بسم الله الرحمن الرحيم
وطني صفاء
كانت العربة الفخمة (الليموزين) تشق الطريق مسرعة ، وكنت أشاهد المدينة وشوارعها عبر زجاج نظارتي الطبية ونوافذ السيارة. لم تكن الأضاءة القليلة المتناثرة بالكفاية التي تشبع شوقي وفضولي لمدينتي الحبيبة ، ولكنها سمحت لي برؤية بعض المعالم الحديثة بينما اسعفتني ذاكرتي على رسم التفاصيل المخفية لأكمال المشهد العام للمدينة . مازالت كما هي ، هادئة وأن كانت قد تغيرت قليلا من ناحية العمران والأتساع.
مرت السيارة المسرعة تحت ألحاحي على السائق ، بمنحى يقرب من حينا، كان يضم كثيرا من المرافق العامة ، أحدها مدرستنا الوسطى .
أمرت السائق بأن يبطئ قليلا ونحن نمر بجوار المدرسة الوسطى، وبدا لي تذمره واضحا ، ولكني كنت منشغلا عنه.
أوقفته وترجلت عن السيارة ، ووقفت قليلا أمام باب المدرسة ، متعت نظري بساحتها وفصولها وأشجارها . لقد أضيف لها الكثير ، ولكن مازال العبق القديم ، يترآى لي من خلال أريج أزهارها ، وتمايلات أشجار البان السامقة ، من حركة رياح الشتاء الباردة.
تمهلت قليلا ، ثم أستدرت ألى ميدان كبير أمام المدرسة ، وتذكرت كم من مباريات وتمارين لكرة القدم ، خضت غمارها على أرضه. ثم أتجهت راجلا إلى أخر الميدان ثم أعتليت ربوة مرتفعة قليلا ، كانت تذخر قديما بأشجار التمرأبونا ، التي كنت لا أقصد المنزل راجعا إلا بعد أن أملا حقيبتي منها.
لحقني السائق وأظهر غضبه وسخطه من تسكعي.
ركبت السيارة وأنا أذكر ذلك اليوم ، الذي كنت أعتلي فيه أحدى أشجار التمر أبونا ، عندما قدم أخي هاشم ، وهو يصيح بأن عمي حسن قد جاء.
فقفزت من أعلى الشجرة وألقيت بحقيبتي وهرولت قاصدا منزلنا. ولا أنسى بأني قد قابلت زوجة عمي حسن على الباب فصافحتها على عجل ، ودلفت للمنزل ولقاني أبن عمي ياسر، فسلمت عليه وتعانقنا ، ثم تركته ببطء لأدخل لصالة النساء وخطواتي شيئا فشيئا تثقل وأنفاسي تتصاعد ، وصدري يعلو ويهبط ، حتى سمعت لها أزيزا، وبدأ حلقي يجف ، فأقوم بتلبيسه ريقي وأسمع لبلعه حشرجة.
نظرت لي أمي وأخوتي بغرابة ، ولكني خرجت مسرعا ، وعيوني تتسآل أين هي ،قبل أن أجدها برفقة أختي سهام وهما على الباب داخلات.
فارقتني الغمة توا، وتهللت أسارير وجهي وأنداح الفرح في دواخل نفسي وأنا أمد يدي لمصافحتها ولكني لم أستطيع أن أنطق كلمة . رغما أن شفاهي قد تحركت لترسم ابتسامة كبيرة وعميقة.
وقفت السيارة أمام منزلنا ، أنصرف السائق مسرعا بعد أن أخذت حقيبتي .
طرقت باب المنزل كثيرا من دون أن يجيب أحد ، كان الليل قد شارف على الأنتصاف ، ولا أحد يمر بالجوار.
وقفت هنيئة أتذكر أن كانوا قد ذكروا لي بأنهم قد رحلوا لمكان أخر ، ولكني كيف أستحضر مكالمات عشرون عاما ، قضيتها خارج البلاد.
وقبل أن أتوه في ذاكرتي سمعت صوت باب أحد الجيران يفتح ، ثم أقترب مني كان شابا يافعا ، أنكرني وقد عذرته فقد هاجرت وأنا أصغر منه سنا ، فكيف له أن يعرفني.
ولكن علمت منه أن أصحاب المنزل ، ذهبوا إلى حفل أقارب لهم.
ذهبت إلى مكان الحفل بعد أن أخذت الوصف منه.
كان النادي ضاجا بالحفل والغناء ، وكانت الفرحة تلعو وجوه الجميع.
دخلت ببطء وأنا أسير في الممر الطويل المؤدي إلى مكان الحفل وأزداد الشوق وأنا على مقربة من أهلي ومعارفي ، ووقفت أتمعن الوجوه وأستحضر ذاكرتي لأسماء من عرفتهم.
أقتربت وأسرعت الخطى ، وبينما أنا مسرع للدخول في متن الحفل ، أقبلت فتاة مسرعة مطرقة إلى الأرض وتضع يدها على أذنها ، وبسرعة غريبة أصطدمنا، وصرخت الفتاة.
وقعت الفتاة ، ووقعت حقيبتي وهاتفها النقال ، وأبتعد حذاؤها عنها.
وتجمع القريبون منا.
وقفت وأنا في حيرة من أمري ، أقرب حذاؤها والتقط هاتفها ومددته لها. وساعدتها على الوقوف.
أبعدت نفسها من يدي ، ورفعت رأسها زاحة خصل شعرها الطويل ، لتحدقني بنظرة غاضبة ومستهجنة.
و......و..........
وألجتمتني المفاجأة ، زاد ذهولي مع كل ثانية تمر وأنا أتمعن فيها ،،،
يا للهول
يا الله
كيف ذاك
عشرون عاما ، وهي كما هي وكما تركتها
عشرون عاما وخديها الأسيلات الذهبيات كما هما
عشرون عاما وعينيها البراقتان كما هي
عشرون عاما وشعرها الأسود الطويل الفاحم هو هو
عشرون عاما وشامتها التي تعلو حاجبها الأيسر كما هو
تمجهر الناس ، وتحلقوا حولنا
وهي تقف بنظرتها الغاضبة التي تحولت إلى نظرات متسائلة
وأنا كما أنا ، مدت يدي لأصافحها ، ولم أستطيع أن أقول شيئا
ظلت يدي مدودة كما هي ، وهي ترمقني بغرابة وتهز رأسها بتعجب
أخيرا نطقت ومازلت يدي مدودة إليها
- صفاء
- ماذا؟
- ألا تذكريني يا صفاء.
- صفاء من؟
- صفاء أبنة عمي حسن.
- .........
صمتت كما صمت الجميع ، ثم سمعت صوتا من خلفي يقول .
- أنها هالة ، أبنتي؟
ألتفت نحو الصوت الذي عرفته تماما ، ونظرت أليها
كانت أمرآة جميلة ممتلئية الجسم في أواخر شبابها تقف بعينيها البارقتين وخديها الآسيلات الذهبيتين ، وشامتها البديعة . كانت صفاء بشحمها ولحمها تقف وهي تنظر إلى متفحصة. ثم قالت بتنهيدة
- رغم الشيب الذي علا رأسك ، والنظارة الطبية والنحافة ، ولكنك (ياجابر) كما أنت.
*******************************************************
كانت تلك أخر زيارة لي للوطن وأخر محادثة لي مع صفاء أبنة عمي.
وأنا في المطار مغادرا ومحاطا بأهلي وأخوتي ، قالت لي سهام كلمة ، مازالت تطوف برأسي ، كلما تذكرت وطني.
قالت لي سهام ، بأن صفاء كانت عندما تتصل بي وهي تتحدث بصوت باكي ، وتسآل عن أخبارك . أعرف بأنها قد داهمتها ذكرى معينة ، قد حكتها لي مرارا . وهي عندما قدموا ذات يوم لزيارتنا ، فسعد والدي وأعطانا نقودا خرجنا مسرعين أنا وهي إلى أحد الحوانيت لنشتري بعض الحلوى التي نحبها، ورأيناك وأنت تعدوا مسرعا لا تلأو على شيئ وهشام من خلفك يحمل حقيبتك وأشيائك ، وأنت تسرع تبحث عنها ، ثم اسرعت هي لملاقاتك ورأتك تبحث عنها بلهفة وبدأ اليأس يغذو قلبك ، وعندما تقابلتما عند الباب.
وذكرت لي سهام بأنها كانت دائما تقف عند هذا الحد، ليخرج الدمع أنهارا وأنهارا من مقلتيها.
وطني صفاء
كانت العربة الفخمة (الليموزين) تشق الطريق مسرعة ، وكنت أشاهد المدينة وشوارعها عبر زجاج نظارتي الطبية ونوافذ السيارة. لم تكن الأضاءة القليلة المتناثرة بالكفاية التي تشبع شوقي وفضولي لمدينتي الحبيبة ، ولكنها سمحت لي برؤية بعض المعالم الحديثة بينما اسعفتني ذاكرتي على رسم التفاصيل المخفية لأكمال المشهد العام للمدينة . مازالت كما هي ، هادئة وأن كانت قد تغيرت قليلا من ناحية العمران والأتساع.
مرت السيارة المسرعة تحت ألحاحي على السائق ، بمنحى يقرب من حينا، كان يضم كثيرا من المرافق العامة ، أحدها مدرستنا الوسطى .
أمرت السائق بأن يبطئ قليلا ونحن نمر بجوار المدرسة الوسطى، وبدا لي تذمره واضحا ، ولكني كنت منشغلا عنه.
أوقفته وترجلت عن السيارة ، ووقفت قليلا أمام باب المدرسة ، متعت نظري بساحتها وفصولها وأشجارها . لقد أضيف لها الكثير ، ولكن مازال العبق القديم ، يترآى لي من خلال أريج أزهارها ، وتمايلات أشجار البان السامقة ، من حركة رياح الشتاء الباردة.
تمهلت قليلا ، ثم أستدرت ألى ميدان كبير أمام المدرسة ، وتذكرت كم من مباريات وتمارين لكرة القدم ، خضت غمارها على أرضه. ثم أتجهت راجلا إلى أخر الميدان ثم أعتليت ربوة مرتفعة قليلا ، كانت تذخر قديما بأشجار التمرأبونا ، التي كنت لا أقصد المنزل راجعا إلا بعد أن أملا حقيبتي منها.
لحقني السائق وأظهر غضبه وسخطه من تسكعي.
ركبت السيارة وأنا أذكر ذلك اليوم ، الذي كنت أعتلي فيه أحدى أشجار التمر أبونا ، عندما قدم أخي هاشم ، وهو يصيح بأن عمي حسن قد جاء.
فقفزت من أعلى الشجرة وألقيت بحقيبتي وهرولت قاصدا منزلنا. ولا أنسى بأني قد قابلت زوجة عمي حسن على الباب فصافحتها على عجل ، ودلفت للمنزل ولقاني أبن عمي ياسر، فسلمت عليه وتعانقنا ، ثم تركته ببطء لأدخل لصالة النساء وخطواتي شيئا فشيئا تثقل وأنفاسي تتصاعد ، وصدري يعلو ويهبط ، حتى سمعت لها أزيزا، وبدأ حلقي يجف ، فأقوم بتلبيسه ريقي وأسمع لبلعه حشرجة.
نظرت لي أمي وأخوتي بغرابة ، ولكني خرجت مسرعا ، وعيوني تتسآل أين هي ،قبل أن أجدها برفقة أختي سهام وهما على الباب داخلات.
فارقتني الغمة توا، وتهللت أسارير وجهي وأنداح الفرح في دواخل نفسي وأنا أمد يدي لمصافحتها ولكني لم أستطيع أن أنطق كلمة . رغما أن شفاهي قد تحركت لترسم ابتسامة كبيرة وعميقة.
وقفت السيارة أمام منزلنا ، أنصرف السائق مسرعا بعد أن أخذت حقيبتي .
طرقت باب المنزل كثيرا من دون أن يجيب أحد ، كان الليل قد شارف على الأنتصاف ، ولا أحد يمر بالجوار.
وقفت هنيئة أتذكر أن كانوا قد ذكروا لي بأنهم قد رحلوا لمكان أخر ، ولكني كيف أستحضر مكالمات عشرون عاما ، قضيتها خارج البلاد.
وقبل أن أتوه في ذاكرتي سمعت صوت باب أحد الجيران يفتح ، ثم أقترب مني كان شابا يافعا ، أنكرني وقد عذرته فقد هاجرت وأنا أصغر منه سنا ، فكيف له أن يعرفني.
ولكن علمت منه أن أصحاب المنزل ، ذهبوا إلى حفل أقارب لهم.
ذهبت إلى مكان الحفل بعد أن أخذت الوصف منه.
كان النادي ضاجا بالحفل والغناء ، وكانت الفرحة تلعو وجوه الجميع.
دخلت ببطء وأنا أسير في الممر الطويل المؤدي إلى مكان الحفل وأزداد الشوق وأنا على مقربة من أهلي ومعارفي ، ووقفت أتمعن الوجوه وأستحضر ذاكرتي لأسماء من عرفتهم.
أقتربت وأسرعت الخطى ، وبينما أنا مسرع للدخول في متن الحفل ، أقبلت فتاة مسرعة مطرقة إلى الأرض وتضع يدها على أذنها ، وبسرعة غريبة أصطدمنا، وصرخت الفتاة.
وقعت الفتاة ، ووقعت حقيبتي وهاتفها النقال ، وأبتعد حذاؤها عنها.
وتجمع القريبون منا.
وقفت وأنا في حيرة من أمري ، أقرب حذاؤها والتقط هاتفها ومددته لها. وساعدتها على الوقوف.
أبعدت نفسها من يدي ، ورفعت رأسها زاحة خصل شعرها الطويل ، لتحدقني بنظرة غاضبة ومستهجنة.
و......و..........
وألجتمتني المفاجأة ، زاد ذهولي مع كل ثانية تمر وأنا أتمعن فيها ،،،
يا للهول
يا الله
كيف ذاك
عشرون عاما ، وهي كما هي وكما تركتها
عشرون عاما وخديها الأسيلات الذهبيات كما هما
عشرون عاما وعينيها البراقتان كما هي
عشرون عاما وشعرها الأسود الطويل الفاحم هو هو
عشرون عاما وشامتها التي تعلو حاجبها الأيسر كما هو
تمجهر الناس ، وتحلقوا حولنا
وهي تقف بنظرتها الغاضبة التي تحولت إلى نظرات متسائلة
وأنا كما أنا ، مدت يدي لأصافحها ، ولم أستطيع أن أقول شيئا
ظلت يدي مدودة كما هي ، وهي ترمقني بغرابة وتهز رأسها بتعجب
أخيرا نطقت ومازلت يدي مدودة إليها
- صفاء
- ماذا؟
- ألا تذكريني يا صفاء.
- صفاء من؟
- صفاء أبنة عمي حسن.
- .........
صمتت كما صمت الجميع ، ثم سمعت صوتا من خلفي يقول .
- أنها هالة ، أبنتي؟
ألتفت نحو الصوت الذي عرفته تماما ، ونظرت أليها
كانت أمرآة جميلة ممتلئية الجسم في أواخر شبابها تقف بعينيها البارقتين وخديها الآسيلات الذهبيتين ، وشامتها البديعة . كانت صفاء بشحمها ولحمها تقف وهي تنظر إلى متفحصة. ثم قالت بتنهيدة
- رغم الشيب الذي علا رأسك ، والنظارة الطبية والنحافة ، ولكنك (ياجابر) كما أنت.
*******************************************************
كانت تلك أخر زيارة لي للوطن وأخر محادثة لي مع صفاء أبنة عمي.
وأنا في المطار مغادرا ومحاطا بأهلي وأخوتي ، قالت لي سهام كلمة ، مازالت تطوف برأسي ، كلما تذكرت وطني.
قالت لي سهام ، بأن صفاء كانت عندما تتصل بي وهي تتحدث بصوت باكي ، وتسآل عن أخبارك . أعرف بأنها قد داهمتها ذكرى معينة ، قد حكتها لي مرارا . وهي عندما قدموا ذات يوم لزيارتنا ، فسعد والدي وأعطانا نقودا خرجنا مسرعين أنا وهي إلى أحد الحوانيت لنشتري بعض الحلوى التي نحبها، ورأيناك وأنت تعدوا مسرعا لا تلأو على شيئ وهشام من خلفك يحمل حقيبتك وأشيائك ، وأنت تسرع تبحث عنها ، ثم اسرعت هي لملاقاتك ورأتك تبحث عنها بلهفة وبدأ اليأس يغذو قلبك ، وعندما تقابلتما عند الباب.
وذكرت لي سهام بأنها كانت دائما تقف عند هذا الحد، ليخرج الدمع أنهارا وأنهارا من مقلتيها.