منى طفلة ذكية، لم تتجاوز العاشرة من عمرها، جاءت في حالة انهيار نفسي بصحبة أمها التي تحتل مركزا علميا مرموقا. ترفض الأكل والنوم، متعثرة دراسيا رغم أنها كانت من المتفوقات في مدرستها الأجنبية، تعاني تبولا لا إراديا منذ شهور، وتصرخ بشكل هستيري، وتكره الاقتراب من أمها، بل وترفض التعامل معها بشكل قاطع، وأكثر ما يؤلم الأم نفسيا إلى درجة البكاء، أن ابنتها ترفض مناداتها «ماما» ذلك اللقب الذي خصت به إنسانة أخرى كانت الأقرب إليها والمراعية لها، وأدرى الناس بشؤونها، إنها الخادمة!.
سافرت الخادمة للزواج والاستقرار في بلدها بعد سنوات من الغربة، تاركة مهمة صعبة للأم التي لم تجد غضاضة في استبدالها بأربع خادمات أخريات فشلن جميعهن في التواصل مع طفلة فقدت أمها الواقعية بعد إحدى عشرة سنة من الالتصاق بها، فآل مصيرها إلى مراكز العلاج النفسي.
ليست منى حالة فردية، فهناك مثلها الكثيرون الذين يدفعون ثمن ظاهرة تجاوزت الحدود المسموح بها، فأزمة الخدم تتفاقم يوما بعد يوم، لتحتل صدارة الظواهر المعقدة والمتشابكة في المجتمع الخليجي.
حين نتأمل دور الخادمة في بيوت كثيرة، نجده تجاوز مجرد المساعدة في الأعمال المنزلية، فمن المفترض أننا نستأجر خادمة لتقوم بما نعجز نحن عن القيام به، سواء لانشغالنا في العمل أو تربية الأولاد أو توفير وقت للاهتمام بأنفسنا أو أزواجنا أو دراستنا أو ممارسة هواياتنا، لكن واقع الحال أن كثيرا من الزوجات والأمهات يستمتعن بوجود الخادمات فقط من أجل المباهاة والتفاخر، أو إلقاء عبء المنزل عليهن كاملا من دون إرهاق أنفسهن في أي شيء، حتى أنهن لا يقدرن على خدمة أنفسهن أو الاهتمام بأزواجهن أو متابعة أولادهن، فالخادمة تحل محل الأم والزوجة والمُدرسة وربة المنزل، تقوم بكل الأدوار التي تقدر أو لا تقدر عليها، مؤهلة أو غير مؤهلة لها.
أخبرتني جدة عجوز ترك الزمن على ملامحها بقايا جمال يختلط بحزن عميق، أن ابنتها التي طُلقت مرتين وتزوجت من زوج ثالث، اضطرت تحت ضغط منه أن تترك طفلتها مع الجدة العجوز بعد أن استأجرت لها خادمة ترعاها وتهتم بها وتدرسها. حين تشتاق الطفلة لأمها عليها أن تنتظر أياما حتى يسمح الزوج بخروج زوجته لتطمئن على ابنتها أو ربما تكتفي بالحديث معها هاتفيا وتصدر التعليمات والأوامر للخادمة كي تلتفت إلى الشؤون الصغيرة.. قالت لي الجدة بحسرة ومرارة: «أمهات هذه الأيام لا يستحققن الجنة، الأحق بها الخادمات» .
خادمة بدرجة أم !
ألم تلتفت أم منى إلى أنها باعت ابنتها نفسيا وتربويا وعاطفيا للخادمة؟! وأنها تركتها لها بكل بساطة تشكل وجدانها ومشاعرها وتقترب منها حد الأمومة؟! ألم تدرك رغم تعليمها المرموق حالة الاغتراب التي تعيشها ابنتها معها؟! هل لا تعرف أن معايشة التفاصيل اليومية في حياة أبنائنا واحتضانهم وتدريسهم واللعب معهم هو ما يقربنا منهم ويجعلنا نستحق لقب «ماما» وليست تلك البطن المنتفخة وطقس الولادة فقط؟! هل لم تأخذ في حسبانها أنها استقدمت لابنتها خادمة بدرجة أم؟
الحقيقة أنها ليست وحدها التي غفلت عن هذه الحقيقة، فكثير من النساء تخلين عن دورهن كأم مسؤولة في تربية أطفالهن وتنشئتهم ومتابعة تفاصيل حياتهم وبنائهم نفسيا واجتماعيا وأخلاقيا وفكريا، واكتفت واحدتهن فقط بكونها أُماً بيولوجية أنجبت أطفالا واستأجرت لهم أُماً بديلة، أو بمعنى أدق أُماً فعلية ترعاهم، وتسهر عليهم إذا مرضوا، وتطعمهم إذا جاعوا، وتدرسهم، وتلعب معهم، وتهتم بشؤونهم الصغيرة والكبيرة، لتتفرغ هي لعملها أو الذهاب للصالونات والنوادي والمجمعات والحديث مع الصديقات، والاكتفاء بالإشراف عن بُعد على مسرحية تربوية بلهاء بطلتها إنسانة غير مؤهلة تحمل فكرا وقيما ولغة وثقافة مختلفة تربي الأطفال بمنطق الصدفة أو المحاولة والخطأ، والنتيجة أن يُسدل الستار على أطفال مشوهين، وأمهات حرمن أنفسهن متعة الأمومة، وآباء غائبين مكتفين بدفع الشيك الشهري.
غياب لا يغتفر
هناك بعض الاعتبارات التي يجب الالتفات إليها قبل أن نتهاون في تربية أولادنا ونتركهم في العراء النفسي والاجتماعي.
إن غياب دور الأم يضع المجتمع بأكمله في مأزق، لأن الطفل في سنواته الأولى يقع عبء تشكيله النفسي وتربيته وتقويمه عليها، ومن الصعب أن يعوض أحد غيرها هذا الدور أو يملأ هذا الفراغ الناتج عن غيابها.
يُنشئ الطفل علاقة وطيدة مع تلك المرأة التي تهتم به وترعاه وتوفر له الحماية النفسية والاجتماعية، سواء كانت هذه المرأة هي الأم البيولوجية أو الخادمة، من هنا فإن الخادمة حين تحل محل الأم فهي من تشكل هوية الطفل وثقافته ووعيه بذاته وبالآخر، وذلك وفق ثقافتها ومنطقها في الحياة، وشيئا فشيئا تتراجع صورة الأم الحقيقية لتصبح ظلا شاحبا لا تأثير فعليا له، بينما الهيمنة كلها للخادمة وهو ما نرى آثاره السلبية تتجلى يوميا.
يظل الطفل تحت رحمة الخادمة، وغالبا ما تكون علاقتها به انعكاساً لعلاقتها بأبويه، فإن كانا جيدين وغير مؤذيين لها، أقامت معه علاقة جيدة، أما إن كانا عكس ذلك، فتظل تتحين الفرصة للانتقام منهما وغالبا لا تجد وسيلة أكثر إيلاما لهما من إيذاء أطفالهما، سواء بالضرب أو التعذيب أو التحرش الجنسي وربما القتل.
حين يكبر الطفل وينضج، يدرك الخديعة التربوية والنفسية، يعرف أن من شكلته نفسيا واجتماعيا هي الخادمة وليست الأم، مما يجعل صورة الأم داخله مهزوزة ومضطربة وفاقدة لهيبتها ووقارها، ولعل ذلك سبب من أسباب عقوق الوالدين، وأتذكر حين كنت أتحدث مع مراهق أحضره والده لاضطراب سلوكه وسوء العلاقة بينه وبين أبويه، قال لي بامتعاض: إن أهلي لم يربوني، من ربتني هي الخادمة فإذا كنت سأحترم أحدا، فهي أولى وأحق.. هو منطق يقبل المناقشة لكنه يستند على حقيقة بشكل أو بآخر.
تضطرب صورة الأم داخل الطفل، فمن يُفترض أن تربيه، هي إنسانة عاطلة عن القيام بدورها، تتخذ من حياته مكانا قصيا، ومن يفترض أن يكون دورها هامشيا، هي من لعبت دوراً محوريا في حياته سواء بالسلب أو الإيجاب، ويزداد الوضع سوءا حين يكتشف أنها مجرد خادمة تُهان وتُؤذى وتُؤمر، وكأنها “الأم الخادمة” لا يملك حق احترامها بصدق لأنها خادمة، ولا إهانتها بحرية لأنها تكبله بحق التربية، صورة مشوهة ومعكوسة تترك الطفل في حيرة لا تنتهي.
إن الطفل الذي تربيه امرأة غير قادرة على تحمل المسؤولية، ضعيفة الشخصية، مهددة، لا تشعر بالأمن، تفتقر إلى الاستقرار، يخرج إلى الحياة محملا بعقد النقص وافتقاد الثقة بالنفس وتقدير الذات، يعاني العدوانية على الذات والمجتمع، مشوه نفسيا، منقاد للآخرين، ولعل ذلك ما يفسر (مع عوامل أخرى) العديد من الانحرافات السلوكية.
إضافة إلى أنها قضية مجتمعية خطيرة تقطع علاقة الأبناء النفسية والاجتماعية والثقافية بجذورهم، ومع مرور الوقت لا يشعرون بالانتماء الحقيقي للأسرة، فأين هي الأسرة التي ساهمت في تربيته وتعليمه وتنشئته فكريا ونفسيا؟! إنها وهم أسرة وبالتالي يفقد المجتمع نفسه هويته تدريجيا.
إشارة إنذار
من الصعب أن أفترض سوء النية لدى معظم الأمهات، فربما الأمر يتم دون وعي أو نضج أو معرفة كافية بأساليب التربية أو تأهيل كافٍ للأمهات للقيام بأدوارهن، خصوصا أن المشكلة تصاعدت وتشابكت عواملها وأصبحت تحتاج إلى جهود مشتركة ومتضافرة لتوقف هذا الهزل التربوي. من هنا قد تفيد بعض الإشارات التالية وتدعونا للتأمل والتمهل ومراجعة الذات على مستوى شخصي واجتماعي.
إن وجود الخادمات في البيوت لم يجعل النساء أكثر تحققا وإنتاجا ووعيا وسعيا وراء المعرفة أو أكثر اهتماما بأولادهن، على العكس ساعد معظمهن على الكسل والتراخي عن أداء واجباتهن المنزلية والزوجية والأمومية، وجعل أخريات أكثر توترا وقلقا على أطفالهن. فما بين الترف والحاجة المُلحة للخادمات أصبح الأطفال ضحايا، وساحة للصراع بين الخدم والآباء، وفئران تجارب تربوية تنتهي غالبا بالفشل. ورغم ذلك لا أحد يستجيب للتشوه النفسي والاجتماعي والثقافي والتمزق العاطفي الذي يعاني منه الأطفال. من الصعب في مجتمع اعتاد معظم أفراده الرفاهية المصحوبة بطريقة تفكير لا عقلانية أن نطالب بعدم وجود خادمة على الأقل في المنزل، لكن لابد أن تسأل كل أم نفسها ما هو الدور المحدد الذي يجب أن تقوم به الخادمة؟ ما حدودها ومهامها داخل المنزل، وما هي مهام أو الدور المنوط بالأم دون تهرب من المسؤولية؟ وإن لم تكن تعرف فعليها باستشارة مختصين في التربية والعلاقات الأسرية. إن وظيفة الخادمة هي المساعدة في شؤون المنزل وليس القيام بها كلية، فهي ليست ربة المنزل أو صاحبته أو الزوجة. إن قيام الأب والأم والطفل نفسه بجزء من الأعمال يشعر الطفل بالقرب والاندماج النفسي داخل الأسرة، والانتماء للبيت الذي يحتويه، ويدرك أن كل أفراده فاعلون ولهم دور اجتماعي، وليسوا عاطلين عن العمل داخل المؤسسة الأسرية التي تؤهله فيما بعد للانضمام للمؤسسة المجتمعية، فحين تحضرين السندويشات لطفلك، أو ملابس المدرسة، أو عصيرا يحبه، أو تنظيف حذائه وتقبيله قبل ذهابه للمدرسة، فأنت بذلك تهدينه رسالة اهتمام ومحبة وتقدير، وإشباعا عاطفيا ونفسيا.
اهتمامك بتدريس طفلك ومناقشته فيما حدث في يومه خارج المنزل والحوار معه عن نفسه وعلاقته بزملائه ومدرسيه والمواد التي يفضلها، يعمق إحساسه بالأهمية ويرفع لديه تقدير الذات والثقة في قدراته والقدرة على الكلام وإدارة حوار. يقول الشاعر الألماني غوته: لم يخلق الله مأوى أنعم من حضن الأم. هناك أشياء تبدو لك بسيطة لكنها مهمة، احتضانك لطفلك، ولعبك معه، وإشراكه في مسؤولية البيت على قدرة وعيه وفهمه، كل ذلك ينمي ذكاءه الاجتماعي، فالتواصل العاطفي مع الطفل من أهم أنواع التواصل، وافتقاده يسبب مشكلات نفسية واجتماعية تتجلى بوضوح كلما كبر الطفل وأدرك معنى الأسرة والمجتمع.
من المهم أن ينحصر اهتمام الخادمة بالأطفال في كل مالا يقيم معهم علاقة عاطفية بديلة عن علاقتهم بك، فأكل الطفل ومشربه وملبسه ومذاكرته والتعامل مع جسده بحميمية ومتابعة تفاصيله هي في الأصل تخص وظيفتك كأم، وتدخلها يجب أن يكون في حيز الضرورة، أما ما يحدث فعليا فهو أن الأم تترك كل شيء على عاتق الخادمة لتريح نفسها وتأخذ مقابل الراتب الذي تدفعه للخادمة، لكنها في الحقيقة تخسر علاقتها الحميمة مع أبنائها! إن الدقائق التي تقضينها في نومك بجوار طفلك قبل أن يخلد للنوم، والحكايات الصغيرة التي ترددينها له، وقبلة حانية تتركينها على خده حتى الصباح، وابتسامتك في وجهه، وسحب غطائه عليه بحنان وحب، كلها أمور تصنع مالا يصنعه جهد سنوات في جمع مال لتأمين مدرسة أجنبية له، أو شراء ملابس غالية، أو الذهاب لمطاعم فاخرة.. التفاصيل البسيطة هي ما يصنع الحياة والعلاقات الحقيقية، وليس التعامل بجفاء عن بعد، ربما ذلك ما يجعل ابراهام لنكولن يجيب حين سئل عن أعظم كتاب قرأه في حياته، فقال: أمي.
من المهم أن تقوم المؤسسات الإعلامية والمراكز الاستشارية المتخصصة ببرامج توعية وتدريب للزوجات والأمهات والآباء تهدف إلى تعريفهم بحقيقة أدوارهم وما يجب عليهم فعله ورفع الوعي لديهم بأساليب التربية السليمة نفسيا وتربويا واجتماعيا. إن الأم تصنع أُمة، وقلبها مدرسة، وحنانها يخلق ابنا ناجحا، وجفاؤها يصنع التشوه بكل أشكاله. هذا لا يعني إهمال دور الأب ووظيفته التربوية في الأسرة وأهمية علاقته بأبنائه كمرب وشريك فاعل وليس كمراقب عن بُعد يكتفي بإصدار التعليمات والأحكام، ودفع الفواتير الشهرية، لكن الدور الأهم للأم خصوصا في مراحل التكوين الأولى.
------------------
- المصدر : جريدة القبس الكويتية 20/1/2009