اسمه ونسبه:
هو الإمامُ جعفرُ بنُ محمدِ بنِ علي زين العابدين بنِ الحسينِ السبط بن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوج ابنته فاطمة البتول رضي الله عنها وأرضاها.
هذا نسبهُ من جهةِ أصولهِ ، ومن جهةِ أخوالهِ فهو ابنُ أبي بكر الصديق أفضلُ أولياءِ اللهِ ، وصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين ، حيث كان جعفرُ الصادقُ يقولُ : ولدني أبو بكر الصديق مرتين .
وذلك أن أمَهُ هي : أمُ فروة بنتُ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق . وأمها -أي جدتهُ من قِبلِ أمهِ - هي أسماءُ بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا كان هؤلاءِ أخوالهُ ، وهذا الصديقُ جدهُ من الجهتين فلا يتصورُ في مثلِ جعفر بن محمد وهو من هو في دينهِ وقربهِ من الأصلِ النبوي ، أن يكون شاتماً أو مبغضاً أو حاقداً على جدهِ ، إذ لا تُقرهُ مروءتُهُ وشيمتُهُ وعروبتُهُ فضلاً عن دينهِ وكمالِ علمهِ وفضلهِ .
ولد سنةَ ثمانين من الهجرةِ ، وتوفي سنةَ 148هـ وعمرهُ ثمانٌ وستون سنةٍ ، وبالمدينةِ ولادتُهُ ووفاتُهُ .
لقبه:
لقب جعفرُ بنُ محمدٍ بالصادقِ ، وغلب هذا اللقبُ عليه ، فلا يكادُ يذكرُ إلا وانصرف إليه ؛ وسببُهُ أنهُ كان صادقاً في حديثهِ وقولهِ وفعلهِ ، لا يُعرفُ عنه سوى الصدق ولم يُعرف عنه كذبٌ قط .
بأبيهِ اقتدى عديٌّ بالكرمِ * * * * ومن يُشابِهُ أباهُ فما ظلم
حيث جده هو الصديقُ الذي نزل فيه قولُهُ تعالى في آخرِ التوبةِ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [ التوبة : 119 ] .
وقد اشتهر لقبهُ هذا بين المسلمين ، وكثيراً ما يلقبُهُ به الشيخُ ابنُ تيميةَ وغيرُهُ .
ومن ألقابِهِ الإمامُ وهو جديرٌ به ، والفقيهُ . وليس هو بالمعصومِ كما يطلقهُ عليه مخالفوهُ ، لأنهُ نفاها عن نفسهِ ، وليست العصمةُ لأحدٍ إلا لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فيما بلغهُ عن ربهِ .
أولاده:
الإمامُ جعفرُ الصادق من أكثرِ آبائِهِ أولاداً ، فقد خلف من الأبناءِ :
1 - إسماعيلُ وهو أكبرُهم ، وقد مات في حياتهِ سنةَ 138 هـ ، وأرث ابناً اسمه محمدُ بنُ إسماعيل ، وله بنون كثيرون متناسلون .
2 - عبدُ اللهِ ، وبه كان يكنى .
3 - موسى الملقبُ بالكاظمِ ، وهو الإمامُ بعد أبيه عند الاثني عشريةِ . وفيه اختلفتُ الإماميةُ مع الإسماعيليةِ حول إمامتهِ : بين موسى الملقب بالكاظمِ وإسماعيل سالفُ الذكرِ .
4 - إسحاقُ .
5 - محمدُ .
6 - علي .
7 - فاطمةُ .
أهم شيوخه:
أخذ جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق عن عاليةٍ من العلماءِ العلمَ والحديثَ ، حيث أدرك أواخرَ الصحابةِ ؛ منهم سهلُ بنُ سعدٍ الساعدي ، وأنسُ بنُ مالك رضي اللهُ عنهما .
وأكثر الروايةَ عن أبيهِ محمدِ بنِ علي الباقر وهو ثقةٌ فاضلٌ ، روى له الجماعةُ ، مات سنةَ مائة وبضعة عشرة . وأكثرُ رواياتهِ من طريقِ أبيهِ عن جدهِ الحسينِ بنِ علي أو علي بنِ أبي طالب عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم ، وهي أعلى مروياتهِ سنداً ، وهي أمثلُ نماذجِ روايةِ الأبناءِ عن آبائهم !
ومن شيوخهِ سيدُ التابعين عطاءُ بنُ أبي رباحٍ ، وعن محمدِ بنِ شهابٍ الزهري ، وعن عروةَ بنِ الزبير ، وعن محمدِ بنِ المنكدر ، وعن عبدِ الله بنِ أبي رافع ، وعكرمةَ مولى أبنِ عباس .
كما روى عن جدهِ القاسمِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكر ، وأكثرُ شيوخهِ من علماءِ المدينةِ .
وهؤلاءِ كلهم أئمةٌ ثقاتٌ أهلُ ديانةٍ وصدقٍ وأمانةٍ وعدالةٍ رحمهم اللهُ .
أبرز تلاميذه:
أخذ عنه العلمَ روايةً وفقهاً جمعٌ كبيرٌ من العلماءِ الحفاظِ الثقاةِ من أشهرِهم :
يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاري القطان ، ويزيدُ بنُ عبدِ الله بنِ الهاد الليثي المدني ، وهو أكبرُ من جعفر ، ومات قبله بعشرِ سنين ، وعبدُ الملك بنُ عبدِ العزيز بنِ جريج ، وهو من أقرانهِ، وأبانُ بنُ تغلب ، وأيوبُ السختياني ، وأبو عمرو بنُ العلاء ، ومالكُ بنُ أنسٍ الأصبحي إمامُ الهجرةِ ، وسفيانُ الثوري ، وشعبةُ بنُ الحجاجِ إمامُ النقادِ ، وسفيانُ بنُ عيينةَ ، ومحمدُ بنُ ثابتٍ البناني ، وغيرهم كثيرٌ ، لكن منهم المتفقهُ عليه والراوي عنه والمجالسُ له وهم : مالك وأبوحنيفة خصوصاً .
وروى له جماعةُ الكتبِ الستةِ إلا البخاري فلم يخرج لهُ في صحيحهِ بل في غيرهِ .
وقد كان رحمهُ اللهُ ثقةً صدوقاً إماماً فقيهاً .
كرمه وسخاؤه:
بلغ في الكرمِ شأناً عظيماً ، ومبلغاً كريماً ، وليس بغريبٍ عليه وعلى بيتهِ النبوي الكريمِ ، وجدهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم كان أجودَ من الريحِ المرسلةِ شهدت له المواقفُ العديدةُ في المدلهماتِ والغزواتِ وغيرها بالكرمِ البالغِ الذي لا يخشى معه الفقرَ عليه الصلاة والسلام .
وأما جعفرُ بنُ محمد الصادق رحمة اللهُ عليه فمما جاء في كرمهِ وبذلهِ ما رواه تلميذهُ هياجُ بنُ بسطام التميمي قال : كان جعفرُ بنُ محمدٍ يُطعِمُ حتى لا يبقى لعيالهِ شيءٌ .
وهذا عطاءُ من لا يخشى الفقرَ .
وروي أنهُ لما سئل عن علةِ تحريمِ الربا فقال : لئلا يتمانع الناسُ المعروفَ ، وهذا يدلُ على أريحيةِ نفسٍ وسخائها.
وذكروا عنه أنه كان يمنعُ الخصومةَ بين الناسِ ، بتحملهِ الخسائر على نفسهِ وإيثارِ الصلح بينهم .
كما ذكروا عنه أنهُ شابه جدهُ علي بن الحسين زين العابدين رضي اللهُ عنه في الإنفاقِ سراً ، وذلك أنهُ إذا كان الغلسُ في الليلِ حمل جراباً فيه خبزٌ ولحمٌ ودراهمٌ على عاتقهِ ، ثم وزعهُ على ذوي الحاجاتِ من فقراءِ المدينة ، دون أن يعلموا به ، حتى مات ، وظهرت الحاجةُ فيمن كان يعطيهم بعد موتهِ .
فرحمةُ اللهِ عليه وإني لأرجو أن يكونَ فيمن يقولُ اللهُ فيهم : " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [ الحشر : 9 ] .
حكمته وسعة فهمه:
أكثر مترجموا الإمامِ جعفر الصادق من نقلِ حِكمِهِ ، وأجوبتهِ المسكتةِ للأسئلةِ المشكلةِ ، تلك الأجوبةُ التي تبينُ عن سعةِ علمهِ وبعد فهمهِ ، وما حباهُ اللهُ به من سرعةِ البديهةِ ، واللسانِ المفصحِ عن جوامعِ المعاني ، وفقههِ لمقاصدِ التشريعِ وأسرارهِ ، وهو فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ .
فقد سألهُ تلميذهُ سفيانُ الثوري بمكةَ في موسمِ الحجِ ، فقال : قَدِمْتُ مَكَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ قَدْ أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ ، فَقُلْتُ : يَا ابْنَ رَسُوْلِ اللهِ ! لِمَ جُعِلَ المَوْقِفُ مِنْ وَرَاءِ الحَرَمِ ، وَلَمْ يُصَيَّرْ فِي المَشْعَرِ الحَرَامِ ؟ فَقَالَ : الكَعْبَةُ بَيْتُ اللهِ ، وَالحَرَمُ حِجَابُه ، وَالمَوْقِفُ بَابُه ، فَلَمَّا قَصَدَه الوَافِدُوْنَ ، أَوْقَفَهَم بِالبَابِ يَتَضَرَّعُوْنَ ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُم فِي الدُّخُولِ ، أَدْنَاهُم مِنَ البَابِ الثَّانِي وَهُوَ المُزْدَلِفَةُ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى كَثْرَةِ تَضَرُّعِهِم ، وَطُولِ اجْتِهَادِهِم ، رَحِمَهُم ، أَمَرَهُم بِتَقْرِيْبِ قُربَانِهم ، فَلَمَّا قَرَّبُوا قُربَانَهم ، وَقَضَوْا تَفَثَهُم ، وَتَطَهَّرُوا مِنَ الذُّنُوْبِ الَّتِي كَانَتْ حِجَاباً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُم ، أَمَرَهُم بِزِيَارَةِ بَيْتِه عَلَى طَهَارَةٍ . قَالَ : فَلِمَ كُرِهَ الصَّومُ أَيَّامَ التَّشرِيْقِ ؟ قَالَ : لأَنَّهم فِي ضِيَافَةِ اللهِ ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الضَّيفِ أَنْ يَصُوْمَ عِنْدَ مَنْ أَضَافَه .
وروى أبو نعيم في الحليةِ بسندهِ إلى أحمدَ بنِ عمرو بنِ المقدم الرازي قال : وقع الذبابُ على المنصور - أبي جعفر الخليفةِ العباسي - فذبهُ عنهُ ، فعاد فذبهُ حتى أضجرهُ فدخل جعفرُ بنُ محمدٍ عليه ، فقال المنصورُ : يا أبا عبدِ اللهِ لِمَ خَلَقَ اللهُ الذُّبَابَ ؟ قَالَ : لِيُذِلَّ بِهِ الجَبَابِرَةَ .
وقال جعفرُ الصادق لتلميذهِ سفيانَ الثوري : لاَ يَتِمُّ المَعْرُوْفُ إِلاَّ بِثَلاَثَةٍ : بِتَعجِيْلِه ، وَتَصْغِيْرِه ، وَسَترِه .
وروى تلميذهُ عَائِذُ بنُ حَبِيْبٍ - وهو صدوقٌ رمي بالتشيعِ - أن جعفرَ الصادق قال : لاَ زَادَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقوَى ، وَلاَ شَيْءَ أَحْسَنُ مِنَ الصَّمتِ ، وَلاَ عَدوَّ أَضرُّ مِنَ الجَهْلِ ، وَلاَ دَاءَ أَدْوَأُ مِنَ الكَذِبِ .
وقال مرةً يوصي ابنهُ موسى ( الكاظم ) : يَا بُنَيَّ ! مَنْ قَنعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ ، اسْتَغْنَى ، وَمَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه ، مَاتَ فَقِيْراً ، وَمَنْ لَمْ يَرضَ بِمَا قُسِمَ لَهُ ، اتَّهمَ اللهَ فِي قَضَائِهِ ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ غَيْرِه ، اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ نَفْسِه ، وَمَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِه ، انكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ، قُتِلَ بِهِ ، وَمَنِ احْتَفَرَ بِئْراً لأَخِيْهِ ، أَوقَعَهُ اللهُ فِيْهِ ، وَمَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ ، حُقِّرَ ، وَمَنْ خَالطَ العُلَمَاءَ، وُقِّرَ ، وَمَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ ، اتُّهِمَ .
يَا بُنَيَّ ! إِيَّاكَ أَنْ تُزرِيَ بِالرِّجَالِ ، فَيُزْرَى بِكَ ، وَإِيَّاكَ وَالدُّخُوْلَ فِيْمَا لاَ يَعْنِيكَ ، فَتَذِلَّ لِذَلِكَ .
يَا بُنَيَّ ! قُلِ الحَقَّ لَكَ وَعَلَيْكَ، تُسْتَشَارُ مِنْ بَيْنِ أَقْرِبَائِكَ ، كُنْ لِلْقُرْآنِ تَالِياً ، وَللإِسْلاَمِ فَاشِياً ، وَللمَعْرُوْفِ آمِراً ، وَعَنِ المُنْكرِ نَاهِياً ، وَلِمَنْ قَطَعَكَ وَاصِلاً ، وَلِمَنْ سَكَتَ عَنْكَ مُبتَدِئاً ، وَلِمَنْ سَألَكَ مُعطِياً ، وَإِيَّاكَ وَالنَّمِيْمَةَ ، فَإِنَّهَا تَزرَعُ الشَّحْنَاءَ فِي القُلُوْبِ ، وَإِيَّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِعُيُوْبِ النَّاسِ ، فَمَنْزِلَةُ المُتَعَرِّضِ لِعُيُوبِ النَّاسِ ، كَمَنْزِلَةِ الهَدَفِ ، إِذَا طَلَبْتَ الجُوْدَ ، فَعَلَيْكَ بِمَعَادِنِهِ ، فَإِنَّ لِلْجُوْدِ مَعَادِنَ ، وَللمَعَادِنِ أُصُوْلاً ، وَللأُصُوْلِ فُرُوعاً ، وَلِلفُرُوعِ ثَمَراً ، وَلاَ يَطِيْبُ ثَمَرٌ إِلاَّ بِفَرعٍ ، وَلاَ فَرعٌ إِلاَّ بِأَصلٍ ، وَلاَ أَصلٌ إِلاَّ بِمَعدنٍ طَيِّبٍ ، زُرِ الأَخْيَارَ ، وَلاَ تَزُرِ الفُجَّارَ ، فَإِنَّهُم صَخْرَةٌ لاَ يَتَفَجَّرُ مَاؤُهَا، وَشَجَرَةٌ لاَ يَخضَرُّ وَرَقُهَا ، وَأَرْضٌ لاَ يَظْهَرُ عُشْبُهَا .
ومن سرعةِ بديهتهِ وموفورِ حكمتهِ أن أصحابَهُ سألوهُ مرةً : لِمَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا ؟ قَالَ : لِئَلاَّ يَتَمَانعَ النَّاسُ المَعْرُوْفَ .
وهذا في الحقيقةِ من فواتحِ اللهِ له في معرفةِ مقاصدِ الشرائعِ . وهذا لا يحصلُ بالتكسبِ والتعليمِ - لكنه فضلٌ يهبهُ اللهُ لمن شاءَ من عبادهِ ، وربنا ذو فضلٍ عظيمٍ .
ومن النوادرِ في أجوبتهِ المسكتةِ الحاضرةِ ما نقلهُ صاحبُ ربيعِ الأبرارِ : أن رجلاً قال لجعفر الصادق بن محمد : ما الدليلُ على اللهِ ؟ ولا تذكر لي العالمَ والعرضَ والجوهرَ ، فقال له : هل ركبت البحر ؟ قال : نعم ، قال : هل عصفت بكم الريحُ حتى خفتم الغرق ؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركبِ والملاحين ؟ قال : نعم ، قال : فهل تتبعت نفسك أن ثَمّ من ينجيك ؟ قال : نعم ، قال : فإن ذاك هو اللهُ ، قال الله تعالى : " وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 67 ] ، " وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ " [ النحل : 53 ] .
ولذا نص أبو حنيفة على أنه لم ير أفقه من جعفر بن محمد .
هيبته:
رزق اللهُ الإمامَ الصادقَ مع كريمِ سجاياه وتواضعهِ هيبةً ووقاراً ، خضع له به أكبرُ ملوكِ الأرضِ في وقتهِ وهو الخليفةُ العباسي أبو جعفر المنصور ؛ حيث روى شمسُ الدين الذهبي بسندهِ إلى الفضلِ بنِ الربيع عن أبيهِ قال : دعاني المنصور فقال : إِنَّ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ يُلحِدُ فِي سُلْطَانِي، قَتَلَنِي اللهُ إِنْ لَمْ أَقتُلْهُ . فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْتُ : أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ . فَتَطَهَّرَ ، وَلَبِسَ ثِيَاباً - أَحْسِبُهُ قَالَ : جُدُداً - فَأَقبَلْتُ بِهِ ، فَاسْتَأْذَنتُ لَهُ ، فَقَالَ : أَدخِلْهُ ، قَتَلنِي اللهُ إِنْ لَمْ أَقتُلْهُ . فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُقْبِلاً ، قَامَ مِنْ مَجْلِسِه ، فَتَلَقَّاهُ ، وَقَالَ : مَرْحَباً بِالنَّقِيِّ السَّاحَةِ ، البَرِيْءِ مِنَ الدَّغَلِ وَالخِيَانَةِ ، أَخِي وَابْنِ عَمِّي . فَأَقعَدَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيْرِه ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ، وَسَأَلَه عَنْ حَالِه ، ثُمَّ قَالَ : سَلْنِي عَنْ حَاجَتِكَ . فَقَالَ : أَهْلُ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةِ قَدْ تَأَخَّرَ عَطَاؤُهُم ، فَتَأْمُرَ لَهُم بِهِ . قَالَ : أَفْعَلُ . ثُمَّ قَالَ : يَا جَارِيَةُ ! ائْتِنِي بِالتُّحْفَةِ . فَأَتَتْهُ بِمُدْهنٍ زُجَاجٍ فِيْهِ غَالِيَةٌ ، فَغَلَّفَه بِيَدِهِ ، وَانْصَرَفَ . فَاتَّبَعْتُه ، فَقُلْتُ : يَا ابْنَ رَسُوْلِ اللهِ ! أَتَيْتُ بِكَ وَلاَ أَشُكُّ أَنَّهُ قَاتِلُكَ ، فَكَانَ مِنْهُ مَا رَأَيْتَ ، وَقَدْ رَأَيْتُكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ بِشَيْءٍ عِنْدَ الدُّخُولِ ، فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ احرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ ، وَاكْنُفْنِي بِرُكنِكَ الَّذِي لاَ يُرَامُ ، وَاحْفَظْنِي بِقُدرَتِكَ عَلَيَّ ، وَلاَ تُهلِكْنِي وَأَنْتَ رَجَائِي ، رَبِّ كَمْ مِنْ نَعمَةٍ أَنْعَمتَ بِهَا عَلَيَّ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا شُكرِي ، وَكَم مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَهَا عِنْدَك صَبْرِي ؟ فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعمَتِه شُكرِي ، فَلَمْ يَحرِمْنِي ، وَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ بَلِيَّتِهِ صَبْرِي ، فَلَمْ يَخْذُلْنِي ، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى المَعَاصِي ، فَلَمْ يَفضَحْنِي ، وَيَا ذَا النِّعَمِ الَّتِي لاَ تُحصَى أَبَداً ، وَيَا ذَا المَعْرُوْفِ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ أَبَداً ، أَعِنِّي عَلَى دِيْنِي بِدُنْيَا ، وَعَلَى آخِرَتِي بِتَقْوَى ، وَاحفَظْنِي فِيْمَا غِبتُ عَنْهُ ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فِيْمَا خَطَرتُ ، يَا مَنْ لاَ تَضُرُّه الذُّنُوبُ ، وَلاَ تَنقُصُه المَغْفِرَةُ ، اغْفِرْ لِي مَا لاَ يَضُرُّكَ ، وَأَعْطِنِي مَا لاَ يَنْقُصُكَ ، يَا وَهَّابُ ! أَسْأَلُك فَرَجاً قَرِيْباً ، وَصَبراً جَمِيْلاً ، وَالعَافِيَةَ مِنْ جَمِيْعِ البَلاَيَا ، وَشُكرَ العَافِيَةِ . اهـ.
وهذا الذي وقع له - فأبدل اللهُ قلبَ خصمهِ من السخطِ حباً ، والبعدَ قرباً - هو كرم اللهُ وعنايتهُ ولطفهُ بأوليائهِ ، مع ما كان بين العباسِ وآلِ علي بنِ أبي طالب من الأمورِ العظامِ التي لا يناسبها هذا التكريم لأحدِ كبرائهم، فسبحان من جعل القلوبَ بين إصبعين من أ صابعهِ يقلبها كيف يشاءُ .
ثناء العلماء عليه:
حسبُك أن تعلمَ من ذلك أنهُ روى له جماعةُ الكتبِ الستِ في كتبهم خلا الإمام البخاري فلم يخرج له في الصحيح ولكن في بقيةِ كتبهِ .
ولذا قال ابنُ حجرٍ في ترجمتهِ في " التقريبِ " : " صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ ... " .
وقد أكثر العلماءُ - علماءُ الحديثِ والنقدِ - من الثناءِ عليه ، ومدحهِ ووصفهِ بالأوصافِ اللائقةِ بهِ .
فقال أبو حاتم الرازي : " ثِقَةٌ ، لاَ يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ " ، كما في الجرح (2/487) ، ووثقهُ الشافعي وابنُ معين وغيرهما. وقال ابنُ حبان : هو من ساداتِ أهلِ البيتِ ، وعبادِ أتباعِ التابعين ، وعلماءِ أهلِ المدينةِ .
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (2/245) : " ... فإن جعفرَ بنَ محمدٍ من أئمةِ الدينِ باتفاقِ أهلِ السنةِ ..." ، ونص على ذلك في موضعٍ آخر (4/108-110) : " وإمامتهم فيما دلت الشريعةُ على الائتمامِ بهم فيه ..." .
وقال أبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ الكوفي - لما سُئل عنهُ : مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَفْقَهَ مِنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، لَمَّا أَقدَمَهُ المَنْصُوْرُ الحِيْرَةَ ، بَعَثَ إِلَيَّ ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَنِيْفَةَ ! إِنَّ النَّاسَ قَدْ فُتِنُوا بِجَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، فَهَيِّئْ لَهُ مِنْ مَسَائِلِكَ الصِّعَابِ . فَهَيَّأْتُ لَهُ أَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً ، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَجَعْفَرٌ جَالِسٌ عَنْ يَمِيْنِه ، فَلَمَّا بَصُرتُ بِهِمَا ، دَخَلَنِي لِجَعْفَرٍ مِنَ الهَيْبَةِ مَا لاَ يَدْخُلُنِي لأَبِي جَعْفَرٍ ، فَسَلَّمتُ ، وَأَذِنَ لِي ، فَجَلَستُ . ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جَعْفَرٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ! تَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، هَذَا أَبُو حَنِيْفَةَ . ثُمَّ أَتْبَعَهَا : قَدْ أَتَانَا . ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا حَنِيْفَةَ ! هَاتِ مِنْ مَسَائِلِكَ ، نَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللهِ . فَابتَدَأْتُ أَسْأَلُه ، فَكَانَ يَقُوْلُ فِي المَسْأَلَةِ : أَنْتُم تَقُوْلُوْنَ فِيْهَا كَذَا وَكَذَا ، وَأَهْلُ المَدِيْنَةِ يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا ، وَنَحْنُ نَقُوْلُ كَذَا وَكَذَا ، فَرُبَّمَا تَابَعَنَا ، وَرُبَّمَا تَابَعَ أَهْلَ المَدِيْنَةِ ، وَرُبَّمَا خَالَفَنَا جَمِيْعاً ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى أَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً ، مَا أَخْرِمُ مِنْهَا مَسْأَلَةً . ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ : أَلَيْسَ قَدْ رَوَيْنَا أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُهم بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ ؟
هذا نزرُ يسيرٌ من ثناءِ الأئمةِ عليهِ . وللشيخِ ابنِ تيميةَ من الثناءِ عليه لوحده ومع آبائهِ من آلِ البيت ما لو جُمع لكفى عن غيرهِ . وإنما في التنويعِ فوائدٌ .
موقفه من الشيخين أبي بكر وعمر:
الأولُ جدهُ من جهتينِ من ناحيةِ أخوالهِ ، وكلاهما وزيرا جدهِ ، محمد صلى اللهُ عليه وآله وسلم .
فقد كان محباً لهما ومعظماً ومزكياً لهما ، مبغضاً لمن أبغضهما ، فلأجله كان يبغضُ الرافضةَ ويمقتها لموقفهم من جدهِ أبي بكر وصاحبهِ الفاروق .
قال عَبْدُ الجَبَّارِ بنُ العَبَّاسِ الهَمْدَانِيُّ : أَنَّ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ أَتَاهُم وَهُم يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنَ المَدِيْنَةِ ، فَقَالَ : إِنَّكُم - إِنْ شَاءَ اللهُ - مِنْ صَالِحِي أَهْلِ مِصرِكُم ، فَأَبلِغُوهُم عَنِّي : مَنْ زَعَمَ أَنِّي إِمَامٌ مَعصُومٌ ، مُفتَرَضُ الطَّاعَةِ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنِّي أَبْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ .
وروى ابنُ أبي عمر العدني ، عن جعفرِ بنِ محمد الصادق ، عن أبيه : كَانَ آلُ أَبِي بَكْرٍ يُدْعَونَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وقَالَ زُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ : قَالَ أَبِي لِجَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ : إِنَّ لِي جَاراً يَزْعُمُ أَنَّكَ تَبرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَقَالَ جَعْفَرٌ : بَرِئَ اللهُ مِنْ جَارِكَ ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْفَعَنِي اللهُ بِقَرَابَتِي مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَقَدِ اشْتكَيتُ شِكَايَةً ، فَأَوصَيتُ إِلَى خَالِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ .
وقال مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ : عَنْ سَالِمِ بنِ أَبِي حَفْصَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَابْنَه جَعْفَراً عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : يَا سَالِمُ ! تَوَلَّهُمَا ، وَابْرَأْ مِنْ عَدُوِّهِمَا ، فَإِنَّهُمَا كَانَا إِمَامَيْ هُدَىً . ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ : يَا سَالِمُ ! أَيَسُبُّ الرَّجُلُ جَدَّه ، أَبُو بَكْرٍ جَدِّي ، لاَ نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ القِيَامَةِ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَتَوَلاَّهُمَا ، وَأَبرَأُ مِنْ عَدوِّهِمَا .
وَقَالَ حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُوْلُ : مَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةٍ عَلَيَّ شَيْئاً ، إِلاَّ وَأَنَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَه ، لَقَدْ وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ .
وقد روى تلميذهُ المتقنُ الثقةُ عَمْرُو بنُ قَيْسٍ المُلاَئِيُّ ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ يَقُوْلُ : بَرِئَ اللهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ .
فهذهِ النصوصُ من جعفرٍ الصادق رحمهُ اللهُ صريحةٌ في محبتهِ للشيخين وتوليهِ لهما ، وتقربهِ إلى اللهِ بذلك ، كما تدلُ أيضاً على بغضهِ لمن أبغضهما ، وبراءته ممن تبرأ منهما ، أو ادعى عصمتَهُ هو في نفسهِ . كما دعا اللهَ بأن يتبرأَ ممن تبرأَ منهما.
وهذا يهدمُ أصلاً عظيماً من أصولِ القومِ الذي يعتقدونهُ في وزيري نينا محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم ، ومن ثم بقيةُ جماهيرِ صحابةِ جدهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم .
وأيضاً شهد لهما بالجنة ، وأولئك الأباعدُ يشهدون عليهما بالنارِ والخلودِ فيها ؛ فقد روى الدارقطني بإسنادهِ إلى حَنَانَ بنِ سَدِيْرٍ ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، وَسُئِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : إِنَّكَ تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلَيْنِ قَدْ أَكَلاَ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ .
أي إن أرواحهما في الجنة تغدو وتروحُ كما تشاءُ ، وليس وراءَ ذلك شيءٌ إلا التقيةَ المحضةَ ، وهي النفاقُ المحضُ ، نعوذ بالله .
موقفه من الجدال والقياس في الدين:
درج الإمامُ جعفرُ بنُ محمدٍ رحمةُ اللهِ عليه على ما درج عليه أجدادُهُ - من النبي عليهِ السلامُ ، والصديقِ ، وعلي بنِ أبي طالبٍ ، وعمومِ الصحابةِ والتابعين وتابعيهم - من التحذيرِ من الجدالِ والمراءِ في الدينِ وفي كتابِ اللهِ وشرائعهِ . وهذا الأمرُ - أعني التحذيرَ من الجدالِ وتوابعهِ وآثارهِ على الدينِ والقلوبِ - من الأمورِ المسلمةِ عند المسلمين ، مضى على التحذيرِ منهُ والتشديدِ فيه صدرُ الأمةِ وسلفُها الصالحُ في كل قرنٍ إلى عصرنا هذا ممن تبع السلفَ في مذهبهم ، ومضى على منهجهم ومنوالهم.
ومن أقوالِ الإمامِ الصادقِ في هذا ، مارواهُ الذهبي بسندهِ إلى عَنْبَسَةَ الخَثْعَمِيُّ - وَكَانَ مِنَ الأَخْيَارِ - سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُوْلُ : إِيَّاكُم وَالخُصُومَةَ فِي الدِّيْنِ ، فَإِنَّهَا تَشغَلُ القَلْبَ ، وَتُورِثُ النِّفَاقَ .
وهذه العبارةُ تواترت في الحقيقةِ عن جمعٍ كبيرٍ من أئمةِ السلفِ رحمهم اللهُ ، تناقلها العلماءُ في كتبِ أصولِ السنةِ في هذا البابِ .
فهذا نموذجٌ في ذمِ الجدالِ ؛ وهو المراءُ وطلبُ المغالبةِ ، ومستلزمٌ للخصومةِ في الدينِ .
ومن ذمهِ للقياسِ قصةٌ رواها أبو نعيمٍ في " الحلية " بسنده إلى عمرو بنِ جميعٍ ، قال : دخلتُ على جعفرِ بنِ محمدٍ أنا وابنُ أبي ليلى وأبو حنيفة ، وقال عبدُ اللهِ بنُ شُبرمةَ الكوفي - وهو ثقةٌ فقيهٌ من أقرانِ الصادقِ - قال : دخلتُ أنا وأبو حنيفة على جعفرِ بنِ محمدٍ ، فقال لابنِ أبي يعلى : من هذا معك ؟ قال : هذا رجلٌ له بصرٌ ونفاذٌ في أمرِ الدينِ . قال: لعلهُ يقيسُ أمرَ الدينِ برأيهِ . قال: نعم ، قال : فقال جعفرُ لأبي حنيفةَ : ما اسمك ؟ قال: نعمان . قال : يا نعمانُ ، هل قست رأسَك بعدُ ؟ قال : كيف أقيسُ رأسي ؟! ، قال : ما أراك تحسنُ شيئاً ، هل علمت ما الملوحة في العينين ، والمرارة في الأذنين ، والحرارة في المنخرين ، والعذوبة في الشفتين ؟ قال : لا ! ، قال : ما أراك تحسنُ شيئاً. قال : فهل علمت كلمةً أولها كفرٌ وآخرُها إيمانٌ ؟ فقال ابنُ أبي ليلى : يابنَ رسولِ الله ، أخبرنا بهذهِ الأشياءِ التي سألتُهُ عنها . فقال : أخبرني أبي عن جدي أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال : " إن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ جعل لابنِ آدمَ الملوحةَ في العينينِ ؛ لأنهما شحمتان ولولا ذلك لذابتا، وإن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل المرارةَ في الأذنين حجاباً من الدوابِ ؛ فإن دخلت الرأسَ دابةٌ والتمست إلى الدماغِ ، فإذا ذاقت المرارةَ التمست الخروجَ ، وإن اللهَ بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل الحرارةَ في المنخرين يستنشقُ بهما الريحَ ولولا ذلك لأنتن الدماغُ ، وإن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل العذوبةَ في الشفتينِ ؛ يجدُ بهما استطعامَ كلِ شيءٍ ويسمعُ الناسُ بها حلاوةَ منطقهِ . فقال : فأخبرني عن الكلمةِ التي أولها كفرٌ وآخرُها إيمانٌ . فقال : إذا قال العبدُ : لا إله ، فقد كفر ، فإذا قال : إلا الله ، فهو إيمانٌ . ثم أقبل على أبي حنيفةَ فقال : يا نعمانُ ، حدثني أبي عن جدي أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال : " أولُ من قاس أمرَ الدينِ برأيهِ إبليسُ . قال اللهُ تعالى لهُ : اسجد لآدمَ ، فقال : " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " [ الأعراف : 12 ] فمن قاس الدينَ برأيهِ قرنهُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ بإبليسَ ؛ لأنه اتبعهُ بالقياسِ .
زاد ابنُ شبرمةَ في حديثهِ : ثم قال جعفرُ : أيهما أعظمُ : قتلُ النفسِ أو الزنا ؟ قال : قتلُ النفسِ . قال : فإن اللهَ عز وجل قبل في قتلِ النفسِ شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلا أربعةً . ثم قال : أيهما أعظمُ : الصلاةُ أم الصومُ ؟ قال : الصلاةُ ، قال : فما بال الحائض تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاةَ ؟ فكيف - ويحك - يقومُ لك قياسك ؟!. اتقِ اللهَ ولا تقسِ الدينَ برأيك !
من أقواله في صفات الله تعالى:
وأكثرُ ما نقل عنه نموذجٌ من الصفاتِ الإلهيةِ المقدسةِ ، في كلامِ اللهِ تعالى ، لا سيما وزمنهُ زمن بدعةِ الجعدِ بنِ درهم ، وتلقي الجهمُ بنُ صفوان السمرقندي لها.
حيثُ روى عنهُ تلميذهُ مُعَاوِيَةُ بنُ عَمَّارٍ الدهني - وهو صدوقٌ - قال : سَأَلْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ عَنِ القُرْآنِ ، فَقَالَ : لَيْسَ بِخَالِقٍ ، وَلاَ مَخْلُوْقٍ ، وَلَكِنَّهُ كَلاَمُ اللهِ .
وقد أسندها عنهُ ابنُ جريرٍ الطبري في عقيدتهِ " صريح السنة " ، أي أن كلامَ اللهِ الذي هو صفتُهُ ، ليس قائماً بذاتهِ فيخلقُ ويبدعُ ؛ لأنهُ صفةٌ والصفةُ لا تقومُ بنفسها أبداً فلا بد من قيامها بموصوفٍ .
وليس كلامُ اللهِ مخلوقاً ؛ إذ لو كان كذلك لامتنع عن الاتصافِ بالكلامِ . فعُطل عنه . وهذا القولُ من الإمامِ الصادقِ خالف فيه شيعتُهُ ومتأخريهم ؛ الذين وافقوا المعتزلةَ في قولهم بأن القرآنَ مخلوقٌ ، ومع هذا خالفوا إمامَهم المعصوم ؟!
ونقل ابنُ تيميةَ عن جعفرٍ الصادق - وعن غيرهِ ممن قبلهُ من الصحابةِ ومعاصريهِ - ومن بعده : أن اللهَ لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء ، وأن الفعلَ من لوازمِ الحياةِ ، والربُ لم يزل حياً ، فلم يزل فعالاً . ذكر ذلك في المنهاج (1/215) و(2/386) .
وفي بابِ القضاءِ والقدرِ ، وافق الإمامُ جعفرُ الصادق أئمةَ أهلِ السنةِ في إثباتِ إرادةٍ للهِ خاصةٍ شاملةٍ ، وإرادةٍ للمخلوقِ خاصةٍ بهِ ؛ كما قالهُ ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (3/169) : " لكن التحقيق إثباتُ النوعين - أي من الإرادتين - كما أثبت ذلك السلفُ والأئمةُ ؛ ولهذا قال جعفر : " أراد بهم وأراد منهم " فالواحدُ من الناسِ يأمرُ غيرهُ وينهاهُ مريداً النصيحةَ ، وبياناً لما ينفعهُ ، إن كان مع ذلك لا يريدُ أن يعينهُ على ذلك الفعل ..." . وقال عن القدرِ : هو أمرٌ بين أمرينِ لا جبرٌ ولا تفويضٌ .
وقال أيضاً : إن اللهَ أراد بنا شيئاً ، وأراد منا شيئاً ، فما أرادهُ بنا طواهُ عنا. وما أرادهُ منا أظهرهُ لنا، فما بالنا نشتغلُ بما أرادهُ بنا عما أرادهُ منا. اهـ. من لوامع الأنوار (2/251) .
وهذا معنى قولِ جدهِ على بنِ أبي طالب رضي اللهُ عنه : القدرُ سرٌ من أسرارِ اللهِ فلا نكشفهُ ! .
والمقصودُ أن أصولَ جعفرٍ الصادق وآبائِهِ هي أصولُ السنةِ وأئمةِ الدينِ في صفاتِ اللهِ ؛ بإثباتِ ما يجبُ له من صفاتِ الكمالِ مما أثبتهُ لنفسهِ أو أثبتهُ لهُ رسولهُ صلى اللهُ عليه وسلم ، ونفي ما نفاهُ اللهُ عن ذاتهِ ، أو نفاهُ عنهُ رسولهُ صلى اللهُ عليه وآله وسلم ، وإن خالفهم الرافضةُ .
قال ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (2/368) : " ولكن الإمامية تخالفُ أهلَ البيتِ في عامةِ أصولِهم ، فليس في أئمةِ أهلِ البيتِ - مثل : علي بنِ الحسين ( زين العابدين ) وأبي جعفر الباقر، وابنه جعفرِ بنِ محمدٍ الصادق ، - ومن كان ينكرُ الرؤيةَ أو يقولُ بخلقِ القرآنِ ، أو ينكرُ القدرَ ، أو يقولُ بالنصِ على علي ، أو بعصمةِ الأئمةِ الاثني عشر أو يسبُ أبا بكر وعمرَ .
والمنقولاتُ الثابتةُ والمتواترةُ عن هؤلاءِ معروفةٌ موجودةٌ ، وكانت مما يعتمدُ عليه أهلُ السنةِ .
وشيوخُ الرافضةِ معترفون بأن هذا الاعتقادَ في التوحيدِ والصفاتِ والقدرِ لم يتلقوهُ ، لا عن كتابٍ ولا سنةٍ ولا عن أئمةِ أهلِ البيتِ ، وإنما يزعمون أن العقلَ دلهم عليه ، كما يقولُ ذلك المعتزلةُ . وهم في الحقيقةِ إنما تلقوهُ عن المعتزلةِ وهم شيوخُهم في التوحيدِ والعدلِ " .ا.هـ.
وعليه فلا يُعرفُ عن الإمامِ الصادقِ ولا أحدٍ ممن قبلهُ - من أئمةِ أهلِ البيتِ خصوصاً- ما يتناقلهُ عنهم الغالون فيهم ، بل كلُ ما ينقلونهُ عنهم كذبٌ وافتراءٌ على ألسنةِ أؤلئك الأئمةِ .
فهذه الاعتقاداتُ التي يتصورها الرافضةُ وغيرُهم - مما يحكونهُ عن الصادقِ خصوصاً ومن قبلهُ من آلِ البيتِ - إنما هي أساطيرٌ نسجوها هم حول أولئك الأئمةِ ، وأقاويلٌ تقولوها عليهم وأجروها على ألسنتهم كذباً وزوراً .
كذب الرافضة عليه:
مع ما تبوأ الإمامُ جعفرُ الصادق من المنزلةِ عند الشيعةِ ؛ إذ هو الإمامُ السادسُ من سلالةِ الحسينِ بنِ علي عندهم . ولكنهم مع هذا افتروا عليه كذباً مستطيراً لم يفتروهُ على مثلهِ من أئمتهم .
- وأولُ ذلك : ما حكاهُ شيخُهم أبو محمد الحسينُ النوبختي (310 هـ) في كتابهِ " فرق الشيعة " ؛ حيث ذكر عن الذين قالوا بإمامةِ جعفرٍ الصادق على محمد بن عبد الله بن الحسين ذى النفس الزكية ، حيث ذاع منهم من قال : إن جعفراً لما أشار إلى إمامةِ إسماعيلَ ابنه ثم مات في حياةِ أبيهِ ، أنهُ كذبهم ، ولم يكن بذلك إماماً عليهم ؛ لأن الإمامَ لا يكذبُ ولا يقولُ ما لا يكونُ ...
حتى حاولوا تسديدَ قولهِ هذا ؛ فقالوا بالبداءةِ على اللهِ ؛ أي أنه قد يبدو للهِ شيىءٌ لم يكن قبلُ في سابقِ علمهِ أن يكونَ . وإن أنكرَ البداءةَ نفر منهم .
- فهذا أولُ كذبٍ عليه في حياتهِ ، كما كذبوا عليه بادعاءِ الإمامةِ المعصومةِ له ، وسبق لنا في موقفهِ من الشيخين قوله لعبدِ الجبارِ الهمداني : مَنْ زَعَمَ أَنِّي إِمَامٌ مَعصُومٌ ، مُفتَرَضُ الطَّاعَةِ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ .
- وأيضاً الكذبُ على الإمامِ جعفر بأنهُ قال : " التقيةُ ديني ودينُ آبائي " . واعتمدوها أصلاً من أصولهم ، لا ينفكون عنهُ ، ويحرفون آيةَ آلِ عمران إليهِ .
- وأشنعُ ما افتراهُ غلاةُ الشيعةِ من الرافضةِ على الإمامِ الصادقِ : القولُ بألوهيتهِ كما صرحت به طائفةٌ البزيغية ، وهم أتباعُ بزيغِ بنِ موسى الحائك من أصحابِ جعفر ، وإن كان عامةُ الرافضةِ يلعنونهم كما في " رجال الكشي " ( ص257-258 ) ، و " أعيان الشيعة " للعاملين (13/231) ، و " رجال الطوسي " ( ص159 ) .
- ومن كذبهم عليه اعتقادُ بقائهِ وعدمِ موتهِ ، وبعضهم يعتقدُ ذلك في ابنِ موسى الكاظم ، ومنهم من يعتقدُ ذلك في غيرهِ من متقدمي آلِ البيتِ .
وهو خطأٌ بينٌ ؛ إذ الموتُ لابد منهُ ، ولم يختص أحدٌ من آلِ البيتِ لا علي ولا غيرهُ دوامَ أو بقاءَ زيادةٍ على غيرهِ ، فأعمارُهم أعمارُ غيرهم ، بل النادرُ منهم من يتجاوزُ المائةَ سنةٍ عمراً .
- وأيضا كذبهم عليه وعلى أبيهِ فيما ينقلونهُ عنه من أصولِ الدينِ وفروعهِ ، وينقلون عنهم بدونِ إسنادٍ ، أو بإسنادٍ موضوعٍ أو ضعيفٍ أو مقطوعٍ ؛ لا يتوفرُ فيه أسبابُ القوةِ في نسبةِ القولِ إليهم ، بل تتوفرُ فيه أسبابُ طعنِ نسبتهِ إلى أحدٍ من أولئك الأئمةِ .
قال ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (5/162) : " وأما شرعياتهم فعمدتُهم فيها على ما ينقلُ عن بعضِ أهلِ البيتِ مثل : أبي جعفر الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق ، وغيرهما.
ولا ريب أن هؤلاءِ من ساداتِ المسلمين ، وأئمةِ الدينِ ، ولأقوالهم من الحرمةِ والقدرِ ما يستحقهُ أمثالُهم ، لكن كثيرٌ مما ينقلُ عنهم كذبٌ ، والرافضةُ لا خبرةَ لهم بالأسانيدِ والتمييزِ بين الثقاتِ وغيرهم ؛ بل هم في ذلك من أشباهِ أهلِ الكتابِ ؛ كل ما يجدونه في الكتبِ منقولاً عن أسلافهم قبلوه ، بخلافِ أهلِ السنةِ فإن لهم من الخبرةِ بالأسانيدِ ما يمتازون به بين الصدقِ والكذبِ " . انظر نحوه في " المجموع " (11/581) .
ولئن كان الإماميةُ الرافضةُ ينقلون عن الإمام الصادقِ ذمهُ ومناظرتهُ للزنادقةِ من غلاةِ الرافضةِ ؛ وهم الباطنيون وأحزابهم ، فإن كلامه في هدمِ أصولِ الرافضةِ مثلُ ذلك ، لكنهم يخفونهُ ويخفضونهُ ولا يرفعونهُ ، ويحملونهُ على محملِ التقيةِ وغيرها . فكلا الطائفتينِ مردودٌ عليها من كلامهِ. والمقصودُ أنهُ لم يُكذب على أحدٍ مثلُ ما كُذب على جعفرٍ الصادق رحمةُ اللهِ عليه ، مع براءتهِ مما كُذب بهِ عليهِ .
مؤلفاته وآثار الصادق العلمية:
بالعطفِ على ما سبق من كثرةِ الكذبِ على الإمامِ الصادقِ رضي اللهُ عنه ، فقد افتروا على الإمامِ كتباً ورسائل قالوا : إنها من تأليفِهِ ، وهو باطلٌ نص عليه أهلُ المعرفةِ بهِ ، ومن جهةٍ أخرى لا بد من استصحابِ أن القرنَ الذي عاش فيه الإمامُ جعفرُ رضي اللهُ عنهُ ( 80 - 148 هـ ) تميز بندرةِ التأليفِ ، حتى لم يؤثر عن أهلهِ إلا أقوالٌ رويت عنهم ، وهي متفرقةٌ لم تصل إلى حدِ التأليفِ ، وكثرةِ الكتبِ والرسائلِ .
والقاعدةُ في هذا وغيرهِ : أننا لا نقبلُ قولاً عن الصادقِ ، ولا غيرهِ من أئمةِ الدينِ ومن أقلُ منهم ، إلا بالسندِ المتصلِ إليهم ، المسلسلِ بالثقاتِ والمعروفين من النقلةِ أو ما وافق الحقَ وشابههَ الدليل فيقبلُ منهُ ، ولا يردُ والحالةُ هذهِ ، وما سواهُ فلا يلتفتُ إليه أبداً .
ومن الكتبِ التي نص المحققون على أنها مكذوبةٌ عليهِ رحمهُ اللهُ :
1 - نسبوا إليهِ كذباً كتابَ " رسائل إخوانِ الصفا " ، وهو كتابٌ لم يؤلف إلا في القرنِ الثالثِ أيامَ دولةِ بني بويه .
2 - كتابُ " الْجَفْر " . وهو كتابُ تنبؤ بالحوادثِ ، وعلمِ الغيبِ المستقبلي .
3 - كتابُ " عِلمِ الْبِطَاقَةِ " .
4 - كتابُ " الْهَفْتِ " .
5 - كتابُ " اخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ " ، وهي الحركاتُ السفليةُ .
6 - كتابُ " الْجَدَاوِلِ " أو " جدولِ الهلالِ " . وقد كذبهُ عليهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ أحدُ المشهورين بالكذبِ .
7 - كتابُ " أحكامِ الرعودِ والبروقِ " ، وحركات الأفلاكِ ، وما يكونُ في العالمِ . كالذي قبلهُ .
8 - كتابُ " منافعِ القرآنِ " .
9 - كتابُ " قراءةِ القرآنِ في المنامِ " .
10 - كتابُ " تفسيرِ القرآنِ " . وكثيرٌ مما نقلهُ صاحبُ حقائقِ التفسيرِ - وهو أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي الصوفي - عن جعفر الصادق هو من الكذبِ 0
11 - كتابُ " الكلامِ على الحوادثِ " ، وموضوعُهُ كتابُ " الْجَفْر " .
12 - كتابُ " تفسيرِ قراءةِ السورةِ في المنامِ 0
13 - كتابُ " قوسِ قزح "0 ويسمى قوسُ اللهِ 0
هذا وإن كانت لهذهِ الكتبِ مخطوطاتٌ متفرقةٌ في ثنايا المكتباتِ كما حشدها بروكلمان وسزكين .
قلتُ : فإنه لا يغني عن اعتقادِ كذبها ، حيثُ تكونُ كتبت على لسانِ جعفرٍ ونسبت إليه مِن أتباعهِ والغالين فيه ، أو من الزنادقةِ والباطنيةِ 0
مع اعتبارِ أن أصحابَ المكتباتِ والمفهرسين ليس لديهم العنايةُ بتحقيقِ نسبةِ الكتبِ إلى مؤلفيها ، وإنما ما ذكرهُ المترجمون ، أو وجد مكتوباً على طرةِ المخطوطةِ منسوباً إلى رجلٍ نسبوهُ إليهِ وكفى .
وأيضاً يبرهنُ الرافضةُ على كثرةِ مؤلفاتِ الإمامِ الصادقِ بما جمعهُ أبو موسى جابرُ بنُ حيان الصوفي الطرطوسي الكيمائي الشهير ( ت200 هـ ) الفيلسوف المترجم 0
فقد قالوا : إنهُ صحب جعفرَ الصادق ، وكتب عنهُ رسائلهُ وعددها خمسمائة في ألفِ ورقةٍ كما ذكرهُ ابنُ خلكان0 وهو موضوعُ شكٍ كبيرٍ ، لأن جابراً هذا متهمٌ في نفسهِ اتهاماً بليغاً ، في دينهِ وأمانتهِ ، وأيضاً في صحبتهِ للإمامِ الصادقِ المتوفى سنة ( 148 هـ ) ، إذ المشهورُ صحبتهُ لجعفرِ بنِ يحيى البرمكي لا لجعفرٍ الصادق ، وهذا بالمدينةِ وذاك ببغداد ، وأيضاً انشغالُ جابرٍ بعلومهِ الطبيعيةِ ، ولعل هذا ما يفيدُ الربط بينهُ وبين جعفرٍ الصادق ، الذي تنسبُ إليه تلك المؤلفاتُ والآراءُ في علومِ الطبيعةِ والفلكِ والكيمياءِ والجداولِ .
وعلى كلِ حالٍ ؛ هذهِ الرسائلُ لا يمكننا اعتقادُ نسبتها إلى الإمامِ الصادقِ والحالةُ هذهِ - انظر : " الأعلام للزركلي " (2/103-104) - ولو كانت صحيحةَ النسبةِ لتلقاها أبناؤُهُ وتلاميذُهُ عنهُ ، وذاع انتشارها عن مثلهِ . كذلك بعد حصولِ هذا الكمِ من التأليفِ في أولِ القرنِ الثاني . إلى أمورٍ كثيرةٍ تَردُ في التشكيكِ بهذهِ النسبةِ .
مصادر ترجمته:
- تهذيبُ الكمالِ للمزي ص202 .
- تهذيبُ التهذيبِ لابنِ حجرٍ (2/103-105) .
- تقريبُ التهذيبِ لابنِ حجرٍ رقم 950 .
- التاريخُ الكبيرُ للإمامِ البخاري (2/198) .
- التاريخُ الصغيرِ للإمامِ البخاري (2/91) .
- تاريخُ خليفة بنِ خياطٍ ص 424 .
- طبقاتُ خليفة بنِ خياطٍ ص 269 .
- تاريخُ ابنِ جريرٍ الطبري في حوادث سنةِ 145 هـ .
- تاريخُ ابنِ كثيرٍ - البداية والنهاية - (10/108) .
- تذكرةُ الحفاظِ للذهبي (1/166) .
- تذهيبُ التهذيبِ للذهبي ، عند اسمهِ جعفر بن محمد .
- خلاصةُ التذهيبِ للزركشي 63 .
- الجمعُ بين كتابي الكلاباذي والأصبهاني في رجالِ البخاري ومسلم ص 70 .
- حليةُ الأولياءِ لأبي نعيمٍ (3/192-206) .
- الجرحُ والتعديلُ لابنِ أبي حاتمٍ (2/487) .
- تاريخُ الإسلامِ للذهبي (6/45) .
- صفةُ الصفوةِ لابنِ الجوزي (2/94) .
- تاريخُ التراثِ العربي لسزكين (3/276-273) .
- طبقاتُ الحفاظِ للسيوطي ص 79 .
- شذراتُ الذهبِ لابنِ العمادِ الحنبلي (1/20) .
- الكاملُ في التاريخِ لابنِ الأثيرِ حوادث سنة 145 هـ .
- الكاملُ لابنِ عدي (2/131-134) .
- مشاهيرُ علماءِ الأمصارِ لابنِ حبان 127 .
- وفياتُ الأعيانِ لابنِ خلكان (1/327-328) .
- سيرُ أعلامِ النبلاءِ للذهبي (6/255-270) .
- طبقاتُ القراءِ لابنِ الجوزي (1/196) .
- دولُ الإسلامِ للذهبي (1/102) .
- طبقاتُ علماءِ الحديثِ لابنِ عبدِ الهادي رقم 152 .
- الثقاتُ للعجلي ص 98 .
- فرقُ الشيعةِ للنوبختي ص 55 - 66 .
- المعارفُ لابنِ قتيبةَ ص 87 - 110 .
- الأعلامُ للزركلي (1/126) .
- معجمُ المؤلفين لكحالة (1/495) .
- ميزانُ الاعتدالِ للذهبي (1/414-415) .
- ومواضعُ من منهاجِ السنةِ النبويةِ ومجموعِ الفتاوى ورد بعضها خلال الترجمةِ .
- الأنسابُ للسمعاني (8/ .
- اللبابُ في تهذيبِ الأنسابِ لابنِ الأثير (2/299) .
- العبرُ في خبرِ من غبر الذهبي (1/209) .
- الإمامُ الصادقُ حياتهُ وعصرهُ وآراؤهُ وفقههُ لمحمد أبي زهرة ، وهو أوسعُ الدراساتِ المعاصرةِ .
- جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق لعبدِ العزيزِ الأهل .
- بروكلمان (1/181) .
جزى اللهُ الشيخَ الفاضلَ علي الشبلُ خيرَ الجزاءِ على هذا الموجزِ الفارقِ من معالمِ ترجمةِ جعفرٍ الصادق رحمهُ اللهُ فقد أجاد وأفاد ..
وما بقي إلا أن نضع المناظرة الشهيرة للإمام جعفر الصادق مع الرافضي التي أرفقها الشيخ في كتابه::
مناظرة بين الإمام جعفر الصادق والرافضي
هذه مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه مع أحد الرافضة وتوجد منها نسختان: النسخة الأولى نسخة تركيا في خزانة شهيد علي باشا باستنبول ضمن مجموع رقمه 2764 حوى عدة رسائل في العقيدة والحديث هذه الرسالة الحادية عشرة منه. النسخة الثانية نسخة الظاهرية وقد وقعت ضمن مجاميعها في المجموع رقم 111 وهي الرسالة التاسعة عشر منه. محقق الكتاب : علي بن عبدالعزيز العلي آل شبل. الناشر : دار الوطن - السعودية - الرياض هاتف 4644659-4626124.
نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري البخاري - قراءة عليه بمكة حرسها الله سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن مسافر قال أخبرنا أبو بكر بن خلف بن عمر بن خلف الهمذاني قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أزمة قال: حدثنا أبو الحسن بن علي الطنافسي قال : حدثنا خلف بن محمد القطواني قال : حدثنا علي بن صالح قال :
جاء رجل من الرافضة إلى جعفر بن محمد الصادق كرم الله وجهه ، فقال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه السلام فقال الرجل :
1- يابن رسول الله من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال جعفر الصادق رحمة الله عليه : أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
2- قال : وما الحجة في ذلك ؟
قال : قوله عز وجل (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن 'ن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها )){التوبة 40} فمن يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما ؟ وهل يكون أحد أفضل من أبي بكر إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
3- قال له الرافضي : فإن علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
فقال له جعفر : وكذلك أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
4- قال له الرجل : فإن الله تعالى يقول بخلاف ما تقول !.
قال له جعفر : وما قال ؟
قال : قال الله تعالى (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) فلم يكن ذلك الجزع خوفاً ؟ (في نسخة الظاهرية \" أفلم يكن..\"
قال له جعفر : لا ! لأن الحزن غير الجزع والفزع ، كان حزن أبي بكر أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدان بدين الله فكان حزن على دين الله وعلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حزنه على نفسه كيف وقد ألسعته أكثر من مئة حريش فما قال : حس ولا ناف!
5- قال الرافضي : فإن الله تعالى قال (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )){المائدة 55} نزل في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي ))
فقال له جعفر : الآية التي قبلها في السورة أعظم منها ، قال الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )){المائدة 54} وكان الارتداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ارتدت العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت الكفار بنهاوند وقالوا : الرجل الذين كانوا يتنصرون به - يعنون النبي - قد مات ، حتى قال عمر رضي الله عنه: اقبل منهم الصلاة ، ودع لهم الزكاة ، فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو اجتمع علي عدد الحجر والمدر والشوك والشجر والجن ولإنس لقاتلتهم وحدي . وكانت هذه الآية أفضل لأبي بكر.
6- قال له الرافضي : فإن الله تعالى قال : (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)) نزلت في علي عليه السلام كان معه أربعة دنانير فأنفق ديناراً بالليل وديناراً بالنهار وديناراً سراً وديناراً علانية فنزلت فيه هذه الآية . فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر رضي الله عنه أفضل من هذه في القرآن ، قال الله تعالى (( والليل إذا يغشى )) قسم الله ، ((والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى )) أبو بكر (( فسنيسره لليسرى)) أبو بكر (( وسيجنبها الأتقى )) أبو بكر (( الذي يؤتي ماله يتزكى )) أبو بكر ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) أبو بكر ، أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً حتى تجلل بالعباء ، فهبط جبريل عليه السلام فقال الله العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : اقرأ على أبي بكر مني السلام ، وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا ، أم ساخط ؟ فقال : أسخط على ربي عز وجل ؟! أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض . ووعده الله أن يرضيه.
7- قال الرافضي : فإن الله تعالى يقول (( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله )) { التوبة 19} نزلت في علي عليه السلام .
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر مثلها في القرآن ، قال الله تعالى (( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى )){ الحديد 10}
وكان أبو بكر أول من أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من قاتل ، وأول من جاهد . وقد جاء المشركون فضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى دمي ، وبلغ أبي بكر الخبر فأقبل يعدو في طرق مكة يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله