الأعضاء والقوى
ورابعها: الأعضاء فمنها مفردة كالعظم، والغضروف، والرباط، والعصب، والوتر، والغشاء، واللحم، والشحم، والسمين، والأوردة، والشرايين، وكلها يحدث عن المني إلا اللحم فانه يتولد من متين الدم، ويعقده الحر، وإلا السمين والشحم فانهما يتولدان مِن مائية الدم، ويعقدهما البرد، ولذلك يحلهما الحر، ومنها: مركبة إما تركيباً أولياً كالعضل، أو ثانياً كالعين أو ثالثاً كالوجه ثم الرأس مثلاً، ومن الأعضاء المركبة: أعضاء رئيسية، وأصل لقوى ضرورية، إما بحسب بقاء الشخص وهي ثلاثة: القلب ويخدمه الشرايين، والدماغ ويخدمه العصب، والكبد ويخدمها الأوردة، وإما بحسب بقاء النوع، وهي هذه الثلاثة، والاُنثيان ويخدمهما مجرى المني إلى مستقره.
وخامسها: الأرواح، ولا نعني بها ما يسميه الفلاسفة النفس الناطقة، كما يراد بها في الكتب الإلهية، بل نعني بها جسماً لطيفاً، بخارياً، يتكون عن لطافة الأخلاط كتكون الأعضاء عن كثافتها، والأرواح هي الحاملة للقوى فكذلك أصنافها ثلاثة كأصنافها.
وسادسها: القوى وهي: ثلاثة أجناس، أحدها: القوى الطبيعية فمنها: متصرفة في الغذاء لأجل بقاء الشخص وهي: الغاذية، أو لزيادة في أقطاره على نسبة يقتضيها نوعه وهي: النامية، ومنها: متصرفة في الغذاء لأجل بقاء النوع وهي: قوتان إحداهما تفصل من أمشاج البدن جوهر المني كل جزء منه لعضو مخصوص، وثانيتهما تشكل كل جزء منه بالشكل الذي يقتضيه نوع المنفصل عنه من التخطيط والتجويف وغيرهما وهي: المصورة، والقوة الغاذية يخدمها قوى أربع أحدها: الجاذبة له النافع، وثانيها: الماسكة له مدة طبخ الهاضمة له، وثالثها: الهاضمة للإحالة، ورابعها: الدافعة للفضلة. وهذه القوى الأربع تخدمها كيفيات أربع، أعني الحرارة والبرودة، والرطوبة، واليبوسة والغاذية تخدم النامية، وهما: يخدمان المولّدة.
الجنس الثاني من القوى: هو القوى النفسانية فمنها: محرّكة، ومنها: مدركة، والمحرّكة منها: باعثة على الحركة، وتسمى: المشوقية، ويخدمها الشهوانية والغضبية ومنها: فاعلة للحركة بأن تشنج العضل فينجذب الوتر فينقبض العضو، أو تُرخي العضل فيمتد الوتر فينبسط العضو، تبارك الله أحسن الخالقين، وأما المدركة، فإما مدركة في الظاهر، أو في الباطن، أما المدركة في الظاهر فهي: قوى خمس كالجواسيس للمدركة في الباطن: قوة البصر، وموضعها: التقاطع الصليبي بين العصبتين الآتيتين إلى العينين ومن شأنها: إدراك الألوان، والأضواء، والأشكال. وقوة السمع، وموضعها: العصب المفروش على الصماخ من شأنها: إدراك الأصوات. وقوة الشم، وموضعها: العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي من شأنها: إدراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق وقوة الذائقة، وموضعها: العصب الذي في جرم اللسان من شأنها: إدراك الطعوم، وقوة اللمس، وموضعها: الجلد، وأكثر اللحم من شأنها: إدراك الملموسات في حرها، وبردها، ورطوبتها، ويبوستها وخشونتها، وملاستها، وصلابتها، ولينها وأما المدركة في الباطن فمنها: مدركة للصور الجزئية المحسوسة بإدراك الحواس الظاهرة وهي: الحس المشترك وموضعه: مقدم البطن المقدم من الدماغ، وخزانته: الخيال، وموضعه: مؤخر البطن المقدم. ومنها: مدركة للمعاني الجزئية القائمة بتلك الصور وهي: الوهم، وموضعها: البطن الأوسط، وخزانته: الحافظة، وموضعها: البطن المؤخر. ومنها: المتصرفة، وتسمى: ـ باعتبار استخدام النفس الناطقة لها ـ مفكرة، وـ باعتبار استخدام الوهم لها في الصور والمعاني الجزئية ـ متخيلة. والجنس الثالث من القوى هو: القوة الحيوانية وهي: القوة التي تعد الأعضاء لقبول القوة النفسانية.
وسابعها: الأفعال، فمنها: مفردة تتم بقوة واحدة كالجذب والدفع ومنها: مركبة بقوتين فصاعداً كالإزدراد.
(ورابعها) أي رابع الأمـــور السبعة الطبيعية: (الأعضاء) جمع عضو وهو على قسمين: مفرد، ومركب (فمنها مفردة) والمراد به الإضافي ليشمل المركب في الجملة كالوتر والغشاء المركب من العصب والرباط (كالعظم) وهو: عضو صلب بحيث لا يمكن تثنيته وهو أساس البدن (والغضروف) وهو شيء بين العظم وبين سائر الأعضاء من حيث الصلابة، فليس بصلابة العظم، ولا بلين اللحم ونحوه ويتوسط بين العظام، والأعضاء اللينة، لئلا يتأذى اللين بالعظم كالغضروف الذي على طرف عظم الكتف، كما أن من منفعة الغضروف أن يكون عماداً لأوتار بعض العضلات مثل عضل الجفن، وأن يتم به بعض الأعمال كالسمع، فإنه لو كان غاية في اللين لم يسمع صوت إذ الصوت إنما يحدث بقرع الهواء، ولو كان غاية في الصلابة لكان الصوت كريهاً لشدة القرع، فتأمل. ولغير ذلك من الفوائد (والرباط) وهو: عضو أبيض لدن ـ على وزن قفل ـ يأتي من العظم إلى العضل، أو إلى عظم آخر أو إلى عضو آخر، وله فوائد، منها: أن يتعلق به اللحم ليحتشي به الفرج، وأن تتفتل شظاياه مع شظايا العصب، ويتكون منهما الوتر، وان يستعان به في نسج الأغشية (والعصب) وهو: عضو أبيض ينعطف بسرعة، ولا يمكن قطعه إلا بشدة، ينبت من الدماغ أو النخاع فيوهي قوة الحس والحركة إلى الأعضاء، ويستعان به في تكوين الوتر والعضل والغشاء (والوتر) وهو عضو شبيه بالعصب مؤلف من العصب والرباط، وفائدته تدعيم العصب في تحريك الأعضاء (والغشاء) وهو: عضو نسج من ليف عصبي، أو رباطي أو منهما، ويفيد التحفظ على شكل العضو كغشاء المخ، وخفة الثقل في الأشياء المعلقة كالغشاء المحيط بالكلية، وإيجاد الحس لما لا حس فيه كغشاء الرئة فإن الرئة لا حس لها فغشاؤها يحس بدلاً عنها، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة (واللحم) وهو: واضح، وفائدته حفظ الأعضاء البسيطة لأنها ملفوفة به لتؤدي خدمتها، والجمال، وتسخين البدن وغير ذلك، (والشحم) وهو: جسم أبيض لين، أكثر ما يتولد على الأغشية والأعضاء العصبية، وفائدته: تليين الأعضاء التي يحتف بها وتنديتها، والإعانة على الهضم (والسمين) وهو: مثل الشحم إلا أنه أقل لينا منه، ويوجد على الأغشية التي تغشي العضل، وفائدته دفع نكاية البرد والحر الخارجيين، ودفع المصادمات، وتندية الأعضاء وتليينها، لئلا يسرع إليها الجفاف واليبس من جراء الحركة والحرارة (والأوردة) جمع وريد وهي: أجسام عصبية الجوهر مجوفة نابتة من الكبد، ساكنة، وفائدتها توزيع الدم على الأعضاء بعد تصفيته في الكبد (والشرايين) جمع شريان وهي: كالأوردة إلا أنها نابتة من القلب وتتحرك انقباضاً وانبساطاً، وفائدتها: ترويح القلب والروح ونفض البخار، وتوزيع الروح البخاري على الأعضاء. وهذه هي الــتي نحس بها عند أخذ النبض (وكلها) أي كل هذه الأعضاء المفردة (يحدث عن المني) فإن المني يكون مبدأها ثم تنمو بالدم والغذاء حتى تتخذ صورها الخارجية، وكل من مني الرجل والمرأة دخيل في ذلك (إلا اللحم فإنه يتولد من متين الدم) أي الدم الصالح (ويعقده) أي الدم (الحر) إذ يجفف رطوباته حتى يصبح لحماً (وإلا السمين والشحم فانهما يتولدان من مائية الدم) الدسمة (ويعقدهما البرد) إذ البرد يسبب التجميد: فيتجمد ماء الدم الدسم فيكون الأمتن منه سميناً والأرق منه شحماً (ولذلك) الذي ذكرنا من كونهما يعقدان بالبرد (يحلهما الحر) فيذوبان (ومنها): أي من الأعضاء (مركبة) من شيئين وأكثر (إما تركيباً أولياً) بأن يكون مركباً من المفردات (كالعضل) الذي هو مركب من اللحم والعصب والغشاء والرباط (أو) تركيباً (ثانياً) بأن كان مركباً من المركب (كالعين) المركبة من العضل وغيره (أو) تركيباً (ثالثاً) بالمعنى المذكور (كالوجه) المركب من العين وغيره (ثم) أن يكون مركباً تركيباً رابعاً، كـ: (الرأس مثلا) المركب من الوجه وغيره، وهكذا. (ومن الأعضاء المركبة: أعضاء رئيسية) سميت بذلك لإدارتها سائر الأعضاء بإعطاء الروح والقوى إليها بعد اكتسابها من الباري تعالى، (وأصل لقوى ضرورية) عطف على قوله ـ أعضاء ـ وبيان لكونها رئيسية، وهذه الأعضاء الرئيسية على قسمين، لأنها (إما) رئيسية (بحسب بقاء الشخص) حتى أن شخص زيد وعمر وبكر لا يبقى إلا بها، وإما رئيسية بحسب بقاء النوع، بمعنى أن النوع الإنساني لا يبقى طولياً إلا بها بحيث لو لم تمكن هذه الأعضاء الرئيسية لانقرض النوع الإنساني (وهي) أي الرئيسية بحسب بقاء الشخص (ثلاثة) الأول: (القلب) وهو: مركز القوة الحيوانية الباعثة على حياة البدن (ويخدمه الشرايين) النابتة منه، فإنها تنقل القوة من القلب إلى الأعضاء، وتروح عن القلب بالحركات الانقباضية والانبساطية (و) الثاني: (الدماغ) وهو: مركز القوة الإنسانية الباعثة على إدراك الكليات والتفكير، وسائر ما به يمتاز الإنسان عن الحيوان (ويخدمه العصب) فإن الأعصاب النابتة من الدماغ تنقل القوة الإنسانية منه إلى سائر الأعضاء (و) الثالث: (الكبد) وهي التي تغذي الأعضاء، فإن البدن ـ بسبب الحرارة الخارجية والداخلية ـ دار التحلل فيحتاج إلى بدل ما يتحلل، والكبد هي التي تقوم بقلب الغذاء دماً لتغذي الأعضاء (ويخدمها الأوردة) النابتة منها فإنها توصل الدم الصالح إلى الأعضاء (وأما) الرئيسية (بحسب بقاء النوع و) عدم انقطاع البشر عن الوجود فـ (هي: هذه الثلاثة) المذكورة القلب والدماغ والكبد (والاُنثيان) أي البيضتان، فإن المني الذي هو سبب بقاء النسل إنما يكمل نضجه ويستعد لقبول كونه مبدأ الإنسان في الاُنثيين. ولا يخصان بالرجال، بل هما موجودان في النساء أيضاً (ويخدمهما) أي يخدم الاُنثيين (مجرى المني) وهو في الرجل الإحليل والعروق المتوسطة بينه وبينهما، وفي المرأة عروق بين انثييها وبين محل الولد من الرحم (إلى مستقره) الذي هو الرحم.
(وخامسها) أي خامس الأمور السبعة الطبيعية: (الأرواح، ولا نعني بها ما يسميه الفلاسفة) والحكماء (النفس الناطقة، كما يراد بها) أي بالأرواح هذا المعنى (في الكتب الإلهية) كالقرآن الحكيم قال سبحانه (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) والمراد بالنفس الناطقة هي المدركة للكليات، وإنما سميت ناطقة لأن النطق من أظهر خواصها الخارجية، مقابل كون الحمار ناهقاً، والفرس صاهلاً، فإن هذه الأسماء إشارة إلى ذلك المعنى المودع في هذه الأنواع (بل نعني بها جسماً لطيفاً، بخارياً، يتكون عن لطافة الأخلاط) فإن الدم إذا دخل القلب ونضج فيه يتولد منه بخار لطيف هو الروح، ولذا يقوى عند تناول الغذاء، ويضعف عند قلّة الغذاء أو عدمه (كتكون الأعضاء عن كثافتها) أي كثافة الأخلاط لما عرفت من أن الدم يكون جزءاً للأعضاء بدل ما يتحلل منها، وهكذا سائر الأخلاط في الجملة (والأرواح هي الحاملة للقوى) الإنسانية والحيوانية والطبيعية (فكذلك) الذي ذكرنا من احتياج الأرواح إلى الحوامل يكون (أصنافها) أي أصناف الأرواح (ثلاثة كأصنافها) أي كأصناف القوى، فلكل قوة روح حامل، روح يحمل قوة إنسانية، وروح يحمل قوة حيوانية، وروح يحمل قوة طبيعية، لكن لا يخفى أن هذه هي أصول الأرواح والقوى، وإلا فلكل منها شُعب وفروع، وقد ذكروا أن القوى المودعة في البدن اثنا عشر ألف قوة.
(وسادسها) أي سادس الأمور السبعة الطبيعية: (القوى) وهي: الطاقة التي تصدر منها الأفعال (وهي: ثلاثة أجناس) القوى الطبيعية التي لا تصاحب الشعور ولا تختص بالحيوان، والقوى الحيوانية التي لا تصاحب الشعور ولكنها تختص بالحيوان، والقوى النفسانية التي تصاحب الشعور بالإضافة إلى كونها مختصة بنوع خاص من الحيوان أي الإنسان (أحدها: القوى الطبيعية) ويشارك كل نامٍ في بعض هذه القوى مع الإنسان فإن النامية مثلاً موجودة في الشجر والحيوان والإنسان، والقوى الطبيعية هي المتصرفة في الغذاء إما لأجل بقاء الشخص، وإما لأجل بقاء النوع (فمنها: متصرفة في الغذاء) أي المأكولات والمشروبات (لأجل بقاء الشخص) وكماله (وهي) المسمات بـ (الغاذية) التي تغذي الأعضاء حتى يبقى الشخص ويكمل، وقد عرفت أن مبدأ هذه القوة الكبد (أو لـ) أجل (زيادة في أقطاره) أي أقطار الشخص الثلاث الطول والعرض والعمق (على نسبة يقتضيها نوعه) أي نوع ذلك الشخص كأن يزيد في طول اليد شبراً بينما يزيد في عرضها أنملة، وفي عمقها نصف أنملة مثلاً (وهي) المسمات بـ(النامية) والقياس المنمية، لكن كلا من اسمي الفاعل والمفعول يقوم مقام الآخر لأغراض، كقوله تعالى: (حجاباً مستوراً) مع أن الحجاب ساتر، وقوله تعالى (أإنا لمردودون في الحافرة) أي المحفورة، فإن القبر محفور لا حافر، وإنما عدل ههنا لأجل الشباهة بالغاذية لفظاً، ثم لا يخفى أن قوله: (أو لزيادة الخ) خاص بالنامية فلا يشمل السمن والورم فانهما لا يزيدان في الأقطار على نسبة يقتضيها النوع كما لا يخفى، والقوة النامية تصحب الإنسان إلى حد معين، ثم بعد ذلك تجف الأعضاء الأصلية جفافاً كاملاً لا تقبل معه من دخول أجزاء الغذاء بينها وتشكلها بشكلها حتى تنمو، كما انه ظهر بذلك الفرق بين الغاذية والنامية فإن الأولى تصحب الإنسان حتى الموت بخلاف الثانية (ومنها: متصرفة في الغذاء) الذي هو الأعم من الأخلاط والمني فانهما أيضاً غذاء وإن لم يكونا بالغذاء الأولى (لأجل بقاء النوع) وذلك بإيجاد شخص جديد من النوع (وهي: قوتان) مفصّلة ومشكّلة فـ (إحداهما: تفصل من أمشاج البدن) أي أخلاطه (جوهر المني) فإن الاُنثيين من الرجل ومن المرأة تجذب من الأخلاط المبثوثة في البدن المني وتعهده للقذف إلى الرحم ليكون إنساناً جديداً (كل جزء منه) أي من المني (لعضو مخصوص) فجزء للرباط، وجزء للعظم، وجزء للغشاء، وهكذا (وثانيتهما): وهي المشكّلة (تشكل كل جزء منه) أي من المني (بالشكل الذي يقتضيه نوع المنفصل عنه) فتجعل المقدار من المني الذي انفصل عن عظم الأب والأم عظماً، والمقدار من المني الذي انفصل عن رباطهما رباطاً وهكذا ـ هذا إن أراد بالنوع المنفصل عنه الأجزاء ـ أو أن المشكّلة تجعل مني الإنسان بشكل الإنسان، ومني الحمار بشكل الحمار، ومني المزدوج بين الكلب والذئب ـ مثلاً ـ بما يتوسط بين شكليهما ـ إن أراد بالنوع الأنواع المنطقية ـ وعلى كلٍّ، فالمشكّلة تشكل كل جزء حسب مقتضى ذلك (من التخطيط) لما يحتاج إلى التخطيط (والتجويف وغيرهما) كالمقدار والموضع والخشونة وغيرها (و) هذه القوة (هي) المسمات بـ (المصوّرة) وتبارك الله أحسن الخالقين (والقوة الغاذية) للأعضاء (يخدمها قوى أربع) أو هي مجموعة تلك القوى (أحدها: الجاذبة له) الغذاء (النافع) من محله إلى الموضع الذي يراد تغذيته كأن يجذب الدم من الكبد إلى رأس الأنملة التي يراد تغذيتها لإيجاد بدل ما يتحلل (وثانيها: الماسكة له) أي للنافع (مدة طبخ الهاضمة له) إذ الغذاء لابد أن يبقى مدة حتى يستحيل إلى صورة العضو فلابد من قوة تبقيه إلى وقت الاستحالة (وثالثها: الهاضمة) والحاجة إليها (للإحالة) أي إحالة الغذاء الوارد إلى صورة العضو المراد تغذيته (ورابعها: الدافعة للفضلة) الزائدة من الغذاء لاحتياج عضو آخر إلى الاغتذاء به، كأن تدفع الكف ما زاد عن غذائها إلى الإصبع مثلاً، أو المراد الدافعة لفضلات الغذاء حتى لا تبقى فتضر بالبدن فتخرج الفضلة بصورة الشعر والعرق والوسخ ونحوها (وهذه القوى الأربع تخدمها كيفيات أربع، أعني الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة) بتفصيل طويل ذكره الشارح فراجع (و) القوة (الغاذية) التي عرفتها (تخدم) القوة (النامية) إذ لولا التغذية لم يمكن التنمية، فإن النمو إنما يحصل بالزيادة في الأقطار الثلاثة على التناسب الطبيعي، والزيادة لا تكون إلا بالغاذية (وهما) أي الغاذية والنامية (يخدمان) القوة (المولّدة) فالغاذية توصل الغذاء الذي يمكن أن ينفصل منه أجزاء المني، والنامية تعظم الأعضاء وتوسع مجاريها حتى تصير إلى الهيئة الصالحة لتوليد المني.
(الجنس الثاني من القوى: هو القوى النفسانية) المرتبطة بالنفس البــشرية، وهي تنقسم إلى محرّكة ومدركة، والمحرّكة تنقسم إلى باعثة وفاعلة، والمدركة تنقسم إلى مدركة في الظاهر، ومدركة في الباطن. فالأقسام أربعة (فمنها: محركة) أي لها مدخل في التحريك (ومنها: مدركة) للأشياء بمعنى أن لها مدخلاً في الإدراك (والمحركة منها باعثة على الحركة) فإذا ارتسم في ذهن الإنسان مطلوب بعثت القوة للتحرك نحوه، أو منفور بعثت القوة للتحرك للفرار منه (وتسمى: المشوقية) لاشتياق الإنسان لنحوه أو للفرار منه (ويخدمها الشهوانية) في المطلوبات (والغضبية) في المنفورات، فإن الإنسان إذا تصور محبوبه وجد في نفسه شوقاً نحوه، وإذا تصور أن ورائه سبعاً وجد في نفسه شوقاً نحو الفرار منه (ومنها: فاعلة للحركة بأن تشنج) تلك القوة (العضل فينجذب الوتر) فيزداد عرضاً وينقص طولاً (فينقبض العضو) الذي اتصل هذا الوتر به وتكون هناك نفرة وفرار (أو ترخي العضل فيمتد الوتر) فيزداد طولاً وينقص عرضاً (فينبسط العضو) ويكون هناك رغبة وإقبال، ومن المعلوم أن هاتين القوتين أي المحركة والفاعلة للحركة غير التصور، فإنا نجد من أنفسنا التصور أولاً، ثم الشوق نحو المتصور أو نحو الفرار عنه ثانياً، ثم الحركة للوصول أو الفرار ثلاثاً (تبارك الله احسن الخالقين) هذا في القسم الأول من القوى النفسانية التي هي المحركة (وأما المدركة، فإما مدركة في الظاهر) من البدن وهي: الباصرة، والسامعة، والشامة، واللامسة، والذائقة (أو) مدركة (في الباطن) ويراد بالباطن هنا الدماغ، وهي الحس المشترك، والخيال، والوهم. والحافظة، والمتصرفة (أما المدركة في الظاهر فهي: قوى خمس كالجواسيس) التي تأخذ الأخبار وتنتهي بها (للمدركة في الباطن) لتجلب النفع وتدفع الضرر وتتمتع بالمباهج، الأولى: (قوة البصر، وموضعها التقاطع الصليبي) أي التقاطع الشبيه بالصليب، الذي هو عبارة عن المشنقة وصورتها هكذا + (بين العصبتين) المجوفتين النابتتين من الدماغ (الآتيتين إلى العينين) فإنه نبت من يمين الدماغ عصب، ومن يساره عصب آخر، والعصب الأول يتياسر والعصب الثاني يتيامن، ثم يلتقيان على تقاطع صليبي، وفي كل منهما في موضع التقاطع ثقبة بحذاء ثقبة الآخر، وهنا محل الإبصار، ثم يأتي أحدهما إلى العين اليمنى والآخر إلى العين اليسرى (ومن شأنها) أي شأن هذه القوة البصرية (إدراك الألوان) الأحمر والأخضر والأبيض وغيرها (والأضواء) بمختلف ألوانها كضوء الشمس، وضوء القمر، وغيرهما (والأشكال) كالمربع والمخمس، والطويل والقصير، والحسن والقبيح.
وقد اختلفوا في أن الإبصار هل هو بخروج الشعاع من العين إلى المرئي، أو بانطباع صورة المرئي في الباصرة وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في كتابنا (القول السديد). (و) الثانية (قوة السمع، وموضعها: العصب المفروش على الصماخ) فإن ثقبة الأذن بعد الالتواء والاعوجاج تنتهي إلى فسحة فيها هواء راكد وسطحها الإنسي ـ الظاهر ـ مفروش بليف من العصب، وفي ذلك الليف قوة السمع و(من شأنها: إدراك الأصوات) فإن الهواء بسبب القرع والقلع يتموج، فيحمل الصوت إلى الصماخ، فيلاقي العصب ويؤثر فيه، فتدرك القوة المودعة هناك الصوت (و) الثالثة: (قوة الشم، وموضعها: العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي) النابتتان في مقدم الدماغ و(من شأنها: إدراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق) سواء قلنا بتكيف الهواء بالرائحة، أم قلنا بانفصال أجزاء صغار من المشموم، واختلاطها بالهواء ـ لاستحالة انتقال العرض ـ ولا يخفى أن مجرى الأنف عند أعلاه ينقسم إلى قسمين، قسم غليظ يتسع منحدراً إلى آخر فضاء الفم، ومنه ينفذ الهواء إلى الحنجرة وقصبة الرئة، وبه يتم التنفس من الأنف الذي هو أفضل صحياً من التنفس من الفم مباشرة في كثير من الأحيان، وقسم دقيق يصعد فيه الهواء حتى يصل إلى الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي فيتم إدراك المشموم (و) الرابعة: (قوة الذائقة، وموضعها: العصب الذي في جرم اللسان) و(من شأنها: إدراك الطعوم) بواسطة الرطوبة فإن أجزاء المطعوم الصغار تنتشر في الرطوبة فتحملها إلى الذائقة، وقيل بتكيف الرطوبة بالطعم، وهذا صحيح إن جوزنا انتقال العرض (و) الخامسة: (قوة اللمس، وموضعها: الجلد) المفروش على ظاهر بدن الإنسان (وأكثر اللحم) الذي تحت الجلد و(من شأنها: إدراك الملموسات في حرها، وبردها) كالتمييز بين النار والثلج (ورطوبتها ويبوستها) كالتمييز بين الأرض الندية وبين الأرض اليابسة (وخشونتها وملاستها) كالتمييز بين الثوب اللين والثوب الخشن (وصلابتها، ولينها) كالتمييز بين الحجر وبين الثوب، قيل وإنها هي التي تميز بين الصعود والهبوط، وبين الحركة والسكون في مثل ما إذا هبت ريح على الجسم.
(وأما) القوى (المدركة في الباطن) فهي خمس أيضاً (فمنها: مدركة للصور الجزئية المحسوسة بـ) سبب (إدراك الحواس الظاهرة) والمراد بالصور هنا: ما يمكن إدراكها بالحواس الخمس الظاهرة، لا الصور المرئية فقط، فرائحة التفاح صورة وطعمه صورة، وصوت البلبل صورة، ونعومة الحرير صورة، كما أن شكل المذكورات صورة (وهي: الحس المشترك) سمي بذلك لاشتراك الحس فيه لجميع الصور فإن كل واحدة من الحواس الظاهرة تؤدي ما أدركته إلى هذا الحس، ثم لا يخفى أن الحس المشترك كما يدرك مع المشاهدة يدرك مع فقدها، ويسمى ذلك تخيلاً، كما لو فكر الإنسان في صورة زيد الغائب، أو حرارة النار المفقودة وهكذا، كما أن فائدة هذا الحس انه يجمع بين الأشياء فيدرك أن للتفاح شكلاً خاصاً ولوناً خاصاً وطعماً خاصاً ورائحة خاصة، ولذا إذا ذكر الإنسان التفاح أتى في ذهنه لونه وشكله وطعمه ورائحته. (وموضعه) أي موضع الحس المشترك (مقدم البطن المقدم من الدماغ) وإنما عرفوا بأن موضعه هناك لأنه إذا أصاب هذا الموضع آفة لم يدرك الإنسان الصور، كما أن مواضع سائر المدركات الباطنة عرف بذلك (وخزانته) أي خزانة الحس: (الخيال) بفتح الخاء فانه إذا غابت صورة شيء عن الحس المشترك لعدم حضوره فعلاً ولا تخيله، ارتسم ذلك الشيء في الخيال، حتى إذا احتاج الإنسان إلى صورته أخرجه من الخيال إلى الحسن المشترك، ولذا كلما أردنا تخيل شيء غائب تمكنا عليه، وهكذا إذ رأينا الشيء مرة ثانية عرفنا انه الشيء الأول الذي رأيناه كما عرفنا لوازمه الأُخر، ومن هنا نحكم بكون السكر المرئي ثانياً حلواً، وبكون هذا الشخص زيداً بعدما رأيناه مرة وعرفناه (وموضعه) أي موضع الخيال (مؤخر البطن المقدم) عقب الحس المشترك (ومنها) أي من القوى الخمس الباطنة المدركة (مدركة للمعاني الجزئية) والمراد بها: ما لا يمكن أن تدرك بالحواس الظاهرة، كمحبة زيد لولده، وكراهته لعدوه (القائمة) هذه المعاني (بتلك الصور) المدركة بالحس المشترك، فإن الحب والكراهية الجزئيين إنما يدركان بقوة أخرى (هي: الوهم، وموضعها) أي موضع هذه القوة (البطن الأوسط) من الدماغ (وخزانته) التي تخزن هذه المعاني الجزئية (الحافظة) فإذا رأى الإنسان ولده أدرك انه يحبه لأنه يجلب الحب المختزن في الحافظة بالنسبة إلى الولد إلى الوهم، وكذلك فيما إذا تفكر حول ولده، وهكذا بالنسبة إلى العداوة والكراهة وما أشبههما، وتسمى هذه القوة بالذاكرة أيضاً (وموضعها) أي موضع الحافظة (البطن المؤخر) من الدماغ.
(ومنها) أي من القوى المدركة في الباطن: (المتصرفة) وهي التي تتصرف بالجمع بين الصور وبين المعاني، وبين صورة ومعنى، وبالعضل كأن يتصور إنساناً ذا رأسين، أو إنساناً بلا رأس، أو يتصور الصديق عدواً أو بالعكس، أو يتصور صداقة مع عداوة وهكذا، وحيث أن هذه القوة لا تدرك شيئاً ابتداءً، كان لابد أن يخدمها شيء مدرك آخر، فقد تستخدمها النفس الناطقة للمعاني الكلية كتصور الإنسان ناهقاً، وقد تستخدمها الواهمة للمعاني الجزئية كتصور إنسان بلا رأس (وتسمى) هذه القوة (باعتبار استخدام النفس الناطقة لها) في المعاني الكلية (مفكرة) لتصرفها في الأمور الراجعة إلى الفكر والنظر (و ـ باعتبار استخدام الوهم) والحس المشترك (لها في الصور والمعاني الجزئية ـ متخيلة) لتصرفها في الأمور الراجعة إلى الخيال، وقد عرفت أن خزانة الحس المشترك يسمى: خيالاً. (والجنس الثالث من القوى هو: القوة الحيوانية) ومقتضى النسق أن يقدمها على القوة النفسانية، لكن لا مشاحة في الترتيب كما لا يخفى (وهي: القوة التي تعد الأعضاء) أي تهيئها (لقبول القوى النفسانية) والمراد بالقوة الحيوانية: الحس والحركة الإرادية، فإنه لو لم تكن هذه القوة الحيوانية لم تفض على الأعضاء القوى النفسانية، فإن الإدراك وما أشبــه ـ من القوى النفسانية ـ فرع الحس والحركة، كما لا يخفى. (وسابعها) أي سابع الأمور السبعة الطبيعية: (الأفعال) وهي على قسمين (فمنها: مفردة تتم بقوة واحدة) وإن احتاجت إلى مقدمات (كالجذب) للغذاء (والدفع) للفضلات فإن الطبيعة تفعل الجذب بقوة واحدة هي الجاذبة، وكذلك الدفع والإمساك والهضم وما أشبه ذلك. (ومنها: مركبة يتم بقوتين فصاعداً) ثلاث قوى وأربع وهكذا (كالإزدراد) فإنه يتم بجذب المعدة للغذاء وبدفع الحلقوم وحواليه له إلى المعدة، وكالتغذية التي تتم بقوى ثلاث: المحصلة لجوهر البدل لما يتحلل، والملصقة له بالعضو، والمشبهة له بالمغتذي. وإلى هنا انتهى الجزء الأول من أجزاء الجزء النظري للطب.
ورابعها: الأعضاء فمنها مفردة كالعظم، والغضروف، والرباط، والعصب، والوتر، والغشاء، واللحم، والشحم، والسمين، والأوردة، والشرايين، وكلها يحدث عن المني إلا اللحم فانه يتولد من متين الدم، ويعقده الحر، وإلا السمين والشحم فانهما يتولدان مِن مائية الدم، ويعقدهما البرد، ولذلك يحلهما الحر، ومنها: مركبة إما تركيباً أولياً كالعضل، أو ثانياً كالعين أو ثالثاً كالوجه ثم الرأس مثلاً، ومن الأعضاء المركبة: أعضاء رئيسية، وأصل لقوى ضرورية، إما بحسب بقاء الشخص وهي ثلاثة: القلب ويخدمه الشرايين، والدماغ ويخدمه العصب، والكبد ويخدمها الأوردة، وإما بحسب بقاء النوع، وهي هذه الثلاثة، والاُنثيان ويخدمهما مجرى المني إلى مستقره.
وخامسها: الأرواح، ولا نعني بها ما يسميه الفلاسفة النفس الناطقة، كما يراد بها في الكتب الإلهية، بل نعني بها جسماً لطيفاً، بخارياً، يتكون عن لطافة الأخلاط كتكون الأعضاء عن كثافتها، والأرواح هي الحاملة للقوى فكذلك أصنافها ثلاثة كأصنافها.
وسادسها: القوى وهي: ثلاثة أجناس، أحدها: القوى الطبيعية فمنها: متصرفة في الغذاء لأجل بقاء الشخص وهي: الغاذية، أو لزيادة في أقطاره على نسبة يقتضيها نوعه وهي: النامية، ومنها: متصرفة في الغذاء لأجل بقاء النوع وهي: قوتان إحداهما تفصل من أمشاج البدن جوهر المني كل جزء منه لعضو مخصوص، وثانيتهما تشكل كل جزء منه بالشكل الذي يقتضيه نوع المنفصل عنه من التخطيط والتجويف وغيرهما وهي: المصورة، والقوة الغاذية يخدمها قوى أربع أحدها: الجاذبة له النافع، وثانيها: الماسكة له مدة طبخ الهاضمة له، وثالثها: الهاضمة للإحالة، ورابعها: الدافعة للفضلة. وهذه القوى الأربع تخدمها كيفيات أربع، أعني الحرارة والبرودة، والرطوبة، واليبوسة والغاذية تخدم النامية، وهما: يخدمان المولّدة.
الجنس الثاني من القوى: هو القوى النفسانية فمنها: محرّكة، ومنها: مدركة، والمحرّكة منها: باعثة على الحركة، وتسمى: المشوقية، ويخدمها الشهوانية والغضبية ومنها: فاعلة للحركة بأن تشنج العضل فينجذب الوتر فينقبض العضو، أو تُرخي العضل فيمتد الوتر فينبسط العضو، تبارك الله أحسن الخالقين، وأما المدركة، فإما مدركة في الظاهر، أو في الباطن، أما المدركة في الظاهر فهي: قوى خمس كالجواسيس للمدركة في الباطن: قوة البصر، وموضعها: التقاطع الصليبي بين العصبتين الآتيتين إلى العينين ومن شأنها: إدراك الألوان، والأضواء، والأشكال. وقوة السمع، وموضعها: العصب المفروش على الصماخ من شأنها: إدراك الأصوات. وقوة الشم، وموضعها: العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي من شأنها: إدراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق وقوة الذائقة، وموضعها: العصب الذي في جرم اللسان من شأنها: إدراك الطعوم، وقوة اللمس، وموضعها: الجلد، وأكثر اللحم من شأنها: إدراك الملموسات في حرها، وبردها، ورطوبتها، ويبوستها وخشونتها، وملاستها، وصلابتها، ولينها وأما المدركة في الباطن فمنها: مدركة للصور الجزئية المحسوسة بإدراك الحواس الظاهرة وهي: الحس المشترك وموضعه: مقدم البطن المقدم من الدماغ، وخزانته: الخيال، وموضعه: مؤخر البطن المقدم. ومنها: مدركة للمعاني الجزئية القائمة بتلك الصور وهي: الوهم، وموضعها: البطن الأوسط، وخزانته: الحافظة، وموضعها: البطن المؤخر. ومنها: المتصرفة، وتسمى: ـ باعتبار استخدام النفس الناطقة لها ـ مفكرة، وـ باعتبار استخدام الوهم لها في الصور والمعاني الجزئية ـ متخيلة. والجنس الثالث من القوى هو: القوة الحيوانية وهي: القوة التي تعد الأعضاء لقبول القوة النفسانية.
وسابعها: الأفعال، فمنها: مفردة تتم بقوة واحدة كالجذب والدفع ومنها: مركبة بقوتين فصاعداً كالإزدراد.
(ورابعها) أي رابع الأمـــور السبعة الطبيعية: (الأعضاء) جمع عضو وهو على قسمين: مفرد، ومركب (فمنها مفردة) والمراد به الإضافي ليشمل المركب في الجملة كالوتر والغشاء المركب من العصب والرباط (كالعظم) وهو: عضو صلب بحيث لا يمكن تثنيته وهو أساس البدن (والغضروف) وهو شيء بين العظم وبين سائر الأعضاء من حيث الصلابة، فليس بصلابة العظم، ولا بلين اللحم ونحوه ويتوسط بين العظام، والأعضاء اللينة، لئلا يتأذى اللين بالعظم كالغضروف الذي على طرف عظم الكتف، كما أن من منفعة الغضروف أن يكون عماداً لأوتار بعض العضلات مثل عضل الجفن، وأن يتم به بعض الأعمال كالسمع، فإنه لو كان غاية في اللين لم يسمع صوت إذ الصوت إنما يحدث بقرع الهواء، ولو كان غاية في الصلابة لكان الصوت كريهاً لشدة القرع، فتأمل. ولغير ذلك من الفوائد (والرباط) وهو: عضو أبيض لدن ـ على وزن قفل ـ يأتي من العظم إلى العضل، أو إلى عظم آخر أو إلى عضو آخر، وله فوائد، منها: أن يتعلق به اللحم ليحتشي به الفرج، وأن تتفتل شظاياه مع شظايا العصب، ويتكون منهما الوتر، وان يستعان به في نسج الأغشية (والعصب) وهو: عضو أبيض ينعطف بسرعة، ولا يمكن قطعه إلا بشدة، ينبت من الدماغ أو النخاع فيوهي قوة الحس والحركة إلى الأعضاء، ويستعان به في تكوين الوتر والعضل والغشاء (والوتر) وهو عضو شبيه بالعصب مؤلف من العصب والرباط، وفائدته تدعيم العصب في تحريك الأعضاء (والغشاء) وهو: عضو نسج من ليف عصبي، أو رباطي أو منهما، ويفيد التحفظ على شكل العضو كغشاء المخ، وخفة الثقل في الأشياء المعلقة كالغشاء المحيط بالكلية، وإيجاد الحس لما لا حس فيه كغشاء الرئة فإن الرئة لا حس لها فغشاؤها يحس بدلاً عنها، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة (واللحم) وهو: واضح، وفائدته حفظ الأعضاء البسيطة لأنها ملفوفة به لتؤدي خدمتها، والجمال، وتسخين البدن وغير ذلك، (والشحم) وهو: جسم أبيض لين، أكثر ما يتولد على الأغشية والأعضاء العصبية، وفائدته: تليين الأعضاء التي يحتف بها وتنديتها، والإعانة على الهضم (والسمين) وهو: مثل الشحم إلا أنه أقل لينا منه، ويوجد على الأغشية التي تغشي العضل، وفائدته دفع نكاية البرد والحر الخارجيين، ودفع المصادمات، وتندية الأعضاء وتليينها، لئلا يسرع إليها الجفاف واليبس من جراء الحركة والحرارة (والأوردة) جمع وريد وهي: أجسام عصبية الجوهر مجوفة نابتة من الكبد، ساكنة، وفائدتها توزيع الدم على الأعضاء بعد تصفيته في الكبد (والشرايين) جمع شريان وهي: كالأوردة إلا أنها نابتة من القلب وتتحرك انقباضاً وانبساطاً، وفائدتها: ترويح القلب والروح ونفض البخار، وتوزيع الروح البخاري على الأعضاء. وهذه هي الــتي نحس بها عند أخذ النبض (وكلها) أي كل هذه الأعضاء المفردة (يحدث عن المني) فإن المني يكون مبدأها ثم تنمو بالدم والغذاء حتى تتخذ صورها الخارجية، وكل من مني الرجل والمرأة دخيل في ذلك (إلا اللحم فإنه يتولد من متين الدم) أي الدم الصالح (ويعقده) أي الدم (الحر) إذ يجفف رطوباته حتى يصبح لحماً (وإلا السمين والشحم فانهما يتولدان من مائية الدم) الدسمة (ويعقدهما البرد) إذ البرد يسبب التجميد: فيتجمد ماء الدم الدسم فيكون الأمتن منه سميناً والأرق منه شحماً (ولذلك) الذي ذكرنا من كونهما يعقدان بالبرد (يحلهما الحر) فيذوبان (ومنها): أي من الأعضاء (مركبة) من شيئين وأكثر (إما تركيباً أولياً) بأن يكون مركباً من المفردات (كالعضل) الذي هو مركب من اللحم والعصب والغشاء والرباط (أو) تركيباً (ثانياً) بأن كان مركباً من المركب (كالعين) المركبة من العضل وغيره (أو) تركيباً (ثالثاً) بالمعنى المذكور (كالوجه) المركب من العين وغيره (ثم) أن يكون مركباً تركيباً رابعاً، كـ: (الرأس مثلا) المركب من الوجه وغيره، وهكذا. (ومن الأعضاء المركبة: أعضاء رئيسية) سميت بذلك لإدارتها سائر الأعضاء بإعطاء الروح والقوى إليها بعد اكتسابها من الباري تعالى، (وأصل لقوى ضرورية) عطف على قوله ـ أعضاء ـ وبيان لكونها رئيسية، وهذه الأعضاء الرئيسية على قسمين، لأنها (إما) رئيسية (بحسب بقاء الشخص) حتى أن شخص زيد وعمر وبكر لا يبقى إلا بها، وإما رئيسية بحسب بقاء النوع، بمعنى أن النوع الإنساني لا يبقى طولياً إلا بها بحيث لو لم تمكن هذه الأعضاء الرئيسية لانقرض النوع الإنساني (وهي) أي الرئيسية بحسب بقاء الشخص (ثلاثة) الأول: (القلب) وهو: مركز القوة الحيوانية الباعثة على حياة البدن (ويخدمه الشرايين) النابتة منه، فإنها تنقل القوة من القلب إلى الأعضاء، وتروح عن القلب بالحركات الانقباضية والانبساطية (و) الثاني: (الدماغ) وهو: مركز القوة الإنسانية الباعثة على إدراك الكليات والتفكير، وسائر ما به يمتاز الإنسان عن الحيوان (ويخدمه العصب) فإن الأعصاب النابتة من الدماغ تنقل القوة الإنسانية منه إلى سائر الأعضاء (و) الثالث: (الكبد) وهي التي تغذي الأعضاء، فإن البدن ـ بسبب الحرارة الخارجية والداخلية ـ دار التحلل فيحتاج إلى بدل ما يتحلل، والكبد هي التي تقوم بقلب الغذاء دماً لتغذي الأعضاء (ويخدمها الأوردة) النابتة منها فإنها توصل الدم الصالح إلى الأعضاء (وأما) الرئيسية (بحسب بقاء النوع و) عدم انقطاع البشر عن الوجود فـ (هي: هذه الثلاثة) المذكورة القلب والدماغ والكبد (والاُنثيان) أي البيضتان، فإن المني الذي هو سبب بقاء النسل إنما يكمل نضجه ويستعد لقبول كونه مبدأ الإنسان في الاُنثيين. ولا يخصان بالرجال، بل هما موجودان في النساء أيضاً (ويخدمهما) أي يخدم الاُنثيين (مجرى المني) وهو في الرجل الإحليل والعروق المتوسطة بينه وبينهما، وفي المرأة عروق بين انثييها وبين محل الولد من الرحم (إلى مستقره) الذي هو الرحم.
(وخامسها) أي خامس الأمور السبعة الطبيعية: (الأرواح، ولا نعني بها ما يسميه الفلاسفة) والحكماء (النفس الناطقة، كما يراد بها) أي بالأرواح هذا المعنى (في الكتب الإلهية) كالقرآن الحكيم قال سبحانه (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) والمراد بالنفس الناطقة هي المدركة للكليات، وإنما سميت ناطقة لأن النطق من أظهر خواصها الخارجية، مقابل كون الحمار ناهقاً، والفرس صاهلاً، فإن هذه الأسماء إشارة إلى ذلك المعنى المودع في هذه الأنواع (بل نعني بها جسماً لطيفاً، بخارياً، يتكون عن لطافة الأخلاط) فإن الدم إذا دخل القلب ونضج فيه يتولد منه بخار لطيف هو الروح، ولذا يقوى عند تناول الغذاء، ويضعف عند قلّة الغذاء أو عدمه (كتكون الأعضاء عن كثافتها) أي كثافة الأخلاط لما عرفت من أن الدم يكون جزءاً للأعضاء بدل ما يتحلل منها، وهكذا سائر الأخلاط في الجملة (والأرواح هي الحاملة للقوى) الإنسانية والحيوانية والطبيعية (فكذلك) الذي ذكرنا من احتياج الأرواح إلى الحوامل يكون (أصنافها) أي أصناف الأرواح (ثلاثة كأصنافها) أي كأصناف القوى، فلكل قوة روح حامل، روح يحمل قوة إنسانية، وروح يحمل قوة حيوانية، وروح يحمل قوة طبيعية، لكن لا يخفى أن هذه هي أصول الأرواح والقوى، وإلا فلكل منها شُعب وفروع، وقد ذكروا أن القوى المودعة في البدن اثنا عشر ألف قوة.
(وسادسها) أي سادس الأمور السبعة الطبيعية: (القوى) وهي: الطاقة التي تصدر منها الأفعال (وهي: ثلاثة أجناس) القوى الطبيعية التي لا تصاحب الشعور ولا تختص بالحيوان، والقوى الحيوانية التي لا تصاحب الشعور ولكنها تختص بالحيوان، والقوى النفسانية التي تصاحب الشعور بالإضافة إلى كونها مختصة بنوع خاص من الحيوان أي الإنسان (أحدها: القوى الطبيعية) ويشارك كل نامٍ في بعض هذه القوى مع الإنسان فإن النامية مثلاً موجودة في الشجر والحيوان والإنسان، والقوى الطبيعية هي المتصرفة في الغذاء إما لأجل بقاء الشخص، وإما لأجل بقاء النوع (فمنها: متصرفة في الغذاء) أي المأكولات والمشروبات (لأجل بقاء الشخص) وكماله (وهي) المسمات بـ (الغاذية) التي تغذي الأعضاء حتى يبقى الشخص ويكمل، وقد عرفت أن مبدأ هذه القوة الكبد (أو لـ) أجل (زيادة في أقطاره) أي أقطار الشخص الثلاث الطول والعرض والعمق (على نسبة يقتضيها نوعه) أي نوع ذلك الشخص كأن يزيد في طول اليد شبراً بينما يزيد في عرضها أنملة، وفي عمقها نصف أنملة مثلاً (وهي) المسمات بـ(النامية) والقياس المنمية، لكن كلا من اسمي الفاعل والمفعول يقوم مقام الآخر لأغراض، كقوله تعالى: (حجاباً مستوراً) مع أن الحجاب ساتر، وقوله تعالى (أإنا لمردودون في الحافرة) أي المحفورة، فإن القبر محفور لا حافر، وإنما عدل ههنا لأجل الشباهة بالغاذية لفظاً، ثم لا يخفى أن قوله: (أو لزيادة الخ) خاص بالنامية فلا يشمل السمن والورم فانهما لا يزيدان في الأقطار على نسبة يقتضيها النوع كما لا يخفى، والقوة النامية تصحب الإنسان إلى حد معين، ثم بعد ذلك تجف الأعضاء الأصلية جفافاً كاملاً لا تقبل معه من دخول أجزاء الغذاء بينها وتشكلها بشكلها حتى تنمو، كما انه ظهر بذلك الفرق بين الغاذية والنامية فإن الأولى تصحب الإنسان حتى الموت بخلاف الثانية (ومنها: متصرفة في الغذاء) الذي هو الأعم من الأخلاط والمني فانهما أيضاً غذاء وإن لم يكونا بالغذاء الأولى (لأجل بقاء النوع) وذلك بإيجاد شخص جديد من النوع (وهي: قوتان) مفصّلة ومشكّلة فـ (إحداهما: تفصل من أمشاج البدن) أي أخلاطه (جوهر المني) فإن الاُنثيين من الرجل ومن المرأة تجذب من الأخلاط المبثوثة في البدن المني وتعهده للقذف إلى الرحم ليكون إنساناً جديداً (كل جزء منه) أي من المني (لعضو مخصوص) فجزء للرباط، وجزء للعظم، وجزء للغشاء، وهكذا (وثانيتهما): وهي المشكّلة (تشكل كل جزء منه) أي من المني (بالشكل الذي يقتضيه نوع المنفصل عنه) فتجعل المقدار من المني الذي انفصل عن عظم الأب والأم عظماً، والمقدار من المني الذي انفصل عن رباطهما رباطاً وهكذا ـ هذا إن أراد بالنوع المنفصل عنه الأجزاء ـ أو أن المشكّلة تجعل مني الإنسان بشكل الإنسان، ومني الحمار بشكل الحمار، ومني المزدوج بين الكلب والذئب ـ مثلاً ـ بما يتوسط بين شكليهما ـ إن أراد بالنوع الأنواع المنطقية ـ وعلى كلٍّ، فالمشكّلة تشكل كل جزء حسب مقتضى ذلك (من التخطيط) لما يحتاج إلى التخطيط (والتجويف وغيرهما) كالمقدار والموضع والخشونة وغيرها (و) هذه القوة (هي) المسمات بـ (المصوّرة) وتبارك الله أحسن الخالقين (والقوة الغاذية) للأعضاء (يخدمها قوى أربع) أو هي مجموعة تلك القوى (أحدها: الجاذبة له) الغذاء (النافع) من محله إلى الموضع الذي يراد تغذيته كأن يجذب الدم من الكبد إلى رأس الأنملة التي يراد تغذيتها لإيجاد بدل ما يتحلل (وثانيها: الماسكة له) أي للنافع (مدة طبخ الهاضمة له) إذ الغذاء لابد أن يبقى مدة حتى يستحيل إلى صورة العضو فلابد من قوة تبقيه إلى وقت الاستحالة (وثالثها: الهاضمة) والحاجة إليها (للإحالة) أي إحالة الغذاء الوارد إلى صورة العضو المراد تغذيته (ورابعها: الدافعة للفضلة) الزائدة من الغذاء لاحتياج عضو آخر إلى الاغتذاء به، كأن تدفع الكف ما زاد عن غذائها إلى الإصبع مثلاً، أو المراد الدافعة لفضلات الغذاء حتى لا تبقى فتضر بالبدن فتخرج الفضلة بصورة الشعر والعرق والوسخ ونحوها (وهذه القوى الأربع تخدمها كيفيات أربع، أعني الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة) بتفصيل طويل ذكره الشارح فراجع (و) القوة (الغاذية) التي عرفتها (تخدم) القوة (النامية) إذ لولا التغذية لم يمكن التنمية، فإن النمو إنما يحصل بالزيادة في الأقطار الثلاثة على التناسب الطبيعي، والزيادة لا تكون إلا بالغاذية (وهما) أي الغاذية والنامية (يخدمان) القوة (المولّدة) فالغاذية توصل الغذاء الذي يمكن أن ينفصل منه أجزاء المني، والنامية تعظم الأعضاء وتوسع مجاريها حتى تصير إلى الهيئة الصالحة لتوليد المني.
(الجنس الثاني من القوى: هو القوى النفسانية) المرتبطة بالنفس البــشرية، وهي تنقسم إلى محرّكة ومدركة، والمحرّكة تنقسم إلى باعثة وفاعلة، والمدركة تنقسم إلى مدركة في الظاهر، ومدركة في الباطن. فالأقسام أربعة (فمنها: محركة) أي لها مدخل في التحريك (ومنها: مدركة) للأشياء بمعنى أن لها مدخلاً في الإدراك (والمحركة منها باعثة على الحركة) فإذا ارتسم في ذهن الإنسان مطلوب بعثت القوة للتحرك نحوه، أو منفور بعثت القوة للتحرك للفرار منه (وتسمى: المشوقية) لاشتياق الإنسان لنحوه أو للفرار منه (ويخدمها الشهوانية) في المطلوبات (والغضبية) في المنفورات، فإن الإنسان إذا تصور محبوبه وجد في نفسه شوقاً نحوه، وإذا تصور أن ورائه سبعاً وجد في نفسه شوقاً نحو الفرار منه (ومنها: فاعلة للحركة بأن تشنج) تلك القوة (العضل فينجذب الوتر) فيزداد عرضاً وينقص طولاً (فينقبض العضو) الذي اتصل هذا الوتر به وتكون هناك نفرة وفرار (أو ترخي العضل فيمتد الوتر) فيزداد طولاً وينقص عرضاً (فينبسط العضو) ويكون هناك رغبة وإقبال، ومن المعلوم أن هاتين القوتين أي المحركة والفاعلة للحركة غير التصور، فإنا نجد من أنفسنا التصور أولاً، ثم الشوق نحو المتصور أو نحو الفرار عنه ثانياً، ثم الحركة للوصول أو الفرار ثلاثاً (تبارك الله احسن الخالقين) هذا في القسم الأول من القوى النفسانية التي هي المحركة (وأما المدركة، فإما مدركة في الظاهر) من البدن وهي: الباصرة، والسامعة، والشامة، واللامسة، والذائقة (أو) مدركة (في الباطن) ويراد بالباطن هنا الدماغ، وهي الحس المشترك، والخيال، والوهم. والحافظة، والمتصرفة (أما المدركة في الظاهر فهي: قوى خمس كالجواسيس) التي تأخذ الأخبار وتنتهي بها (للمدركة في الباطن) لتجلب النفع وتدفع الضرر وتتمتع بالمباهج، الأولى: (قوة البصر، وموضعها التقاطع الصليبي) أي التقاطع الشبيه بالصليب، الذي هو عبارة عن المشنقة وصورتها هكذا + (بين العصبتين) المجوفتين النابتتين من الدماغ (الآتيتين إلى العينين) فإنه نبت من يمين الدماغ عصب، ومن يساره عصب آخر، والعصب الأول يتياسر والعصب الثاني يتيامن، ثم يلتقيان على تقاطع صليبي، وفي كل منهما في موضع التقاطع ثقبة بحذاء ثقبة الآخر، وهنا محل الإبصار، ثم يأتي أحدهما إلى العين اليمنى والآخر إلى العين اليسرى (ومن شأنها) أي شأن هذه القوة البصرية (إدراك الألوان) الأحمر والأخضر والأبيض وغيرها (والأضواء) بمختلف ألوانها كضوء الشمس، وضوء القمر، وغيرهما (والأشكال) كالمربع والمخمس، والطويل والقصير، والحسن والقبيح.
وقد اختلفوا في أن الإبصار هل هو بخروج الشعاع من العين إلى المرئي، أو بانطباع صورة المرئي في الباصرة وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في كتابنا (القول السديد). (و) الثانية (قوة السمع، وموضعها: العصب المفروش على الصماخ) فإن ثقبة الأذن بعد الالتواء والاعوجاج تنتهي إلى فسحة فيها هواء راكد وسطحها الإنسي ـ الظاهر ـ مفروش بليف من العصب، وفي ذلك الليف قوة السمع و(من شأنها: إدراك الأصوات) فإن الهواء بسبب القرع والقلع يتموج، فيحمل الصوت إلى الصماخ، فيلاقي العصب ويؤثر فيه، فتدرك القوة المودعة هناك الصوت (و) الثالثة: (قوة الشم، وموضعها: العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي) النابتتان في مقدم الدماغ و(من شأنها: إدراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق) سواء قلنا بتكيف الهواء بالرائحة، أم قلنا بانفصال أجزاء صغار من المشموم، واختلاطها بالهواء ـ لاستحالة انتقال العرض ـ ولا يخفى أن مجرى الأنف عند أعلاه ينقسم إلى قسمين، قسم غليظ يتسع منحدراً إلى آخر فضاء الفم، ومنه ينفذ الهواء إلى الحنجرة وقصبة الرئة، وبه يتم التنفس من الأنف الذي هو أفضل صحياً من التنفس من الفم مباشرة في كثير من الأحيان، وقسم دقيق يصعد فيه الهواء حتى يصل إلى الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي فيتم إدراك المشموم (و) الرابعة: (قوة الذائقة، وموضعها: العصب الذي في جرم اللسان) و(من شأنها: إدراك الطعوم) بواسطة الرطوبة فإن أجزاء المطعوم الصغار تنتشر في الرطوبة فتحملها إلى الذائقة، وقيل بتكيف الرطوبة بالطعم، وهذا صحيح إن جوزنا انتقال العرض (و) الخامسة: (قوة اللمس، وموضعها: الجلد) المفروش على ظاهر بدن الإنسان (وأكثر اللحم) الذي تحت الجلد و(من شأنها: إدراك الملموسات في حرها، وبردها) كالتمييز بين النار والثلج (ورطوبتها ويبوستها) كالتمييز بين الأرض الندية وبين الأرض اليابسة (وخشونتها وملاستها) كالتمييز بين الثوب اللين والثوب الخشن (وصلابتها، ولينها) كالتمييز بين الحجر وبين الثوب، قيل وإنها هي التي تميز بين الصعود والهبوط، وبين الحركة والسكون في مثل ما إذا هبت ريح على الجسم.
(وأما) القوى (المدركة في الباطن) فهي خمس أيضاً (فمنها: مدركة للصور الجزئية المحسوسة بـ) سبب (إدراك الحواس الظاهرة) والمراد بالصور هنا: ما يمكن إدراكها بالحواس الخمس الظاهرة، لا الصور المرئية فقط، فرائحة التفاح صورة وطعمه صورة، وصوت البلبل صورة، ونعومة الحرير صورة، كما أن شكل المذكورات صورة (وهي: الحس المشترك) سمي بذلك لاشتراك الحس فيه لجميع الصور فإن كل واحدة من الحواس الظاهرة تؤدي ما أدركته إلى هذا الحس، ثم لا يخفى أن الحس المشترك كما يدرك مع المشاهدة يدرك مع فقدها، ويسمى ذلك تخيلاً، كما لو فكر الإنسان في صورة زيد الغائب، أو حرارة النار المفقودة وهكذا، كما أن فائدة هذا الحس انه يجمع بين الأشياء فيدرك أن للتفاح شكلاً خاصاً ولوناً خاصاً وطعماً خاصاً ورائحة خاصة، ولذا إذا ذكر الإنسان التفاح أتى في ذهنه لونه وشكله وطعمه ورائحته. (وموضعه) أي موضع الحس المشترك (مقدم البطن المقدم من الدماغ) وإنما عرفوا بأن موضعه هناك لأنه إذا أصاب هذا الموضع آفة لم يدرك الإنسان الصور، كما أن مواضع سائر المدركات الباطنة عرف بذلك (وخزانته) أي خزانة الحس: (الخيال) بفتح الخاء فانه إذا غابت صورة شيء عن الحس المشترك لعدم حضوره فعلاً ولا تخيله، ارتسم ذلك الشيء في الخيال، حتى إذا احتاج الإنسان إلى صورته أخرجه من الخيال إلى الحسن المشترك، ولذا كلما أردنا تخيل شيء غائب تمكنا عليه، وهكذا إذ رأينا الشيء مرة ثانية عرفنا انه الشيء الأول الذي رأيناه كما عرفنا لوازمه الأُخر، ومن هنا نحكم بكون السكر المرئي ثانياً حلواً، وبكون هذا الشخص زيداً بعدما رأيناه مرة وعرفناه (وموضعه) أي موضع الخيال (مؤخر البطن المقدم) عقب الحس المشترك (ومنها) أي من القوى الخمس الباطنة المدركة (مدركة للمعاني الجزئية) والمراد بها: ما لا يمكن أن تدرك بالحواس الظاهرة، كمحبة زيد لولده، وكراهته لعدوه (القائمة) هذه المعاني (بتلك الصور) المدركة بالحس المشترك، فإن الحب والكراهية الجزئيين إنما يدركان بقوة أخرى (هي: الوهم، وموضعها) أي موضع هذه القوة (البطن الأوسط) من الدماغ (وخزانته) التي تخزن هذه المعاني الجزئية (الحافظة) فإذا رأى الإنسان ولده أدرك انه يحبه لأنه يجلب الحب المختزن في الحافظة بالنسبة إلى الولد إلى الوهم، وكذلك فيما إذا تفكر حول ولده، وهكذا بالنسبة إلى العداوة والكراهة وما أشبههما، وتسمى هذه القوة بالذاكرة أيضاً (وموضعها) أي موضع الحافظة (البطن المؤخر) من الدماغ.
(ومنها) أي من القوى المدركة في الباطن: (المتصرفة) وهي التي تتصرف بالجمع بين الصور وبين المعاني، وبين صورة ومعنى، وبالعضل كأن يتصور إنساناً ذا رأسين، أو إنساناً بلا رأس، أو يتصور الصديق عدواً أو بالعكس، أو يتصور صداقة مع عداوة وهكذا، وحيث أن هذه القوة لا تدرك شيئاً ابتداءً، كان لابد أن يخدمها شيء مدرك آخر، فقد تستخدمها النفس الناطقة للمعاني الكلية كتصور الإنسان ناهقاً، وقد تستخدمها الواهمة للمعاني الجزئية كتصور إنسان بلا رأس (وتسمى) هذه القوة (باعتبار استخدام النفس الناطقة لها) في المعاني الكلية (مفكرة) لتصرفها في الأمور الراجعة إلى الفكر والنظر (و ـ باعتبار استخدام الوهم) والحس المشترك (لها في الصور والمعاني الجزئية ـ متخيلة) لتصرفها في الأمور الراجعة إلى الخيال، وقد عرفت أن خزانة الحس المشترك يسمى: خيالاً. (والجنس الثالث من القوى هو: القوة الحيوانية) ومقتضى النسق أن يقدمها على القوة النفسانية، لكن لا مشاحة في الترتيب كما لا يخفى (وهي: القوة التي تعد الأعضاء) أي تهيئها (لقبول القوى النفسانية) والمراد بالقوة الحيوانية: الحس والحركة الإرادية، فإنه لو لم تكن هذه القوة الحيوانية لم تفض على الأعضاء القوى النفسانية، فإن الإدراك وما أشبــه ـ من القوى النفسانية ـ فرع الحس والحركة، كما لا يخفى. (وسابعها) أي سابع الأمور السبعة الطبيعية: (الأفعال) وهي على قسمين (فمنها: مفردة تتم بقوة واحدة) وإن احتاجت إلى مقدمات (كالجذب) للغذاء (والدفع) للفضلات فإن الطبيعة تفعل الجذب بقوة واحدة هي الجاذبة، وكذلك الدفع والإمساك والهضم وما أشبه ذلك. (ومنها: مركبة يتم بقوتين فصاعداً) ثلاث قوى وأربع وهكذا (كالإزدراد) فإنه يتم بجذب المعدة للغذاء وبدفع الحلقوم وحواليه له إلى المعدة، وكالتغذية التي تتم بقوى ثلاث: المحصلة لجوهر البدل لما يتحلل، والملصقة له بالعضو، والمشبهة له بالمغتذي. وإلى هنا انتهى الجزء الأول من أجزاء الجزء النظري للطب.
عدل سابقا من قبل godof في الثلاثاء 15 سبتمبر - 16:25 عدل 1 مرات