للشيخ عبد الخالق ماضي
تلتقي الدعوة الرسل جميعا في كلمة سواء ومقصد أعلى وهو جمع أهلها على الهدى والحقّ ليَسعدوا في الدُّنيا ويستعِدُّوا لسعادة الأخرى، بهذا جاءت الرِّسالات المعروفة، وبهذا نزلت كتبها.
والقرآن ـ الذي هو المهيمن عليها ـ يخبرنا بأنّ كتابَ موسى إمام ورحمة، وأنّ الله أنزل التّوراة والإنجيل هدًى للنَّاس، وأنّهما جاءا بما جاء به القرآن من الدّعوة إلى عبادة إلهٍ واحدٍ هو الله جلّ وعلا، والرّجوع إليه وحده فيما يعلو كسب البشر، وفي بثّ التَّآخي بين النَّاس وعدم استبعاد بعضهم بعضًا، وفي الأمر بالخير والنَّهي عن الشَّرِّ، ويخبرنا من وصايا الله الجامعة لتلك الأمم على ألسنة رُسلها هي أن يقيموا الدِّين ولا يتفرَّقوا فيه، وأنَّ تلك الأمم لم تحفظ وصيَّة الله، فتفرَّقت في الدِّين شِيَعًا وجعلت السَّبيل الواحد سُبلاً واختلفت في الحقِّ من بعد ما جاءها من العلم والبيِّنات فقامت عليها الحجَّة وحقّت عليها كلمة الله وكان عاقبة أمرها خسرا .
ولم يأل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمَّته نصحاً وإبلاغا في هذا الباب، كيف لا وقد أنزل عليه ربُّه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام :159] فكان أخشى ما يخشاه على أمَّته أن يدبَّ فيها داء الأمم قبلها فتختلف كما اختلفت وتتفرَّق في الدين كما تفرَّقت .
وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم فتفرّقت أمّته في الدين ولعن بعضها لبعضاً باسم الدين ، وانتهكت الأعراض والحرمات باسم الدين ، واتّبعت سنن من قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ولم تنتفع بتلك العظات البالغة والنذر الصادعة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتّى حقّت عليه الكلمة وصارت إلى أسوأ حال من الخزي والنكال .
إنّ من أصول الإسلام العظيمة التي بني عليها هذا الدين أمره بالجماعة والائتلاف وذمّه للفرقة والاختلاف يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [آل عمران:103] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنّ الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا ، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم )) [رواه أحمد]، بل إنّ هذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((وهذا الأصل العظيم ، وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وألاّ يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام وممّا عظمت وصيّة الله تعالى به في كتابه ، وممّا عظم ذمّه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ، وممّا عظمت به وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مواطن عامة وخاصة )) [مجموع الفتاوى (22/259)].
ولكن لعدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه حصل ما حصل من فرقة للمسلمين وتدابرهم وتناحرهم ، فوقع أكثر المسلمين في الفرقة التي نهوا عنها وحصل بينهم الاختلاف الذي أمروا باجتنابه ، فتفرّقت صفوفهم وضعف اتّحادهم وصاروا شيعا وأحزابا ، كلّ حزب بما لديهم فرحون.
وهذا الأمر وإن كان ممّا قدّره الله عزّ وجل كونا ووقع كما قدّر – ولا بدّ – إلاّ أنّه سبحانه لم يأمر به شرعاً ، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعيّ ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة ولا يكون ذلك إلاّ بالرجوع إلى هذا الدين كلاًّ لا بعضا كما جاء صافيا سالما من كلّ ما يخلّ بالاتّباع ومبرّأ من كل هوى وابتداع و ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11] .
فلا بدّ من تضافر الجهود بين علماء الإسلام وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحا حقيقيّا لا تلفيقيّا كما نرى ونشاهد فإنّ أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله [وجوب التعاون بين المسلمين(ص:5)] ((الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم آدابهم وجميع الشؤون الدينيّة والدنيويّة وفي تربيتهم العلميّة ، وهذا النوع من أصل الجهاد وقوامه ، وعليه يتأسّس النوع الثاني وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين والكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم وهذا نوعان : جهاد بالحجة والبرهان واللسان ، وجهاد بالسلاح المناسب في كلّ وقت وزمان )).
ثمّ أفرد فصلا بعنوان : ((الجهاد المتعلّق بالمسلمين لقيام الألفة واتّفاق الكلمة)) وبعد ذكر الآيات والأحاديث الدّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال : ((فإنّ من أعظم الجهاد السعي إلى تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين ووحدتهم قال : ((فإنّ أعظم الجهاد السعي إلى تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينيّة والدنيويّة )).
إنّ النصر والتمكين مرتبطان بأتّباع الرسل ، وإنّ الهزيمة والخذلان مرتبطان بمخالفتهم قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّين ﴾ [المجادلة:20] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... وجُعل الذلّ والصغار على من خالف أمري)) .
وتفسيره ما قاله ابن تيمية رحمه الله : ((البدعة مقرونة بالفرقة ، كما أنّ السنّة مقرونة بالجماعة فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة)).
وقد أجمع العقلاء على أنّ أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع، وأشدّه –ولا شكّ- التنازع في الدين ، ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله قرن الله بينهما في آية واحدة فقال : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال:46 ]، ولما كان الالتزام بالسنّة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلزومها عند وقوعه ، فقال: ((... وأنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور)) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهوصحيح].
وقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [آل عمران:105] أي جاءهم من الوحي ما يجمعهم فلمّا تركوه اختلفوا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [منهاج السنة (6/300)]: ((الخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في الملل ، فكلّ من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقلّ ، فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثلاهم أمر لا يحصيه إلاّ الله ، وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعاً كالرافضة فينا ، وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم ، وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلاّبية والكرّامية والأشعرية ونحوهم ، وبعد ذلك اختلاف أهل الحديث ، وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم ، لأنّ ميراثهم من النبوّة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [آل عمران:103] )).
والغرض من هذا بيان لحوق الهزيمة بمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم وتعجيلها لهم بسبب الاختلاف المضروب عليهم.
وإلى المسلمين أقول : إنّ الذي قعد بأمتكم عن الصالحات وجعلها في أخريات القافلة هو اختلاف قلوبها وتشتّتها، فاجمعوا على القرآن والسنّة آخرها كما جمع محمّد صلى الله عليه وسلم عليه أولها ، ينتج لكم هذا الآخر ما أنتجه ذلك الأوّل من عزائم وشداد وهمم كبيرة ، وعقول نيرة وسير على نهج خير السلف.
وإنّ أوّل أمّتكم شبيه بآخرها عزوفاً عن الفضائل وانغماسا في الرذائل فلم يزل بها هذا القرآن وبيان خير الأنام حتّى أخرج من رعاة الغنم رعاة أمم وأخرج من خمول الأميّة أعلام العلم والحكمة ، فإن زعم زاعم أنّ الزمان غير الزمان فقولوا : ولكنّ الإنسان هو الإنسان.
إن نريد يا مسلمين إلاّ الإصلاح ما استطعنا وما توفيقنا إلاّ بالله عليه توكّلنا وإليه ننيب
تلتقي الدعوة الرسل جميعا في كلمة سواء ومقصد أعلى وهو جمع أهلها على الهدى والحقّ ليَسعدوا في الدُّنيا ويستعِدُّوا لسعادة الأخرى، بهذا جاءت الرِّسالات المعروفة، وبهذا نزلت كتبها.
والقرآن ـ الذي هو المهيمن عليها ـ يخبرنا بأنّ كتابَ موسى إمام ورحمة، وأنّ الله أنزل التّوراة والإنجيل هدًى للنَّاس، وأنّهما جاءا بما جاء به القرآن من الدّعوة إلى عبادة إلهٍ واحدٍ هو الله جلّ وعلا، والرّجوع إليه وحده فيما يعلو كسب البشر، وفي بثّ التَّآخي بين النَّاس وعدم استبعاد بعضهم بعضًا، وفي الأمر بالخير والنَّهي عن الشَّرِّ، ويخبرنا من وصايا الله الجامعة لتلك الأمم على ألسنة رُسلها هي أن يقيموا الدِّين ولا يتفرَّقوا فيه، وأنَّ تلك الأمم لم تحفظ وصيَّة الله، فتفرَّقت في الدِّين شِيَعًا وجعلت السَّبيل الواحد سُبلاً واختلفت في الحقِّ من بعد ما جاءها من العلم والبيِّنات فقامت عليها الحجَّة وحقّت عليها كلمة الله وكان عاقبة أمرها خسرا .
ولم يأل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمَّته نصحاً وإبلاغا في هذا الباب، كيف لا وقد أنزل عليه ربُّه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام :159] فكان أخشى ما يخشاه على أمَّته أن يدبَّ فيها داء الأمم قبلها فتختلف كما اختلفت وتتفرَّق في الدين كما تفرَّقت .
وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم فتفرّقت أمّته في الدين ولعن بعضها لبعضاً باسم الدين ، وانتهكت الأعراض والحرمات باسم الدين ، واتّبعت سنن من قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ولم تنتفع بتلك العظات البالغة والنذر الصادعة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتّى حقّت عليه الكلمة وصارت إلى أسوأ حال من الخزي والنكال .
إنّ من أصول الإسلام العظيمة التي بني عليها هذا الدين أمره بالجماعة والائتلاف وذمّه للفرقة والاختلاف يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [آل عمران:103] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنّ الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا ، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم )) [رواه أحمد]، بل إنّ هذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((وهذا الأصل العظيم ، وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وألاّ يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام وممّا عظمت وصيّة الله تعالى به في كتابه ، وممّا عظم ذمّه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ، وممّا عظمت به وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مواطن عامة وخاصة )) [مجموع الفتاوى (22/259)].
ولكن لعدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه حصل ما حصل من فرقة للمسلمين وتدابرهم وتناحرهم ، فوقع أكثر المسلمين في الفرقة التي نهوا عنها وحصل بينهم الاختلاف الذي أمروا باجتنابه ، فتفرّقت صفوفهم وضعف اتّحادهم وصاروا شيعا وأحزابا ، كلّ حزب بما لديهم فرحون.
وهذا الأمر وإن كان ممّا قدّره الله عزّ وجل كونا ووقع كما قدّر – ولا بدّ – إلاّ أنّه سبحانه لم يأمر به شرعاً ، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعيّ ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة ولا يكون ذلك إلاّ بالرجوع إلى هذا الدين كلاًّ لا بعضا كما جاء صافيا سالما من كلّ ما يخلّ بالاتّباع ومبرّأ من كل هوى وابتداع و ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11] .
فلا بدّ من تضافر الجهود بين علماء الإسلام وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحا حقيقيّا لا تلفيقيّا كما نرى ونشاهد فإنّ أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله [وجوب التعاون بين المسلمين(ص:5)] ((الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم آدابهم وجميع الشؤون الدينيّة والدنيويّة وفي تربيتهم العلميّة ، وهذا النوع من أصل الجهاد وقوامه ، وعليه يتأسّس النوع الثاني وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين والكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم وهذا نوعان : جهاد بالحجة والبرهان واللسان ، وجهاد بالسلاح المناسب في كلّ وقت وزمان )).
ثمّ أفرد فصلا بعنوان : ((الجهاد المتعلّق بالمسلمين لقيام الألفة واتّفاق الكلمة)) وبعد ذكر الآيات والأحاديث الدّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال : ((فإنّ من أعظم الجهاد السعي إلى تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين ووحدتهم قال : ((فإنّ أعظم الجهاد السعي إلى تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينيّة والدنيويّة )).
إنّ النصر والتمكين مرتبطان بأتّباع الرسل ، وإنّ الهزيمة والخذلان مرتبطان بمخالفتهم قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّين ﴾ [المجادلة:20] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... وجُعل الذلّ والصغار على من خالف أمري)) .
وتفسيره ما قاله ابن تيمية رحمه الله : ((البدعة مقرونة بالفرقة ، كما أنّ السنّة مقرونة بالجماعة فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة)).
وقد أجمع العقلاء على أنّ أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع، وأشدّه –ولا شكّ- التنازع في الدين ، ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله قرن الله بينهما في آية واحدة فقال : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال:46 ]، ولما كان الالتزام بالسنّة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلزومها عند وقوعه ، فقال: ((... وأنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور)) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهوصحيح].
وقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [آل عمران:105] أي جاءهم من الوحي ما يجمعهم فلمّا تركوه اختلفوا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [منهاج السنة (6/300)]: ((الخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في الملل ، فكلّ من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقلّ ، فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثلاهم أمر لا يحصيه إلاّ الله ، وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعاً كالرافضة فينا ، وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم ، وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلاّبية والكرّامية والأشعرية ونحوهم ، وبعد ذلك اختلاف أهل الحديث ، وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم ، لأنّ ميراثهم من النبوّة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [آل عمران:103] )).
والغرض من هذا بيان لحوق الهزيمة بمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم وتعجيلها لهم بسبب الاختلاف المضروب عليهم.
وإلى المسلمين أقول : إنّ الذي قعد بأمتكم عن الصالحات وجعلها في أخريات القافلة هو اختلاف قلوبها وتشتّتها، فاجمعوا على القرآن والسنّة آخرها كما جمع محمّد صلى الله عليه وسلم عليه أولها ، ينتج لكم هذا الآخر ما أنتجه ذلك الأوّل من عزائم وشداد وهمم كبيرة ، وعقول نيرة وسير على نهج خير السلف.
وإنّ أوّل أمّتكم شبيه بآخرها عزوفاً عن الفضائل وانغماسا في الرذائل فلم يزل بها هذا القرآن وبيان خير الأنام حتّى أخرج من رعاة الغنم رعاة أمم وأخرج من خمول الأميّة أعلام العلم والحكمة ، فإن زعم زاعم أنّ الزمان غير الزمان فقولوا : ولكنّ الإنسان هو الإنسان.
إن نريد يا مسلمين إلاّ الإصلاح ما استطعنا وما توفيقنا إلاّ بالله عليه توكّلنا وإليه ننيب