وبعد..
هذه قصة التتار..
وهذه قصة عين جالوت..
دورة طبيعية من دورات التاريخ..
فالتاريخ من طبيعته أن يصعد بأمة إلى أعلى الدرجات ثم يهوي بها إلى أسفل سافلين.. "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، صعد التتار ثم هبطوا، وهبط المسلمون ثم صعدوا، وسيكون بعد الصعود هبوط، وسيكون بعد الهبوط صعود... وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وإنما نعرض التاريخ لا لمشاهدة الصعود والهبوط فقط.. ولكن لدراسة الأسباب التي أدّت إلى رفعة قوم وإلى ذلّة آخرين.. والتاريخ يتكرر بصورة عجيبة.. ومن قرأ التاريخ أضاف إلى خبراته خبرات السنين، وخبرات الأمم، وخبرات الزمان والمكان..
في هذه القصّة رأينا كيف تحول مسار التاريخ تماماً بظهور رجل معين، هو قطز رحمه الله كما تحول مسار التاريخ قبل ذلك تماماً أيضاً بظهور جنكيزخان لعنه الله.. وشتان بين الشخصيتين.. ولكنهما يجتمعان في أن كليهما مؤثر.. فكلاهما أثّر في الملايين.. كلاهما أثر في جغرافية الأرض.. كلاهما أثر في حركة التاريخ.. ولكن شتّان بين الأثرين.. أما الأثر الأول فقد استمد قوته من قوة الجسد والسلاح وشريعة الغاب.. وأما الأثر الثاني فقد استمد قوته من قوة الإيمان والروح وشريعة الإسلام..
من السهل جداً يا إخواني أن تدمِّر، ولكن من الصعب جداً أن تبني...
من السهل جداً أن تظلم، لكن من الصعب جداً أن تعدل..
من السهل جداً أن تغضب، لكن من الصعب جداً أن تعفو..
وهذه هي روعة الإسلام..
قطز إنسان، وجنكيزخان إنسان..
لكنَّ الأوّل جُمِّلَ بالإسلام، والثاني حُرِم الإسلام..
فتغيّرت حركة التاريخ تبعاً لذلك..
قطز بنى حضارة الإنسان واستحق أن يكون خليفةً في الأرض..
"إنى جاعل في الأرض خليفة"
وجنكيزخان هدم حضارة الإنسان واستحق بذلك أن يكون مسخاً ملعوناً..
"قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا "
وأمثال جنكيزخان في الأرض كثير.. وعلى عكس ذلك: أمثال قطز في الأرض قليل؛ لأنه كما ذكرنا: ما أسهلَ التدمير، وما أصعبَ البناء!!
"وإن تطع أكثر من في الأرض، يضلوك عن سبيل الله"
"وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"
ومن المؤرخين من يشكك في أن التاريخ لا يُصنع بإنسان بعينه.. وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات.. وتغيير حركة التاريخ..
ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك..
تغيّرت حركة التاريخ تماماً في أزمان كثيرة، وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم.. ولا أقول لك تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح ومفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة.. لكن أقول لك تتغير حركة التاريخ بأشخاص معينة ليسوا أنبياء ولا رسلاً.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل أبى بكر الصديق، وراجعوا حروب الردة.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل عمر ابن الخطاب وراجعوا فتوح الإسلام.. تغيرت حركة التاريخ بظهور عمر بن عبد العزيز، وبظهور موسى بن نصير، وبظهور عبد الرحمن الداخل، وبظهور عبد الرحمن الناصر، وبظهور عماد الدين زنكي، وبظهور نور الدين محمود، وبظهور صلاح الدين الأيوبي، وبظهور قطز وبظهور عبد الله بن ياسين، وبظهور يوسف بن تاشفين، وبظهور محمد الفاتح.. وبظهور غيرهم.... رحمهم الله جميعاً..
نعم يظهرون على فترات متباعدة .. ولكن يمتد أثرهم إلى آماد بعيدة.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً"
ولكن هذه الراحلة إن وجدت، فيا سعادة أهل الأرض بوجودها!..
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
وقطز - ولا شك - كان من هؤلاء المجددين..
إن شئت فتحدث عن إيمانه وخشوعه، وإن شئت فتحدث عن زهده وعفافه، وإن شئت فتحدث عن كفاءته ومهارته، وإن شئت فتحدث عن صدقه وإخلاصه، وإن شئت فتحدث عن جهاده وتضحيته، وإن شئت فتحدث عن صبره ومصابرته، وإن شئت فتحدث عن حلمه وتواضعه..
لقد كان رجلاً مجدداً بمعنى الكلمة..
كان كما وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء حيث قال: "كان فارساً شجاعاً، سائساً، ديِّناً، محبباً إلى الرعية، هزم التتار، وطهّر الشام منهم يوم عين جالوت، ويَسْلَم له إن شاء الله جهادُه، وكان شاباً أشقر، وافر اللحية، تامّ الشكل، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوَّض الله شبابه بالجنة، ورضي عنه".
وكان كما وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "كان شجاعاً بطلاً، كثيرَ الخير، ناصحاً للإسلام وأهلِه، وكان الناس يحبونه، ويدعون له كثيرًا".
ولَاحِظْ أن المؤرخين المسلمين يعلّقون دائماً على مسألة حب الناس للشخص، وحب الرعية للزعيم.. وهو مقياس دقيق من مقاييس العظمة الحقيقية.. فالصالحون من هذه الأمة لا يحبون إلا صالحاً.. ولا يبغضون إلا فاسداً.. ومن أجمع الصالحون على حبه فهو محبوب عند الله، ومن أجمع الصالحون على بغضه، فهو بغيض عند الله..
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إنى أحب فلاناً فأحبَّه.. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه.. فيحبه أهل السماء. قال: ثم يُوضع له القَبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إنى أُبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيُبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيُبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
وهكذا يا إخواني نرى بوضوح في حركة التاريخ أن هناك رجالاً بأعينهم يغيرون فعلاً من مسار التاريخ.. ولكن مع وضوح هذا الأمر فإن العجيب أن الناس دائماً يبحثون عن هذا الرجل في خارج بيوتهم وشوارعهم ومدنهم.. يعتقدون أن هذا الرجل سيأتي من بعيد.. من بعيد جداً.. من بعيد في المكان، ومن بعيد في الزمان.. أو لعله يأتي من خارج الأرض!! لماذا لا يعدّ كل واحد منا نفسه وأهله وأبناءه وإخوانه ليكونوا هذا الرجل؟!
لماذا لا يكون قطز أنت؟!
لماذا لا يكون قطز ابنك؟!
لماذا لا يكون قطز أخاك؟!
لماذا ندرس التاريخ يا إخواني؟؟
ألسنا ندرسه لكي نسير على درب الصالحين ونتجنب دروب الفاسدين؟!
لماذا لا نسير على خطوات قطز رحمه الله الواضحة الثابتة لنصل إلى عين جالوت في زمان كثر فيه التتار وأشباه التتار؟
والله ما عاد لدينا عذر.. فقد أقيمت علينا الحجة!!!
"ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة"
تلك كانت قصة قطز رحمه الله..
ولكن بقيت في القصة مفاجأة!!
الفصل الأخير!!
المفاجأة العجيبة في قصة قطز رحمه الله..
أنه لم يبق في كرسي الحكم إلا أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً فقط!! لم يُكمل السنة!!
كل هذا التاريخ المجيد، والإعداد المتقن، والتربية العالية، والانتصار المذهل، والنتائج الهائلة، والآثار العظيمة.. كل هذا في أقل من سنة!!
لقد مات قطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت بخمسين يوماً فقط..
ومع أنه حكم هذه الفترة البسيطة فقط.. إلا أنه كان من أعظم رجال الأرض..
إن قيمة الرجال وعظمتهم لا تقاس بطول العمر، ولا بكثرة المال، ولا بأبهة السلطان.. إنما تقاس بالأعمال الخالدة التي تغيّر من وجه التاريخ، ومن جغرافية العالم، وهى في ذات الوقت تثقل في ميزان الله عز وجل..
مَن قطز إذا لم يتمسك بشرع الله، وينتصر في عين جالوت بفضل تمسكه بهذا الشرع، والتزامه في السير في طريق الله عز وجل؟
من قطز بغير هذا الطريق؟
لا شك أن التاريخ كان سيُغفل اسمه كما أغفل أسماء الكثيرين الذين كانوا كغثاء السيل، بل كانوا وبالاً على شعوبهم وأوطانهم مع حكمهم الفترات الطويلة والأعمار المديدة.. لا شك أن حفر الاسم في سجل التاريخ يحتاج إلى رجال عظماء..
وليس بالضرورة أن يحتاج إلى وقت طويل..
الناس تعتقد أن التغيير لابد أن يأخذ فترات طويلة جداً.. ولذلك يُحبطون.. والحق غير ذلك.. التغيير لا يعتمد على الزمن.. إنما يعتمد على نوعية الرجال المغَيِّرين.. إن وُجد هؤلاء العظماء فالنصر القريب والتغيير ممكن.. بل أكيد.. إن شاء الله.
وإن لم يُوجد أمثال هؤلاء.. فقد تمر على الأمة عشرات السنين وهى لا تتقدم خطوة بل تتأخر الخطوات..
لقد كان الشيخ العز بن عبد السلام يخشى على الأمة بعد أن فقدت قطز رحمه الله بهذه السرعة.. كان يخشى أن يضيع النصر الكبير، وتنهار الأمة من جديد.. لقد قال بعد موت قطز وهو يبكى بشدة: "رحم الله شبابه، لو عاش طويلاً لجدد للإسلام شبابه"
ولكن قطز رحمه الله جدد فعلاً للإسلام شبابه، مع أنه لم يعش طويلاً..
لقد ظلت دولة المماليك قرابة ثلاثة قرون تذود عن حمى المسلمين، وترفع راية الإسلام.. لقد وضع قطز رحمه الله الأساس المتين.. وعليه سيبني الآخرون بناءً راسخاً.. وبغير الأساس لا يرتفع البناء..
يقول الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله: "ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله من يعادل قطز رحمه الله صلاحاً وعدلاً"
ونقول: كيف صنع قطز رحمه الله هذا المجد؟!
بل نقول: كيف صُنع "قطز" رحمه الله؟!
لقد صُنع قطز رحمه الله بكتاب الله القرآن، وبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أعظم معجزات هذا الدين هي "صناعة الرجال"!!
مَنْ عمر بغير الإسلام؟
مَنْ خالد بغير الإسلام؟
مَنْ طارق بن زياد بغير الإسلام؟
مَنْ قطز بغير الإسلام؟
والكتاب بين أيدينا، وكذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
حفظهما الله لنا.. وسيظلان كذلك إلى يوم القيامة..
ولن تضل الأمة أبداً ما دامت تتمسك بهما..
روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ الله وسنةَ نبيه"
ومَعين الأمة لا ينضب أبداً..
والله الذي خلق للأمة خالداً والقعقاع وطارقاً وصلاحاً وقطز سيخلق لها دوماً رجالاً يغيّرون من واقعها، ويجددون لها دينها وشبابها، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها إلى صدارة الأمم وقيادة العالم.. بل يقودونها إلى جنات النعيم..
ففي الإسلام - والله - عزّ الدنيا، وعزّ الآخرة..
وأخيرًا...
فقد انتهت قصة التتار.. وانتهت قصة عين جالوت..
ومات الصالحون.. ومات الطالحون.. مات الجند الظالمون، ومات الجند المؤمنون.. ومرت الأعوام والأعوام والقرون والقرون..
ذهبت الديار والرجال والقلاع والحصون..
ذهبت الأفراح والأتراح.. والضحكات والدموع..
ذهب كل شيء.. ولم تبق إلا العبرة..
"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
الذي بقي هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "تكفّل الله لمن جاهد في سبيله، لا يُخرجه إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كلماته بأن يدخلَه الجنة، أو يُرجعَه إلى مَسْكَنِه الذي خرج منه مع ما نال من أجرٍ أو غنيمة"..
الذي بقي هي السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير..
"إن ينصركم الله فلا غالب لكم"..
ونسأل الله أن يجعل حياتنا كلَها في سبيله..
وأن يجعل كلامنا وواقعنا ككلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وواقعهم عندما أجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً..
وأسأل الله أن يجعل لنا في التاريخ عبرة!!