كتاب حاشية ابن برّي على المعرّب لأبي منصور الجواليقي ـــ صلاح الدين الزعبلاوي
بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي
ابن برّي هو الإمام أبو محمد عبد الله بن برّي المقدسي المصري (499-582هـ)، وأبو منصور الجواليقي هو موهوب بن أحمد بن محمد الخضر (465-539هـ) العالم في العربية، صاحب كتاب المعرّب. والمعرّب هذا هو أجمع ما عرف من الكتب ضبطاً للألفاظ المعربة، كما قال الدكتور عبد الوهاب عزام في مقدمته على المعرب المطبوع بتحقيق الأستاذ المعروف الشيخ أحمد محمد شاكر.
قصة الكتاب :
قام الدكتور إبراهيم السامرائي بتحقيق هذا الكتاب (حاشية ابن بري على المعرّب) وأنفذه إلى مجمع اللغة العربية بدمشق، ليرى رأيه في طبعه، والسامرائي غني عن التعريف، وقد عرف بآثاره في التأليف والتحقيق، وكان رئيساً لقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد. فرأى مجمعنا، وهو أشد ما يكون حرصاً على إتحاف خزائن العربية بما جل من كتب التراث، أن من الخير أن تتم مراجعة الكتاب فيستوثق من نصه ويتثبت فيه، ويستوفي شرح شواهده وإيضاح مسائله اللغوية ومعارضة ما اتخذه الأئمة من الحكم على عجمة اللفظ، بما انتهى إليه المحدثون من ذلك. فناط بي الأمر ووكله إلي، على وفرة ما كان يعرض لي دون هذا من خوالج الحياة ويغلب من همومها، وما كان يتفق علي من مشاغل التأليف وكلفة الكتابة.
وقد ائتمرت يومئذ بما طلب إلي وامتثلته، بل جمعت عليه يدي وأوسعت له في صدري وفي مجال عملي. وكيف لا أنقاد فأقاسم الدكتور السامرائي ما عاناه في إخراج مثل هذا الكتاب وأشاركه في تحصيل تحقيقه والكشف عن محكم رأي مؤلفه (الإمام ابن برّي) وأصالة قوله فيما اتخذ من حكم وما حرر من مسائل وما اهتدى إليه فأبدى سره من دقائق اللغة وفرائدها. وهو العالم والإمام والحجة فيما يحصي ويستقري. وطالما تاقت النفس ونزعت إلى متابعة ما قيده من حواش في كثير من الأمهات، بل طالما ظمئت إلى استبانة ما جلاّه فيها من الشبهات.
وهكذا تصفحت الكتاب وفليته فألفيت أنه لابد في تدبر نصوصه من استفتاء بعض المظان المعنية بالتعريب قديمها وحديثها، وما يتصل بمسائله من قريب أو بعيد. والعودة إلى ما أُلّفَ من هذه المظان في الألفاظ الفارسية المعربة خاصة، لأخلص من مراجعتها واستخراج لبابها إلى تجويد الحكم وتحري الصواب. وفي مقدمة المظان التي استنصحتها فصدقتني الرأي وأصفت لي المشورة.
1-كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية للشيخ أبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى (322هـ)، وهو كتاب طريف في موضوعه، فريد في بابه، مشرق الدلالة. وقد عني بتحقيقه الدكتور حسين الهمداني فكان له من غزارة مادته وسداد نهجه وصدق نظره ما جعل مباحث الكتاب جمة الفوائد وثيقة الحجة.
2-معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي المتوفى (487هـ).
3-المعرّب لأبي منصور الجواليقي المتوفى (539هـ). وقد جاءت حواشي ابن برّي في كتابنا تعقيباً عليه. وقام بتحقيقه الشيخ أحمد محمد شاكر فأعمل فيه الروية وبالغ في الفحص وأغرب في البحث، فضبط نصه وشرح شواهده، وحاول نفي العجمة عن كثير من ألفاظه.
4-السامي في الأسامي لأحمد بن محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري المتوفى سنة (518هـ) وهو كتاب نفيس فريد في فنه، انطوى على خمسة أبواب وزعت على موضوعات كثيرة، وقد ذكر في كل موضوع ما اتصل به من أسماء، وجعل إلى كل اسم مرادفه في الفارسية. والمؤلف من الراسخين وأهل التحصيل وذوي البسطة في العربية والفارسية وقد حققه الدكتور موسى الهنداوي أستاذ اللغات الشرقية في كلية دار العلوم بمصر، فشرح المرادف الفارسي لكل اسم من الأسامي العربية. وقد أفدنا منه في تحقيق كثير من المعربات. وأبو الفضل الميداني هذا هو صاحب الأمثال.
5-معجم البلدان للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي المتوفى (626هـ).
6-الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي المتوفى (911هـ).
7-المزهر في علوم اللغة لجلال الدين السيوطي (911 هـ).
8-شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل لأحمد بن محمد عمر شهاب الدين الخفاجي المصري المتوفى (1069هـ).
9-الألفاظ الفارسية المعربة، تأليف السيد أدّي شير، وقد طبع عام (1908هـ).
10-التقريب لأصول التعريب للشيخ طاهر الجزائري. وهو أحد علماء دمشق الذين جمعوا إلى علم الحديث بعد الغور في العربية والفارسية والتركية، والإلمام ببعض اللغات السامية. وقد توفي عام (1920م). فإذا أشرت إلى كتاب التقريب هذا فيما عقبت به، فإنما أعنيه، ولا أعني كتاب التقريب في علم الغريب للشهاب أحمد المعروف بابن خطيب الدهشة المتوفى (834هـ). ومن أشهر كتب الجزائري توجيه النظر إلى أصول الأثر، وقد أفدت منه.
11-كتاب الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية للدكتور داود الحلبي الموصلي، وقد طبع عام 1935م.
12-بين الحبشة والعرب للأستاذ عبد المجيد عابدين مدرس اللغة الحبشية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وقد أفدت منه في تحقيق نسبة بعض المعربات إلى الحبشية.
13-اللغات السامية للمستشرق الألماني تيودوز نولدكه، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب.
14-القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث للدكتور عبد الصبور شاهين، وقد طبع عام (1966م).
15-كتاب اللغة الفارسية وآدابها للدكتور محمد السباعي، واللغة الفارسية للدكتور محمد جواد مشكور وحسن عزوي أصفهاني.
16-المعجم الذهبي للدكتور محمد التونجي مدرس الفارسية في جامعتي دمشق وحلب.
وقد اعتمدت هذه المظان في تحقيق نسبة اللفظ إلى العجمة، كما استعنت بها في تصحيح بعض الشواهد وتحقيق نصوص الكتاب إلى ما لا مجال لحصره من المظان الأخرى ككتب التفسير والمعجمات ودواوين الشعر وكتب التراجم وأسفار اللغة عامة. وقد انتهيت من ذلك حيناً إلى الكشف عن تحريف في النصوص المعتمدة كنصوص المعرّب، مما اهتديت إليه بالبحث وأشرت إليه في موضعه.
المخطوطات المعتمدة
قاد تحقيق النص إلى البحث عما تختزنه المكتبة الظاهرية الدمشقية من مخطوطات تتصل بموضوع الكتاب فظفرت بنسختين من مخطوط المعرّب:
1-وتتألف النسخة الأولى من (41) ورقة كتبت بالسواد والزرقة، خطها نسخي عليه قليل من الشكل. مسطرتها (27/17سم) واسم ناسخها مصطفى العقاد، وتاريخ الفراغ من نسخها (يوم الاثنين الرابع عشر من ذي القعدة سنة 1347هـ، الموافق للسابع والعشرين من نيسان سنة 1929م، ولم يذكر بها مكان النسخ.
وقد طابق نصها نص المعرّب المطبوع إلا في الندرة. والطريف أن الفراغ من نسخها قد تم في ذي القعدة وجرى في الشهر نفسه من سنوات (1111 و 1905 و594هـ) التي تم بها الفراغ من نسخ النسخ الثلاث المعتمدة من المعرّب المطبوع، ولكن في قرون مختلفة. هذا ولم يتأت لي بمراجعته كبير عناء، وقد سجلت النسخة في المكتبة الظاهرية برقم (5721).
2-وتتألف النسخة الثانية من (40) ورقة كتبت بالسواد، وخطها معتاد لا يمكن نسبته إلى ثلث أو نسخ، وهو إلى النسخ أقرب، وفيه بعض الشكل. مسطرة النسخة (21.5×15.75سم) وكتبت ألفاظها المعربة بالحمرة. وتتميز هذه بكثرة ما احتوت من الحواشي في تفسير المعرّب والتعليق عليه. على أن كتابة هذه الحواشي ليست في وضوح كتابة النص. ولم يذكر فيها اسم الناسخ ولا تاريخ الفراغ منه أو مكانه. وقد سجلت في المكتبة برقم (9012).
وقد أنست بحواشي هذه النسخة واحتججت بها حيناً في توثيق ما انتهيت إليه في تصحيح ما اعتقدت فيه التحريف في الأصل، مما يحصله التأمل بعد تدقيق النظر، وإعمال الروية. ولم أعمد إلى التصحيح حتى أوردت على قولي النصوص واستظهرت بالدليل.
أما الأصل الذي اعتمده الدكتور السامرائي في تحقيق الكتاب فقد أجمل وصفه في مقدمته، وقد حوى الكثير من تحريف الناسخ، على ما سيتبين للقارئ في تحقيق نصه. قال السامرائي: (لا نملك من أصول هذا الكتاب إلا ما احتفظ به معهد المخطوطات العربية في الجامعة العربية مما صوره من الأصول المبثوثة في بلاد العالم. وهذا الأصل يقع في 34 ورقة. ولم أستطع الحصول على فوائد مما يتصل بصفة المخطوط الأصل من فهرست المخطوطات المصورة).
اسم الكتاب:
أسمى السامرائي الكتاب (في التعريب والمعرب المعروف بحاشية ابن بري). وأشار في المقدمة إلى أنه لم ير في التراجم ذكراً لهذا الكتاب. ويعني هذا أن الكتاب لم يعرف باسم خاص، فاقترح هو ما أسماه به. أقول إذا صح أن الكتاب لم يعرف باسم خاص به، فأعدل ما يمكن أن يطلق عليه ما جاء في مقدمته (هذا ما أخذه واستدركه..) فيسمى (المستدرك على المعرّب..) أو يجعل له عنوان (حاشية ابن بري على المعرّب) كما أثبتناه.
وقد ألِّف في هذا الموضوع كتاب آخر هو كتاب (التذييل والتكميل لما استعمل من اللفظ الدخيل) لجمال الدين عبد الله بن محمد بن أحمد العذري البشبيشي المتوفى (820هـ). استدرك جمال الدين هذا على المعرّب ما فاته ونبه على كثير مما اعتقد فيه الوهم متتبعاً مستقصياً. وقد أشار إلى ذلك محقق المعرّب الأستاذ أحمد محمد شاكر في مقدمته. وقد ظفر بترجمة المؤلف في الضوء اللامع (5/7) وشذرات الذهب (7/146).
مشقة المراجعة والتحقيق:
ما أودُّ أن أفخِّم ما قد بذلت وأعظِّم في عين القارئ ما عانيت. ويكفي أن أذكر ما جاء به الجاحظ في كتاب الحيوان (1/79) حول مشقة تصحيح الكتاب، إذ قال: (ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام). وليس ما جاء من التشويه في الأصل بالشيء اليسير. وقد تصور الجاحظ ما قد يعرض للكتاب من الإفساد حين تتعاوره أيدي النساخ فقال: (ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر فيسير فيه الورّاق الثاني سيرة الوراق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية.. حتى يصير غلطاً صرفاً).
ونحمد الله على أن الأصل المحقق لم ينته إلى نحو مما تحدث عنه الجاحظ. وقد تهيأ من النصوص ما تيسر به الكشف عن التحريف والاهتداء غالباً إلى ما يمكن الوثوق به، فانقاد من الأمر ما تصعّب وأمكن ما امتنع.
وإذا كنت قد قضيت حق الأمانة العلمية بما تحملته من عناء، فذلك ما قصدت. وإنما تساغ مرارة المكابدة في البحث، بالاسترواح من غمة الخطأ والاهتداء إلى صبح اليقين. فإذا صدرت فيما حصلت عن تأييد وتسديد لا يتحيفه تحامل تحامل أو غض، فذاك ما ترنو إليه الأبصار وتقف عليه الآمال. وإن أخْطأت فقد أتيت الحقيقة من وجهها وابتغيتها من مأتاها، وغاية الوسع بذلت. وأي عمل يخلص من شائبة أو يصفو من كدر أو معابة. وحسبي أني أتحت مع السيد المحقق الخوض في بحث لا يطوع إلا للباحثين المحققين الذين صدقت نياتهم في تحري الصواب والتماس الحق. وأسأل الله توفيقاً يهدي إلى القول الراجح، وهو حسبنا ومنه العون.
مآل المراجعة
بعد أن فرغت من مراجعة الكتاب وأديت الأمانة على الوجه الذي فصلت، أنفذت الكتاب وعليه تحقيق السامرائي ومراجعتي له، إلى مجمع اللغة العربية بدمشق ليصار إلى طبعه، وانتظرت طويلاً فلم ألق جواباً. وقد علمت أن صديقاً للدكتور السامرائي في المجمع، قد أعلمه بخبر كتابه المحقق. وأنه إذا طبع مقروناً بما علق عليه بدت ضؤولة التحقيق بما شابه من اقتضاب وذهول، في جنب ما عُقب به عليه بما انطوى عليه من كشف وتبيين. وما إن وقع للسامرائي خبر الكتاب حتى بعث إلى المجمع يطلب أن يعاد إليه مخطوطه على حاله التي كان عليها، فكان له ما أراد. فلم يبق لي إلا أن أستعيد من المجمع ما كنت قد سلخت في أعداده من (المراجعة) أكثر من سنتين، وما تكلفته في استجماع أصوله وكابدته في تحصيل فروعه، على كثرة الأشغال، وما اقتضاه البحث من جهد وعناء في التثبت والاستدلال. وما أقل ما قنعت به وأيسر ما عدت به من صفقتي هذه، وقد اجتمع علي فيها ما انقطع به حبل رجائي وجاوز مسافة نيلي، فقوبلت من بذلي غبناً وحصلت من الرباح على الرياح. ولا يعرف وقع ذلك في نفس الباحث إلا من ضرب هذه الصناعة بحق، وعض على البحث بضرس قاطع. عوضني الله مما فات ماهو خير منه وأبرّ.
طبع الكتاب وحديث السامرائي عن قصته
طبع السامرائي الكتاب بتحقيقه، لكنه ضم إلى تحقيقه هذا شيئاً مما أودعته مراجعتي، وتدارك بعضاً مما استدركته عليه. ولست أدري أهتدى إلى ذلك بالبحث والنظر أم تسنى له الأمر بالمصادفة والإتقان، من غير مشقة نالته أو كلفة اصابته. وهو لو اكتفى بذلك لهان الأمر، وليس عليه سبيل ولكنه قصد إلي بالتصغير، وإلى مراجعتي بالتهجين، وإلى المجمع يُسمّع به. وجعل يستطيل فيأخذ علي تفرطي حيناً، وإسهابي حيناً آخر، وما أدري ما الذي استوقد غضبه وأضرم غيظه وهاجه علي. بل ما أدري ما الذي سلف مني إليه فأوجب هذا الاسترسال في الغمز. وكيف تهيأ في طبعه أن يستعذب القدح فيجري على لسانه ما أجرى ويتزيد في حديثه ما تزيّد، وهو الباحث المحقق المعروف. وأبلغ ما يمكن أن يسلك في الرد عليه، إيضاح الأمر وجلاؤه برحب من الذرع وثبات من المنطق، وترك الحكم فيه للقارئ، وإلا فالقول ممكن والدعوى سهلة.
قال السامرائي: (ولقد بلغني أنهم في المجمع قد جعلوا إلى أحد من الناس، من غير أعضاء المجمع، أمر مراجعة الكتاب والإشراف على طبعه. إن مهمة المراجع المشرف قد تكون في ضبط كلمة لم تضبط بالشكل الكافي، وضبطها ضروري في إزالة لبس، أو أنه قد يصحح خطأ لم ينتبه له المحقق، وهذا جائز أيضاً، أو أنه يضيف زيادة شرح في هامش ما، يقتضيها أمر، أو أنه يتفطن إلى مصدر جديد في تخريج بيت شاهد أو حديث شريف، أو نحو هذا ولا يمكن أن تزيد مهمة السيد المراجع المشرف على هذه الفوائد).
أقول سيعلم السيد المحقق أن المراجع، لم يركب مما يحظر أمراً، ولم يتجاوز حد تصحيح خطأ جاء في نص الكتاب ولم يفطن له المحقق، والجلاء عن تحريف ذهب عليه، وشرح شاهد كان لابد من شرحه بعد تصحيحه وتحقيق نسبته، والترجمة لِعَلم لم يهتد المحقق إلى ترجمته، وردّ لفظ إلى أصله وبيان الحكم فيه، وشرح خلاف في الرأي بين صاحب الحاشية وصاحب الكتاب، والإشارة إلى مصدر يجلو الغامض من أمر هذا الخلاف ويبدي سره ويقرب بعيده وسيتبين له ذلك حين يقرأ بأم عينه ما علّقت به على النص وتحقيقه، ويدير فيه نظره ويجتليه فيجيب عما بدا له جواب الحجة لا جواب الغضب.
وطبيعي أن تختلف المراجعة باختلاف ما جاء به المحقق، وما كان عليه شأن الكتاب ومكانته، فلا تكون له حدود مرسومة مضبوطة.
وقد كان في عزمي أن أسأل المحقق كيف عرف أني تجاوزت النطاق الذي تصوره للمراجعة، وهو لم يطلع إلا على ما حُدّث به وروي له من أمرها. وكيف استوثق مما قيل له، فكان منه على يقين جازم، وبنى عليه ما بنى؟ وليس القائل بظنه وحدسه كالقائل بعلمه ويقينه. أما قوله أن الكتاب قد جعل (إلى أحد الناس من غير أعضاء المجمع) فهذا يعني أن الكتاب قد أحيل على غير أهل أو مليء وما أدري كيف يصم المحقق مجمعنا بما وصم، ويضيف إليه ما لا يجوز عليه، أو ليس هو الذي ائتمنه واسترعاه فترك الأمر إلى رأيه وتدبيره. والمجمع لم يزد على أن حفي بالكتاب وضن بمثله أن يصدر بتحقيق لم تكمل آلته ولم تجتمع أداته فلا يضارع الثقة بصاحب الكتاب أو يوافق حسن الظن بمحققه فأحاله على من يرمّه ويحكم أمره ليسلم له محصوله وفضله. وهو بهذا قد أمضى بالعدل حكمه وبالسداد تدبيره. والمجمع لو جاري المحقق فيما أخطأ به على نفسه، لما كان له في العاقبة شافع. وأيسر ما يصيبه من وبال ذلك أن يُتهم بالتقصير فيما استُكفي وما يجدي المحقق دعواه هذه حين يشهد عليه تحقيقه، وهو لدينا قريب عتيد.
وليذكر أنه قدم إلى دمشق فاستزارني واستضافني في الفندق، وكال الثناء على ما كنت أنشره من الفصول اللغوية في مجلة المجمع، وجعل يقرظني بطبع كريم، وقد أستغرب أني لم أكن عضواً من أعضاء المجمع.
وليذكر أنه سألني رأيي في تحقيقه فأنهيت إليه في استحياء نزراً مما فاته فيه، وأوجزت له خطة العمل في المراجعة فوكل الأمر فيها إلى رأيي، وخلى بيني وبين ما انتهجت. ثم تواترت إلي رسائله وتتابعت، فاستكبرت أن يعرض في إحداها لامتداحي، ويرمي بالجهل علماً من أعلام اللغة في بلده، وقد كنت قد أخذت عليه شيئاً مما نزع إليه في تخطئة الكتّاب، فكان حظ العجب من السيد المحقق أوفى من حظ العجب به، سامحه الله.
قال السامرائي (لقد حجز السيد المشرف أو المراجع أو كلاهما الكتاب قرابة خمس سنوات، ابتداء من 1979 وإلى آخر 1983 تقريباً). أقول يعلم السيد المحقق حق العلم الزمن الذي أحيل فيه كتابه علي لأراجعه، وكان ذلك في نحو منتصف عام 1980، ورسائله لدي تنبئ بذلك وتشهد به، فكيف يستحسن لنفسه أن يصحف علي، وهو الباحث المحقق.
وكان المجمع على تردد من أمر الكتاب وتحقيقه، وطال تردده حتى قطع بوجوب مراجعته، مهما طال أمد المراجعة، بعد أن أطلعته على بينة حال، وأوضحت له جلية أمره، في رسالة جامعة أنفذتها إليه.
وقد كتب السامرائي إلي يوماً يتعجل أمر المراجعة، وهذا ما كنت أجبته به يومئذ:
(أما كتابك الذي أراجعه، وقد أسميته كتيباً، على صيغة التصغير، فليس معجماً لبعض مفردات اللغة عامة، وإنما هو معجم لألفاظ معربة، فيها الحوشي والغريب والشاذ والنادر.. وفي كل صفحة من الكتاب ألفاظ لابد من إشباعها بحثاً وتمحيصاً.. وقد وفرت له من الزمن نصف ما استفضلته للعطاء العلمي.. وكل ما استطعت أن أنجزه خلال شهرين هو عشر صفحات أي نحو سدس الكتاب، وقد بقي علي منه خمسة أسداسه، ولست أستطيع أن أتعجل أمره أو أتخفف فيه..).
وكان فراغي من المراجعة في أوائل عام 1982، كما تشهد به سجلات المجمع، ولم يبق لي يومئذ إلا أن أؤلف بين مراجعتي التي أعددت وتحقيق المحقق، فأضمن اتساقهما لأخفف على القارئ الكلفة في فهم الكتاب. وقد أتممت ذلك في النصف الثاني من عام 1982 على كثرة مشاغلي، وما كنت عاكفاً عليه وفي سبيله من الكتابة والتأليف. وقد كان يمكن اختصار أمد المراجعة لو لم يأت التحقيق مقتضباً مبتسراً. وكل ما في الأمر أن السيد المحقق قد تعجل حيث لا ينفع إلا تبصر وتدبر، وتصفح حيث لا يجدي غير تأمل وتثبت واتئاد.
قال السامرائي: (لقد علمت هذا كله في أثناء انعقاد مؤتمر مجمع اللغة العربية في آذار سنة 1983 من الأخ الزميل الدكتور عدنان الخطيب. فقد أخبرني أن المجمع توقف وتردد وأبى أن يجريه على نحو ما أراد المشرف المراجع).
أقول إذا كان المجمع قد تردد حقاً، فقد كبر عليه أن يدع السامرائي في مثل هذا الحرج ولو كانت تبعته عليه، ففكر في اتخاذ ما من شأنه أن يصون حرمة العلم، ويحول دون إلحاق الغضاضة بصاحب التحقيق، بعد أن تعجل أمره، ويحفظ على المراجع جهده، وقد بذل ما بذل. وأبى السامرائي أن يجعل من المجمع حكماً يفصل في الأمر، فبادر يستعيد تحقيقه، وكان له ما أراد. فكيف يقول بعد ذلك (هذه قصة الكتاب في مجمع اللغة العربية في دمشق، هذا المجمع الذي وقف نفسه على خدمة العربية، لا يفرق بين أبنائها أياً كانوا).
ويبدو أن المحقق قد أفاد، على كل حال، من تجربته هذه فعاد على تحقيقه بما يصلحه ويرمه، إذ قال: (وها أنذا أنشره بعد مراجعتي له مراجعة جديدة أضفت فيها ما هو جدير بالإضافة بعد جعله في هيئة حسنة).
والغريب حقاً دعوى المحقق أني أنهيت مراجعتي في أواخر عام 1983 وأنه أنبئ بذلك كله في آذار من العام نفسه كما أشار في حديثه. وكأنّ القدر قد أبى إلا أن يجري على قلم السامرائي ما يكشف عن الحق ويبين عنه، من حيث بدا أنه كان يطمع أن يطويه ويواريه.
وهكذا آثر المحقق أن يستبدل بالوفاق خلافاً، وبالتعاون والموادعة في سبيل العلم، مجاذبة وشقاقاً، وبالكلم الطيب المثمر غمزاً لا يشفع ولا ينفع، بل لا يريش ولا يبري. وقد كنا على أنس بيني وبينه، نرجع إلى أصل، ونرتقي إلى صناعة، ونحتكم إلى أصول ثابتة معروفة، فكيف خلص إلى هذا وقد عرفته كيّساً رقيقاً بارع الظرف.
على أني أحمد الله أني قد احتفظت بصورة تحقيقه الأول، وهو إذا انطوى على كثير مما يُستدرك عليه، فقد جاء بما هو حسن أيضاً. وسيرى القارئ على كل حال حين يظهر على التحقيق، والمراجعة أو التعقيب، ويكون من اليقين على مثل ضوء الشمس، أيّنا المجترئ على الحق، المفتئت على صاحبه.
وسأذكر من تعجله مثالاً واحداً جاء في صفحة واحدة من الكتاب. فقد جاء في الصفحة 28:
(قال ابن برّي، رواه القالي: هذا ورب البيت إسرائينا). وفي هذا أمور:
الأول: أصل البيت كما ذكره المحقق نفسه:
يقول أهل السوق لما جينا هذا ورب البيت إسرائينا
وقد جاء (إسرائينا) على النصب، ومن حقه في الأصل أن يكون مرفوعاً. وقد مهد للكشف عن ذلك ابن بري وتأول له. ولم يعمد المحقق إلى بحث هذا أو التطرق إليه. وقد ذكروا لانتصاب (إسرائينا) أربعة وجوه ألمح ابن بري إلى اثنين منها. والبيت من شواهد ابن عقيل.. وسيأتي تفصيل الكلام فيه.
الثاني: تضمن النص الذي أتى به المحقق (هذا عربي أدخل قرداً إلى سوق الحيرة يبيعه، فنظرت إليه امرأة وقالت: شيخ، فقال هذه الأبيات).
وقد ذهب على المحقق أن الصحيح في لفظ (شيخ) هو: (مسخ). والغريب أن النص قد عزا هذه الرواية إلى القالي، ولو عاد المحقق إلى (أمالي القالي- 2/44) لقرأ النص وتحقق أن اللفظ (مسخ) لا (شيخ)، وأن كلمة (عربي) في أول النص هي (أعرابي)! وجاء في سمط اللآلئ في شرح الأمالي لأبي عبيد البكري بتحقيق الميمني (2/861): (قال الفراء صاد أعرابي ضباً فأتى به السوق يبيعه فقيل له: إنه مسخ من بني إسرائيل). وعلى ذلك سائر النصوص.
الثالث: جاء في النص (وأنشد قبله:
قد جرت الطير أيا منينا قالت وكنت رجلا فطينا
وأثبت المحقق (أيا منينا) ولم يكشف عن هذه الكلمة، ما أ صلها وما معناها، وكان يحسن أن يفعل ذلك. وقد جاء في الخصائص (3/236) أن هذا جمع لأيامن، وأيامن جمع لأيمن. وفي ذلك تفصيل سيرد في موضعه.
الرابع: يعرف المشتغلون بالصرف أن زنة (فيعول) إذا أتت من أجوف فهو واوي كقيوم. وقد حكى ذلك الجواليقي في المعرب، عن أبي علي. على حين أورد المحقق هذا النص (.. قال ابن بري الذي قاله أبو علي. لا نجد فعُّولاً مما عينه ياء كما لم نجده مما عينه واو نحو قيوم. وأما ما مثاله وبناؤه على فعُّول فهو موجود). والنص محرّف كل التحريف. فكيف يكون ابتداء الكلام على (فعّول) ثم يقول (وأما ما مثاله وبناؤه على فعُّول). وصواب النص (.. لا نجد فيعولاً مما عينه ياء: كما وجدناه مما عينه واو نحو قيوم. وأما ما مثاله وبناؤه على فعُّول فموجود). فتأمل.
وأنا لا أسوق بياني هذا لأبرئ نفسي من سهو أو أدعي السلامة من خطأ. فقصاراي ألا أخطئ السبيل إلى الحق وأن أزاول الصبر في تحري الصواب فلا أتسرع إلى قطف واجتناء، وأسأل الله أن يمضي بالعدل والإنصاف حكم الباحثين، أنه سميع مجيب.