تمهيد:
لقد عرف علم شواذ القراءات وتحددت معالمه في زمن ابن مجاهد المتوفى (324)هـ وإن كان موجودًا قبله، فقد ألف كتابه السبعة في القراءات المتواترة، وكذا كتابًا آخر سماه الشواذ، وبه تنوعت القراءات القرآنية إلى أكثر من نوع:
أعظم أنواعها القراءات المتواترة، والتي يقابلها القراءات الشاذة.
وبينهما أنواع منها: كالصحيح، والمستفيض.
إن ما نقل بطريق التواتر يفيد القطع لأن نقتله جمع عن جمع تحيل العادة اتفاقهم على الكذب.
أما ما نقل بطريق الآحاد وهو ما يسمى بالشاذة فهو محل اختلاف بين العلماء وسيكون مجال البحث بمشيئة الله بيان ما يخص أحكام القراءات الشاذة وآثارها على العلوم الشرعية.
مفهوم القراءات الشاذة
القراءات في اللغة والاصطلاح:
القراءات جمع مفرده قراءة، وأصل مادتها تعود إلى (ق ر ى) وهو أصل صحيح يدل على جمع واجتماع... ومنه القرآن كأنه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك. [1، ج5 ص ص78-79].
فالقراءة مأخوذة من قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا فهي مصدر من قولك قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض [2، ج1 ص101].
وفي اللسان جاء معنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعا [3، ج1 228].
وفي الاصطلاح:
ذكر علماء القراءات تعريفات متعددة لها بعضها قريب من المقصود والبعض الآخر يبعد قليلاً وهناك تعريفات متداخلة لكن أبرز هذه التعريفات هي:
1- تعريف ابن الجزري حيث قال (القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة) [4، ص3].
2- تعريف القسطلاني إنه (علم يعرف به اتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والإعراب والحذف والإثبات والتحريك والإسكان والفصل والاتصال) [5، ج1 ص170].
3- وأخيرًا تعريف عبدالفتاح القاضي قال عنها (علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية وطريق أدائها اتفاقًا واختلافًا مع عزو كل وجه لناقله) [6، ص7].
الشذوذ في اللغة والاصطلاح:
مشتق من مادة (ش ذ ذ)، وهو مصدر من شذ يشذ شذوذًا، تقول شذ الرجل إذا انفرد عن القوم واعتزل جماعتهم [7، ص332].
فالشذوذ يدل على الانفراد والندرة [8، ج1 ص96]، والتفرق والخروج على القاعدة والأصول فكل شئ منفرد فهو شاذ [3، ج5 ص28-29].
والشاذ في الاصطلاح يختلف مفهومه حسب كل علم، فهو عند النحاة غيره عند علماء السنة، ويختلف عنهما لدى علماء القراءات.
فالقراءات الشاذة هي التي تقابل القراءات المتواترة.
وعرفت بأنها (من فقدت ركنًا أو أكثر من أركان القراءة المقبولة [9، ج1 ص129].
كما عرفت بأنها كل قراءة بقيت وراء مقياس ابن الجزري الذي قال (... ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم [10، ج1 ص9].
فالقراءة الشاذة هي: التي لم يصح سندها وخالفت الرسم ولا وجه لها في العربية [9، ج1 ص242].
كما عرفت بأنها كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ولم يتواتر سندها [10، ج1 ص9].
إن التعريف الذي تطمئن إليه النفس في تعريف القراءة الشاذة هو: القراءة التي صح سندها ووافقت اللغة العربية ولو بوجه وخالفت المصحف.
وهذا التعريف هو الذي اعتمده ابن تيمية [12، ج13 ص393-394] وابن الجزري [4، ص16-17] كما اعتمده قبلهما مكي القيسي [13، ص10، 103] وأبو شامة المقدسي [15، ص145،171].
وبهذا يعلم أن القراءة الشاذة عند الجمهور هي ما لم يثبت بطريق التواتر [11، ص10].
ولعل السبب في تسميتها بالقراءة الشاذة يعود إلى أنها شذت عن الطريق الذي نقل به القرآن حيث نقل بجميع حروفه نقلاً متواترًا.
قال ابن الجزري: شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا [4، ص16-17].
نشأة القراءات الشاذة
كانت القراءات في العهد النبوي وعهد الشيخين نبعًا يلبي حاجة ماسة عند القبائل ويقع منهم مواقع حسنة ويوقفهم على أساليب القرآن الكريم، ولكن تنوع هذه القراءات خاصة في عهد الخليفة الثالث أخذ يسير في منحى يناقض مسوغ وجودها الذي هو التيسير على الأمة.
وأصبح يثير من المخاوف على ضياع شئ من القرآن بقراءاته المتعددة وكذا الخوف على وحدة المسلمين ما استنهض الخليفة عثمان لدرء هذه الفتنة وذلك بتوحيد المصاحف على القراءات المجمع عليها [15، ص31].
ومن هنا بدأ يظهر الشذوذ على كل قراءة لم تحظ بالإجماع فقد ذكرت الروايات أن عثمان أبعد عن قرآن المسلمين عددًا من الروايات التي لم يستفض نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام وإعلان بطلان العمل بها وإرساله لكل مصر قارئًا تتفق قراءته والنسخة التي أرسلت إليه، حتى أصبح من ذلك الحين رسم المصحف العثماني شرطًا أساسيًا من شروط صحة القراءة لا توافقه اعتبرت من الشاذ.
وبقى خارج حدود الرسم عدد من الحروف كما جاءت مصاحف كل من أبي وابن مسعود وغيرهما، وقد ذكر المتتبعون لشأن القراءات أن معظم الحروف التي اشتملت عليها هذه المصاحف لم تشهد العرضة الأخيرة التي عرضها الرسول عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام [16، ص20].
وإن كانت بعض هذه القراءات عبارة عن تفسير لألفاظ أو أحكام القرآن التي جعلها بعض الصحابة بجوار الآية مثل قراءة سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت) (من أم) [النساء: 12] فإنها تبين المراد بالأخوة هنا هو الأخوة للأم [10، ج1 ص29].
مما يفيد أن قرآنيتها ينسب إلى الآحاد [15، ص25] وبالتالي شذت عن الإجماع وشذت عن التواتر فليست من الأحرف السبعة، ولذلك كان يبدي الإمام الطبري حذره الشديد في قبول مثل هذه القراءة وأمثالها كما يتضح ذلك من قوله (لا نعلم ذلك صحيحًا من الوجه الذي تصح به الأخبار) [17، ج2 ص267].
ومع شذوذ هذه القراءات وخروجها عن الإجماع في الوقت المبكر إلا أن القراءة بها لم تتوقف عند عدد من القراء بل تمسكوا بها مقتنعين بأن ما صح عن النبي لا يمكن تجاهله، كما أشار إلى ذلك مكي القيسي بقوله (ولذلك تمادى بعض الناس على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله [13، ص31].
وهكذا استمر الوضع ثلاثة قرون متتالية [15، ص38] إلى أن جاءت عوامل قوية أدت بها إلى الفصل التام عن المتواتر وتحديد معالمها وإطلاق الشذوذ عليها فقد كره كثير من علماء المسلمين حَمَلَتها وأطلقوا عليهم عبارات منفرة كقول ابن أبي عبلة (من حمل شاذ العلماء حمل شرًا كبيرًا) [18، ج1 ص19]، وتعرض بعضهم للضرب من قبل ولاة الأمر كما حصل لابن شنبوذ، إضافة لموتهم واحدًا تلو الآخر. وكان أول من أطلق عليها مصطلح الشذوذ هو الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره في مطلع القرن الرابع عندما تعرض لقراءة ابن مسعود في سورة إبراهيم (وإن كاد مكرهم) [آية 46] بالدال بدلاً من النون (بأنها شاذة لا تجوز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين) [17، ج13 ص247].
وهكذا نشأت القراءات الشاذة وانحسرت دائرتها مع مرور الزمن وتحددت معالمها فأصبحت عِلما من العلوم الّتي لها أهميتها وأثرها الواضح في إثراء اللغة العربية والأحكام الشرعية، وكذلك إثراء علم التفسير.
مصدر القراءة الشاذة
لا شك أن مصدر القراءات القرآنية هو التلقي والسماع عن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقرر ذلك بالأدلة القاطعة التي منها قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً" [الإسراء: 106] وقوله "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" [القيامة: 16-18].
كما يتضح من حديث عمر وهشام وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام لكل منهم بقوله (هكذا أنزلت) ما يؤكد أن القراءات مبنية على التلقي والرواية لا على الرأي والدراية ولا يمكن أن تثبت القراءات إلا بالتوقيف والتلقين والتلقي والأخذ والمشافهة والنقل والسماع [19، ج1 ص96].
وبهذا يعلم أن القراءات منزلة من عند الله تعالى وموحى بها إلى رسوله عليه الصلاة والسلام كما قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه"[1]، [وانظر 20، رقم 4992].
فالقراءات القرآنية المتواترة هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم وبالتالي مصدرها هو الوحي، وبالتالي القراءات سنة متبعة يأخذها المتأخر عن المتقدم عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فما مصدر القراءات الشاذة؟ وهل هي من الأحرف السبعة؟ لم يقل بهذا أحد فيما وقفت عليه من المراجع، فلم يقل أحد أنها من الأحرف السبعة كما لم ينف أحد وجود شئ فيها من ذلك بل كان هناك توقف في هذا الشأن وسبب التوقف لأنّ بعض القراءات الشاذة قد تكون متواترة وشذوذها آت من جهة غير السند، لكن لا يمكن القطع بأن كثيرًا من الصحابة قرءوا القرآن بما يخالف رسم المصحف الذي جمع عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه الناس وأمرهم به وذلك لأن الغرض من الجمع لم يكن لإلغاء القراءات الشفوية التي تلقوها من النبي عليه الصلاة والسلام، بل ترك الأمر لكل من أكد على قراءة معينة أنه سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بها كما سمعها [19، ج1 ص116].
ولذا يمكن القول بأن من القراءات التي أصطلح على تسميتها بالشاذ ما قرأه الرسول دون القطع بأفراد ذلك وأعيانه لعدم إجماع الصحابة عليه كما ذهب إلى ذلك ابن دقيق العيد بقوله (الشواذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بشاذ منها وإن لم يعين، قال فتلك القراءات تواترت وإن لم تتعين بالشخص فكيف يسمى شاذًا والشاذ لا يكون متواترًا [4، ص20-21] و[10، ج1 ص15].
ولا أحد يقطع بقرآنية هذه القراءات الشاذة خاصة بعد وصول القراءات المتواترة مقطوعًا بها، وبعد تحرير أقوال العلماء يتضح (أن القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته. . . ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة وليس في ذلك خطر ولا إشكال لأن الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ) [4، ص23-24].
وبهذا يمكن القول بأن مصادر القراءة الشاذة تعتمد على ذاكرة الحفظة الذين سمعوها ممن قبلهم، ولم تحظ بالإجماع ولا النقل المتواتر فبقيت شاذة يفاد منها في إثراء اللغة والتفسير والأحكام الشرعية.
وحتى لا يتبادر إلى الذهن ذهاب شئ من القرآن دون حفظ فقد تكفل بحفظ كتابه بنفسه وهيأ له من الرجال الأفذاذ من يقومون بهذا الدور تصديقًا لقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، (سورة الحجر: 9) ولهذا يقول ابن الجزري (ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا لم يهملوا منه حركة ولا سكونًا ولا إثباتًا ولا حذفًا، ولا دخل عليهم في شئ منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه، كل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) [10، ج1 ص6].
أهمية القراءات الشاذة
القراءة الشاذة هي التي فقدت عنصرًا هامًا من عناصر الصحة والسلامة ولكن هذا لم يبعدها كثيرًا عن الإفادة منها مع القراءات المتواترة بل كانت رافدًا من روافد علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة، فأهميتها تظهر في المؤلفات العلمية على اختلاف تخصصاتها: فكتب التفسير تعنى بالشواذ وتنقل الكثير منه وتوجهه وتفيد في شرح المعاني وترجيح الآراء، وكتب معاني القرآن وإعرابه تهتم كثيرًا بالشواذ [21، ص468].
كما أن كتب الفقهاء مليئة بها حيث أن وجودها أدى إلى اختلافهم في الاحتجاج بها، وإن لم يقبلوها على أنها قرآن، وإنما قبلوها على أنها أخبار أو تفسير للقراءة [22، ص3،4].
أما كتب اللغة والنحو فاهتمامها بالقراءات الشاذة لا يخفى على أحد يقول محمد عضيمة (القرآن الكريم حجة في العربية بقراءاته المتواترة وغير المتواترة، كما هو حجة في الشريعة، فالقراءة الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقل شأنًا عن أوثق ما نقل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها، وقد أجمع العلماء على أن نقل اللغة يكتفى فيه برواية الآحاد) [23، ق1 ج1 ص2].
ثم إن هذه الأهمية للقراءات الشاذة تكمن في النقاط الآتية:
1- عناية المفسرين بها جنبًا إلى جنب مع القراءات المتواترة في كتبهم.
2- أنها تدل على معنى صحيح لا تدل عليه القراءة المتواترة.
3- قد توضح أحيانًا المقصود من القراءة المتواترة[2].
4- ثم إفرادها في مؤلفات خاصة جمعت الشواذ من أول القرآن إلى آخره[3].
5- العناية بتوجيهها التوجيه النحوي وبيان كثير من آثارها على اللغة [15،24].
6- الاهتمام بالقراءات الشاذة وبيان آثارها على الأحكام في الفقه الإسلامي [انظر مرجع 22].
أنواع القراءات الشاذة
من خلال التتبع والاستقراء في المصادر الخاصة لشواذ القراءات وكذلك بالمصادر التي اهتمت ببيان أنواع القراءات المردودة يتبين أنها تنقسم إلى أربعة أنواع.
النوع الأول: القراءات الشاذة المشهورة: وهي التي وافقت العربية والرسم العثماني وصح سندها إلا أنها لم تبلغ درجة التواتر ومن أمثلتها قراءة ابن عباس في آخر سورة التوبة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" القراءة المتواترة بضم الفاء، والقراءة الشاذة بفتح الفاء (أنفسكم) [التوبة: 128].
النوع الثاني: القراءات التي جاءت بطريق الآحاد وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كل قراءة لم يصح سندها وإن وافقت العربية والرسم العثماني، يمثل لها بقراءة ابن السميفع في قوله تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" [يونس: 92].
قرئت شاذة (ننحيك) بالحاء المهملة، وخلفك بفتح اللام [10، ج1 ص16. فهذه وصفت بأنها ضعيفة مردودة، وسمى هذا النوع السيوطي بأنه موضوع [9، ج1 ص216].
القسم الثاني: كل قراءة صح سندها في الآحاد ولها وجه في العربية وخالفت رسم المصحف، ويمثل لها بأمثلة منها قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء في سورة الليل "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى" [آية: 3] بحذف لفظ (ما خلق)[4] [10، ج1 ص14] وكذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب وابن عمر وابن الزبير وغيرهم (فامضوا إلى ذكر الله) بدلاً من (فاسعوا) [الجمعة: 9].
قال أبو الفتح في هذه القراءة تفسير للقراءة العامة، أي اقصدها وتوجهوا، وليس نية دليل على الإسراع [26، ج2 ص322].
وكقراءة ابن عباس ((وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، وأما الغلام فكان كافرًا)) [الكهف 79 - 80] [20، رقم 4725،4726].
وفي بيان هذا النوع من القراءات قال ابن الجزري (فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها) [4، ص16-17].
قلت والسبب في عدم جواز القراءة بها مع صحة السند لأنها لم تبلغ درجة التواتر إن كل قراءة وافقت العربية وخالفت الرسم، صح سندها أم لم يصح فهي شاذة. أما القراءة التي تخالف العربية بكل لهجاتها فلا توصف بأنها قراءة بل تعتبر ضربًا من ضروب الوضع والاختلاق [27، ص31].
وفيه يقول ابن الجزري (ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط، ويعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدًا بل لا يكاد يوجد وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع (وجعلنا لكم فيها معائش) بالهمز [الأعراف: 10] [10، ص16]، وقد حكم ابن مجاهد بغلط هذه الرواية فقال (هو بالياء من غير همز ولا مد لكل القراء وشذ خارجة فرواة عن نافع بالهمز وهو ضعيف جدًا بل جعله بعضهم لحنًا) [28، ص278].
النوع الثالث: القراءات المدرجة:
المقصود بالإدراج، الإدخال والتضمني، مشتق من مادة (د ر ج) تقول أدرجت الشيء في الشيء بمعنى أدخلته فيه [1، ج2، ص275] و[3، ج1، ص962].
أما معناه في اصطلاح القراء: أن يزاد في الكلمات القرآنية على وجه التفسير [9، ج1 ص243]، فيزاد في الآية كلمة أو أكثر، ويسمى تساهلاً بأنه قراءات، ومن أمثلته:
· قراءة ابن مسعود ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) [المائدة: 89] بزيادة ((لفظ متتابعات)) [29، ج1 ص47].
· قراءة سعد ابن أبي وقاص ((وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت – من أمه)) [النساء: 12 بزيادة (من أمه [9، ج1 ص364].
· وكقراءة ابن الزبير (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – ويستعينون بالله على ما أصابهم – وأولئك هم المفلحون) [آل عمران: 104] بزيادة ((ويستعينون بالله على ما أصابهم)) [27، ص31].
ولعل هذا النوع لا يوصف بأنه قراءة بل هو ضرب من التفسير والبيان للآيات.
النوع الرابع:
هو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة، وهذا النوع أضافه ابن الجزري ورده بشدة فقال: (فهذا رده أحق، ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب العظيم من الكبائر. . . إلى أن قال: ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه [10، ج1 ص17].
يتبين من خلال عرض هذه الأنواع، أن القراءات الشاذة منها ما هو مشهور لصحة سنده وموافقته للغة ورسم المصحف يقبل في التفسير وبيان الأحكام الشرعية، واللغوية، ولا يقرأ به قرآنًا لنقصان رتبته عن درجة التواتر.
ومنها ما نقل نقل آحاد لكنه صحيح السند مقبول مثل سابقه، ومنها ماهو ضعيف السند، ولا وجه له في العربية فلا يلتفت إليه، يقول ابن الجزري مبينًا هذه المعاني في أنواع شواذ القراءات (والقسم الثاني: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظ خط المصحف، فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين: إحداهما أنه لم يؤخذ بإجماع، وإنما أخذ أخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر واحد، والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذ جحده، قال (والقسم الثالث) هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل، وإن وافق خط المصحف [10، ج1 ص14].
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة؟
وقد أجاب الباحثون عن القراءات بما مفاده: أنه في الغالب الأعم لا يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة حيث إن مفهوم التناقض هو اختلاف القضيتين إيجابًا وسلبًا، مع وحدة الزمان والمكان، يكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وإنما الذي يوجد بين القراءات المتواترة والشاذة هو التعدد:
تارة في الصور اللفظية كقوله تعالى: "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" المتواترة.
(فول وجهك تلقاء المسجد الحرام) الشاذة.
وتارة في وجوه المعاني كقوله تعالى "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً" المتواترة بالفاء.
(إني جاعل في الأرض خليقة) الشاذة بالقاف.
وتارة في الوقائع التاريخية كما في قوله تعالى "غُلِبَتِ الرُّومُ" المتواترة بضم الغين وكسر اللام.
(غلبت الروم) الشاذة بفتح الغين واللام.
فليس بين القراءتين: المتواترة والشاذة تضاد وسيأتي مزيد من البيان عند الحديث عن آثار القراءات الشاذة في التفسير والأحكام [30، ص101].
الفروق بين القراءات المتواترة والشاذة
من خلال التأمل لعبارة (قراءات القرآن) نجد أنها مطلقة تشمل القراءات المتواترة المجمع عليها وتشمل القراءات الشاذة التي لم يجمع عليها، وبالتالي توجد هناك فروق بين القراءتين:
* تتفق القراءة المتواترة مع القراءة الشاذة من حيث الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية العملية عند بعض الفقهاء كالأحناف.
* تتفق القراءة المتواترة مع الشاذة في الاستفادة منها في النواحي النحوية واللغوية.
* تصلح القراءة الشاذة مع القراءة المتواترة في تفسير وبيان معاني القرآن.
إن القراءات الشاذة لا تبتعد عن القراءات المتواترة في معانيها ونحوها كما أثبت ذلك الإمام أبو الفتح ابن جني في كتابه المحتسب، فكان يسعى إلى الجمع بين القراءتين المتواترة والشاذة على معنى واحد [26، ج1 ص277، 253، 259، 275].
إن الفروق بين القراءات المتواترة والشاذة تكون في التعدد في الصور اللفظية ووجوه المعاني وغيرهما.
وضع العلماء ضوابط تفرق بين القراءات المتواترة والقراءات الشاذة فإذا توفر في القراءة التواتر، وموافقة اللغة العربية وموافقة الرسم العثماني كانت مقبولة مجمعًا عليها، وإذا لم يتوفر فيها واحد من هذه الضوابط أطلقوا عليها شاذة أو ضعيفة أو باطلة.
كما أن العلماء خصصوا في كتبهم أبوابًا للقراءات المتواترة المجمع عليها وأبوابًا للقراءات الشاذة، بينوا المقبول منها وغير المقبول وفصلوا القول في أحكامها، وحكم القراءة بها في الصلاة وفي غيرها.
كما بينوا ما يقبل من هذه القراءات على أساس أنه قرآن، وما يقبل على أساس أنه خبر من الأخبار وليس من القرآن.
إن القراءات الشاذة سميت بذلك لأنها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا [4، ص96].
ويقول الإمام السيوطي: (الشاذ: هو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية مخالفة تضر أو لم يشتهر عند القراء [9، ج1 ص78].
ومن الفروق أيضًا من سعى إلى المفاضلة بينهما، فهناك تفضيل لبعض القراءات الشاذة على بعض القراءات المشهورة المتواترة، فقد وقف ابن جني في بيان ذلك تارة بالتفضيل وأخرى بالتحسين فمثال القراءة الشاذة التي فضلها "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" [القمر: 49] فيرى أن رفع ((كل)) في قراءة أبي السمال أقوى من النصب، كما قال (الرفع هنا أقوى من النصب وإن كانت الجماعة على النصب وذلك أنه من مواضع الابتداء [26، ج2 ص300].
كما يستحسن ابن جني بعض الوجوه النحوية في القراءات الشاذة على المتواترة من ذلك استحسانه رفع ((الأرحام)) في قوله تعالى "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ" [النساء: 1] وهي قراءة السلمي، يرى أن رفع الأرحام عنده أوكد في معناه، يقول (ينبغي أن يكون رفعه على الابتداء وخبره محذوف أي: والأرحام مما يجب أن تتقوه وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه وحسن رفعه لأنه أوكد في معناه [26، ج1 ص179].
كما أن القراءات الشاذة دليل على القراءات المشهورة فبمعرفة القراءات الشاذة تتبين لنا القراءات المتواترة وقد جعل أبو الفتح بعض القراءات الشاذة أدلة على وجود كثير من القراءات المشهورة، فربط بين القراءتين ربطًا قويًا مثاله ما جاء في قراءة ابن عباس في قول الله تعالى: (إنما ذلك الشيطان يخوف أولياءه) [آل عمران: 175] قرأها ابن عباس (يخوفكم)، ويرى فيها ابن جني [26، ج1 ص177] دلالة على إرادة المفعول الذي حذف في القراءة المشهورة ((يخوف)) [15، ص237].
وبهذا نجد أن أبا الفتح يحمل كثيرًا من معاني القراءات الشاذة على القراءات المشهورة مريدًا بذلك التأكيد أن الشواذ تتصل بأسباب قوية بالقراءات المعروفة، ولا تقل عنها شأنًا ولا ارتباطًا بأسلوب القرآن [15، ص238].
إن المسلمين الأوائل حرصوا على صحة السند في القراءة لأنه عن طريقه يستدل بالأحكام الشرعية ويعمل بما تواتر نقله منها، ولذلك ما كانوا يقبلون قراءة أي أحد من القراء إلا إذا ثبت أخذه عمن فوقه بطريقة المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ القراءة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا التسلسل في الأسانيد هو الذي أدى للقول بأن القراءات توقيفية [31، ج1 ص321] وبناء عليه تنقسم إلى متواترة وغير متواترة.
ومن الفروق أيضًا اختلاف القراءات المتواترة عن الشاذة في الأمور الآتية:
القراءة المتواترة يجب اعتقادها والإيمان بها، ويكفر من يجحد بها بخلاف القراءات الشاذة فإنه يحرم اعتقادها بأنها من القرآن المقروء به المتعبد بتلاوته، بل يكفر من يعتقد أن القراءة الشاذة من القرآن إذا كان على علم بعدم ثبوت سندها، أو علم بمخالفتها لشرط من شروط القراءة المتواترة [10، ج1 ص14].
القراءة المتواترة يتعبد بها في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف القراءة الشاذة فإنه لا يقرأ بها لا في الصلاة ولا في خارجها.
أما في بيان حكم القراءة بها في الصلاة يقول ابن الجزري (وأكثر العلماء على عدم الجواز لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة [10، ج1 ص14-15].
فوائد القراءات الشاذة
لا شك أن هنالك حكمًا وفوائد يمكن الحصول عليها من خلال تتبع القراءات الشاذة في مظانها ومنها: [10، ح1، ص14-15].
1- إعظام أجور هذه الأمة حيث يفرغون جهدهم في تتبع القراءات المتواترة من الشاذة لاستعمال كل منهما في مظانه التي جاء من أجلها، وبيان حِكم وأحكام كل من القراءتين.
2- من الوقوف على القراءات الشاذة يتبين فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم لأنهم تلقوا كتاب ربهم بالمشافهة والسماع وحفظوه في الصدور والسطور لنقلهم إياه بالسند يسمعه اللاحق من السابق حتى أتقنوا حفظه وتجويده وضبطوا مقاديره وميزوا شاذه من متواتره بما كان لهم في ذلك مناقب عظيمة، ولمن يأتي بعدهم مفاخر جليلة.
3- ظهور سر الله في توليه حفظ كتابه وصيانة كلامه المنزل بأوفى تمييز حيث عرفت قراءاته المتواترة والشاذة أو في بيان.
4- ومنها بيان حكم مجمع عليه كما في قراءة سعد بن أبي وقاص [17، ج8 ص60-62] في قوله تعالى: "وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ" [النساء: 12] قرأها (وله أخ أو أخت من أم) بزيادة لفظ ((من أم)) التي دلت على أن المقصود بالأخوات هنا للأم فقط وعليه أجمع العلماء [32، ص82].
5- ومنها ما يكون لبيان حكم اختلف فيه كقراءة (أو تحرير رقبة) [المائدة: 89] بزيادة لفظ ((مؤمنة)) التي دلت على ترجيح اشتراط الإيمان في الرقبة [10، ج1 ص29].
6- ومنها دفع ما توهم ما ليس مرادًا، بمعنى أن تأتي القراءة الشاذة فتوضح حكمًا يقتضي الظاهر خلافه كقراءة ((فامضوا إلى ذكر الله))[5] [الجمعة: 9] فإن القراءة ((فاسعوا)) المتواترة يقتضي ظاهرها المشي السريع، وليس كذلك، فكانت القراءة الشاذة موضحة لذلك رافعة لما يتوهم ومزيلة للإشكال الوارد [10، ج1 ص29] [34، ج1 ص141].
7- ومنها ما يكون مفسرًا لما لعله لا يعرف، كقوله تعالى "كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ" [القارعة: 5] هذا المتواتر، وفي الشاذ قرئ ((كالصوف)) فبينت القراءة أن العهن هو الصوف [10، ج1 ص29].
8- ومنها أن تكون القراءة الشاذة مكملة للمعنى الذي ورد في القراءة المتواترة كما في قراءة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ. . ." [التوبة: 128] قرئ المتواتر ((أنفسكم)) بضم الفاء ومعناها من جنسكم وقرئ الشاذ ((أنفسكم)) بفتح الفاء ومعناها من أشرفكم نسبًا [25، ج5 ص118] [30، ص100] وما جاء في معنى القراءتين من معنى يتحقق في الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي معنى القراءتين بيان امتنان الله على العرب بإرسال رسوله إليهم وهو منهم ومن خيارهم وأشرفهم [26، ج1 ص306].
9- ومنها أن القراءات الشاذة يتضح بها صحة لغة من لغات العرب لأن تصحيح قواعد اللغة يكون بالقراءات، متواترة كانت أم شاذة ولذلك نرى ابن عقيل يمثل بالقراءة الشاذة لقاعدة جواز حذف المضاف إليه مع بقاء المضاف على حاله دون أن يعطف على مثل المحذوف فيقول: ومثله قراءة من قرأ شذوذًا "فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ" [آل عمران: 69] أي فلا خوف شيء عليهم [24، ص342-343].
وغير ذلك من الفوائد التي يمكن الوقوف عليها من خلال عرض القراءات الشاذة.
الاحتجاج للقراءات الشاذة
هنالك فرق بين الاحتجاج للقراءات والاحتجاج بالقراءات، فالأول فن من فنون القراءات ويقصد به (الكشف عن وجه القراءة في نحوها أو صرفها أو لغتها، وتسويغ الاختيار، وذلك بأساليب اللغة الأخرى من قرآن وشعر ولغات، ولا يراد به توثيق القراءة أو إثبات صحة قاعدة نحوية فيها) [15، ص206].
وذلك لأن التوثيق وإثبات صحة القواعد إنما هو مقرر في علم النحو ومن أصوله [35، ص6] فالغاية من الاحتجاج للقراءة إنما هو للكشف عن الوجوه النحوية، وتبيين مراتبها لا الاحتجاج بمعنى الإثبات كما خيل لبعضهم [15، ص206].
وقد ألف العلماء على مر العصور كتبًا في الاحتجاج للقراءات متواترها وشاذها، يوضحون عللها ويسفرون عنها، فكانت تعد بحق من الكتب القيمة في تراثنا، لبروز مكانتها التي لا تجحد من الناحيتين اللغوية والنحوية.
ومن الكتب التي صنفت في التعليل للقراءات الشاذة كتاب المحتسب لابن جني الذي أبان في مقدمته أهمية القراءات الشاذة بقوله: (إلا أنه مع خروجه عنها (أي خروج الشاذ عن المتواتر) نازع بالثقة إلى قرائه محفوف بالروايات عن أمامه وورائه، ولعله أو كثيرًا منه مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. . . إلى أن قال لكن غرضنا منه أن نري وجه قوة ما يسمى الآن شاذًا وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه لئلا يرى مري[6] أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له) [26، ج1 ص32-33].
ومن الكتب أيضًا كتاب تعليل القراءات الشاذة لأبي البقاء العكبري وهو أوسع في ذكر الشواذ من المحتسب، وابن خالويه، وابن حيان في تفسيره في البحر المحيط.
ثم أن توجيه القراءات الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة لما يتطلب من معرفة دقيقة بالعربية واستعمالاتها وأساليبها [21، ص467].
وقد انبرى لهذه المهمة أبو الفتح ابن جني فاستطاع (أن يؤلف بين الأساليب اللغوية جميعًا وبين وجوه الشواذ، كما استطاع أن يمزج الشواذ بأقيسته مزجًا محببًا حتى بدت فيه مواد المحتسب وحدة لغوية منسجمة يقوي بعضها بعضًا) [15، ص208].
ومن فوائد هذا الاحتجاج للقراءات الوصول إلى كشف القراءة لا إلى توثيقها أو تقويتها فالعودة إلى النحو وغيره إذًا ما هي إلا لبيان القراءة وتوضيحها ولذلك يقول ثعلب: (إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضل إعرابًا على إعراب فإذا أخرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى) [9، ج1 ص83].
ومن أمثلة الاحتجاج للقراءات الشاذة ما استشهد به ابن جني لقراءة قتادة: (بل مكر الليل والنهار) [سبأ: 33] برفع راء مكر منونة ونصب لام الليل، وبقوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبةٍ يتيمًا ذا مقربة) [البلد: 14-15] حيث عمل المصدر المنون فيهما عمل فعله فنصب مفعولاً فيه [26، ج2، ص193-194].
ومن خلال الاحتجاج لهذه الشواذ توصل ابن جني إلى الأمور الآتية:
1- يتوصل أحيانًا إلى تفضيل الشاذة على المشهورة.
2- كما أن الشاذة جعلها دليلاً على المشهورة.
3- والشاذ دليل على مذهب نحوي مختلف فيه.
4- وبلغ به إلى أن يوجه عددًا من القراءات الشاذة التي أعيت النحاة الذين سبقوه [15، ص236-239].
لقد عرف علم شواذ القراءات وتحددت معالمه في زمن ابن مجاهد المتوفى (324)هـ وإن كان موجودًا قبله، فقد ألف كتابه السبعة في القراءات المتواترة، وكذا كتابًا آخر سماه الشواذ، وبه تنوعت القراءات القرآنية إلى أكثر من نوع:
أعظم أنواعها القراءات المتواترة، والتي يقابلها القراءات الشاذة.
وبينهما أنواع منها: كالصحيح، والمستفيض.
إن ما نقل بطريق التواتر يفيد القطع لأن نقتله جمع عن جمع تحيل العادة اتفاقهم على الكذب.
أما ما نقل بطريق الآحاد وهو ما يسمى بالشاذة فهو محل اختلاف بين العلماء وسيكون مجال البحث بمشيئة الله بيان ما يخص أحكام القراءات الشاذة وآثارها على العلوم الشرعية.
مفهوم القراءات الشاذة
القراءات في اللغة والاصطلاح:
القراءات جمع مفرده قراءة، وأصل مادتها تعود إلى (ق ر ى) وهو أصل صحيح يدل على جمع واجتماع... ومنه القرآن كأنه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك. [1، ج5 ص ص78-79].
فالقراءة مأخوذة من قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا فهي مصدر من قولك قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض [2، ج1 ص101].
وفي اللسان جاء معنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعا [3، ج1 228].
وفي الاصطلاح:
ذكر علماء القراءات تعريفات متعددة لها بعضها قريب من المقصود والبعض الآخر يبعد قليلاً وهناك تعريفات متداخلة لكن أبرز هذه التعريفات هي:
1- تعريف ابن الجزري حيث قال (القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة) [4، ص3].
2- تعريف القسطلاني إنه (علم يعرف به اتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والإعراب والحذف والإثبات والتحريك والإسكان والفصل والاتصال) [5، ج1 ص170].
3- وأخيرًا تعريف عبدالفتاح القاضي قال عنها (علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية وطريق أدائها اتفاقًا واختلافًا مع عزو كل وجه لناقله) [6، ص7].
الشذوذ في اللغة والاصطلاح:
مشتق من مادة (ش ذ ذ)، وهو مصدر من شذ يشذ شذوذًا، تقول شذ الرجل إذا انفرد عن القوم واعتزل جماعتهم [7، ص332].
فالشذوذ يدل على الانفراد والندرة [8، ج1 ص96]، والتفرق والخروج على القاعدة والأصول فكل شئ منفرد فهو شاذ [3، ج5 ص28-29].
والشاذ في الاصطلاح يختلف مفهومه حسب كل علم، فهو عند النحاة غيره عند علماء السنة، ويختلف عنهما لدى علماء القراءات.
فالقراءات الشاذة هي التي تقابل القراءات المتواترة.
وعرفت بأنها (من فقدت ركنًا أو أكثر من أركان القراءة المقبولة [9، ج1 ص129].
كما عرفت بأنها كل قراءة بقيت وراء مقياس ابن الجزري الذي قال (... ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم [10، ج1 ص9].
فالقراءة الشاذة هي: التي لم يصح سندها وخالفت الرسم ولا وجه لها في العربية [9، ج1 ص242].
كما عرفت بأنها كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ولم يتواتر سندها [10، ج1 ص9].
إن التعريف الذي تطمئن إليه النفس في تعريف القراءة الشاذة هو: القراءة التي صح سندها ووافقت اللغة العربية ولو بوجه وخالفت المصحف.
وهذا التعريف هو الذي اعتمده ابن تيمية [12، ج13 ص393-394] وابن الجزري [4، ص16-17] كما اعتمده قبلهما مكي القيسي [13، ص10، 103] وأبو شامة المقدسي [15، ص145،171].
وبهذا يعلم أن القراءة الشاذة عند الجمهور هي ما لم يثبت بطريق التواتر [11، ص10].
ولعل السبب في تسميتها بالقراءة الشاذة يعود إلى أنها شذت عن الطريق الذي نقل به القرآن حيث نقل بجميع حروفه نقلاً متواترًا.
قال ابن الجزري: شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا [4، ص16-17].
نشأة القراءات الشاذة
كانت القراءات في العهد النبوي وعهد الشيخين نبعًا يلبي حاجة ماسة عند القبائل ويقع منهم مواقع حسنة ويوقفهم على أساليب القرآن الكريم، ولكن تنوع هذه القراءات خاصة في عهد الخليفة الثالث أخذ يسير في منحى يناقض مسوغ وجودها الذي هو التيسير على الأمة.
وأصبح يثير من المخاوف على ضياع شئ من القرآن بقراءاته المتعددة وكذا الخوف على وحدة المسلمين ما استنهض الخليفة عثمان لدرء هذه الفتنة وذلك بتوحيد المصاحف على القراءات المجمع عليها [15، ص31].
ومن هنا بدأ يظهر الشذوذ على كل قراءة لم تحظ بالإجماع فقد ذكرت الروايات أن عثمان أبعد عن قرآن المسلمين عددًا من الروايات التي لم يستفض نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام وإعلان بطلان العمل بها وإرساله لكل مصر قارئًا تتفق قراءته والنسخة التي أرسلت إليه، حتى أصبح من ذلك الحين رسم المصحف العثماني شرطًا أساسيًا من شروط صحة القراءة لا توافقه اعتبرت من الشاذ.
وبقى خارج حدود الرسم عدد من الحروف كما جاءت مصاحف كل من أبي وابن مسعود وغيرهما، وقد ذكر المتتبعون لشأن القراءات أن معظم الحروف التي اشتملت عليها هذه المصاحف لم تشهد العرضة الأخيرة التي عرضها الرسول عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام [16، ص20].
وإن كانت بعض هذه القراءات عبارة عن تفسير لألفاظ أو أحكام القرآن التي جعلها بعض الصحابة بجوار الآية مثل قراءة سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت) (من أم) [النساء: 12] فإنها تبين المراد بالأخوة هنا هو الأخوة للأم [10، ج1 ص29].
مما يفيد أن قرآنيتها ينسب إلى الآحاد [15، ص25] وبالتالي شذت عن الإجماع وشذت عن التواتر فليست من الأحرف السبعة، ولذلك كان يبدي الإمام الطبري حذره الشديد في قبول مثل هذه القراءة وأمثالها كما يتضح ذلك من قوله (لا نعلم ذلك صحيحًا من الوجه الذي تصح به الأخبار) [17، ج2 ص267].
ومع شذوذ هذه القراءات وخروجها عن الإجماع في الوقت المبكر إلا أن القراءة بها لم تتوقف عند عدد من القراء بل تمسكوا بها مقتنعين بأن ما صح عن النبي لا يمكن تجاهله، كما أشار إلى ذلك مكي القيسي بقوله (ولذلك تمادى بعض الناس على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله [13، ص31].
وهكذا استمر الوضع ثلاثة قرون متتالية [15، ص38] إلى أن جاءت عوامل قوية أدت بها إلى الفصل التام عن المتواتر وتحديد معالمها وإطلاق الشذوذ عليها فقد كره كثير من علماء المسلمين حَمَلَتها وأطلقوا عليهم عبارات منفرة كقول ابن أبي عبلة (من حمل شاذ العلماء حمل شرًا كبيرًا) [18، ج1 ص19]، وتعرض بعضهم للضرب من قبل ولاة الأمر كما حصل لابن شنبوذ، إضافة لموتهم واحدًا تلو الآخر. وكان أول من أطلق عليها مصطلح الشذوذ هو الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره في مطلع القرن الرابع عندما تعرض لقراءة ابن مسعود في سورة إبراهيم (وإن كاد مكرهم) [آية 46] بالدال بدلاً من النون (بأنها شاذة لا تجوز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين) [17، ج13 ص247].
وهكذا نشأت القراءات الشاذة وانحسرت دائرتها مع مرور الزمن وتحددت معالمها فأصبحت عِلما من العلوم الّتي لها أهميتها وأثرها الواضح في إثراء اللغة العربية والأحكام الشرعية، وكذلك إثراء علم التفسير.
مصدر القراءة الشاذة
لا شك أن مصدر القراءات القرآنية هو التلقي والسماع عن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقرر ذلك بالأدلة القاطعة التي منها قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً" [الإسراء: 106] وقوله "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" [القيامة: 16-18].
كما يتضح من حديث عمر وهشام وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام لكل منهم بقوله (هكذا أنزلت) ما يؤكد أن القراءات مبنية على التلقي والرواية لا على الرأي والدراية ولا يمكن أن تثبت القراءات إلا بالتوقيف والتلقين والتلقي والأخذ والمشافهة والنقل والسماع [19، ج1 ص96].
وبهذا يعلم أن القراءات منزلة من عند الله تعالى وموحى بها إلى رسوله عليه الصلاة والسلام كما قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه"[1]، [وانظر 20، رقم 4992].
فالقراءات القرآنية المتواترة هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم وبالتالي مصدرها هو الوحي، وبالتالي القراءات سنة متبعة يأخذها المتأخر عن المتقدم عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فما مصدر القراءات الشاذة؟ وهل هي من الأحرف السبعة؟ لم يقل بهذا أحد فيما وقفت عليه من المراجع، فلم يقل أحد أنها من الأحرف السبعة كما لم ينف أحد وجود شئ فيها من ذلك بل كان هناك توقف في هذا الشأن وسبب التوقف لأنّ بعض القراءات الشاذة قد تكون متواترة وشذوذها آت من جهة غير السند، لكن لا يمكن القطع بأن كثيرًا من الصحابة قرءوا القرآن بما يخالف رسم المصحف الذي جمع عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه الناس وأمرهم به وذلك لأن الغرض من الجمع لم يكن لإلغاء القراءات الشفوية التي تلقوها من النبي عليه الصلاة والسلام، بل ترك الأمر لكل من أكد على قراءة معينة أنه سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بها كما سمعها [19، ج1 ص116].
ولذا يمكن القول بأن من القراءات التي أصطلح على تسميتها بالشاذ ما قرأه الرسول دون القطع بأفراد ذلك وأعيانه لعدم إجماع الصحابة عليه كما ذهب إلى ذلك ابن دقيق العيد بقوله (الشواذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بشاذ منها وإن لم يعين، قال فتلك القراءات تواترت وإن لم تتعين بالشخص فكيف يسمى شاذًا والشاذ لا يكون متواترًا [4، ص20-21] و[10، ج1 ص15].
ولا أحد يقطع بقرآنية هذه القراءات الشاذة خاصة بعد وصول القراءات المتواترة مقطوعًا بها، وبعد تحرير أقوال العلماء يتضح (أن القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته. . . ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة وليس في ذلك خطر ولا إشكال لأن الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ) [4، ص23-24].
وبهذا يمكن القول بأن مصادر القراءة الشاذة تعتمد على ذاكرة الحفظة الذين سمعوها ممن قبلهم، ولم تحظ بالإجماع ولا النقل المتواتر فبقيت شاذة يفاد منها في إثراء اللغة والتفسير والأحكام الشرعية.
وحتى لا يتبادر إلى الذهن ذهاب شئ من القرآن دون حفظ فقد تكفل بحفظ كتابه بنفسه وهيأ له من الرجال الأفذاذ من يقومون بهذا الدور تصديقًا لقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، (سورة الحجر: 9) ولهذا يقول ابن الجزري (ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا لم يهملوا منه حركة ولا سكونًا ولا إثباتًا ولا حذفًا، ولا دخل عليهم في شئ منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه، كل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) [10، ج1 ص6].
أهمية القراءات الشاذة
القراءة الشاذة هي التي فقدت عنصرًا هامًا من عناصر الصحة والسلامة ولكن هذا لم يبعدها كثيرًا عن الإفادة منها مع القراءات المتواترة بل كانت رافدًا من روافد علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة، فأهميتها تظهر في المؤلفات العلمية على اختلاف تخصصاتها: فكتب التفسير تعنى بالشواذ وتنقل الكثير منه وتوجهه وتفيد في شرح المعاني وترجيح الآراء، وكتب معاني القرآن وإعرابه تهتم كثيرًا بالشواذ [21، ص468].
كما أن كتب الفقهاء مليئة بها حيث أن وجودها أدى إلى اختلافهم في الاحتجاج بها، وإن لم يقبلوها على أنها قرآن، وإنما قبلوها على أنها أخبار أو تفسير للقراءة [22، ص3،4].
أما كتب اللغة والنحو فاهتمامها بالقراءات الشاذة لا يخفى على أحد يقول محمد عضيمة (القرآن الكريم حجة في العربية بقراءاته المتواترة وغير المتواترة، كما هو حجة في الشريعة، فالقراءة الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقل شأنًا عن أوثق ما نقل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها، وقد أجمع العلماء على أن نقل اللغة يكتفى فيه برواية الآحاد) [23، ق1 ج1 ص2].
ثم إن هذه الأهمية للقراءات الشاذة تكمن في النقاط الآتية:
1- عناية المفسرين بها جنبًا إلى جنب مع القراءات المتواترة في كتبهم.
2- أنها تدل على معنى صحيح لا تدل عليه القراءة المتواترة.
3- قد توضح أحيانًا المقصود من القراءة المتواترة[2].
4- ثم إفرادها في مؤلفات خاصة جمعت الشواذ من أول القرآن إلى آخره[3].
5- العناية بتوجيهها التوجيه النحوي وبيان كثير من آثارها على اللغة [15،24].
6- الاهتمام بالقراءات الشاذة وبيان آثارها على الأحكام في الفقه الإسلامي [انظر مرجع 22].
أنواع القراءات الشاذة
من خلال التتبع والاستقراء في المصادر الخاصة لشواذ القراءات وكذلك بالمصادر التي اهتمت ببيان أنواع القراءات المردودة يتبين أنها تنقسم إلى أربعة أنواع.
النوع الأول: القراءات الشاذة المشهورة: وهي التي وافقت العربية والرسم العثماني وصح سندها إلا أنها لم تبلغ درجة التواتر ومن أمثلتها قراءة ابن عباس في آخر سورة التوبة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" القراءة المتواترة بضم الفاء، والقراءة الشاذة بفتح الفاء (أنفسكم) [التوبة: 128].
النوع الثاني: القراءات التي جاءت بطريق الآحاد وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كل قراءة لم يصح سندها وإن وافقت العربية والرسم العثماني، يمثل لها بقراءة ابن السميفع في قوله تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" [يونس: 92].
قرئت شاذة (ننحيك) بالحاء المهملة، وخلفك بفتح اللام [10، ج1 ص16. فهذه وصفت بأنها ضعيفة مردودة، وسمى هذا النوع السيوطي بأنه موضوع [9، ج1 ص216].
القسم الثاني: كل قراءة صح سندها في الآحاد ولها وجه في العربية وخالفت رسم المصحف، ويمثل لها بأمثلة منها قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء في سورة الليل "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى" [آية: 3] بحذف لفظ (ما خلق)[4] [10، ج1 ص14] وكذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب وابن عمر وابن الزبير وغيرهم (فامضوا إلى ذكر الله) بدلاً من (فاسعوا) [الجمعة: 9].
قال أبو الفتح في هذه القراءة تفسير للقراءة العامة، أي اقصدها وتوجهوا، وليس نية دليل على الإسراع [26، ج2 ص322].
وكقراءة ابن عباس ((وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، وأما الغلام فكان كافرًا)) [الكهف 79 - 80] [20، رقم 4725،4726].
وفي بيان هذا النوع من القراءات قال ابن الجزري (فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها) [4، ص16-17].
قلت والسبب في عدم جواز القراءة بها مع صحة السند لأنها لم تبلغ درجة التواتر إن كل قراءة وافقت العربية وخالفت الرسم، صح سندها أم لم يصح فهي شاذة. أما القراءة التي تخالف العربية بكل لهجاتها فلا توصف بأنها قراءة بل تعتبر ضربًا من ضروب الوضع والاختلاق [27، ص31].
وفيه يقول ابن الجزري (ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط، ويعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدًا بل لا يكاد يوجد وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع (وجعلنا لكم فيها معائش) بالهمز [الأعراف: 10] [10، ص16]، وقد حكم ابن مجاهد بغلط هذه الرواية فقال (هو بالياء من غير همز ولا مد لكل القراء وشذ خارجة فرواة عن نافع بالهمز وهو ضعيف جدًا بل جعله بعضهم لحنًا) [28، ص278].
النوع الثالث: القراءات المدرجة:
المقصود بالإدراج، الإدخال والتضمني، مشتق من مادة (د ر ج) تقول أدرجت الشيء في الشيء بمعنى أدخلته فيه [1، ج2، ص275] و[3، ج1، ص962].
أما معناه في اصطلاح القراء: أن يزاد في الكلمات القرآنية على وجه التفسير [9، ج1 ص243]، فيزاد في الآية كلمة أو أكثر، ويسمى تساهلاً بأنه قراءات، ومن أمثلته:
· قراءة ابن مسعود ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) [المائدة: 89] بزيادة ((لفظ متتابعات)) [29، ج1 ص47].
· قراءة سعد ابن أبي وقاص ((وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت – من أمه)) [النساء: 12 بزيادة (من أمه [9، ج1 ص364].
· وكقراءة ابن الزبير (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – ويستعينون بالله على ما أصابهم – وأولئك هم المفلحون) [آل عمران: 104] بزيادة ((ويستعينون بالله على ما أصابهم)) [27، ص31].
ولعل هذا النوع لا يوصف بأنه قراءة بل هو ضرب من التفسير والبيان للآيات.
النوع الرابع:
هو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة، وهذا النوع أضافه ابن الجزري ورده بشدة فقال: (فهذا رده أحق، ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب العظيم من الكبائر. . . إلى أن قال: ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه [10، ج1 ص17].
يتبين من خلال عرض هذه الأنواع، أن القراءات الشاذة منها ما هو مشهور لصحة سنده وموافقته للغة ورسم المصحف يقبل في التفسير وبيان الأحكام الشرعية، واللغوية، ولا يقرأ به قرآنًا لنقصان رتبته عن درجة التواتر.
ومنها ما نقل نقل آحاد لكنه صحيح السند مقبول مثل سابقه، ومنها ماهو ضعيف السند، ولا وجه له في العربية فلا يلتفت إليه، يقول ابن الجزري مبينًا هذه المعاني في أنواع شواذ القراءات (والقسم الثاني: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظ خط المصحف، فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين: إحداهما أنه لم يؤخذ بإجماع، وإنما أخذ أخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر واحد، والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذ جحده، قال (والقسم الثالث) هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل، وإن وافق خط المصحف [10، ج1 ص14].
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة؟
وقد أجاب الباحثون عن القراءات بما مفاده: أنه في الغالب الأعم لا يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة حيث إن مفهوم التناقض هو اختلاف القضيتين إيجابًا وسلبًا، مع وحدة الزمان والمكان، يكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وإنما الذي يوجد بين القراءات المتواترة والشاذة هو التعدد:
تارة في الصور اللفظية كقوله تعالى: "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" المتواترة.
(فول وجهك تلقاء المسجد الحرام) الشاذة.
وتارة في وجوه المعاني كقوله تعالى "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً" المتواترة بالفاء.
(إني جاعل في الأرض خليقة) الشاذة بالقاف.
وتارة في الوقائع التاريخية كما في قوله تعالى "غُلِبَتِ الرُّومُ" المتواترة بضم الغين وكسر اللام.
(غلبت الروم) الشاذة بفتح الغين واللام.
فليس بين القراءتين: المتواترة والشاذة تضاد وسيأتي مزيد من البيان عند الحديث عن آثار القراءات الشاذة في التفسير والأحكام [30، ص101].
الفروق بين القراءات المتواترة والشاذة
من خلال التأمل لعبارة (قراءات القرآن) نجد أنها مطلقة تشمل القراءات المتواترة المجمع عليها وتشمل القراءات الشاذة التي لم يجمع عليها، وبالتالي توجد هناك فروق بين القراءتين:
* تتفق القراءة المتواترة مع القراءة الشاذة من حيث الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية العملية عند بعض الفقهاء كالأحناف.
* تتفق القراءة المتواترة مع الشاذة في الاستفادة منها في النواحي النحوية واللغوية.
* تصلح القراءة الشاذة مع القراءة المتواترة في تفسير وبيان معاني القرآن.
إن القراءات الشاذة لا تبتعد عن القراءات المتواترة في معانيها ونحوها كما أثبت ذلك الإمام أبو الفتح ابن جني في كتابه المحتسب، فكان يسعى إلى الجمع بين القراءتين المتواترة والشاذة على معنى واحد [26، ج1 ص277، 253، 259، 275].
إن الفروق بين القراءات المتواترة والشاذة تكون في التعدد في الصور اللفظية ووجوه المعاني وغيرهما.
وضع العلماء ضوابط تفرق بين القراءات المتواترة والقراءات الشاذة فإذا توفر في القراءة التواتر، وموافقة اللغة العربية وموافقة الرسم العثماني كانت مقبولة مجمعًا عليها، وإذا لم يتوفر فيها واحد من هذه الضوابط أطلقوا عليها شاذة أو ضعيفة أو باطلة.
كما أن العلماء خصصوا في كتبهم أبوابًا للقراءات المتواترة المجمع عليها وأبوابًا للقراءات الشاذة، بينوا المقبول منها وغير المقبول وفصلوا القول في أحكامها، وحكم القراءة بها في الصلاة وفي غيرها.
كما بينوا ما يقبل من هذه القراءات على أساس أنه قرآن، وما يقبل على أساس أنه خبر من الأخبار وليس من القرآن.
إن القراءات الشاذة سميت بذلك لأنها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا [4، ص96].
ويقول الإمام السيوطي: (الشاذ: هو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية مخالفة تضر أو لم يشتهر عند القراء [9، ج1 ص78].
ومن الفروق أيضًا من سعى إلى المفاضلة بينهما، فهناك تفضيل لبعض القراءات الشاذة على بعض القراءات المشهورة المتواترة، فقد وقف ابن جني في بيان ذلك تارة بالتفضيل وأخرى بالتحسين فمثال القراءة الشاذة التي فضلها "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" [القمر: 49] فيرى أن رفع ((كل)) في قراءة أبي السمال أقوى من النصب، كما قال (الرفع هنا أقوى من النصب وإن كانت الجماعة على النصب وذلك أنه من مواضع الابتداء [26، ج2 ص300].
كما يستحسن ابن جني بعض الوجوه النحوية في القراءات الشاذة على المتواترة من ذلك استحسانه رفع ((الأرحام)) في قوله تعالى "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ" [النساء: 1] وهي قراءة السلمي، يرى أن رفع الأرحام عنده أوكد في معناه، يقول (ينبغي أن يكون رفعه على الابتداء وخبره محذوف أي: والأرحام مما يجب أن تتقوه وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه وحسن رفعه لأنه أوكد في معناه [26، ج1 ص179].
كما أن القراءات الشاذة دليل على القراءات المشهورة فبمعرفة القراءات الشاذة تتبين لنا القراءات المتواترة وقد جعل أبو الفتح بعض القراءات الشاذة أدلة على وجود كثير من القراءات المشهورة، فربط بين القراءتين ربطًا قويًا مثاله ما جاء في قراءة ابن عباس في قول الله تعالى: (إنما ذلك الشيطان يخوف أولياءه) [آل عمران: 175] قرأها ابن عباس (يخوفكم)، ويرى فيها ابن جني [26، ج1 ص177] دلالة على إرادة المفعول الذي حذف في القراءة المشهورة ((يخوف)) [15، ص237].
وبهذا نجد أن أبا الفتح يحمل كثيرًا من معاني القراءات الشاذة على القراءات المشهورة مريدًا بذلك التأكيد أن الشواذ تتصل بأسباب قوية بالقراءات المعروفة، ولا تقل عنها شأنًا ولا ارتباطًا بأسلوب القرآن [15، ص238].
إن المسلمين الأوائل حرصوا على صحة السند في القراءة لأنه عن طريقه يستدل بالأحكام الشرعية ويعمل بما تواتر نقله منها، ولذلك ما كانوا يقبلون قراءة أي أحد من القراء إلا إذا ثبت أخذه عمن فوقه بطريقة المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ القراءة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا التسلسل في الأسانيد هو الذي أدى للقول بأن القراءات توقيفية [31، ج1 ص321] وبناء عليه تنقسم إلى متواترة وغير متواترة.
ومن الفروق أيضًا اختلاف القراءات المتواترة عن الشاذة في الأمور الآتية:
القراءة المتواترة يجب اعتقادها والإيمان بها، ويكفر من يجحد بها بخلاف القراءات الشاذة فإنه يحرم اعتقادها بأنها من القرآن المقروء به المتعبد بتلاوته، بل يكفر من يعتقد أن القراءة الشاذة من القرآن إذا كان على علم بعدم ثبوت سندها، أو علم بمخالفتها لشرط من شروط القراءة المتواترة [10، ج1 ص14].
القراءة المتواترة يتعبد بها في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف القراءة الشاذة فإنه لا يقرأ بها لا في الصلاة ولا في خارجها.
أما في بيان حكم القراءة بها في الصلاة يقول ابن الجزري (وأكثر العلماء على عدم الجواز لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة [10، ج1 ص14-15].
فوائد القراءات الشاذة
لا شك أن هنالك حكمًا وفوائد يمكن الحصول عليها من خلال تتبع القراءات الشاذة في مظانها ومنها: [10، ح1، ص14-15].
1- إعظام أجور هذه الأمة حيث يفرغون جهدهم في تتبع القراءات المتواترة من الشاذة لاستعمال كل منهما في مظانه التي جاء من أجلها، وبيان حِكم وأحكام كل من القراءتين.
2- من الوقوف على القراءات الشاذة يتبين فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم لأنهم تلقوا كتاب ربهم بالمشافهة والسماع وحفظوه في الصدور والسطور لنقلهم إياه بالسند يسمعه اللاحق من السابق حتى أتقنوا حفظه وتجويده وضبطوا مقاديره وميزوا شاذه من متواتره بما كان لهم في ذلك مناقب عظيمة، ولمن يأتي بعدهم مفاخر جليلة.
3- ظهور سر الله في توليه حفظ كتابه وصيانة كلامه المنزل بأوفى تمييز حيث عرفت قراءاته المتواترة والشاذة أو في بيان.
4- ومنها بيان حكم مجمع عليه كما في قراءة سعد بن أبي وقاص [17، ج8 ص60-62] في قوله تعالى: "وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ" [النساء: 12] قرأها (وله أخ أو أخت من أم) بزيادة لفظ ((من أم)) التي دلت على أن المقصود بالأخوات هنا للأم فقط وعليه أجمع العلماء [32، ص82].
5- ومنها ما يكون لبيان حكم اختلف فيه كقراءة (أو تحرير رقبة) [المائدة: 89] بزيادة لفظ ((مؤمنة)) التي دلت على ترجيح اشتراط الإيمان في الرقبة [10، ج1 ص29].
6- ومنها دفع ما توهم ما ليس مرادًا، بمعنى أن تأتي القراءة الشاذة فتوضح حكمًا يقتضي الظاهر خلافه كقراءة ((فامضوا إلى ذكر الله))[5] [الجمعة: 9] فإن القراءة ((فاسعوا)) المتواترة يقتضي ظاهرها المشي السريع، وليس كذلك، فكانت القراءة الشاذة موضحة لذلك رافعة لما يتوهم ومزيلة للإشكال الوارد [10، ج1 ص29] [34، ج1 ص141].
7- ومنها ما يكون مفسرًا لما لعله لا يعرف، كقوله تعالى "كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ" [القارعة: 5] هذا المتواتر، وفي الشاذ قرئ ((كالصوف)) فبينت القراءة أن العهن هو الصوف [10، ج1 ص29].
8- ومنها أن تكون القراءة الشاذة مكملة للمعنى الذي ورد في القراءة المتواترة كما في قراءة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ. . ." [التوبة: 128] قرئ المتواتر ((أنفسكم)) بضم الفاء ومعناها من جنسكم وقرئ الشاذ ((أنفسكم)) بفتح الفاء ومعناها من أشرفكم نسبًا [25، ج5 ص118] [30، ص100] وما جاء في معنى القراءتين من معنى يتحقق في الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي معنى القراءتين بيان امتنان الله على العرب بإرسال رسوله إليهم وهو منهم ومن خيارهم وأشرفهم [26، ج1 ص306].
9- ومنها أن القراءات الشاذة يتضح بها صحة لغة من لغات العرب لأن تصحيح قواعد اللغة يكون بالقراءات، متواترة كانت أم شاذة ولذلك نرى ابن عقيل يمثل بالقراءة الشاذة لقاعدة جواز حذف المضاف إليه مع بقاء المضاف على حاله دون أن يعطف على مثل المحذوف فيقول: ومثله قراءة من قرأ شذوذًا "فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ" [آل عمران: 69] أي فلا خوف شيء عليهم [24، ص342-343].
وغير ذلك من الفوائد التي يمكن الوقوف عليها من خلال عرض القراءات الشاذة.
الاحتجاج للقراءات الشاذة
هنالك فرق بين الاحتجاج للقراءات والاحتجاج بالقراءات، فالأول فن من فنون القراءات ويقصد به (الكشف عن وجه القراءة في نحوها أو صرفها أو لغتها، وتسويغ الاختيار، وذلك بأساليب اللغة الأخرى من قرآن وشعر ولغات، ولا يراد به توثيق القراءة أو إثبات صحة قاعدة نحوية فيها) [15، ص206].
وذلك لأن التوثيق وإثبات صحة القواعد إنما هو مقرر في علم النحو ومن أصوله [35، ص6] فالغاية من الاحتجاج للقراءة إنما هو للكشف عن الوجوه النحوية، وتبيين مراتبها لا الاحتجاج بمعنى الإثبات كما خيل لبعضهم [15، ص206].
وقد ألف العلماء على مر العصور كتبًا في الاحتجاج للقراءات متواترها وشاذها، يوضحون عللها ويسفرون عنها، فكانت تعد بحق من الكتب القيمة في تراثنا، لبروز مكانتها التي لا تجحد من الناحيتين اللغوية والنحوية.
ومن الكتب التي صنفت في التعليل للقراءات الشاذة كتاب المحتسب لابن جني الذي أبان في مقدمته أهمية القراءات الشاذة بقوله: (إلا أنه مع خروجه عنها (أي خروج الشاذ عن المتواتر) نازع بالثقة إلى قرائه محفوف بالروايات عن أمامه وورائه، ولعله أو كثيرًا منه مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. . . إلى أن قال لكن غرضنا منه أن نري وجه قوة ما يسمى الآن شاذًا وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه لئلا يرى مري[6] أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له) [26، ج1 ص32-33].
ومن الكتب أيضًا كتاب تعليل القراءات الشاذة لأبي البقاء العكبري وهو أوسع في ذكر الشواذ من المحتسب، وابن خالويه، وابن حيان في تفسيره في البحر المحيط.
ثم أن توجيه القراءات الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة لما يتطلب من معرفة دقيقة بالعربية واستعمالاتها وأساليبها [21، ص467].
وقد انبرى لهذه المهمة أبو الفتح ابن جني فاستطاع (أن يؤلف بين الأساليب اللغوية جميعًا وبين وجوه الشواذ، كما استطاع أن يمزج الشواذ بأقيسته مزجًا محببًا حتى بدت فيه مواد المحتسب وحدة لغوية منسجمة يقوي بعضها بعضًا) [15، ص208].
ومن فوائد هذا الاحتجاج للقراءات الوصول إلى كشف القراءة لا إلى توثيقها أو تقويتها فالعودة إلى النحو وغيره إذًا ما هي إلا لبيان القراءة وتوضيحها ولذلك يقول ثعلب: (إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضل إعرابًا على إعراب فإذا أخرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى) [9، ج1 ص83].
ومن أمثلة الاحتجاج للقراءات الشاذة ما استشهد به ابن جني لقراءة قتادة: (بل مكر الليل والنهار) [سبأ: 33] برفع راء مكر منونة ونصب لام الليل، وبقوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبةٍ يتيمًا ذا مقربة) [البلد: 14-15] حيث عمل المصدر المنون فيهما عمل فعله فنصب مفعولاً فيه [26، ج2، ص193-194].
ومن خلال الاحتجاج لهذه الشواذ توصل ابن جني إلى الأمور الآتية:
1- يتوصل أحيانًا إلى تفضيل الشاذة على المشهورة.
2- كما أن الشاذة جعلها دليلاً على المشهورة.
3- والشاذ دليل على مذهب نحوي مختلف فيه.
4- وبلغ به إلى أن يوجه عددًا من القراءات الشاذة التي أعيت النحاة الذين سبقوه [15، ص236-239].