تقييم الموقف في سنة 620 هجرية :ـ
بينما كان جنكيزخان يبسط سطوته على الدولة الخوارزمية استمرت الحملات التترية على منطقة روسيا..
ولي تعليق على أربع حوادث وقعت في هذه السنة، وهي توضح الحال التي كان عليها المسلمون في هذه الفترة، وتفسر كذلك لماذا امتلك التتار هذه البلاد الشاسعة بهذه السرعة الرهيبة, وتضع أيدينا على بعض الأمراض التي تسببت في تلك الكوارث الشنيعة:
الحادثة الأولى:
أن التتار توغلوا في بلاد روسيا وحققوا انتصارات عدة، ولكنهم في نهاية المطاف التقوا بطائفة من الروس تدعي طائفة البلغار (وهي في روسيا وليست في بلغاريا), وحدثت بينهم موقعة عظيمة هُزم فيها التتار للمرة الأولى في هذه المناطق، وقتل منهم خلق كثير، وتوقف الزحف التتري في أرض روسيا، بل وقلت أعدادهم للدرجة التي فقدوا فيها السيطرة على كل المناطق الواقعة في غرب بحر قزوين (روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران).. وكانت هذه فرصة للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب صفوفهم، وتجهيز عدتهم ليقابلوا التتار وهم في حال الاضطراب بعد الهزيمة من البلغار..
كان هذا متوقعاً، ولكنه لم يحدث!!..
أما الذي حدث فهو أن أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة - وتحديداً في منطقة أرمينيا - قد جمع عدته وهجم على قبائل الكرج في جورجيا.. وهذا الأمير كان تحت قيادة الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة (وهو من الأكراد وكان يحكم شمال العراق)..
والحدث عجيب؛ لأنه وإن كان بين الكرج والمسلمين حروب مستمرة إلا أنهم في شبه هدنة غير رسمية الآن، وليس من الحكمة فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود العدو الأكبر لهم وهو التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً كانوا يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون.. فكان المتوقع من المسلمين في ذلك الوقت إما أن يتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيّدوا صفهم في هذا الوقت لكي لا يستنزفوا قوة المسلمين في حروب جانبية، خاصة وأن الكرج يعرفون خبايا هذه المناطق، ولو استمالهم التتار في حربهم ضد المسلمين لكان هذا وبالاً على المسلمين..
لقد ابْتُلي المسلمون في هذه الآونة بما يمكن أن نسميه: (الحَوَل السياسي!!), وافتقدوا الرؤية الصحيحة، والحكمة العسكرية، والهدف الواحد، والاتحاد بين الصفوف، فكانت مثل هذه الأعمال غير المتوازنة وغير المنضبطة وغير المدروسة!!
دارت الحرب بين المسلمين والكرج، وفقد كل منهما عددا كبيراً من القتلى، كما فقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار.. وهكذا لم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أسباب ضعفهم.. ثم سكنت الحرب, وأقيم الصلح من جديد، ولكن بعد فقد طاقة كبيرة جداً من الطرفين..
الحادثة الثانية:
نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد "محمد بن خوارزم" في منطقة شمال إيران، وهو "غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه" وهو أخو "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه" الهارب في الهند..
جمع غياث الدين الرجال، واستغل الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة فتملكها، وسيطر على مدن الري وأصبهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان (في جنوب إيران)، وهي منطقة لم يكن التتار قد وصلوا إليها..
إذن أصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزم شاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران، أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران (وهي إقليم خراسان بكامله) فكانت تحت السيطرة التترية.. وبذلك يصبح "غياث الدين" بمثابة حائط صدٍّ بين التتار والخلافة العباسية..
وكان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المتوقع منه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم.. وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً ضخماً وهو التتار..
كان ذلك المتوقع منه.. إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة.. ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار.. ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد.. وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المحطة الثانية هي الخلافة العباسية..
لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد.. لقد كان يعاني هو الآخر من الحول السياسي.. لقد كان - كما وصفه المؤرخون - رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه؛ في كل أزمة اقتصادية يفرض ضريبة جديدة, ويعتمد في الخروج من الأزمة على قوت الشعب وكدِّه وكدحه..
كما اهتم بالحفلات والملذات والصيد واللعب.. وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلت المواد والمؤن.. وكان رجلاً يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن أبداً على مستوى الأحداث الضخمة التي حدثت في زمانه..
ماذا فعل الخليفة الناصر لدين الله؟.. إنه لم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية.. فأراد أن يقوض أركان السلطان هناك؛ ناسيًا أنهم بينه وبين التتار.. وراسل خال غياث الدين وكان اسمه "إيغان طائسي"، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب يعمل أميراً في جيش غياث الدين، وكان غياث الدين لا يقطع أمراً دون مشورته.. فراسله الخليفة الناصر لدين الله، ورغّبه في الانقلاب على غياث الدين، وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء إيغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن المنطقة.. ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له..
وأعجبت الفكرة إيغان طائسي، وكانت تدور في رأسه من قبل ولكن لم تكن له طاقة، فلما راسله الخليفة ووعده بالمساعدة قويت نفسه على ذلك، فذهب إلى بعض العسكر والقواد فاستمالهم له، ولما قويت شوكته وكثُر أتباعه، أعلن العصيان والانقلاب على غياث الدين، وأخذ من معه، ومضى في البلاد يفسد ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها.. والناس لا تدري من أين تأتي الهلكة؟! أتأتي من جنود التتار أم تأتي من جنود المسلمين؟!.. وانضم إلى إيغان طائسي جمع كبير من أهل الفساد والعنف!..
كل هذا والتتار على بُعد خطوات، والخليفة الناصر لدين الله - في غباء شديد- سعيد بالفتنة الدائرة على مقربة منه!.. ثم قرر إيغان طائسي أن يقاتل ابن أخته غياث الدين في معركة فاصلة!!..
والتقى الفريقان المسلمان، ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين.. وانهزم إيغان طائسي خال غياث الدين, وقُتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقى معه مقبوحين إلى أذربيجان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
روى مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الشيطان قد أيس (فَقَد الأمل) أن يعبده المصلون (وزاد في رواية مسلم: في جزيرة العرب) ولكن في التحريش بينهم"..
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة، فإننا نشاهد الآن نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، وذلك مع الأزمات الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومع ذلك فالقليل من المسلمين الذي يهتم بهذه الصراعات أو حتى يلحظها.. وإلا فكم من المسلمين يتابع الخلافات بين مصر والسودان على حلايب؟ أو بين ليبيا وتشاد على شريط أوزو؟ أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية؟ أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال؟ أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير؟.. أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى؟ أو بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة؟... أو غير هذه الاختلافات هنا وهناك.. وبالطبع كلنا يعلم مدى خسارة الأمة في حرب العراق وإيران، ثم في حرب العراق والكويت.. كل هذه الخلافات والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً.. ويكفي أن تتصفح الجرائد اليومية عشوائياً في أي يوم لتسمع عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجيريا والصومال وغيرها وغيرها.. وكما يقرأ الكثير منا هذه الأخبار بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم، فكذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية والخارجية بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم!!.. وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.. وهذه - والله - كارثة مروعة.. كارثة أن يعيش المسلم لنفسه فقط! كارثة ألا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط! كارثة ألا يتألم لحال مسلم سُفك دمه، أو هُدمت داره، أو جُرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته.. كارثة بكل المقاييس.. بمقاييس الإسلام، وبمقاييس الأخوة، وحتى بمقاييس الإنسانية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
الحادثة الثالثة:
هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في الكامل في التاريخ وقدم لها بعبارة: "حادثة غريبة لم يوجد مثلها!!"..
والحادثة فعلاً غريبة، ومأسوية إلى أبعد درجة..
والحادثة تذكر أن مملكة الكُرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة.. فطلب منها الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة أن تتزوج رجلاً يدير عنها شئون البلاد، ويكون في الصورة أمام الأعداء وفي المفاوضات وغير ذلك.. فأرادت أن تتزوج من بيت مُلك وشرف.. ولكنها لم تر في مملكة الكرج من يصلح لهذا الزواج، وسمع بهذا أحد ملوك المسلمين وهو "مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان" وهو من ملوك السلاجقة، وكان يحكم منطقة الأناضول (تركيا الآن)، وكان له ولد كبير، فأرسل إلى الملكة يطلبها للزواج من ابنه، فرفضت الملكة وقالت: لا يمكن أن يملك أمرنا مسلم..
فماذا فعل الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان؟
لقد قال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها!!..
فوافقوا على ذلك، وبالفعل تنصر الولد، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، فكيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً، فضلاً عن تطبيقها، ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد التنصر؟!! ثم أيأتي ذلك من ملك عظيم يملك الأناضول؟! لو أتى ذلك من ضعيف مستعبد لقلنا: لعله استُكره على ذلك، أما أن يأتي العرض من الملوك، وهم الذين يُطلبون، فهذا ما لا يتخيله عقل!!..
ولا أدري من الذي أطلق على الملك لقب "مغيث الدين"؟ ولا أدري أي إغاثة قدمها للدين؟ ولا أدري أيضاً أي دين يغيثه؟ أهو يغيث الدين الإسلامي أم يغيث النصرانية؟!
"فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"..
ولاستكمال الصورة يجدر بنا أن نذكر مصيره.. لنرى كيف يكون حال من باع دينه بدنياه..
لقد تنصر الأمير المسلم وتزوج الملكة الكرجية، ومرت الأيام، ثم علم الأمير الزوج أن زوجته الملكة تهوى مملوكاً لها، وكان يسمع عنها القبائح الشنيعة ولا يتكلم، فهو وحيد في مملكة واسعة، ثم إنه دخل عليها يوماً فرآها مع مملوكها في فراشه، فأنكر ذلك، وأراد أن يمنعها من استمرار العلاقة، فقالت له الملكة بكل جبروت: "إما أن ترضى بهذا وإلا فلا تبقى"..، فقال: أنا لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، ثم تزوجت غيره!!..
نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه..
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"..
الحادثة الرابعة:
حدث في هذا العام (620 هجرية) أمر قد يعتقد البعض أنه مصادفة، وأن توقيته غريب؛ فالمصائب كانت كثيرة على الأمة في هذه السنين، والحالة الاقتصادية متردية، وكذلك الحالة السياسية والعسكرية والأخلاقية.. وفوق كل المصائب التي ذكرناها فقد هجم الجراد بكميات هائلة على أكثر أقاليم المسلمين، وأهلك الكثير من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام وفارس وغيرها..
أكان هذا على سبيل المصادفة؟!
أبداً والله.. إنه لفي كتاب الله عز وجل!!..
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون"..
هذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل..
إذا ترسخت التقوى في الأمة فتحت عليها البركات من السماء والأرض..
وإذا رفعت التقوى ـ كما رأينا من حال المسلمين في تلك الحقبة من الزمان ـ رأينا الأزمات والشدائد والمصائب..
بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه وشرعه.. قال الله عز وجل عن قوم فرعون:
"فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين"..
وسبحان الله.. كلنا رأى الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ عام أو يزيد.. وأنا أرى أن هذا ليس مصادفة، ولكنه لفت نظر للمسلمين.. وتذكير لهم بالتاريخ.. ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل.. وإلا فرحلة الجراد القادم لن تكون رحلة عابرة.. بل ستكون إقامة واستيطانًا! ونعوذ بالله من غضبه.. ونسأله أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل..
أحداث سنة 621 هجرية:
في هذه السنة حاول غياث الدين أن يثبت ملكه في منطقة فارس (جنوب وغرب إيران) ولكن حدثت فتنة بينه وبين أحد الأمراء في هذه المنطقة يدعى "سعد الدين بن دكلا"، ودار بينهما قتال طويل استغرق هذا العام حتى رضي الطرفان أن تقسم عليهما البلاد! ولا حول ولا قوة إلا بالله!..
وبينما كان غياث الدين مشغولاً في جنوب إيران بالقتال مع سعد الدين هجم التتار بفرقة تترية صغيرة لا تتجاوز ثلاثة آلاف فارس على مدينة "الري"، ووضعوا فيهم السيف، وقتلوا كيف شاءوا، ونهبوا البلد وخربوه، ثم ساروا إلى مدينة "ساوة" ففعلوا بها كذلك، ثم اتجهوا إلى مدينة "قم" (جنوب طهران الآن) وإلى مدينة "قاشان" فدمروا المدينتين، وقتلوا أهلهما وخربوا ديارهما، ثم قصدوا "همذان" فأبادوا أهلها قتلاً وأسراً ونهباً، وخربوا البلد كما خربوا غيره، ثم عادوا بعد ذلك سالمين إلى جنكيزخان!!..
ثلاثة آلاف تتري فقط فعلوا ما ذكرناه منذ قليل!!..
لقد كثر الله عز وجل التتار في عيون المسلمين، وقلل المسلمين في عيون التتار.. وعظمت هيبة التتار وضاعت هيبة المسلمين..
لماذا؟! لأن المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم، وما عادوا يدركون مَن العدو ومَن الصّديق، وبينما كان ينبغي للأزمات أن تجمع الصف المسلم إذا بها تفرقه، وما ذلك إلا لقلة الإيمان في القلوب، ولعظم الدنيا في العيون، ولسوء التربية أو انعدامها في فترات طويلة متراكمة..
وكنتيجة طبيعية جداً لهذه الأدواء الأخلاقية والأمراض القلبية حدث ما ذكره ابن الأثير في معرض كلامه عن أحداث عام 621 هجرية.. قال ابن الأثير:
"وفي هذه السنة قلت الأمطار في البلاد، ثم إنها كانت (أي الأمطار) تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، وكان (أي الجراد) كثيراً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر وغيرها، وقلت الأقوات"..
ما حدث في هذه الفترة من مصائب عن طريق الجراد والسنين ونقص الثمرات هو أمر طبيعي جداً، وهو أمر موافق للسنن الإلهية.. وليس من قبيل المصادفة..
وإذا مر على المسلمين زمان شعروا فيه أن الأسعار قد ارتفعت، وأن الغلات قد قلت، وأن الاقتصاد قد تأثر، وأن الحياة قد صعبت، فليراجعوا أنفسهم، وليقفوا مع أنفسهم وقفة للمحاسبة، وليعرضوا أنفسهم على كتاب الله عز وجل..
وحتماً - إن كانوا صادقين - سيجدون المرض، وسيعرفون العلاج..
"ما فرطنا في الكتاب من شيء"..
أحداث سنة 622 هجرية :ـ
في هاتين السنتين خفت القبضة التترية على غرب الدولة الخوارزمية (غرب وشمال إيران) واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتموا بتوطيد ملكهم وتثبيت أقدامهم في شرق الدولة الخوارزمية في مناطق نهري سيحون وجيحون، وفي شمال أفغانستان وشرق إيران..
ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين، إذ ظهر على مسرح الأحداث فجأة الأمير "جلال الدين بن محمد بن خوارزم"، والذي كان قد فرّ قبل ذلك إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة 617 هجرية)، وذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك الهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، وتم ذلك في سنة621 هجرية كما أشرنا من قبل..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم للبحث عن الملك الضائع، ولكنه للأسف لم يدقق النظرة، ولم يشخص المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ولم يدرك أنه الفرقة والتشتت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أمة الإسلام..
لم يدرك جلال الدين هذه الأمور، ومن ثم فإنه بدلاً من أن يبذل مجهوداً لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خوارزم وهو يجهز نفسه ليكون طرفاً جديداً في الصراع الإسلامي - الإسلامي!!..
ماذا فعل جلال الدين؟!
لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى "سعد الدين بن دكلا" وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!!!) ولا عجب؛ فقد كان جل الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!..
سبحان الله!!!..
أيأتي بالتتار وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين ليحاربوا جلال الدين؟! حتى لو كان الظلم كل الظلم في جانب جلال الدين، والحق كل الحق في جانب الخليفة.. أيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟!
ماذا أردت يا خليفة المسلمين؟!
أردت أن تطيل فترة ملكك أعواماً قليلة؟!
أردت أن تموت عبداً للتتار بدلاً من أن تكون عبداً لجلال الدين؟!
ليس هذا - بالطبع - دفاعاً عن جلال الدين.. بل نلومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وما أشبهه بصدام حسين!! فكما ترك جلال الدين نيران التتار تبتلع ديار المسلمين، وانصرف لحرب الدولة العباسية.. كذلك فعل صدّام يوم كانت أطماع الغرب والشرق تحدق بالأمة في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكشمير... فأعرض عن كل ذلك وغزا الكويت!!!
وبرغم كل هذا التدني في الأخلاق وفي السياسة.. إلا أن الحل لا يكون أبدًا أن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة لنزرعها داخل بلاد المسلمين تحل لهم مشاكلهم، وتعالج لهم أمراضهم..
لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار... كان كمن بغته لص صغير في بيته، فأسرع بالاستنجاد بأكبر لصوص المنطقة، فجاء اللص الكبير وأزاح اللص الصغير، ثم سرق هو البيت، بل ولم يكتف بذلك بل سرق البيوت المجاورة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ومع استعانة الخليفة بالتتار، إلا أن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم في المناطق الشاسعة التي احتلوها, فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622 هجرية.. واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية (انظر الخريطة رقم 7).
وكانت حروبه هو والخوارزمية الذين معه حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية..! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار..
ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحاً مؤقتاً، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر..
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله.. وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم وتحدثنا عنها من قبل.. ولم تأت إلا بالويلات على الأمة.. وليت المسلمون يفقهون..
وفي آخر سنة 622 هجرية توفى الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عاماً متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة.. وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين..
أحداث سنتي 623 و624 هجرية :ـ
تولى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تماماً؛ فقد كان رجلاً صالحاً تقياً أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً في هذا الزمان الفاسد..
ولقد قال فيه ابن الأثير- وكان معاصراً له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته!!".. إلى هذا الحد كان المجتمع فاسدًا؟؟!
وسبحان الله.. لقد صدق حدس ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعاً! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, وتحسن الاقتصاد في العراق.. وهي إشارات لا تخفى على عاقل.. والحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير... فهل من مدّكر؟!!
وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله, والذي ظل في كرسي الحكم حتى (سنة 640 هـ) أي حوالي: سبعة عشر عامًا
وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمر في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار, ولكن مع المسلمين!! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقاً كثيراً، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات!!!..
والحق أني لا أجد تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق، والتردي في الفهم، والتردي في السياسة، والتردي في الحكمة... ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ثم حدث أمر هام جداً ومحوريٌّ في سنة 624 هجرية وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين!) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء..
وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين.. وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له..
الفترة من 624 هجرية إلى 627 هجرية :ـ
هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيزخان..
أين كان المسلمون في هذه الفترة؟!
لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لم يستغل المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم لبعض، وبظلم بعضهم لبعض...
فقد تجددت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه..
ليس هذا فقط, بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين؛ فالحروب بين أمراء المسلمين في الشام ومصر كانت مستمرة، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظمهم من نفس العائلة الأيوبية، بل وأحياناً من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مريع في سنة 626 هجرية, وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحاً!!!.. أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين!!..
ونعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر..
ثم إن جلال الدين استمر في حروبه البشعة في المنطقة، وكان مما فعل أن حاصر مدينة "خلاط" مرة ثانية بعد أن تمردت عليه، وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران!!.. ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترق الأولاد ثم باع الجميع!!.. وكما يقول ابن الأثير: "إن هذا ما لم يسمع بمثله، لا جرم أن الله عز وجل لن يمهله!!"..
وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، ندرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها.. ولا جرم أن هذه سنة مطردة في الكون.. فإنه من كانت هذه حاله فلابد أن يُسلط عليه طواغيت الأرض؛ فالله عز وجل لا ينصر إلا من ينصره..
"إن ينصركم الله فلا غالب لكم, وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟!"
بينما كان جنكيزخان يبسط سطوته على الدولة الخوارزمية استمرت الحملات التترية على منطقة روسيا..
ولي تعليق على أربع حوادث وقعت في هذه السنة، وهي توضح الحال التي كان عليها المسلمون في هذه الفترة، وتفسر كذلك لماذا امتلك التتار هذه البلاد الشاسعة بهذه السرعة الرهيبة, وتضع أيدينا على بعض الأمراض التي تسببت في تلك الكوارث الشنيعة:
الحادثة الأولى:
أن التتار توغلوا في بلاد روسيا وحققوا انتصارات عدة، ولكنهم في نهاية المطاف التقوا بطائفة من الروس تدعي طائفة البلغار (وهي في روسيا وليست في بلغاريا), وحدثت بينهم موقعة عظيمة هُزم فيها التتار للمرة الأولى في هذه المناطق، وقتل منهم خلق كثير، وتوقف الزحف التتري في أرض روسيا، بل وقلت أعدادهم للدرجة التي فقدوا فيها السيطرة على كل المناطق الواقعة في غرب بحر قزوين (روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران).. وكانت هذه فرصة للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب صفوفهم، وتجهيز عدتهم ليقابلوا التتار وهم في حال الاضطراب بعد الهزيمة من البلغار..
كان هذا متوقعاً، ولكنه لم يحدث!!..
أما الذي حدث فهو أن أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة - وتحديداً في منطقة أرمينيا - قد جمع عدته وهجم على قبائل الكرج في جورجيا.. وهذا الأمير كان تحت قيادة الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة (وهو من الأكراد وكان يحكم شمال العراق)..
والحدث عجيب؛ لأنه وإن كان بين الكرج والمسلمين حروب مستمرة إلا أنهم في شبه هدنة غير رسمية الآن، وليس من الحكمة فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود العدو الأكبر لهم وهو التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً كانوا يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون.. فكان المتوقع من المسلمين في ذلك الوقت إما أن يتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيّدوا صفهم في هذا الوقت لكي لا يستنزفوا قوة المسلمين في حروب جانبية، خاصة وأن الكرج يعرفون خبايا هذه المناطق، ولو استمالهم التتار في حربهم ضد المسلمين لكان هذا وبالاً على المسلمين..
لقد ابْتُلي المسلمون في هذه الآونة بما يمكن أن نسميه: (الحَوَل السياسي!!), وافتقدوا الرؤية الصحيحة، والحكمة العسكرية، والهدف الواحد، والاتحاد بين الصفوف، فكانت مثل هذه الأعمال غير المتوازنة وغير المنضبطة وغير المدروسة!!
دارت الحرب بين المسلمين والكرج، وفقد كل منهما عددا كبيراً من القتلى، كما فقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار.. وهكذا لم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أسباب ضعفهم.. ثم سكنت الحرب, وأقيم الصلح من جديد، ولكن بعد فقد طاقة كبيرة جداً من الطرفين..
الحادثة الثانية:
نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد "محمد بن خوارزم" في منطقة شمال إيران، وهو "غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه" وهو أخو "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه" الهارب في الهند..
جمع غياث الدين الرجال، واستغل الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة فتملكها، وسيطر على مدن الري وأصبهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان (في جنوب إيران)، وهي منطقة لم يكن التتار قد وصلوا إليها..
إذن أصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزم شاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران، أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران (وهي إقليم خراسان بكامله) فكانت تحت السيطرة التترية.. وبذلك يصبح "غياث الدين" بمثابة حائط صدٍّ بين التتار والخلافة العباسية..
وكان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المتوقع منه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم.. وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً ضخماً وهو التتار..
كان ذلك المتوقع منه.. إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة.. ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار.. ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد.. وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المحطة الثانية هي الخلافة العباسية..
لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد.. لقد كان يعاني هو الآخر من الحول السياسي.. لقد كان - كما وصفه المؤرخون - رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه؛ في كل أزمة اقتصادية يفرض ضريبة جديدة, ويعتمد في الخروج من الأزمة على قوت الشعب وكدِّه وكدحه..
كما اهتم بالحفلات والملذات والصيد واللعب.. وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلت المواد والمؤن.. وكان رجلاً يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن أبداً على مستوى الأحداث الضخمة التي حدثت في زمانه..
ماذا فعل الخليفة الناصر لدين الله؟.. إنه لم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية.. فأراد أن يقوض أركان السلطان هناك؛ ناسيًا أنهم بينه وبين التتار.. وراسل خال غياث الدين وكان اسمه "إيغان طائسي"، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب يعمل أميراً في جيش غياث الدين، وكان غياث الدين لا يقطع أمراً دون مشورته.. فراسله الخليفة الناصر لدين الله، ورغّبه في الانقلاب على غياث الدين، وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء إيغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن المنطقة.. ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له..
وأعجبت الفكرة إيغان طائسي، وكانت تدور في رأسه من قبل ولكن لم تكن له طاقة، فلما راسله الخليفة ووعده بالمساعدة قويت نفسه على ذلك، فذهب إلى بعض العسكر والقواد فاستمالهم له، ولما قويت شوكته وكثُر أتباعه، أعلن العصيان والانقلاب على غياث الدين، وأخذ من معه، ومضى في البلاد يفسد ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها.. والناس لا تدري من أين تأتي الهلكة؟! أتأتي من جنود التتار أم تأتي من جنود المسلمين؟!.. وانضم إلى إيغان طائسي جمع كبير من أهل الفساد والعنف!..
كل هذا والتتار على بُعد خطوات، والخليفة الناصر لدين الله - في غباء شديد- سعيد بالفتنة الدائرة على مقربة منه!.. ثم قرر إيغان طائسي أن يقاتل ابن أخته غياث الدين في معركة فاصلة!!..
والتقى الفريقان المسلمان، ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين.. وانهزم إيغان طائسي خال غياث الدين, وقُتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقى معه مقبوحين إلى أذربيجان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
روى مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الشيطان قد أيس (فَقَد الأمل) أن يعبده المصلون (وزاد في رواية مسلم: في جزيرة العرب) ولكن في التحريش بينهم"..
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة، فإننا نشاهد الآن نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، وذلك مع الأزمات الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومع ذلك فالقليل من المسلمين الذي يهتم بهذه الصراعات أو حتى يلحظها.. وإلا فكم من المسلمين يتابع الخلافات بين مصر والسودان على حلايب؟ أو بين ليبيا وتشاد على شريط أوزو؟ أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية؟ أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال؟ أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير؟.. أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى؟ أو بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة؟... أو غير هذه الاختلافات هنا وهناك.. وبالطبع كلنا يعلم مدى خسارة الأمة في حرب العراق وإيران، ثم في حرب العراق والكويت.. كل هذه الخلافات والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً.. ويكفي أن تتصفح الجرائد اليومية عشوائياً في أي يوم لتسمع عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجيريا والصومال وغيرها وغيرها.. وكما يقرأ الكثير منا هذه الأخبار بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم، فكذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية والخارجية بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم!!.. وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.. وهذه - والله - كارثة مروعة.. كارثة أن يعيش المسلم لنفسه فقط! كارثة ألا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط! كارثة ألا يتألم لحال مسلم سُفك دمه، أو هُدمت داره، أو جُرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته.. كارثة بكل المقاييس.. بمقاييس الإسلام، وبمقاييس الأخوة، وحتى بمقاييس الإنسانية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
الحادثة الثالثة:
هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في الكامل في التاريخ وقدم لها بعبارة: "حادثة غريبة لم يوجد مثلها!!"..
والحادثة فعلاً غريبة، ومأسوية إلى أبعد درجة..
والحادثة تذكر أن مملكة الكُرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة.. فطلب منها الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة أن تتزوج رجلاً يدير عنها شئون البلاد، ويكون في الصورة أمام الأعداء وفي المفاوضات وغير ذلك.. فأرادت أن تتزوج من بيت مُلك وشرف.. ولكنها لم تر في مملكة الكرج من يصلح لهذا الزواج، وسمع بهذا أحد ملوك المسلمين وهو "مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان" وهو من ملوك السلاجقة، وكان يحكم منطقة الأناضول (تركيا الآن)، وكان له ولد كبير، فأرسل إلى الملكة يطلبها للزواج من ابنه، فرفضت الملكة وقالت: لا يمكن أن يملك أمرنا مسلم..
فماذا فعل الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان؟
لقد قال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها!!..
فوافقوا على ذلك، وبالفعل تنصر الولد، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، فكيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً، فضلاً عن تطبيقها، ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد التنصر؟!! ثم أيأتي ذلك من ملك عظيم يملك الأناضول؟! لو أتى ذلك من ضعيف مستعبد لقلنا: لعله استُكره على ذلك، أما أن يأتي العرض من الملوك، وهم الذين يُطلبون، فهذا ما لا يتخيله عقل!!..
ولا أدري من الذي أطلق على الملك لقب "مغيث الدين"؟ ولا أدري أي إغاثة قدمها للدين؟ ولا أدري أيضاً أي دين يغيثه؟ أهو يغيث الدين الإسلامي أم يغيث النصرانية؟!
"فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"..
ولاستكمال الصورة يجدر بنا أن نذكر مصيره.. لنرى كيف يكون حال من باع دينه بدنياه..
لقد تنصر الأمير المسلم وتزوج الملكة الكرجية، ومرت الأيام، ثم علم الأمير الزوج أن زوجته الملكة تهوى مملوكاً لها، وكان يسمع عنها القبائح الشنيعة ولا يتكلم، فهو وحيد في مملكة واسعة، ثم إنه دخل عليها يوماً فرآها مع مملوكها في فراشه، فأنكر ذلك، وأراد أن يمنعها من استمرار العلاقة، فقالت له الملكة بكل جبروت: "إما أن ترضى بهذا وإلا فلا تبقى"..، فقال: أنا لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، ثم تزوجت غيره!!..
نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه..
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"..
الحادثة الرابعة:
حدث في هذا العام (620 هجرية) أمر قد يعتقد البعض أنه مصادفة، وأن توقيته غريب؛ فالمصائب كانت كثيرة على الأمة في هذه السنين، والحالة الاقتصادية متردية، وكذلك الحالة السياسية والعسكرية والأخلاقية.. وفوق كل المصائب التي ذكرناها فقد هجم الجراد بكميات هائلة على أكثر أقاليم المسلمين، وأهلك الكثير من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام وفارس وغيرها..
أكان هذا على سبيل المصادفة؟!
أبداً والله.. إنه لفي كتاب الله عز وجل!!..
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون"..
هذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل..
إذا ترسخت التقوى في الأمة فتحت عليها البركات من السماء والأرض..
وإذا رفعت التقوى ـ كما رأينا من حال المسلمين في تلك الحقبة من الزمان ـ رأينا الأزمات والشدائد والمصائب..
بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه وشرعه.. قال الله عز وجل عن قوم فرعون:
"فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين"..
وسبحان الله.. كلنا رأى الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ عام أو يزيد.. وأنا أرى أن هذا ليس مصادفة، ولكنه لفت نظر للمسلمين.. وتذكير لهم بالتاريخ.. ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل.. وإلا فرحلة الجراد القادم لن تكون رحلة عابرة.. بل ستكون إقامة واستيطانًا! ونعوذ بالله من غضبه.. ونسأله أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل..
أحداث سنة 621 هجرية:
في هذه السنة حاول غياث الدين أن يثبت ملكه في منطقة فارس (جنوب وغرب إيران) ولكن حدثت فتنة بينه وبين أحد الأمراء في هذه المنطقة يدعى "سعد الدين بن دكلا"، ودار بينهما قتال طويل استغرق هذا العام حتى رضي الطرفان أن تقسم عليهما البلاد! ولا حول ولا قوة إلا بالله!..
وبينما كان غياث الدين مشغولاً في جنوب إيران بالقتال مع سعد الدين هجم التتار بفرقة تترية صغيرة لا تتجاوز ثلاثة آلاف فارس على مدينة "الري"، ووضعوا فيهم السيف، وقتلوا كيف شاءوا، ونهبوا البلد وخربوه، ثم ساروا إلى مدينة "ساوة" ففعلوا بها كذلك، ثم اتجهوا إلى مدينة "قم" (جنوب طهران الآن) وإلى مدينة "قاشان" فدمروا المدينتين، وقتلوا أهلهما وخربوا ديارهما، ثم قصدوا "همذان" فأبادوا أهلها قتلاً وأسراً ونهباً، وخربوا البلد كما خربوا غيره، ثم عادوا بعد ذلك سالمين إلى جنكيزخان!!..
ثلاثة آلاف تتري فقط فعلوا ما ذكرناه منذ قليل!!..
لقد كثر الله عز وجل التتار في عيون المسلمين، وقلل المسلمين في عيون التتار.. وعظمت هيبة التتار وضاعت هيبة المسلمين..
لماذا؟! لأن المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم، وما عادوا يدركون مَن العدو ومَن الصّديق، وبينما كان ينبغي للأزمات أن تجمع الصف المسلم إذا بها تفرقه، وما ذلك إلا لقلة الإيمان في القلوب، ولعظم الدنيا في العيون، ولسوء التربية أو انعدامها في فترات طويلة متراكمة..
وكنتيجة طبيعية جداً لهذه الأدواء الأخلاقية والأمراض القلبية حدث ما ذكره ابن الأثير في معرض كلامه عن أحداث عام 621 هجرية.. قال ابن الأثير:
"وفي هذه السنة قلت الأمطار في البلاد، ثم إنها كانت (أي الأمطار) تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، وكان (أي الجراد) كثيراً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر وغيرها، وقلت الأقوات"..
ما حدث في هذه الفترة من مصائب عن طريق الجراد والسنين ونقص الثمرات هو أمر طبيعي جداً، وهو أمر موافق للسنن الإلهية.. وليس من قبيل المصادفة..
وإذا مر على المسلمين زمان شعروا فيه أن الأسعار قد ارتفعت، وأن الغلات قد قلت، وأن الاقتصاد قد تأثر، وأن الحياة قد صعبت، فليراجعوا أنفسهم، وليقفوا مع أنفسهم وقفة للمحاسبة، وليعرضوا أنفسهم على كتاب الله عز وجل..
وحتماً - إن كانوا صادقين - سيجدون المرض، وسيعرفون العلاج..
"ما فرطنا في الكتاب من شيء"..
أحداث سنة 622 هجرية :ـ
في هاتين السنتين خفت القبضة التترية على غرب الدولة الخوارزمية (غرب وشمال إيران) واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتموا بتوطيد ملكهم وتثبيت أقدامهم في شرق الدولة الخوارزمية في مناطق نهري سيحون وجيحون، وفي شمال أفغانستان وشرق إيران..
ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين، إذ ظهر على مسرح الأحداث فجأة الأمير "جلال الدين بن محمد بن خوارزم"، والذي كان قد فرّ قبل ذلك إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة 617 هجرية)، وذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك الهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، وتم ذلك في سنة621 هجرية كما أشرنا من قبل..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم للبحث عن الملك الضائع، ولكنه للأسف لم يدقق النظرة، ولم يشخص المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ولم يدرك أنه الفرقة والتشتت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أمة الإسلام..
لم يدرك جلال الدين هذه الأمور، ومن ثم فإنه بدلاً من أن يبذل مجهوداً لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خوارزم وهو يجهز نفسه ليكون طرفاً جديداً في الصراع الإسلامي - الإسلامي!!..
ماذا فعل جلال الدين؟!
لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى "سعد الدين بن دكلا" وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!!!) ولا عجب؛ فقد كان جل الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!..
سبحان الله!!!..
أيأتي بالتتار وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين ليحاربوا جلال الدين؟! حتى لو كان الظلم كل الظلم في جانب جلال الدين، والحق كل الحق في جانب الخليفة.. أيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟!
ماذا أردت يا خليفة المسلمين؟!
أردت أن تطيل فترة ملكك أعواماً قليلة؟!
أردت أن تموت عبداً للتتار بدلاً من أن تكون عبداً لجلال الدين؟!
ليس هذا - بالطبع - دفاعاً عن جلال الدين.. بل نلومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وما أشبهه بصدام حسين!! فكما ترك جلال الدين نيران التتار تبتلع ديار المسلمين، وانصرف لحرب الدولة العباسية.. كذلك فعل صدّام يوم كانت أطماع الغرب والشرق تحدق بالأمة في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكشمير... فأعرض عن كل ذلك وغزا الكويت!!!
وبرغم كل هذا التدني في الأخلاق وفي السياسة.. إلا أن الحل لا يكون أبدًا أن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة لنزرعها داخل بلاد المسلمين تحل لهم مشاكلهم، وتعالج لهم أمراضهم..
لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار... كان كمن بغته لص صغير في بيته، فأسرع بالاستنجاد بأكبر لصوص المنطقة، فجاء اللص الكبير وأزاح اللص الصغير، ثم سرق هو البيت، بل ولم يكتف بذلك بل سرق البيوت المجاورة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ومع استعانة الخليفة بالتتار، إلا أن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم في المناطق الشاسعة التي احتلوها, فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622 هجرية.. واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية (انظر الخريطة رقم 7).
وكانت حروبه هو والخوارزمية الذين معه حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية..! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار..
ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحاً مؤقتاً، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر..
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله.. وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم وتحدثنا عنها من قبل.. ولم تأت إلا بالويلات على الأمة.. وليت المسلمون يفقهون..
وفي آخر سنة 622 هجرية توفى الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عاماً متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة.. وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين..
أحداث سنتي 623 و624 هجرية :ـ
تولى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تماماً؛ فقد كان رجلاً صالحاً تقياً أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً في هذا الزمان الفاسد..
ولقد قال فيه ابن الأثير- وكان معاصراً له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته!!".. إلى هذا الحد كان المجتمع فاسدًا؟؟!
وسبحان الله.. لقد صدق حدس ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعاً! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, وتحسن الاقتصاد في العراق.. وهي إشارات لا تخفى على عاقل.. والحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير... فهل من مدّكر؟!!
وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله, والذي ظل في كرسي الحكم حتى (سنة 640 هـ) أي حوالي: سبعة عشر عامًا
وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمر في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار, ولكن مع المسلمين!! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقاً كثيراً، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات!!!..
والحق أني لا أجد تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق، والتردي في الفهم، والتردي في السياسة، والتردي في الحكمة... ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ثم حدث أمر هام جداً ومحوريٌّ في سنة 624 هجرية وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين!) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء..
وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين.. وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له..
الفترة من 624 هجرية إلى 627 هجرية :ـ
هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيزخان..
أين كان المسلمون في هذه الفترة؟!
لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لم يستغل المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم لبعض، وبظلم بعضهم لبعض...
فقد تجددت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه..
ليس هذا فقط, بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين؛ فالحروب بين أمراء المسلمين في الشام ومصر كانت مستمرة، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظمهم من نفس العائلة الأيوبية، بل وأحياناً من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مريع في سنة 626 هجرية, وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحاً!!!.. أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين!!..
ونعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر..
ثم إن جلال الدين استمر في حروبه البشعة في المنطقة، وكان مما فعل أن حاصر مدينة "خلاط" مرة ثانية بعد أن تمردت عليه، وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران!!.. ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترق الأولاد ثم باع الجميع!!.. وكما يقول ابن الأثير: "إن هذا ما لم يسمع بمثله، لا جرم أن الله عز وجل لن يمهله!!"..
وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، ندرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها.. ولا جرم أن هذه سنة مطردة في الكون.. فإنه من كانت هذه حاله فلابد أن يُسلط عليه طواغيت الأرض؛ فالله عز وجل لا ينصر إلا من ينصره..
"إن ينصركم الله فلا غالب لكم, وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟!"