاهد في شهر رمضان عظيم عظيم، فكذلك الصوم في الجهاد – لمن لا يضعفه ويذهب قوته – كبير.