السلام عليكم ..
سأتكلم عن سير الشعراء الكبار العظام وأخبارهم وشعرهم والنوادر التي حصلت لهم
وسأبدأ ببشار بن برد .. من الشعراء العظام الكبار
تعريف بالشاعر
هو بشار بن برد بن يرجوخ الشاعر المخضرم المقدم
يصنف أنه أشهر المحدثين وزعيم طبقتهم بإجماع الرواة والأدباء والمقدمين في صناعة الشعر
وهو من شعراء الدولتين العباسية والأموية
وهو من الشعراء الثمانين الذين هاجوا جرير وغلبهم .. وبشار بن برد هاجاهم ولم يرد عليه جرير استصغارا له
وقال بشار لو رد علي جرير لأصبحت أشعر العالمين .. لأنه برد جرير على بشار سوف يرفع من اسهمه ويشهره في الأفاق
وهو من سبي المهلب بن أبي صفرة .. ووهب جده يرجوخ امرأة من بني عقيل
وكان أعمى البصر وكان يشبه الأشياء ويصفها مالا يقدر عليه البصراء ..فسئل عن ذلك فقال : عدم النظر يقوّي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه الأشياء فيتوفر حسه .
وكان يلقب بالمرعّث
لقوله هذه الأبيات :
قالت ريم مرعث = ساحر الطرف والنظر
لست والله نائلي = قلت أو يغلب القدر؟
أنت إن رمت وصلنا = فانج ، هل تدرك القمر ؟
والرعاث .. هي القرطة واحدتها رعثة وجمعها رِعاث (( بكسر الراء )).
وكان يقول أنا أشعر الناس لقوله إن لي اثنا عشر ألف بيت جيد .. فقيل له كيف ذلك ؟.. فقال إن لم يكن في كل قصيدة بيت جيد .. فلعنها الله ولعن قائلها
وقيل بهذه الخطبة قام واصل بن عطاء بعمل الخطبة التي تخلو من حرف الراء (( للثغه كانت في نطق الراء لواصل بن عطاء.. وسأتكلم عنه يوما وعلى فصاحته بإذن الله ))
وبإتهامة بالزندقة كام عليه يعقوب وزير المهدي ودبر له حتى قتل
ومن أخباره
قدم بشار بن برد إلى المهدي يمدحه بقصيدته الرائية التي يقول فيها :
تجاللت عن فهر وعن جارتي فهـر = وودعت نعمى بالسلام وبالـبـشـر
وقالت سليمى ففيك عـنـا جـلادة = محلك دان والزيارة عـن عـفـر
أخي في الهوى مالي أراك جفوتنـا = وقد كنت تقفونا على العسر واليسر
تثاقلت إلا عـن يد أسـتـفـيدهـا = وزورة أملاك أشـد بـهـا أزري
وأخرجبن من وزر خمسـين حـجة = فتى" هاشمي يقشعـر مـن الـزر
دفنت الهوى حيا فلسـت بـزاشـر = سليمى ولاصفراء ماقرقر القمري
ومصفرة بالزعفـران جـلـودهـا = إذا اجتليت مثل المفرطحة الصفـر
فرب ثقال الردف هبت تلـومـنـي = ولو شهدت قبري لصلت على قبري
تركت لمهدي الأنـام وصـالـهـا = وراعيت عهداً بيننا ليس بالخـتـر
ولولا أمير المؤمـنـين مـحـمـد = لقبلت فاها أو لكان بهـا فـطـري
لعمري لقد أوقرت نفسي خـطـيئة = فما أنا بالمزداد وقراً علـى وقـر
ولم يحظ منه بشيء ..فقيل إنه لم يستجيد شعرك .. فقال بشار : والله لقد مدحته بشعر لو مدح الدهر لم يحسن صرفه على أحد ولكنّا نكذب في القول ..فنكذب في الأمل .
وبعدها قام بمدح وزيره يعقوب بن داوود فلم يحفل به ويقدره ولم يعطه شيئا .. وأقام ينتظر جائزته فمر يعقوب يوما ببشار .. فصاح بشار :
(( طال الثواء على رسوم المنزلِ ))
فقال يعقوب :
(( فإذا شاء أبا معاذ فارحل ))
فغضب أبا معاذ (( بشار بن برد )) فقال :
بني أمية هُبوا طال نومكم = إن الخليفة يعقوب بن داوود
ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا = خليفة الله بين الناي والعود
وبعدها رحل لحلقة النحوي المشهور يونس .. فقال : هاهنا من نحتشمه ؟ .. فقال : لا .. فأنشد هجاء في المهدي وهجاء في يعقوب فسعى إليه يعقوب
ومن أخباره الطريفة المضحكة
(( والله فيها بعض المجون ولكن سأقول أخفها وأحشمها مع أنه ماضي بشار بن برد أسود في الهجاء وهجاءه مقذع لذلك سوف أتحاشاه .. لأجلكم ))
أنه كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم، فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلم الجزية يا أبا معاذ؛ فقال: ويحك! أجزية هي! قال: هو ماتسمع؛ فقال له بشار يمازحه: أنت أفصح مني؟ قال: لا... قال: فأعلم من ي بمثالب الناس؟ قال: لا؛ قال: فأشعر مني؟ قال: لا؛ قال: فلم أعطيك؟ قال: لئلا أهجوك..... فقال له: إن هجوتني هجوتك..... فقال له أبو الشمقمق: هكذا هو؟ قال: نعم، فقل مابدالك...
فقال أبو الشمقمق:
إني إذا ماشاعر هجـانـية= ولج في القول له لسنـية
أدخلته في "..." أمه علانية = بشـار يابـشـــار....
وأراد أن يقول: " يابن الزانية "..... فوثب بشار فأمسك فاه ..... وقال: أراد زالله أن يشتمني..... ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له: لايسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق.
ومن أخباره الطريقة أيضا
قال الأصمعي
أمر عقبة بن سلم" الهنائي" لبشار بعشرة آلاف درهم، فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشاراً فقاللأه: يا أبا معاذ، إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون:
هللينـه هـلـلـينة = طعن قثـاة لـتـينة
إن بشـار بـن بـرد = تيس أعمى في سفنية
فأخرج إليه بشار مائتي درهم فقال: خذ هذه راوية الصبيان يا أبا الشمقمق
وفي خبر موته
كان المهدي قدم البصرة فدخل عليه يعقوب وقال . .أن بشار زنديق وقد ثبتت البينة وقد هجا أمير المؤمنين
فأمر قائد الشرطة أ ن يقبض على بشار بن برد .. ويضربه بالسوط حتى التلف (( الموت ))
فأخذوه في زورق وجسلوا يضربونه على النهر فكلما ضربوه بالصوت قال بشار (( حس )) ( حس هي كلمة تقال عند العرب لمن أحس بالألم )) ... فقال بعضهم : انظروووا إلى زندقته مانراه يحمد الله تعالى .. فقال بشار : ويلك ! .. أثريد هو حتى أحمد الله عليه (( الثريد من أنواع الأطعمة )) ... فما وصل إلى السبعين سوطا .. أشرف على الموت .. فألقي على صدر السفينة فقال بشار : ليت عين الشمقمق تراني حين يقول :
إن بشـار بـن بـرد = تيس أعمى في سفنية
وثم مات من ساعته
ورموا حثته على قطعه خشب فحمله الماء إلى البصرة فأخذه أهله ودفنوه بها ..
وحكي انه بعدما ضرب بشار أمر من يفتش منزله فوجدوا رسالة مكتوب فيها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ......إني أردت هجاء آل سليمان بن علي فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه السلام فتركتهم إجلالا له صلى الله عليه وسلم))
فلما قرأه بكى وندم على قلته وقال : لا جزى الله يعقوب خيرا فانه لما هجاه لفق عليه شهودا على أنه زنديق فقلته .. ندمت حين لا ينفع الندم
ومن طرائف أخباره
أنه قال له هلال بن عطيه يوما يمازحه وكان صديقا له .. إن الله تعالى لم يذهب البصر إلا عوضه شيئا ..فما عوضك الله ؟
قال : الطويل العريض ... فقال : ماهو .. فقال بشار : أني لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء .. ثم قال . ياهلال أتطيعني في نصيحة أنصحك بها ؟... فقال : نعم
فقال : إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت .. وصرت رافضيا .. فعد إلى سرقة الحمير ..فهي والله خير لك من الرفض
ووقف عليه بعض المجان وهو ينشد شعرا له فقال : يابشار استر شعرك كما تستر عورتك ..فغضب بشار وصفق بيديه وتفل عن يمينه وعن شماله .. وكان يفعل ذلك عند الغضب .. .. وأراد أن يهجوه ..ثم قال : ويلك من أنت ؟
فقال الماجن .. أنا ( أعزك الله ) من باهلة .. وأخوالي من سلول .. وأصهاري من عكّ .. ومنزلي نهر بلال .. فضحك بشار وقال : أذهب فأنت عتيق لؤمك .
وكانت هذه القبائل .. من أخزى القبائل وأكثر الشعراء فيهم من تمزيقهم .. حتى صاروا سبة العار
ومات لبشار بن برد ولد ..فقيل له : أجر قدمته وذخر أحرزته فقال : بلى ولد دفنته وثكل تعجلته وغيب وعدته فانتظرته وإن لم أجزع للنقص لم أفرح بالزيد ..
ويخصوص الكلام الذي يتهم به انه زنديق
وزعم الجاحظ أن بشاراً كان يَدِين بالرَجعة، ويُكَفر جميعَ الأمة؛ وأنشد له أشعاراً صوب بها رَأيَ إبليس في تقديم النار على الطين، منها قولُه:
الأرض مُظْلِمَةٌ ...والنارُ مُشْرِقةٌ = والنارُ معبودةٌ مُذْ كانتِ النـارُ
وقال داود بن رَزِين: أتينا بشاراً، فأذِنَ لنا والمائدةُ بين يديه، فلم يَدْعُنَا إلى الطعام، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصل، ودعا بطسْت فَبالَ بحضرتنا، فقلنا له: أنت أستاذُنا، وقد رأينا منك أشياءَ أنكرناها، قال: ما هي؟ قلنا: دخلْنَا والطعامُ بين يديك فلم تَدْعُنَا، قال: إنما أذِنْتُ لتَأكلوا، ولو لم نُرِدْ ذلك لم نأذن لكم، قلنا له: ودعوت بالطست ونحن حضور، قال: أنا مكفوف، وأنتم مأمورون بغض الأبصار دوني، قلنا: وحضرت الصلاة فلم تصلّ! قال: الذي يقبلها تفارِيقَ يقبلها جملة! هذا وهو القائل:
كيف يبكي لمَحْبَس في طُلُول = من سَيُفْضِي لِحَبْسِ يَوم طويلِ
إن في البعث والحساب لشغلاً = عن وقوفٍ برَسْمِ دَار محـيل
والله أعلم بالصواب
وكان بشَارٌ حاضرَ الجواب سجًّاعاً خطيباً..... صاحبَ منثور ومُزْدَوج ورَجز ورسائل مختارة ....على كثير من الكلام..... ودخل على عُقْبة بن مسلم بن قتيبة......فأنشده مديحاً وعنده عقبة بن رُؤْبة...(( ابن رؤبة بن الحجاج الاجز المشهور ))
فأنشده أرجوزة....ثم أقبل على بشار فقال: هذا طِراز لا تحسنه يا أبا معاذ فقال: واللّه لأنا أرجز منك ومن أبيك؛ ثم غدا على عقبة من الغَد، فأنشده أرجوزته:
يا طَلَل الحيّ بذات الصَّمْد = باللّهِ خَبّر ْكيف كنتَ بعدي
يقول فيها:
صَدَّتْ بخدً وجلَـتْ عـن خَـد = ثم انثَنَتْ كالنَّفَـس الـمُـرْتَـد
وصاحبٍ كالدمـل الـمُـمِـدّ = حملْتُه في رُقْعَة من جِـلـدي
حتى اغتدى غيرَ فقيد الفَـقْـد = وما درى ما رَغْبَتي من زهدي
والبَسْ طِرَازي غيرَ مُسْتَرَد = للَّهِ أيامُـك فـي مَـعَـد
هي طويلة...فأجزلَ صلته...فلمّا سمع ابن رُؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدي فتحْنَا الغريبَ للناس...وإني لخليق أن أسدّه عليهم... فقال بشار: ارحمهمْ، رحمك اللّه! قال: تستخفّ بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال: إذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجْس وطهَّرهم تطهيراً!
فضحك كلّ مَنْ حضر.
ودخل على المهدي وعنده خالُه يزيد بن منصور الحميري...فأنشده قصيدة....فلمّا أتمها قال له يزيد: ما صناعتك يا شيخ. قال: أثْقُبُ اللُؤلُؤَ....فقال له المهدي: أتهْزَأُ بخَالي؟. فقال: يا أميرَ المؤمنين....فما يكونُ جَوَابي لمن يَرَى شَيْخاً أعمى يُنْشِدُ شعراً فيسأله عن صِنَاعته؟ وقْال جَوَاري المهدي للمهدي: لو أذِنْتَ لبشَّار يدخل إلينا يؤانسنا ويُنُشِدنا فهو محجوب البَصَرِ.... لا غيرة عليك منه، وأكمره فدخل إليهنّ واستظرفْنَه.....وقلْن له: وددْنا واللَّهِ يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقِك.....قال: ونحن على دينِ كسرى! فأمر المهدي ألاّ يدخل عليهن.
(( وكان المهدي من الناس الغيورين .. ومعروف هذا الشيء به ))
............
وأكتفي بهذه الأخبار .. وسأقول أجمل الأبيات لبشار بن برد
من محاسن شعره :
وقوله لعقبة بن سلم :
حرّم الله أن ترى كابن سلم = عقبة الخير مطعم الفقراء
ما لكي تنشق عن وجهه الحر = ب كما انشقت السماء عن ذكاء
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو = ف ولكن يلذّ طعم العطاء
لا .. ولا أن يقال شيمته الجو = د ولكن طبائع الأباء
وقوله لعمرو بن العلاء
إذا أيقظتك حروب للعدى = فنبه لها عمراً ثـم نـم
فتى لاينام على دمـنةٍ = ولايشرب الماء إلا بدم
ويروى شطر البيت الأول (( إذا دهمتك عظائم الأمور ))
وهـذا البيت من أجمل المدائح في عمرو بن العلاء
وقيل أنه بعدما أنشد له الأبيات أمر لبشار بمائة ألف درهم
والبيتين جدا جميلين ... وكان عمرو بن العلاء شجاعا جوادا .. ومن علماء الأذب واللغة العربية .. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
وقوله في الغزل .. ويعد أشعر بيت غزل قالته المولدون
أنا واللّه أشتهي سحر عينيك = وأخشى مصارع العشـاق
وقصيدته الشهيرة البائيه التي يقول فيها :
إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً=صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه ف
عش واحداً أو صل أخاك فـإنـه = مقارف ذنب مرة ومـجـانـبـه
إذا أنت لم تسرب مراراً على القذى = ظمئت وأى الناس تصفو مشاربـه
ومنها يقول :
إذا الملك الجبار صعّر خده = مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
كأن مثار النقع فوق رؤسنا = وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ونسيت أن أقول
أن المهدي الخليفة نهى بشار بن برد بقوله الغزل وأن النساء تصبوا لشعره .. وكانوا دائما يأتونه البيت لكي يسمعون شعره
فقال له خالهُ يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تَصْبُو إلى مثل قوله:
عَجِبَتْ فَطْمَةُ من نَعْـــتِـي لـهـا = هل يُجِيد النعتَ مكفوفُ النظَر؟
بِنْتُ عَشرٍ وثـلاث قـسـمَـتْ = بين غُصْنٍ وكـثـيبٍ وقَـمَـرْ
درّةٌ بَـحْـرِيةٌ مـكـنـــونة = مازَها التاجر من بـين الـدُرَرْ
أذْرَتِ الدمعَ وقالـت: ويلَـتـي= من وَلُوعِ الكف ركابِ الخَطَر
أمَـتـي بـددَ هـذا لُـعـبَـي = ووِشاحِي حله حتى انـتـثَـرْ
فَدَعـينـي مـعـه يا أمـتـي = علنا في خَلْوةٍ نَقْضِي الوَطَـرْ
أقْبَلَتْ في خَلْوَة تـضـربـهـا = واعتراها كجنونٍ مُسْـتَـعِـرْ
بِأَبي والـلـهِ مـا أحـسـنَـه = دَمْعُ عين غَسلَ الكُحْلَ قَـطَـرْ
أيها النُّـوَامُ هـبـوا وَيْحَـكُـم = وسَلُوني اليومَ ما طَعْمُ السهَـر
(( بصراحة .. أبيات غزلية من الطبقة الرفيعة جدا .. وهي من المطربات المرقصات ))
فأمره المهدي ألا يتغزل....فقال أشعاراً في ذلك منها :
يا منظراً حسنـاً رأيْتُـه = من وجه جارية فدَيتُـه
لمعتْ إلي تَسُـومـنـي = ثَوْبَ الشباب وقد طويْتُه
والـلـهِ رب مـحـمـدٍ ما = إن غَمَزتُ ولا نَوَيْتُه
أمْسَكْتُ عنكِ، وربـمـا = عَرض البلاءُ وما ابتغيْتُهْ
إن الخـلـيفة قـد أبـى = وإذا أبى شـيئاً أبـيْتُـه
ويَشُوقني بيتُ الحـبـي = ـب إذا غَدَوتُ، وأين بيتهْ
قام الـخـلـيفةُ دونَــهُ = فصبَرت عنه وما قَلَيْتُـهْ
ونهانيَ المَلِكُ الـهُـمـا = مُ عن النساء فما عصيْتُه
بل قد وفيتُ ولـم أُضِـع = عَهْـداً، ولا رأياً رأيْتُـه
وقوله :
يا حامد الـقـول، ولـم يَبـلُـه = سَبَقْتَ بالسَيْلِ مَسَاك السَحَـابْ
الفعلُ أَوْلَى بثـنـاء الـفـتـى = ما جاءه من خطإ أوْ صَـوَابْ
دعْ قولَ وَاءً وانتظر فـعـلـه = يثْني على اللقْحَةِ ما في الحِلاَبْ
إذا غدا المهـديُّ فـي جُـنْـدِهِ = ورَاحَ في آلِ الرسول الغِضَابْ
بدَا لك المعروف في وجـهِـه = كالظَّلْم يَجْرِي في الثنايا العِذَابْ
وقوله
أيها الساقيان صُبَّـا شَـرَابـي = واسقياني من ريق بيضاءَ رُودِ
إن دائي الصَّدى، وإنّ شفـائي = شَرْبَةٌ من رُضَابِ ثَغْرٍ بَـرُودِ
عندها الصبرُ عن لقائي وعندي = زَفَراتٌ يأكُلْنَ قَلْبَ الـجَـلِـيدِ
ولها مَبْسِمٌ كـغُـرّ الأقـاحـي = وحديثٌ كالوَشْي وَشْي البُـرُودِ
نزلَت في السواد من حبّة القـل= ـب ونالت زيادةَ المـسـتـزيد
ثم قالت: نَلقَـاك بـعـد لَـيالٍ = والليالي يُبْـلِـينَ كـلَّ جـديد
لا أُبالي مَنْ ضَنَ عني بوَصْـل = إنْ قَضَى الله منك لي يَوْم جودِ
وقوله :
زوَدينا يا عَبْدَ قبْـلَ الـفـراق = بتلاقِ، وكيف لي بالـتَّـلاَق؟
أنا والله أشتهي سِحْرَ عـينـي = ـك وأخْشَى مصارعَ العشّـاق
أُمَّتي من بني عُقيل بن كَعْـبٍ = موضعَ السلْكِ في طُلاَ الأعناق
وهذه تكملة الأبيات على ماقلته نافلا .. بأنه أغزل ماقاله المولدين .. وهو من الأبيات المرقصة الهزازة (( أرفع طبقات الشعر ))
وقوله :
وقد كنت في ذاك الشبابِ الذي مضى = أزارُ ويَدْعُوني الـهـوَى فـأَزُورُ
فإن فاتني إلْفٌ ظَلِـلْـتُ كـأنـمـا = يُديرُ حـياتـي فـي يديه مُــدِيرُ
ومُرْتجةِ الأرْداف مهضومةِ الحشَـا = تَمُورُ بسِحْـرٍ عَـيْنُـهـا وتَـدُورُ
إذا نظرتْ صبَّتْ علـيك صَـبـابة = وكادَتْ قلوبُ العالـمـين تَـطِـيرُ
خَلَوْتُ بها لا يَخْلصُ الماءُ بـينـنـا = إلى الصُبْح دوني حَاجِبٌ وسُـتُـورُ
ومن أبياته الرائعة قوله :
يا أطْيَبَ الناس رِيقاً غيرَ مختَبـرِ = إلاَّ شهادةَ أطرافِ المـسـاويكِ
قد زُرْتِنا مرةً في الدهر واحـدةً = ثَنِّي ولا تجعليها بَـيَضةَ الـدَيكِ
يا رَحمةَ اللّه حُلِّي في منازلـنـا = حَسبي برائحة الفرْدَوس مِنْ فيكِ
وقيل لبشار: يا أبا معاذ، كم بين قولك، وأنشد هذه الأبيات السابقة . وبين أن تقول:
إنما عَظْم سُلَيمـى خُـلَّـتـي = قَصَبُ السُكَرِ لا عَظْمُ الجمل
وإذا قُرَب مـنـهـا بَـصَـلٌ = غلب المِسكُ على ريح البَصلْ !!
فقال: إنما الشاعر المطبوع كالبحر؛ مرةً يقذِف صَدَفهُ، ومرةً يقذف جِيَفَه.
وبصراحة الأبيات السابقة سامجة وسقطة من سقطاته .. وهو اعترف بذلك .
.......................
أكتفي بهذا وأعلم أني أطلت عليكم
ولكن لي كلمة أخيرة بخصوص هذا الشاعر
بشار بن برد لا ديوان شعر له .. وأخباره وقصائده منثورة في الكتب .. ولم يعتنى به .. وضاعت مع من ضاع من كتب الادب
لذلك عندما أردت اكتب عنه .. تعبت كثير وأنا أترجم له .. وأبحث عن سيرته.. وقصصه طريفة ماجنة
والشعراء الذين لايحصى شعرهم
(( بشار بن برد .. وأبي العتاهية ... والحسن بن هانىء .المشهور بـ أبي نوانس ))
لأن شعرهم سهل المنال .. في عصرهم وطار طير الأفاق .. وشعرهم كثير جدا
حتى أن ابن برد قال قلت .. اثنا عشر ألف قصيدة .. فأين هي؟
وعدد أبياته التي جمعت تقارب الألف بيت وتقل أيضا .. لذلك التاريخ أخمل ذكر أو بمعنى أصح .. ضيّع تاريخ ابن برد
ولو كل قصائده جمعت وعرفت .. ودرست كان تطور الأدب أكثر .. وكان يمكن أن نقول أن ابن برد .. هو أشعر الشعراء العربية بلا منافس . .لكثرة قصائدة وجودتها
على العموم
أنا طوّلت في سيرة ابن برد .. ولكن يستاهل وقفة احترام وتبجيل للشاعر الكبير المبجل .. ابن برد
الذي تمنيت أن يعطوه قدره الذي يستحقه
ولمن أراد أن يتوسع في سيرته وأخباره
فليذهب إلى كتاب الأغاني فلقد ترجم له بحدود 70 صفحة
ويذهب إلى كتاب زهر الأداب وثمر الألباب .. للحصري القيرواني .. وأخباره متفرقة بالكتاب
ووفيات الأعيان لابن خلكان .
والوافي في الوفيات للصفدي
وسرح العيون في شرح نونية بن زيدون .. لابن نباته المصري
وغيرها من الكتب التي لم تتوسع شخصيته
سأتكلم عن سير الشعراء الكبار العظام وأخبارهم وشعرهم والنوادر التي حصلت لهم
وسأبدأ ببشار بن برد .. من الشعراء العظام الكبار
تعريف بالشاعر
هو بشار بن برد بن يرجوخ الشاعر المخضرم المقدم
يصنف أنه أشهر المحدثين وزعيم طبقتهم بإجماع الرواة والأدباء والمقدمين في صناعة الشعر
وهو من شعراء الدولتين العباسية والأموية
وهو من الشعراء الثمانين الذين هاجوا جرير وغلبهم .. وبشار بن برد هاجاهم ولم يرد عليه جرير استصغارا له
وقال بشار لو رد علي جرير لأصبحت أشعر العالمين .. لأنه برد جرير على بشار سوف يرفع من اسهمه ويشهره في الأفاق
وهو من سبي المهلب بن أبي صفرة .. ووهب جده يرجوخ امرأة من بني عقيل
وكان أعمى البصر وكان يشبه الأشياء ويصفها مالا يقدر عليه البصراء ..فسئل عن ذلك فقال : عدم النظر يقوّي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه الأشياء فيتوفر حسه .
وكان يلقب بالمرعّث
لقوله هذه الأبيات :
قالت ريم مرعث = ساحر الطرف والنظر
لست والله نائلي = قلت أو يغلب القدر؟
أنت إن رمت وصلنا = فانج ، هل تدرك القمر ؟
والرعاث .. هي القرطة واحدتها رعثة وجمعها رِعاث (( بكسر الراء )).
وكان يقول أنا أشعر الناس لقوله إن لي اثنا عشر ألف بيت جيد .. فقيل له كيف ذلك ؟.. فقال إن لم يكن في كل قصيدة بيت جيد .. فلعنها الله ولعن قائلها
وقيل بهذه الخطبة قام واصل بن عطاء بعمل الخطبة التي تخلو من حرف الراء (( للثغه كانت في نطق الراء لواصل بن عطاء.. وسأتكلم عنه يوما وعلى فصاحته بإذن الله ))
وبإتهامة بالزندقة كام عليه يعقوب وزير المهدي ودبر له حتى قتل
ومن أخباره
قدم بشار بن برد إلى المهدي يمدحه بقصيدته الرائية التي يقول فيها :
تجاللت عن فهر وعن جارتي فهـر = وودعت نعمى بالسلام وبالـبـشـر
وقالت سليمى ففيك عـنـا جـلادة = محلك دان والزيارة عـن عـفـر
أخي في الهوى مالي أراك جفوتنـا = وقد كنت تقفونا على العسر واليسر
تثاقلت إلا عـن يد أسـتـفـيدهـا = وزورة أملاك أشـد بـهـا أزري
وأخرجبن من وزر خمسـين حـجة = فتى" هاشمي يقشعـر مـن الـزر
دفنت الهوى حيا فلسـت بـزاشـر = سليمى ولاصفراء ماقرقر القمري
ومصفرة بالزعفـران جـلـودهـا = إذا اجتليت مثل المفرطحة الصفـر
فرب ثقال الردف هبت تلـومـنـي = ولو شهدت قبري لصلت على قبري
تركت لمهدي الأنـام وصـالـهـا = وراعيت عهداً بيننا ليس بالخـتـر
ولولا أمير المؤمـنـين مـحـمـد = لقبلت فاها أو لكان بهـا فـطـري
لعمري لقد أوقرت نفسي خـطـيئة = فما أنا بالمزداد وقراً علـى وقـر
ولم يحظ منه بشيء ..فقيل إنه لم يستجيد شعرك .. فقال بشار : والله لقد مدحته بشعر لو مدح الدهر لم يحسن صرفه على أحد ولكنّا نكذب في القول ..فنكذب في الأمل .
وبعدها قام بمدح وزيره يعقوب بن داوود فلم يحفل به ويقدره ولم يعطه شيئا .. وأقام ينتظر جائزته فمر يعقوب يوما ببشار .. فصاح بشار :
(( طال الثواء على رسوم المنزلِ ))
فقال يعقوب :
(( فإذا شاء أبا معاذ فارحل ))
فغضب أبا معاذ (( بشار بن برد )) فقال :
بني أمية هُبوا طال نومكم = إن الخليفة يعقوب بن داوود
ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا = خليفة الله بين الناي والعود
وبعدها رحل لحلقة النحوي المشهور يونس .. فقال : هاهنا من نحتشمه ؟ .. فقال : لا .. فأنشد هجاء في المهدي وهجاء في يعقوب فسعى إليه يعقوب
ومن أخباره الطريفة المضحكة
(( والله فيها بعض المجون ولكن سأقول أخفها وأحشمها مع أنه ماضي بشار بن برد أسود في الهجاء وهجاءه مقذع لذلك سوف أتحاشاه .. لأجلكم ))
أنه كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم، فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلم الجزية يا أبا معاذ؛ فقال: ويحك! أجزية هي! قال: هو ماتسمع؛ فقال له بشار يمازحه: أنت أفصح مني؟ قال: لا... قال: فأعلم من ي بمثالب الناس؟ قال: لا؛ قال: فأشعر مني؟ قال: لا؛ قال: فلم أعطيك؟ قال: لئلا أهجوك..... فقال له: إن هجوتني هجوتك..... فقال له أبو الشمقمق: هكذا هو؟ قال: نعم، فقل مابدالك...
فقال أبو الشمقمق:
إني إذا ماشاعر هجـانـية= ولج في القول له لسنـية
أدخلته في "..." أمه علانية = بشـار يابـشـــار....
وأراد أن يقول: " يابن الزانية "..... فوثب بشار فأمسك فاه ..... وقال: أراد زالله أن يشتمني..... ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له: لايسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق.
ومن أخباره الطريقة أيضا
قال الأصمعي
أمر عقبة بن سلم" الهنائي" لبشار بعشرة آلاف درهم، فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشاراً فقاللأه: يا أبا معاذ، إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون:
هللينـه هـلـلـينة = طعن قثـاة لـتـينة
إن بشـار بـن بـرد = تيس أعمى في سفنية
فأخرج إليه بشار مائتي درهم فقال: خذ هذه راوية الصبيان يا أبا الشمقمق
وفي خبر موته
كان المهدي قدم البصرة فدخل عليه يعقوب وقال . .أن بشار زنديق وقد ثبتت البينة وقد هجا أمير المؤمنين
فأمر قائد الشرطة أ ن يقبض على بشار بن برد .. ويضربه بالسوط حتى التلف (( الموت ))
فأخذوه في زورق وجسلوا يضربونه على النهر فكلما ضربوه بالصوت قال بشار (( حس )) ( حس هي كلمة تقال عند العرب لمن أحس بالألم )) ... فقال بعضهم : انظروووا إلى زندقته مانراه يحمد الله تعالى .. فقال بشار : ويلك ! .. أثريد هو حتى أحمد الله عليه (( الثريد من أنواع الأطعمة )) ... فما وصل إلى السبعين سوطا .. أشرف على الموت .. فألقي على صدر السفينة فقال بشار : ليت عين الشمقمق تراني حين يقول :
إن بشـار بـن بـرد = تيس أعمى في سفنية
وثم مات من ساعته
ورموا حثته على قطعه خشب فحمله الماء إلى البصرة فأخذه أهله ودفنوه بها ..
وحكي انه بعدما ضرب بشار أمر من يفتش منزله فوجدوا رسالة مكتوب فيها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ......إني أردت هجاء آل سليمان بن علي فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه السلام فتركتهم إجلالا له صلى الله عليه وسلم))
فلما قرأه بكى وندم على قلته وقال : لا جزى الله يعقوب خيرا فانه لما هجاه لفق عليه شهودا على أنه زنديق فقلته .. ندمت حين لا ينفع الندم
ومن طرائف أخباره
أنه قال له هلال بن عطيه يوما يمازحه وكان صديقا له .. إن الله تعالى لم يذهب البصر إلا عوضه شيئا ..فما عوضك الله ؟
قال : الطويل العريض ... فقال : ماهو .. فقال بشار : أني لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء .. ثم قال . ياهلال أتطيعني في نصيحة أنصحك بها ؟... فقال : نعم
فقال : إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت .. وصرت رافضيا .. فعد إلى سرقة الحمير ..فهي والله خير لك من الرفض
ووقف عليه بعض المجان وهو ينشد شعرا له فقال : يابشار استر شعرك كما تستر عورتك ..فغضب بشار وصفق بيديه وتفل عن يمينه وعن شماله .. وكان يفعل ذلك عند الغضب .. .. وأراد أن يهجوه ..ثم قال : ويلك من أنت ؟
فقال الماجن .. أنا ( أعزك الله ) من باهلة .. وأخوالي من سلول .. وأصهاري من عكّ .. ومنزلي نهر بلال .. فضحك بشار وقال : أذهب فأنت عتيق لؤمك .
وكانت هذه القبائل .. من أخزى القبائل وأكثر الشعراء فيهم من تمزيقهم .. حتى صاروا سبة العار
ومات لبشار بن برد ولد ..فقيل له : أجر قدمته وذخر أحرزته فقال : بلى ولد دفنته وثكل تعجلته وغيب وعدته فانتظرته وإن لم أجزع للنقص لم أفرح بالزيد ..
ويخصوص الكلام الذي يتهم به انه زنديق
وزعم الجاحظ أن بشاراً كان يَدِين بالرَجعة، ويُكَفر جميعَ الأمة؛ وأنشد له أشعاراً صوب بها رَأيَ إبليس في تقديم النار على الطين، منها قولُه:
الأرض مُظْلِمَةٌ ...والنارُ مُشْرِقةٌ = والنارُ معبودةٌ مُذْ كانتِ النـارُ
وقال داود بن رَزِين: أتينا بشاراً، فأذِنَ لنا والمائدةُ بين يديه، فلم يَدْعُنَا إلى الطعام، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصل، ودعا بطسْت فَبالَ بحضرتنا، فقلنا له: أنت أستاذُنا، وقد رأينا منك أشياءَ أنكرناها، قال: ما هي؟ قلنا: دخلْنَا والطعامُ بين يديك فلم تَدْعُنَا، قال: إنما أذِنْتُ لتَأكلوا، ولو لم نُرِدْ ذلك لم نأذن لكم، قلنا له: ودعوت بالطست ونحن حضور، قال: أنا مكفوف، وأنتم مأمورون بغض الأبصار دوني، قلنا: وحضرت الصلاة فلم تصلّ! قال: الذي يقبلها تفارِيقَ يقبلها جملة! هذا وهو القائل:
كيف يبكي لمَحْبَس في طُلُول = من سَيُفْضِي لِحَبْسِ يَوم طويلِ
إن في البعث والحساب لشغلاً = عن وقوفٍ برَسْمِ دَار محـيل
والله أعلم بالصواب
وكان بشَارٌ حاضرَ الجواب سجًّاعاً خطيباً..... صاحبَ منثور ومُزْدَوج ورَجز ورسائل مختارة ....على كثير من الكلام..... ودخل على عُقْبة بن مسلم بن قتيبة......فأنشده مديحاً وعنده عقبة بن رُؤْبة...(( ابن رؤبة بن الحجاج الاجز المشهور ))
فأنشده أرجوزة....ثم أقبل على بشار فقال: هذا طِراز لا تحسنه يا أبا معاذ فقال: واللّه لأنا أرجز منك ومن أبيك؛ ثم غدا على عقبة من الغَد، فأنشده أرجوزته:
يا طَلَل الحيّ بذات الصَّمْد = باللّهِ خَبّر ْكيف كنتَ بعدي
يقول فيها:
صَدَّتْ بخدً وجلَـتْ عـن خَـد = ثم انثَنَتْ كالنَّفَـس الـمُـرْتَـد
وصاحبٍ كالدمـل الـمُـمِـدّ = حملْتُه في رُقْعَة من جِـلـدي
حتى اغتدى غيرَ فقيد الفَـقْـد = وما درى ما رَغْبَتي من زهدي
والبَسْ طِرَازي غيرَ مُسْتَرَد = للَّهِ أيامُـك فـي مَـعَـد
هي طويلة...فأجزلَ صلته...فلمّا سمع ابن رُؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدي فتحْنَا الغريبَ للناس...وإني لخليق أن أسدّه عليهم... فقال بشار: ارحمهمْ، رحمك اللّه! قال: تستخفّ بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال: إذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجْس وطهَّرهم تطهيراً!
فضحك كلّ مَنْ حضر.
ودخل على المهدي وعنده خالُه يزيد بن منصور الحميري...فأنشده قصيدة....فلمّا أتمها قال له يزيد: ما صناعتك يا شيخ. قال: أثْقُبُ اللُؤلُؤَ....فقال له المهدي: أتهْزَأُ بخَالي؟. فقال: يا أميرَ المؤمنين....فما يكونُ جَوَابي لمن يَرَى شَيْخاً أعمى يُنْشِدُ شعراً فيسأله عن صِنَاعته؟ وقْال جَوَاري المهدي للمهدي: لو أذِنْتَ لبشَّار يدخل إلينا يؤانسنا ويُنُشِدنا فهو محجوب البَصَرِ.... لا غيرة عليك منه، وأكمره فدخل إليهنّ واستظرفْنَه.....وقلْن له: وددْنا واللَّهِ يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقِك.....قال: ونحن على دينِ كسرى! فأمر المهدي ألاّ يدخل عليهن.
(( وكان المهدي من الناس الغيورين .. ومعروف هذا الشيء به ))
............
وأكتفي بهذه الأخبار .. وسأقول أجمل الأبيات لبشار بن برد
من محاسن شعره :
وقوله لعقبة بن سلم :
حرّم الله أن ترى كابن سلم = عقبة الخير مطعم الفقراء
ما لكي تنشق عن وجهه الحر = ب كما انشقت السماء عن ذكاء
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو = ف ولكن يلذّ طعم العطاء
لا .. ولا أن يقال شيمته الجو = د ولكن طبائع الأباء
وقوله لعمرو بن العلاء
إذا أيقظتك حروب للعدى = فنبه لها عمراً ثـم نـم
فتى لاينام على دمـنةٍ = ولايشرب الماء إلا بدم
ويروى شطر البيت الأول (( إذا دهمتك عظائم الأمور ))
وهـذا البيت من أجمل المدائح في عمرو بن العلاء
وقيل أنه بعدما أنشد له الأبيات أمر لبشار بمائة ألف درهم
والبيتين جدا جميلين ... وكان عمرو بن العلاء شجاعا جوادا .. ومن علماء الأذب واللغة العربية .. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
وقوله في الغزل .. ويعد أشعر بيت غزل قالته المولدون
أنا واللّه أشتهي سحر عينيك = وأخشى مصارع العشـاق
وقصيدته الشهيرة البائيه التي يقول فيها :
إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً=صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه ف
عش واحداً أو صل أخاك فـإنـه = مقارف ذنب مرة ومـجـانـبـه
إذا أنت لم تسرب مراراً على القذى = ظمئت وأى الناس تصفو مشاربـه
ومنها يقول :
إذا الملك الجبار صعّر خده = مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
كأن مثار النقع فوق رؤسنا = وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ونسيت أن أقول
أن المهدي الخليفة نهى بشار بن برد بقوله الغزل وأن النساء تصبوا لشعره .. وكانوا دائما يأتونه البيت لكي يسمعون شعره
فقال له خالهُ يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تَصْبُو إلى مثل قوله:
عَجِبَتْ فَطْمَةُ من نَعْـــتِـي لـهـا = هل يُجِيد النعتَ مكفوفُ النظَر؟
بِنْتُ عَشرٍ وثـلاث قـسـمَـتْ = بين غُصْنٍ وكـثـيبٍ وقَـمَـرْ
درّةٌ بَـحْـرِيةٌ مـكـنـــونة = مازَها التاجر من بـين الـدُرَرْ
أذْرَتِ الدمعَ وقالـت: ويلَـتـي= من وَلُوعِ الكف ركابِ الخَطَر
أمَـتـي بـددَ هـذا لُـعـبَـي = ووِشاحِي حله حتى انـتـثَـرْ
فَدَعـينـي مـعـه يا أمـتـي = علنا في خَلْوةٍ نَقْضِي الوَطَـرْ
أقْبَلَتْ في خَلْوَة تـضـربـهـا = واعتراها كجنونٍ مُسْـتَـعِـرْ
بِأَبي والـلـهِ مـا أحـسـنَـه = دَمْعُ عين غَسلَ الكُحْلَ قَـطَـرْ
أيها النُّـوَامُ هـبـوا وَيْحَـكُـم = وسَلُوني اليومَ ما طَعْمُ السهَـر
(( بصراحة .. أبيات غزلية من الطبقة الرفيعة جدا .. وهي من المطربات المرقصات ))
فأمره المهدي ألا يتغزل....فقال أشعاراً في ذلك منها :
يا منظراً حسنـاً رأيْتُـه = من وجه جارية فدَيتُـه
لمعتْ إلي تَسُـومـنـي = ثَوْبَ الشباب وقد طويْتُه
والـلـهِ رب مـحـمـدٍ ما = إن غَمَزتُ ولا نَوَيْتُه
أمْسَكْتُ عنكِ، وربـمـا = عَرض البلاءُ وما ابتغيْتُهْ
إن الخـلـيفة قـد أبـى = وإذا أبى شـيئاً أبـيْتُـه
ويَشُوقني بيتُ الحـبـي = ـب إذا غَدَوتُ، وأين بيتهْ
قام الـخـلـيفةُ دونَــهُ = فصبَرت عنه وما قَلَيْتُـهْ
ونهانيَ المَلِكُ الـهُـمـا = مُ عن النساء فما عصيْتُه
بل قد وفيتُ ولـم أُضِـع = عَهْـداً، ولا رأياً رأيْتُـه
وقوله :
يا حامد الـقـول، ولـم يَبـلُـه = سَبَقْتَ بالسَيْلِ مَسَاك السَحَـابْ
الفعلُ أَوْلَى بثـنـاء الـفـتـى = ما جاءه من خطإ أوْ صَـوَابْ
دعْ قولَ وَاءً وانتظر فـعـلـه = يثْني على اللقْحَةِ ما في الحِلاَبْ
إذا غدا المهـديُّ فـي جُـنْـدِهِ = ورَاحَ في آلِ الرسول الغِضَابْ
بدَا لك المعروف في وجـهِـه = كالظَّلْم يَجْرِي في الثنايا العِذَابْ
وقوله
أيها الساقيان صُبَّـا شَـرَابـي = واسقياني من ريق بيضاءَ رُودِ
إن دائي الصَّدى، وإنّ شفـائي = شَرْبَةٌ من رُضَابِ ثَغْرٍ بَـرُودِ
عندها الصبرُ عن لقائي وعندي = زَفَراتٌ يأكُلْنَ قَلْبَ الـجَـلِـيدِ
ولها مَبْسِمٌ كـغُـرّ الأقـاحـي = وحديثٌ كالوَشْي وَشْي البُـرُودِ
نزلَت في السواد من حبّة القـل= ـب ونالت زيادةَ المـسـتـزيد
ثم قالت: نَلقَـاك بـعـد لَـيالٍ = والليالي يُبْـلِـينَ كـلَّ جـديد
لا أُبالي مَنْ ضَنَ عني بوَصْـل = إنْ قَضَى الله منك لي يَوْم جودِ
وقوله :
زوَدينا يا عَبْدَ قبْـلَ الـفـراق = بتلاقِ، وكيف لي بالـتَّـلاَق؟
أنا والله أشتهي سِحْرَ عـينـي = ـك وأخْشَى مصارعَ العشّـاق
أُمَّتي من بني عُقيل بن كَعْـبٍ = موضعَ السلْكِ في طُلاَ الأعناق
وهذه تكملة الأبيات على ماقلته نافلا .. بأنه أغزل ماقاله المولدين .. وهو من الأبيات المرقصة الهزازة (( أرفع طبقات الشعر ))
وقوله :
وقد كنت في ذاك الشبابِ الذي مضى = أزارُ ويَدْعُوني الـهـوَى فـأَزُورُ
فإن فاتني إلْفٌ ظَلِـلْـتُ كـأنـمـا = يُديرُ حـياتـي فـي يديه مُــدِيرُ
ومُرْتجةِ الأرْداف مهضومةِ الحشَـا = تَمُورُ بسِحْـرٍ عَـيْنُـهـا وتَـدُورُ
إذا نظرتْ صبَّتْ علـيك صَـبـابة = وكادَتْ قلوبُ العالـمـين تَـطِـيرُ
خَلَوْتُ بها لا يَخْلصُ الماءُ بـينـنـا = إلى الصُبْح دوني حَاجِبٌ وسُـتُـورُ
ومن أبياته الرائعة قوله :
يا أطْيَبَ الناس رِيقاً غيرَ مختَبـرِ = إلاَّ شهادةَ أطرافِ المـسـاويكِ
قد زُرْتِنا مرةً في الدهر واحـدةً = ثَنِّي ولا تجعليها بَـيَضةَ الـدَيكِ
يا رَحمةَ اللّه حُلِّي في منازلـنـا = حَسبي برائحة الفرْدَوس مِنْ فيكِ
وقيل لبشار: يا أبا معاذ، كم بين قولك، وأنشد هذه الأبيات السابقة . وبين أن تقول:
إنما عَظْم سُلَيمـى خُـلَّـتـي = قَصَبُ السُكَرِ لا عَظْمُ الجمل
وإذا قُرَب مـنـهـا بَـصَـلٌ = غلب المِسكُ على ريح البَصلْ !!
فقال: إنما الشاعر المطبوع كالبحر؛ مرةً يقذِف صَدَفهُ، ومرةً يقذف جِيَفَه.
وبصراحة الأبيات السابقة سامجة وسقطة من سقطاته .. وهو اعترف بذلك .
.......................
أكتفي بهذا وأعلم أني أطلت عليكم
ولكن لي كلمة أخيرة بخصوص هذا الشاعر
بشار بن برد لا ديوان شعر له .. وأخباره وقصائده منثورة في الكتب .. ولم يعتنى به .. وضاعت مع من ضاع من كتب الادب
لذلك عندما أردت اكتب عنه .. تعبت كثير وأنا أترجم له .. وأبحث عن سيرته.. وقصصه طريفة ماجنة
والشعراء الذين لايحصى شعرهم
(( بشار بن برد .. وأبي العتاهية ... والحسن بن هانىء .المشهور بـ أبي نوانس ))
لأن شعرهم سهل المنال .. في عصرهم وطار طير الأفاق .. وشعرهم كثير جدا
حتى أن ابن برد قال قلت .. اثنا عشر ألف قصيدة .. فأين هي؟
وعدد أبياته التي جمعت تقارب الألف بيت وتقل أيضا .. لذلك التاريخ أخمل ذكر أو بمعنى أصح .. ضيّع تاريخ ابن برد
ولو كل قصائده جمعت وعرفت .. ودرست كان تطور الأدب أكثر .. وكان يمكن أن نقول أن ابن برد .. هو أشعر الشعراء العربية بلا منافس . .لكثرة قصائدة وجودتها
على العموم
أنا طوّلت في سيرة ابن برد .. ولكن يستاهل وقفة احترام وتبجيل للشاعر الكبير المبجل .. ابن برد
الذي تمنيت أن يعطوه قدره الذي يستحقه
ولمن أراد أن يتوسع في سيرته وأخباره
فليذهب إلى كتاب الأغاني فلقد ترجم له بحدود 70 صفحة
ويذهب إلى كتاب زهر الأداب وثمر الألباب .. للحصري القيرواني .. وأخباره متفرقة بالكتاب
ووفيات الأعيان لابن خلكان .
والوافي في الوفيات للصفدي
وسرح العيون في شرح نونية بن زيدون .. لابن نباته المصري
وغيرها من الكتب التي لم تتوسع شخصيته