الإجهاض *
دبيان محمد الدبيان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
تعريف الإسقاط لغة وشرعاً:
جاء في المصباح المنير: "السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق.
وفي تاج العروس: "الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام" اهـ. ولم يشترط كونه مستبين الخلق.
وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر. والتثليث لغة. ولا يقال: وقع.
وأسقطت الحامل: ألقت سقطاً.
وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر. وجاء في تاج العروس أيضاً: "أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا ألقت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم. اهـ
وفي معنى الإسقاط: الإجهاض. جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق. اهـ(1).
تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء:
تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء الحمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق. وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى.
عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: "هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل"(2).
وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح.
أسباب السقط:
الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الأسباب التي يعرفها أهل الاختصاص(3).
وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل.
وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولد مشوهاً تشويهاً غير محتمل.
وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون. أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة.
الحكم التكليفي للإسقاط:
هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد.
إسقاط الجنين بعد نفخ الروح:
ذهب الحنفية(4)، والمالكية(5)، والشافعية(6)، والحنابلة(7) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح.
الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح:
الدليل الأول:
الإجماع. فقد حكى الإجماع غير واحد.
جاء في الشرح الكبير: "لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً"(.
وقال ابن جزي: "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعاً"(9).
ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره(10).
وقال ابن تيمية: "إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9).
وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (الإسراء: من الآية31)(11).
الدليل الثاني:
وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة.
فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها(12).
وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: "فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق"(13).
وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت.
قال الحافظ: "وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة"(14).
وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجود العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم.
بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟
ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر.
الدليل على أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر:
الدليل الأول:
الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر:
قال القرطبي: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس"(15).
وقال النووي: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر"(16).
وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر"(17).
الدليل الثاني:
روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبدالله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة"(18).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ينفخ فيه الروح" جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً.
حكم الإسقاط قبل نفخ الروح:
اختلف في هذه المسألة على أقوال:
فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة.
ذهب إلى هذا بعض الحنفية(19)، وهو المعتمد عند المالكية(20)، وقول الغزالي(21)، وابن العماد من الشافعية(22)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة(23).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقاً، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح. وهو الراجح عند الحنفية(24).
فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح.
وبقي في المسألة أقوال: منها:
وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها.
انفرد به اللخمي من المالكية(25)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة(26).
وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية(27).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة. حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية(28).
وقيل: يكره إلقاء النطفة.
اختاره علي بن موسى من الحنفية(29)، وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً(30).
أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة:
قالوا: النطفة بعد الاستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد.
الدليل الثاني:
حرم الله تعالى قتلا لصيد حال الإحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... الآية) (المائدة: من الآية95).
وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان.
والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء جحلاً، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقاً للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: علي. فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء. قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب علي، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل. قال: فشهد اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال علي: أشهد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر. قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء.
[الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة](31).
الدليل الثالث:
أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية.
ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول – يعني العزل – لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول – يعني ماء الرجل والمرأة – كان الرجوع بعد رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي(32).
دليل من أباح إسقاط النطفة:
الدليل الأول:
القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحمن إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا حرمة في إخراجها(33).
الدليل الثاني:
المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق. وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة(34).
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(35).
فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم.
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.
قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه(36).
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح:
قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12) إلى قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14).. قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9). وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ(37).
الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط:
أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً.
ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد.
ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة. وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل.
رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر.
حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح:
إذا قرر طبيبان أو أكثر أن في بقاء الجنين خطراً على حياة أمه، ولا سبيل إلى إنقاذهما معاً، فإما الجنين وموت أمه، وإما إنقاذ أمه بهلاكه، فما هو العمل حينئذٍ؟
فقيل: لا يجوز، ولو كان في ذلك خطر على حياة الأم(38).
وقيل: يجوز ذلك بشرط أن يقرر جمع من الأطباء الثقات المتخصصين أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر مؤكد على حياة الأم(39).
أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين.
عللوا ذلك: بأنه لا يجوز إحياء نفس بقتل أخرى، حيث لم يرد في الشرع(40).
ولأننا إذا أسقطناه فقد تعمدنا قتل نفس مؤمنة، وإذا تركناه وماتت الأم لم يكن هذا من فعلنا، بل هو من تقدير الله سبحانه وتعالى.
وقد يقدر الأطباء شيئاً، ويجزموا به، ولا يقع، وإذا كان كذلك، فلا يجوز دفع مفسدة متوقعة بارتكاب مفسدة محققة. وقد نسقط الجنين ولا تسلم الأم، فقد تعطب في نفاسها.
قال ابن عابدين في حاشيته: لو كان الجنين حياً ويخشى على حياة الأم من بقائه؛ فإنه لا يجوز تقطيعه؛ لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل الآدمي لأمر موهوم(41).
دليل القائلين بجواز إسقاط الجنين إنقاذاً لأمه:
إن هذه المسألة قد تعارض فيها واجب ومحرم، كل واحد منهما على درجة واحدة من الأهمية، بحيث لو أننا قمنا بالواجب، وقعنا في المحرم، ولو اتقينا المحرم أهدرنا الواجب، ولا سبيل للقيام بالواجب، وفي نفس الوقت اتقاء المحرم.
وإنما رخصنا الإقدام على إسقاط الجنين دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً لعظمى المصلحتين.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره تعليقاً على آية قتل الخضر للغلام من أجل سلامة والديه:
"ومنها القاعدة الكبيرة الجليلة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير، ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه"(42).
ويقول ابن القيم: "إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسرى، فحينئذٍ يكون رمي الأسرى، ويكون من باب دفع المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمر، وكانت مصلحة الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فرض الشك، وتساوى الأمران لم يجز رمي الأسرى"(43).
ويقول العز بن عبد السلام: "وإذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير، للتنازع بين المتساوين، ولذلك أمثلة:
أحدهما: إذا رأينا صائلاً يصول على نفسين من المسلمين متساويين، وعجز عن دفعه عنهما، فإنا نتخير.
والمثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين، وعجزنا عن الدفع عنهما، فإنا نتخير(44).
فإذا كان لنا شرعاً أن نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعظمهما، ونحصل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن إنقاذ الأم أعظم مصلحة من إنقاذ الجنين للأسباب التالية:
الأول: الأم هي أصل الجنين، متكون منها، فإنقاذها أولى.
ثانياً: أن الأم غالباً ما يكون لها أطفال، ومن الممكن أن يتعرضوا لمتاعب كثيرة بعد وفاة أمهم، والأسرة كثيراً ما تتمزق إذا فقدت أحد أعضائها البارزين، فكم من طفل تشرد، وساءت تربيته بسبب فقدانه لأمه، وأهمية الأم في الأسرة عظيمة؛ إذ إنها أصل المجتمع، بخلاف الجنين فلا تعلق به لأحد.
ثالثاً: حياة الأم قطعية، وحياة الجنين محتملة، والظني أو الاحتمالي لا يعارض القطعي المعلوم، فإنقاذ الأم أولى.
رابعاً: الأم أقل خطراً، وتعرضاً للهلاك من الجنين في مثل هذه الظروف، مما يجعل إنقاذها أكثر نجاحاً من إنقاذ جنينها، لذا تعطى الأولوية في الإنقاذ ففي إحصائية لمستشفى الولادة والأطفال بالرياض في عام 1400هـ، بلغ عدد الوفيات للنساء سبع وفيات، بينما بلغت وفيات الأطفال 865 حالة(45). كل ذلك يؤكد أهمية إنقاذ الأم دون الجنين عند تساوي الأمر في إنقاذهما(46).
متى يبدأ الجنين بالتخلق.
ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله المراحل التي يمر بها الجنين.
أما الكتاب، فقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6).
فقوله سبحانه: خلقاً من بعد خلق إشارة إلى الأطوار التي يمر بها الجنين.
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر:67).
وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2).
وقال: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2).
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (القيامة:38).
وأما السنة، فقد روى البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة(47).
وروى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(48).
وسوف يكن كلامنا في تناول هذه الآيات، والحديثين.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني: هو النطفة.
والنطفة في اللغة: هو الماء القليل. ومنه قول الشاعر:
وما عليك إذا أخبرتني دنفاً وغاب بعلك يوماً أن تعوديني
وتجعلي نطفة في القعب باردة وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في القعب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني المختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة خلافاً لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده.
قال الزبيدي في تاج العروس: في التنزيل (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل، وماء المرأة، والدم والعلقة(49).
وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط. يريد النطفة؛ لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة(50).
وقال الشنقيطي: قوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل: من الآية4). ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة(51).
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع ابن الأزرق، قال: أخبرني عن قوله: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) قال: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
حتى قال: إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل. ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة(52)، وذلك في قوله جل وعلا: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق:5-7). لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره. والمراد بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها(53). ومنه قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة:
والزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والبحر
فقوله هنا من بين الصلب والترائب يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة(54).
أما رأي الطب: في النطفة الأمشاج:
يذكر الأطباء أنه فور دخول الحيوان المنوي البويضة، يأخذ الحيوان المنوي طريقه إلى الطبقة الشفافة، فيفرز إنزيم الأكروزين (ACROSIN) الذي يساعد على اختراق هذه الطبقة (15-25) دقيقة، بعدها يخترق الغشاء البلازيمي للبويضة في دقيقة واحدة، وينطلق رأس الحيوان المنوي صوب نواة البويضة، وينتفخ رأس الحيوان المنوي، وتصبح المادة الوراثية لكل من الأب والأم واضحة في النواة بعد (2-4) ساعات من الاقتحام، ولا يمكن التمييز بينهما حينئذ. وتسمى هذه النطفة التي تنشأ عن اختلاط نواتي البويضة والحيوان المنوي بالأمشاج، وذلك لأن الأمشاج يعني: الاختلاط(55).
الطور الثالث: العلقة.
وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد. فقوله سبحانه: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي قطعة دم جامدة(56).
وقال الزبيدي: العلق: الدم عامة ما كان. أو هو الشديد الحمرة، أو الغليظ. أو الجامد قبل أن ييبس. قال تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2). وفي حديث سرية بني سليم: فإذا الطير ترميهم بالعلق. أي بقطع الدم.
وفي التنزيل (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) (المؤمنون: من الآية14) وفي حديث ابن أبي أوفى: "أنه بزق علقة، ثم مضى في صلاته"(57).
وروى مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(58).
قال القرطبي: "فاستخرج منه علقة" أي قطعة دم. والعلقة: الدم.
رأي الطب في العلقة:
"اتفق الأطباء على أن العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم، وتنشب فيه"(59).
فيكون على هذا تسميتها علقة لكونها عالقة بجدار الرحم، وهذا التفسير له وجه في اللغة، جاء في تاج العروس:
العلوق: ما يعلق بالإنسان.
العَلَق: كل ما عُلِّق.
وأيضاً الطين الذي يعلق باليد.
والعلق: دويبة: وهي دويدة حمراء تكون في الماء تعلق في البدن.
فقوله: تعلق في البدن إشارة إلى المناسبة من تسميتها علقة.
وعلقت الدابة: شربت الماء فعلقت بها العلقة. كما في الصحاح: أي لزمتها، وقيل: تعلقت بها.
وعُلِقَ: نشب العلق في حلقه عند الشراب.
العلائق من الصيد: ما علق الحبل برجلها(60).
يقول الدكتور محمد البار: فلفظ العلقة يطلق على كل ما ينشب ويعلق.. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرحم، وتنغرز فيه.. وتكون العلقة محاطة بالدم من كل جهاتها، وإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ... فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة(61)، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيراً، فالعالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عينين.
وينتهي الدكتور إلى أن العلقة تنشب في الرحم وتعلق فيه في اليوم السابع من التلقيح بعد أن تكون انقسمت الخلايا فيها، وصارت مثل الكرة تماماً أو مثل تمرة التوتة، وقد فصلت القول فيها فيما سبق(62).
الطور الرابع: المضغة.
اختلفوا في معنى المضغة:
فقيل: هي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. الحديث(63).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5).
قال ابن كثير: "إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوماً كذلك، يضاف إليها ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس، ويدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي كما تشاهدونها. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة، ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال: هو السقط مخلوق، وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين. وذكر حديث ابن مسعود السابق(64).
فنأخذ من هذا ما يلي:
أولاً: أن النطفة حتى تكون مضغة تحتاج إلى ثمانين يوماً.
وثانياً: أن المضغة منها ما هو مخلق أي قد ظهر فيه تخطيط، وتصوير، ومنها ما هو غير مخلق. أي ليس فيه تصوير. فمعنى ذلك أن الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة، والأربعين الثانية، وهي مرحلة العلقة لا تخطيط فيها، إنما التخطيط في مرحلة المضغة، وهي من بعد الثمانين. ولذلك قال سبحانه وتعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) (المؤمنون: من الآية14)، فجعل خلق العظام وكسوها باللحم يعقب المضغة، وعبر بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، أي ليس هناك تراخ طويل. وهو مقتضى حديث ابن مسعود في الصحيحين، حيث قال: "ثم يكون مضغة مثل ذلك: أربعين يوماً، ثم قال: "ثم ينفخ فيه الروح" وواضح أنه لا ينفخ فيه الروح إلا وقد أصبح بشراً سوياً، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14) إذاً في الأربعين الثالثة هي مرحلة التخليق والتصوير الذي يسبق نفخ الروح. والله أعلم(65).
القول الثاني: في معنى المخلقة:
ذهب بعض العلماء إلى أن قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) هيمن صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة، فقالوا: فأما المخلقة فما كان من خلق سوياً، وأما غير المخلقة فما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
[رجاله كلهم ثقات، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أنه مخالف لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود المرفوع](66).
القول الثالث:
ومنها أن المخلقة: هي ما ولد حياً. وغير المخلقة: هي ما كان من سقط: يعني سواء كان مخلقاً أو غير مخلق..
وممن روي عنه هذا القول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال صاحب الدر المنثور: أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وصححه ونقله عنه القرطبي. وأنشد لذلك قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء(67)
القول الرابع: معنى مخلقة: أي تامة، وغير مخلقة غير تامة.
حكاه ابن جرير الطبري بإسناده من طريقين عن قتادة.
قال الشنقيطي في تفسير معنى: تامة وغير تامة، قال والمراد بهذا القول عند قائله أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة سالم من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك. فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. اهـ فيكون معنى غير مخلقة: ليس السقط، ولكن معناه: أي غير سالم من العيوب: الخَلْقية وغير الخلقية.
وممن روي عنه هذا القول قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك(68).
القول الخامس: في معنى مخلقة وغير مخلقة.
معنى ذلك المضغة مصورة إنساناً، وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة، وإذا لم تصور فهي غير مخلقة: وهو السقط.
ذكر ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره من ثلاثة طرق، عن مجاهد، وحكاه عن عامر الشعبي، وعن أبي العالية(69).
والفرق بينه وبين القول الأول: يتفقان أن كلا منهما كان سقطاً، إلا أن القول الأول حده بالنطفة إذا سقطت، وهذا لم يقيده، فهذا القول أعم منه. والله أعلم.
ورجح ابن جرير هذا القول، فقال: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه؛ لأن المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير، وذلك هو المراد من قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) خلقاً سوياً، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة، ولا تصوير، ولا ينفخ فيها الروح(70).
ورد هذا الشنقيطي رحمه الله، فقال: هذا القول الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك، وهي قوله جل وعلا في أول الآية: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ولأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة، وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط. فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف يشاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) الآية لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً ولو بعد التشكيل والتخطيط لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كل من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين، بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ... الآية) (الحج: من الآية5). وبذلك تعلم أن أولى الأقوال بالآية هو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره، وهو أن المخلقة هي التامة وغير المخلقة هي غير التامة. اهـ(71).
ولا يترجح لي ما رجحه الشيخ رحمه الله، فالذي يظهر لي أن المخلقة هي المصورة، الذي ظهر فيها التخطيط، وغير المخلقة التي لا تخطيط فيها، وهي مرحلة يمر بها الجنين، ولا يلزم منه أن يكون سقطاً حتى نعترض على هذا التفسير بما ذكره الشنقيطي. فقد لا يسقط ويكون الله سبحانه وتعالى خلقنا من المضغة قبل تخليقها، كما خلقنا من النطفة والعلقة التي لا تخليق فيها. والله أعلم.
رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة:
مر معنا مرحلة النطفة الأمشاج، ثم العلقة: والتي فسرناها طبياً: بما يعلق في جدار الرحم فيما بين اليوم السادس والسابع منذ التلقيح. وفي اليوم العشرين أو الحادي والعشرين تبدأ بالظهور كتلة بدنية على جانبي المحور، ثم يتولى ظهورها تباعاً فيما يعرف بالكتل البدنية وتتولى هذه الكتل بالظهور حتى ليبلغ عددها عند اكتمالها 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، ولا يكاد ظهورها يكتمل حتى تبدأ الكتل التي في القمة تتمايز بحيث لا تكون جميع الكتل في مستوى واحد.
ويتضح أمامنا أن المضغة Somites أو الجنين ذو الكتل البدنية من اليوم العشرين أو الحادي والعشرين، وتستمر في الظهور إلى اليوم الثلاثين حيث يكون هناك 28 كتلة بدنية على كل جانب، ولا تكاد تظهر كتل جديدة حتى تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي.
وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21-30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتب البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات.
فتكون مرحلة التخلق قد ظهرت عند تمام أربعين أو اثنين وأربعين يوماً، وهذا التقدير يتفق مع حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسلم، وسوف نذكره إن شاء الله تعالى.
يقول الدكتور البار: وقد كانا لمفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم، وقد ذهبت إلى ذلك في الطبعة الأولى.. ولكني بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن وصف المضغة ينطبق تمام الانطباق على مرحلة الكتل البدنية، إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسناناً انغرزت فيه ولاكته، ثم قذفته(72).
دبيان محمد الدبيان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
تعريف الإسقاط لغة وشرعاً:
جاء في المصباح المنير: "السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق.
وفي تاج العروس: "الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام" اهـ. ولم يشترط كونه مستبين الخلق.
وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر. والتثليث لغة. ولا يقال: وقع.
وأسقطت الحامل: ألقت سقطاً.
وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر. وجاء في تاج العروس أيضاً: "أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا ألقت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم. اهـ
وفي معنى الإسقاط: الإجهاض. جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق. اهـ(1).
تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء:
تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء الحمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق. وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى.
عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: "هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل"(2).
وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح.
أسباب السقط:
الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الأسباب التي يعرفها أهل الاختصاص(3).
وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل.
وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولد مشوهاً تشويهاً غير محتمل.
وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون. أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة.
الحكم التكليفي للإسقاط:
هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد.
إسقاط الجنين بعد نفخ الروح:
ذهب الحنفية(4)، والمالكية(5)، والشافعية(6)، والحنابلة(7) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح.
الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح:
الدليل الأول:
الإجماع. فقد حكى الإجماع غير واحد.
جاء في الشرح الكبير: "لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً"(.
وقال ابن جزي: "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعاً"(9).
ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره(10).
وقال ابن تيمية: "إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9).
وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (الإسراء: من الآية31)(11).
الدليل الثاني:
وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة.
فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها(12).
وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: "فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق"(13).
وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت.
قال الحافظ: "وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة"(14).
وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجود العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم.
بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟
ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر.
الدليل على أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر:
الدليل الأول:
الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر:
قال القرطبي: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس"(15).
وقال النووي: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر"(16).
وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر"(17).
الدليل الثاني:
روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبدالله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة"(18).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ينفخ فيه الروح" جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً.
حكم الإسقاط قبل نفخ الروح:
اختلف في هذه المسألة على أقوال:
فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة.
ذهب إلى هذا بعض الحنفية(19)، وهو المعتمد عند المالكية(20)، وقول الغزالي(21)، وابن العماد من الشافعية(22)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة(23).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقاً، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح. وهو الراجح عند الحنفية(24).
فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح.
وبقي في المسألة أقوال: منها:
وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها.
انفرد به اللخمي من المالكية(25)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة(26).
وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية(27).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة. حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية(28).
وقيل: يكره إلقاء النطفة.
اختاره علي بن موسى من الحنفية(29)، وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً(30).
أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة:
قالوا: النطفة بعد الاستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد.
الدليل الثاني:
حرم الله تعالى قتلا لصيد حال الإحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... الآية) (المائدة: من الآية95).
وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان.
والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء جحلاً، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقاً للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: علي. فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء. قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب علي، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل. قال: فشهد اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال علي: أشهد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر. قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء.
[الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة](31).
الدليل الثالث:
أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية.
ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول – يعني العزل – لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول – يعني ماء الرجل والمرأة – كان الرجوع بعد رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي(32).
دليل من أباح إسقاط النطفة:
الدليل الأول:
القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحمن إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا حرمة في إخراجها(33).
الدليل الثاني:
المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق. وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة(34).
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(35).
فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم.
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.
قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه(36).
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح:
قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12) إلى قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14).. قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9). وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ(37).
الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط:
أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً.
ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد.
ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة. وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل.
رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر.
حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح:
إذا قرر طبيبان أو أكثر أن في بقاء الجنين خطراً على حياة أمه، ولا سبيل إلى إنقاذهما معاً، فإما الجنين وموت أمه، وإما إنقاذ أمه بهلاكه، فما هو العمل حينئذٍ؟
فقيل: لا يجوز، ولو كان في ذلك خطر على حياة الأم(38).
وقيل: يجوز ذلك بشرط أن يقرر جمع من الأطباء الثقات المتخصصين أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر مؤكد على حياة الأم(39).
أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين.
عللوا ذلك: بأنه لا يجوز إحياء نفس بقتل أخرى، حيث لم يرد في الشرع(40).
ولأننا إذا أسقطناه فقد تعمدنا قتل نفس مؤمنة، وإذا تركناه وماتت الأم لم يكن هذا من فعلنا، بل هو من تقدير الله سبحانه وتعالى.
وقد يقدر الأطباء شيئاً، ويجزموا به، ولا يقع، وإذا كان كذلك، فلا يجوز دفع مفسدة متوقعة بارتكاب مفسدة محققة. وقد نسقط الجنين ولا تسلم الأم، فقد تعطب في نفاسها.
قال ابن عابدين في حاشيته: لو كان الجنين حياً ويخشى على حياة الأم من بقائه؛ فإنه لا يجوز تقطيعه؛ لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل الآدمي لأمر موهوم(41).
دليل القائلين بجواز إسقاط الجنين إنقاذاً لأمه:
إن هذه المسألة قد تعارض فيها واجب ومحرم، كل واحد منهما على درجة واحدة من الأهمية، بحيث لو أننا قمنا بالواجب، وقعنا في المحرم، ولو اتقينا المحرم أهدرنا الواجب، ولا سبيل للقيام بالواجب، وفي نفس الوقت اتقاء المحرم.
وإنما رخصنا الإقدام على إسقاط الجنين دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً لعظمى المصلحتين.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره تعليقاً على آية قتل الخضر للغلام من أجل سلامة والديه:
"ومنها القاعدة الكبيرة الجليلة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير، ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه"(42).
ويقول ابن القيم: "إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسرى، فحينئذٍ يكون رمي الأسرى، ويكون من باب دفع المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمر، وكانت مصلحة الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فرض الشك، وتساوى الأمران لم يجز رمي الأسرى"(43).
ويقول العز بن عبد السلام: "وإذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير، للتنازع بين المتساوين، ولذلك أمثلة:
أحدهما: إذا رأينا صائلاً يصول على نفسين من المسلمين متساويين، وعجز عن دفعه عنهما، فإنا نتخير.
والمثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين، وعجزنا عن الدفع عنهما، فإنا نتخير(44).
فإذا كان لنا شرعاً أن نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعظمهما، ونحصل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن إنقاذ الأم أعظم مصلحة من إنقاذ الجنين للأسباب التالية:
الأول: الأم هي أصل الجنين، متكون منها، فإنقاذها أولى.
ثانياً: أن الأم غالباً ما يكون لها أطفال، ومن الممكن أن يتعرضوا لمتاعب كثيرة بعد وفاة أمهم، والأسرة كثيراً ما تتمزق إذا فقدت أحد أعضائها البارزين، فكم من طفل تشرد، وساءت تربيته بسبب فقدانه لأمه، وأهمية الأم في الأسرة عظيمة؛ إذ إنها أصل المجتمع، بخلاف الجنين فلا تعلق به لأحد.
ثالثاً: حياة الأم قطعية، وحياة الجنين محتملة، والظني أو الاحتمالي لا يعارض القطعي المعلوم، فإنقاذ الأم أولى.
رابعاً: الأم أقل خطراً، وتعرضاً للهلاك من الجنين في مثل هذه الظروف، مما يجعل إنقاذها أكثر نجاحاً من إنقاذ جنينها، لذا تعطى الأولوية في الإنقاذ ففي إحصائية لمستشفى الولادة والأطفال بالرياض في عام 1400هـ، بلغ عدد الوفيات للنساء سبع وفيات، بينما بلغت وفيات الأطفال 865 حالة(45). كل ذلك يؤكد أهمية إنقاذ الأم دون الجنين عند تساوي الأمر في إنقاذهما(46).
متى يبدأ الجنين بالتخلق.
ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله المراحل التي يمر بها الجنين.
أما الكتاب، فقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6).
فقوله سبحانه: خلقاً من بعد خلق إشارة إلى الأطوار التي يمر بها الجنين.
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر:67).
وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2).
وقال: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2).
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (القيامة:38).
وأما السنة، فقد روى البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة(47).
وروى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(48).
وسوف يكن كلامنا في تناول هذه الآيات، والحديثين.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني: هو النطفة.
والنطفة في اللغة: هو الماء القليل. ومنه قول الشاعر:
وما عليك إذا أخبرتني دنفاً وغاب بعلك يوماً أن تعوديني
وتجعلي نطفة في القعب باردة وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في القعب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني المختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة خلافاً لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده.
قال الزبيدي في تاج العروس: في التنزيل (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل، وماء المرأة، والدم والعلقة(49).
وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط. يريد النطفة؛ لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة(50).
وقال الشنقيطي: قوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل: من الآية4). ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة(51).
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع ابن الأزرق، قال: أخبرني عن قوله: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) قال: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
حتى قال: إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل. ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة(52)، وذلك في قوله جل وعلا: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق:5-7). لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره. والمراد بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها(53). ومنه قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة:
والزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والبحر
فقوله هنا من بين الصلب والترائب يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة(54).
أما رأي الطب: في النطفة الأمشاج:
يذكر الأطباء أنه فور دخول الحيوان المنوي البويضة، يأخذ الحيوان المنوي طريقه إلى الطبقة الشفافة، فيفرز إنزيم الأكروزين (ACROSIN) الذي يساعد على اختراق هذه الطبقة (15-25) دقيقة، بعدها يخترق الغشاء البلازيمي للبويضة في دقيقة واحدة، وينطلق رأس الحيوان المنوي صوب نواة البويضة، وينتفخ رأس الحيوان المنوي، وتصبح المادة الوراثية لكل من الأب والأم واضحة في النواة بعد (2-4) ساعات من الاقتحام، ولا يمكن التمييز بينهما حينئذ. وتسمى هذه النطفة التي تنشأ عن اختلاط نواتي البويضة والحيوان المنوي بالأمشاج، وذلك لأن الأمشاج يعني: الاختلاط(55).
الطور الثالث: العلقة.
وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد. فقوله سبحانه: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي قطعة دم جامدة(56).
وقال الزبيدي: العلق: الدم عامة ما كان. أو هو الشديد الحمرة، أو الغليظ. أو الجامد قبل أن ييبس. قال تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2). وفي حديث سرية بني سليم: فإذا الطير ترميهم بالعلق. أي بقطع الدم.
وفي التنزيل (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) (المؤمنون: من الآية14) وفي حديث ابن أبي أوفى: "أنه بزق علقة، ثم مضى في صلاته"(57).
وروى مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(58).
قال القرطبي: "فاستخرج منه علقة" أي قطعة دم. والعلقة: الدم.
رأي الطب في العلقة:
"اتفق الأطباء على أن العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم، وتنشب فيه"(59).
فيكون على هذا تسميتها علقة لكونها عالقة بجدار الرحم، وهذا التفسير له وجه في اللغة، جاء في تاج العروس:
العلوق: ما يعلق بالإنسان.
العَلَق: كل ما عُلِّق.
وأيضاً الطين الذي يعلق باليد.
والعلق: دويبة: وهي دويدة حمراء تكون في الماء تعلق في البدن.
فقوله: تعلق في البدن إشارة إلى المناسبة من تسميتها علقة.
وعلقت الدابة: شربت الماء فعلقت بها العلقة. كما في الصحاح: أي لزمتها، وقيل: تعلقت بها.
وعُلِقَ: نشب العلق في حلقه عند الشراب.
العلائق من الصيد: ما علق الحبل برجلها(60).
يقول الدكتور محمد البار: فلفظ العلقة يطلق على كل ما ينشب ويعلق.. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرحم، وتنغرز فيه.. وتكون العلقة محاطة بالدم من كل جهاتها، وإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ... فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة(61)، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيراً، فالعالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عينين.
وينتهي الدكتور إلى أن العلقة تنشب في الرحم وتعلق فيه في اليوم السابع من التلقيح بعد أن تكون انقسمت الخلايا فيها، وصارت مثل الكرة تماماً أو مثل تمرة التوتة، وقد فصلت القول فيها فيما سبق(62).
الطور الرابع: المضغة.
اختلفوا في معنى المضغة:
فقيل: هي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. الحديث(63).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5).
قال ابن كثير: "إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوماً كذلك، يضاف إليها ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس، ويدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي كما تشاهدونها. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة، ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال: هو السقط مخلوق، وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين. وذكر حديث ابن مسعود السابق(64).
فنأخذ من هذا ما يلي:
أولاً: أن النطفة حتى تكون مضغة تحتاج إلى ثمانين يوماً.
وثانياً: أن المضغة منها ما هو مخلق أي قد ظهر فيه تخطيط، وتصوير، ومنها ما هو غير مخلق. أي ليس فيه تصوير. فمعنى ذلك أن الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة، والأربعين الثانية، وهي مرحلة العلقة لا تخطيط فيها، إنما التخطيط في مرحلة المضغة، وهي من بعد الثمانين. ولذلك قال سبحانه وتعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) (المؤمنون: من الآية14)، فجعل خلق العظام وكسوها باللحم يعقب المضغة، وعبر بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، أي ليس هناك تراخ طويل. وهو مقتضى حديث ابن مسعود في الصحيحين، حيث قال: "ثم يكون مضغة مثل ذلك: أربعين يوماً، ثم قال: "ثم ينفخ فيه الروح" وواضح أنه لا ينفخ فيه الروح إلا وقد أصبح بشراً سوياً، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14) إذاً في الأربعين الثالثة هي مرحلة التخليق والتصوير الذي يسبق نفخ الروح. والله أعلم(65).
القول الثاني: في معنى المخلقة:
ذهب بعض العلماء إلى أن قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) هيمن صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة، فقالوا: فأما المخلقة فما كان من خلق سوياً، وأما غير المخلقة فما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
[رجاله كلهم ثقات، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أنه مخالف لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود المرفوع](66).
القول الثالث:
ومنها أن المخلقة: هي ما ولد حياً. وغير المخلقة: هي ما كان من سقط: يعني سواء كان مخلقاً أو غير مخلق..
وممن روي عنه هذا القول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال صاحب الدر المنثور: أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وصححه ونقله عنه القرطبي. وأنشد لذلك قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء(67)
القول الرابع: معنى مخلقة: أي تامة، وغير مخلقة غير تامة.
حكاه ابن جرير الطبري بإسناده من طريقين عن قتادة.
قال الشنقيطي في تفسير معنى: تامة وغير تامة، قال والمراد بهذا القول عند قائله أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة سالم من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك. فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. اهـ فيكون معنى غير مخلقة: ليس السقط، ولكن معناه: أي غير سالم من العيوب: الخَلْقية وغير الخلقية.
وممن روي عنه هذا القول قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك(68).
القول الخامس: في معنى مخلقة وغير مخلقة.
معنى ذلك المضغة مصورة إنساناً، وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة، وإذا لم تصور فهي غير مخلقة: وهو السقط.
ذكر ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره من ثلاثة طرق، عن مجاهد، وحكاه عن عامر الشعبي، وعن أبي العالية(69).
والفرق بينه وبين القول الأول: يتفقان أن كلا منهما كان سقطاً، إلا أن القول الأول حده بالنطفة إذا سقطت، وهذا لم يقيده، فهذا القول أعم منه. والله أعلم.
ورجح ابن جرير هذا القول، فقال: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه؛ لأن المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير، وذلك هو المراد من قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) خلقاً سوياً، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة، ولا تصوير، ولا ينفخ فيها الروح(70).
ورد هذا الشنقيطي رحمه الله، فقال: هذا القول الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك، وهي قوله جل وعلا في أول الآية: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ولأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة، وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط. فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف يشاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) الآية لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً ولو بعد التشكيل والتخطيط لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كل من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين، بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ... الآية) (الحج: من الآية5). وبذلك تعلم أن أولى الأقوال بالآية هو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره، وهو أن المخلقة هي التامة وغير المخلقة هي غير التامة. اهـ(71).
ولا يترجح لي ما رجحه الشيخ رحمه الله، فالذي يظهر لي أن المخلقة هي المصورة، الذي ظهر فيها التخطيط، وغير المخلقة التي لا تخطيط فيها، وهي مرحلة يمر بها الجنين، ولا يلزم منه أن يكون سقطاً حتى نعترض على هذا التفسير بما ذكره الشنقيطي. فقد لا يسقط ويكون الله سبحانه وتعالى خلقنا من المضغة قبل تخليقها، كما خلقنا من النطفة والعلقة التي لا تخليق فيها. والله أعلم.
رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة:
مر معنا مرحلة النطفة الأمشاج، ثم العلقة: والتي فسرناها طبياً: بما يعلق في جدار الرحم فيما بين اليوم السادس والسابع منذ التلقيح. وفي اليوم العشرين أو الحادي والعشرين تبدأ بالظهور كتلة بدنية على جانبي المحور، ثم يتولى ظهورها تباعاً فيما يعرف بالكتل البدنية وتتولى هذه الكتل بالظهور حتى ليبلغ عددها عند اكتمالها 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، ولا يكاد ظهورها يكتمل حتى تبدأ الكتل التي في القمة تتمايز بحيث لا تكون جميع الكتل في مستوى واحد.
ويتضح أمامنا أن المضغة Somites أو الجنين ذو الكتل البدنية من اليوم العشرين أو الحادي والعشرين، وتستمر في الظهور إلى اليوم الثلاثين حيث يكون هناك 28 كتلة بدنية على كل جانب، ولا تكاد تظهر كتل جديدة حتى تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي.
وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21-30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتب البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات.
فتكون مرحلة التخلق قد ظهرت عند تمام أربعين أو اثنين وأربعين يوماً، وهذا التقدير يتفق مع حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسلم، وسوف نذكره إن شاء الله تعالى.
يقول الدكتور البار: وقد كانا لمفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم، وقد ذهبت إلى ذلك في الطبعة الأولى.. ولكني بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن وصف المضغة ينطبق تمام الانطباق على مرحلة الكتل البدنية، إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسناناً انغرزت فيه ولاكته، ثم قذفته(72).