Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    الهجمة التترية الأولى

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 61736
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 33

    الهجمة التترية الأولى Empty الهجمة التترية الأولى

    مُساهمة من طرف GODOF الإثنين 26 أكتوبر - 19:57

    الهجمة التترية الأولى

    فكر "جنكيزخان" في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة ضخمة بين الصين والعراق، ولابد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين.. كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية.. وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة.. وأموالها وفيرة.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يستطيع تكتيكياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد..
    كل هذه العوامل جعلت "جنكيزخان" يفكر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية.. وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية هامة مثل: أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران.. وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة "أورجندة" (في تركمنستان حاليًّا).

    وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمّن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرق آسيا، أما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غرباً في أملاك الدولة الإسلامية!..
    ولا مانع - طبعاً - من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة.. وهي سنة في أهل الباطل:
    "أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون"..

    ولكن.. حتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث "جنكيزخان" عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد...
    ولكن - سبحان الله - لقد حدث أمر مفاجئ بغير إعداد من جنكيزخان!!.. وهذا الأمر المفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب.. نعم، لقد جاء هذا السبب مبكراً بالنسبة لإعداد جنكيزخان ولرغبته، ولكن لا مانع من استغلاله.. ولا مانع أيضاً من تقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى..

    ما هي الذريعة التي دخل بها "جنكيزخان" أرض خوارزم شاه؟!
    لقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة "أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه.. ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم!..
    أما عن سبب قتلهم.. فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة:
    فمنهم من يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلا جواسيس أرسلهم جنكيزخان للتجسس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها، ولذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار..
    ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً كنوع من الرد على عمليات للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة..
    ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً بقصد استثارة التتار للحرب، ليدخل خوارزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، والتي هي في ملك التتار آنذاك.. وإن كان هذا الرأي مستبعداً؛ لأن "محمد بن خوارزم شاه" لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار.. وكل ما كان يريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍّ على الآخر.. وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من المعقول أيضاً أنه لم يكن يدري عن قوتهم شيئاً وهم الملاصقون له تماماً، وقد ذاع صيت زعيمهم "جنكيزخان" في كل مكان..
    ومن المؤرخين أيضًا من يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك حتى يكون ذلك سبباً في غزو البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل..
    ومنهم من قال: إن خوارزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها..

    كل هذه احتمالات واردة، لكن المهم في النهاية أن التجار (أو الجواسيس) قد قُتلوا.. ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى "محمد بن خوارزم شاه" يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن "محمد بن خوارزم شاه" اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى.. غير أنه قال: إنه سيحاكمهم في بلاده.. فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية..
    وهذا الكلام وإن كان منطقياً ومقبولاً في كل بقاع الأرض إلا أنه بالطبع لم يكن مقنعاً لجنكيزخان.. أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛ فليس المجال مجال حجة أوبرهان أو دليل.. حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعد لغزو بلاد المسلمين خططا مسبقة.. ولن يعطلها شيء.. وإنما كان يبحث فقط عن علة مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلة التي كان يريدها..

    وبدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين!!..
    بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه (انظر الخريطة رقم 4)..
    وجاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له "محمد بن خوارزم شاه" بجيشه أيضاً.. والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر "سرداريا"، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقتل من الفريقين خلق كثير.. لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفاً، ومات من التتار أضعاف ذلك.. ثم تحاجز الفريقان، وانسحب "محمد بن خوارزم شاه" بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة.. وذهب ليحصن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة (وخاصة العاصمة: أورجندة).. كان هذا اللقاء الدامي في عام 616 هجرية..
    انشغل "محمد بن خوارزم شاه" في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلاً ـ بل معادياً ـ للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الغوريين في الهند.. وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي.. ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول..
    وهذه المملكة وإن كانت قوية وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات، فإنها ـ ولا شك ـ لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية..
    وفي رأيي أنه مع قوة التتار وبأسهم وأعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوة، وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين.. وصدق الله العظيم إذ يقول:
    "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين"..
    فجعل الله عز وجل الفشل قريناً للتنازع.. والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم.. وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار - كما سنرى- كان المسلمون يغيرون على بعضهم, ويأسرون بعضهم, ويقتلون بعضهم...!! وقد عُلم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم، فلا يكتب لهم النصر أبدًا..
    روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    "...وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسَنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا".
    فالمسلمون كانوا - في تلك الآونة - يهلك بعضهم بعضًا, ويسبي بعضهم بعضًا... فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أو غير التتار..
    وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد "محمد بن خوارزم"، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة "أورجندة" إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية..! ولكن... لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟!
    الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكياً في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبياً أخلاقيًّا في الأساس.. لقد اهتم "محمد بن خوارزم" بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جداً في تأمين شعبه، وحافظ جداً على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.. وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم.. وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.. ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خوارزم وشعبه!!..

    ماذا فعل جنكيزخان بعد هذه المعركة الأولى؟
    تعالوا نتتبع خطواته في البلاد المسلمة!!

    اجتياح بخارى:
    لقد جهز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة الإمام الجليل، والمحدث العظيم "البخارى" رحمه الله، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616 هجرية، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان "محمد بن خوارزم شاه" بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت.. فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟.. ثم ظهر رأيان:
    أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة..
    وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.. وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!..
    وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار.. ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة.. وأعطى أهلها الأمان فعلا في أول دخوله خديعةً لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة..
    وفعلاً.. بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!!! وحاصر القلعة عشرة أيام.. ثم فتحها قسرًا.. ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!!.. ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون..
    وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها.. ثم اصطفى كل ذلك لنفسه.. ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل!.. وأترُك ابن كثير ـ رحمه الله ـ يصور لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول:
    "فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن..!! (ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها)، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أُسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها.."!!!
    انتهى كلام ابن كثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!..
    حقًا... لا حول ولا قوة إلا بالله!..
    هلكت المدينة المسلمة!!..
    هلك المجاهدون الصابرون فيها.. وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون!!..
    روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث"..
    وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد.. فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.. ومن الخبث أن يصدق المسلمون عهود الكافرين لهم.. ومن الخبث أن يُسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.. ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم..
    هذا كله من الخبث!..
    وإذا كثر الخبث ، لابد أن تحدث الهلكة!.. وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم..
    وهكذا هلكت بخارى في سنة 616 هجرية!!..
    ولكن.. هل كانت هذه آخر المآسي؟!.. هل كانت آخر الكوارث؟!.. لقد كانت هذه أولى صفحات القصة.. كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار.. وستكون صفحات القصة القادمة أشد سوادًا وأكثر دماءً.. سيدخل المسلمون في سنة 617 هـ, وهي - بلا شك - من أبشع وأسوأ وأظلم السنوات التي مرت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل..

    ودخلت سنة 617 هجرية..
    وإنا لله، وإنا إليه راجعون!..
    كانت هذه السنة من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى هذه اللحظة.. لقد علا فيها نجم التتار.. واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيل أصلاً..

    وأرى أنه من المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله في كتابه القيم (الكامل في التاريخ) وكلامه في غاية الأهمية.. ويعتبر به جداً في هذا المجال أكثر من كلام غيره؛ لأنه كان معاصراً لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع..
    اسمعوا ماذا يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين:
    "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني، وياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها.. عمّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله "بختنصر" ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟!! وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا؟! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح"..
    كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا..
    لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي.. كارثة بكل المقاييس.. كارثة بمقاييس الماضي والحاضر.. وكارثة أيضًا بمقاييس المستقبل.. فإن هذه المصيبة فعلاً تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور..

    ماذا حدث في سنة 617هجرية؟
    اجتياح "سمرقند..":
    فبعد أن دمر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة "سمرقند" (وهي أيضاً في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل"..
    أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فلأسباب كثيرة:
    أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يحاربونهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم..
    ثانياً: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم.. ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه..
    ثالثاً: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم..
    رابعاً: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار..
    خامساً: كانوا يبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال.. وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار..

    كيف كان الوضع في "سمرقند"؟
    كانت "سمرقند" من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية.. ولقيمتها الاستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها "محمد بن خوارزم شاه" زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها.. هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تقدّر بمئات الآلاف.. أما "محمد بن خوارزم شاه" نفسه فقد استقر في عاصمة بلاده مدينة "أورجندة"
    وصل جنكيزخان إلى مدينة "سمرقند" وحاصرها من كل الاتجاهات.. وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن لشدة الأسف.. لقد دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!!..
    فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم.. وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار.. وبالفعل خرج سبعون ألفاً من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم.. خرجوا جميعاً على أرجلهم دون خيول ولا دواب.. ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال.. ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد..
    وعندما رأى التتار أهل "سمرقند" يخرجون لهم قرروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم.. وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيداً عن "سمرقند" وقد نصبوا الكمائن خلفهم.. ونجحت خطة التتار, وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدمون خلفهم.. حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تماماً.. وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال "سمرقند"..
    كم من المسلمين قتل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟!
    لقد قتلوا جميعاً!!..
    لقد استشهدوا عن آخرهم!!..
    فقد المسلمون في "سمرقند" سبعين ألفاً من رجالهم دفعة واحدة.. (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلاً فقط في موقعة أحد؟!). والحق أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم..
    وعاد التتار من جديد لحصار "سمرقند"..
    وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً!!..
    لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم.. وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلقون بأهداب أمل مستحيل.. وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح.. ولكنهم أصروا على التسليم.. فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس، فقد كان الجيش الخوارزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!!..
    وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم.. ففعلوا ذلك في خنوع، ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعاً منهم.. لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم!!.. ودفع الجند جزاء ذلتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
    ثم دخل التتار مدينة "سمرقند" العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقاً في "بخارى".. فقتلوا أعداداً لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثاً عن أموالهم، وسبوا أعداداً هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خراباً!!..

    وليت شعري!!..
    كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحركوا؟!
    كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمعوا لقتال التتار؟!
    كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرقين؟!.. لقد كان كل حاكم من حكام المسلمين يحكم قطراً صغيراً، ويرفع عليه علماً، ويعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود..!! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي حتى لو كانت الحرب على بعد أميال منهم!.. ولا تندهش مما تقرأ الآن.. وخبرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟؟!
    لم يفكر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتماً ستدور عليه.. وأن ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدمة لأحداث دامية أليمة سيعاني منها كل المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    نهاية ذليلة!!
    واستقر جنكيزخان - لعنه الله – بسمرقند؛ فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك، وأول ما فكر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضده؛ فأرسل عشرين ألفاً من فرسانه يطلبون "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد.. وإرسال عشرين ألف جندي فقط فيه إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيزخان بمحمد بن خوارزم وبأمته؛ فهذا الرقم الهزيل لا يقارن بالملايين المسلمة التي سيتحرك هذا الجيش التتري في أعماقها.. ولنشاهد ماذا فعلت هذه الكتيبة التترية الصغيرة.. قال لهم جنكيزخان: "اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء..!!"
    فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة "أورجندة" حيث يستقر "محمد بن خوارزم شاه"، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون (نهر أموداريا)، وجاء الجنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وهكذا فصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون، ولكن هذا التماسك لم يكن إلا لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وليس مع التتار سفن!!..
    فماذا فعل التتار؟!
    لقد أخذوا في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلقاتهم، ثم أنزلوا الخيول في الماء، والخيول تجيد السباحة، ثم أمسكوا بأذناب الخيول، وأخذت الخيول تسبح والجنود خلفها.. يسحبون خلفهم الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره..
    وبهذه الطريقة عبر جيش التتار نهر جيحون، ولا أدري أين كانت عيون الجيش الخوارزمي المصاحب لمحمد بن خوارزم شاه!.. وفوجئ المسلمون بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة إلا أنهم كانوا قد مُلئوا من التتار رعباً وخوفاً، وما كانوا يتماسكون إلا لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين وحوش التتار.. أما الآن وقد أصبح التتار على مقربة منهم فلم يصبح أمامهم إلا طريق واحد.. أتراه طريق القتال؟!
    لا.. بل طريق الفرار!!..
    وكما يقول ابن الأثير رحمه الله: "ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته" واتجه إلى نيسابور (في إيران حالياً)، أما الجند فقد تفرق كل منهم في جهة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وأما التتار فكانت لهم مهمة محددة وهي البحث عن "محمد بن خوارزم شاه"، ولذلك فقد تركوا أورجنده، وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها.. وهم لا يزيدون عن عشرين ألفاً!! وجنكيزخان ما زال مستقراً في "سمرقند"، وكان من الممكن أن تُحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجولون فيها.. لكن الرعب كان قد استولى على قلوب المسلمين؛ فكانوا يفرون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى آخر كما نرى..
    ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل؛ لأن لهم هدفاً واضحاً، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتاً في القتل وجمع الغنائم، إنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم لئلا يثيروا حفيظتهم؛ فيصيبهم من أذاهم!..
    وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة، ولم يتمكن "محمد بن خوارزم شاه" من جمع الأنصار والجنود، فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور، ترك المدينة واتجه إلى مدينة "مازندران" (من مدن إيران)، فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة "الري", ثم إلى مدينة "همذان" (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة "مازندران" في فرار مخزٍ فاضح.. ثم اتجه إلى إقليم "طبرستان" (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر، ولم يجدوا ما يركبونه خلفه..
    لقد نجحت خطة الزعيم الخوارزمي المسلم..!! نجحت خطة الفرار!!
    وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين (انظر الخريطة رقم 5), وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك، في فقر شديد وحياة صعبة.. وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعة، وأموالاً لا تُعدّ.. ولكن رضي بذلك لكي يفر من الموت!..
    وسبحان الله.. فإن الموت لا يفر منه أحد.. فما هي إلا أيام، حتى مات "محمد بن خوارزم شاه" في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيداً طريداً شريداً فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراش كان ينام عليه!!..
    " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "..

    أيهما أشرف يا إخواني؟؟.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلاً في هذه الجزيرة في عمق البحر أم يموت رافع الرأس ثابت الجأش مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟؟!..
    أيهما أشرف.. أن يموت مقبلاً أم أن يموت مدبرًا؟؟!..
    أيهما أشرف.. أن يموت هاربًا أم أن يموت شهيدًا؟؟!..

    إن الإنسان لا يختار ميعاد موته، ولكنه يستطيع أن يختار طريقة موته.. الشجاعة لا تقصر الأعمار.. كما أن الفرار والهرب والجبن لا تطيلها أبداً.. والذي يعيش مجاهداً في سبيل الله يموت مجاهداً في سبيل الله، وإن مات على فراشه..
    روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"

    ونعود إلى ابن الأثير رحمه الله وهو يحكي لنا عن سيرة "محمد بن خوارزم شاه" الذاتية، لنجد فيها أموراً عجيبة.. فعندما تقرأ صفته تجد أنك أمام عظيم من عظماء المسلمين، فإذا راجعت حياة الرجل الأخيرة وخاتمته وفراره وهزيمته تبدى لك غير ذلك.. فما السر في حياة هذا الرجل؟!
    يقول ابن الأثير رحمه الله في ذكر سيرته:
    "وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره، وملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة (في أفغانستان) وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان (باكستان) وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس (وكلها مناطق في إيران).."
    إذن من هذه الفقرة يتضح أنه كان عظيماً في مُلكه.. استقر له الوضع في بلاد واسعة لفترة طويلة.. ومن هنا يظهر حسن إدارته لبلاده، حتى إن ابن الأثير يقول في فقرة أخرى:
    " وكان صبوراً على التعب وإدمان السَير، غير متنعم ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه وحفظ رعاياه"..
    وعندما تحدث عن حياته الشخصية العلمية قال:
    "وكان فاضلاً عالماً، وكان مُكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظرتهم بين يديه، وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم"..
    هذا الوصف لمحمد بن خوارزم شاه يمثل لغزاً كبيراً للقارئ.. فكيف يكون على هذه الصفة النبيلة، ثم تحدث له هذه الهزائم المنكرة؟! وكيف لا يجد جيشاً من كل أطراف مملكته الواسعة يصبر على حرب التتار.. حتى ينتهي هذه النهاية المؤسفة؟!..
    وكنت في حيرة من أمري وأنا أحلل موقفه.. لولا أني وجدت نصاً في مكان آخر في ابن الأثير أيضاً يفسر كثيراً من الألغاز في حياة هذا الرجل.. وفي تفسير هذه الحقبة من حياة الأمة الإسلامية..
    يقول ابن الأثير رحمه الله:
    "وكان "محمد بن خوارزم شاه" قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها"..
    في هذا النص تفسير واضح جلي لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت.. لقد كان "محمد بن خوارزم شاه" جيداً في ذاته وفي إدارته، لكنه قطع كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية.. لم يتعاون معها أبداً، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى.. وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلف أحقاداً كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.. انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتح البلاد، كان يولي زعماء هذه البلاد عليها ويحفظ لهم مكانتهم ويبقى لهم ملكهم فيضمن بذلك ولاءهم وحب الناس له.. فأبقى على حكم البحرين ملكها المندر بن ساوى، وأبقى على حكم عمان ملكَيْها: جيفر وعباد.. بل وأبقى على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم، وهكذا...
    هذه سياسة وحكمة في آنٍ معًا.. هذا مزج جميل بين الحزم وبين الحب.. هذا أسلوب راقٍ في الإدارة..
    أما هنا في قصتنا.. فقد افتقد الزعيم محمد بن خوارزم هذا الجمع الحكيم بين الحب والحزم.. وأصبح حاكماً بقوّته لا بحب الناس له، فلما احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر إليهم.. فلم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية فقط، بل قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية، ومكائد كثيرة، ومؤامرات عديدة.. فلم تتوحد القلوب في هذه البلاد، ومن ثم لم تتوحد الصفوف ولم يحدث النصر.. وما كان للنصر أن يتحقق والأمة على هذا النحو..
    " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص"
    كان هذا هو سر اللغز في حياة قائد عالم فقيه اتسع ملكه وكثرت جيوشه.. ثم مات طريداً شريداً وحيداً في جزيرة نائية في عمق البحر..
    وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه النسائي وأحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه:
    " عليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية" أي يأكل الغنم القاصية..

    ماذا فعل التتار بعد أن هرب منهم "محمد بن خوارزم شاه"؟
    ماذا فعلت الفرقة التي تبلغ عشرين ألف فارس فقط.. وقد توغلت في أعماق الدولة الإسلامية؟

    اجتياح فارس:
    كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في "سمرقند" تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا.. هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار أيضاً الأنهار التي تفصل بين "سمرقند" ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، بالإضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.. إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعاً عن مدده في "سمرقند" بصورة كبيرة.. وأصبح في موقف حرج لا يحسد عليه بالمرة.. وهو ليس بالكبير العدد.. إنما هو عشرون ألفاً فقط.. فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد - وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة - فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال..
    كان هذا هو تحليل الورقة والقلم..
    فماذا حدث على أرض الواقع؟!
    لقد شاهدنا أمراً عجيباً مخزياً مشيناً!!..
    لقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين.. وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم.. ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة..
    روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم, وليقذفن الله في قلوبكم الوهن", فقال قائل: يارسول الله, وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
    لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقاً شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 14 نوفمبر - 18:07