مليون دولار بايبي | Million Dollar Baby
هذا الفيلم النيّر كان مدهماً في وصوله ونتاجه على السواء. آلية الإعلام المضجة لم تحطه سلفاً ومباشرة حين صنع كلينت إيستوود فيلمه الجيد "ميستيك ريفر" 2003 كان من المفترض بهذا السبعيني (74 سنة حينها ولا يزال مهنياً في قمة شبابه) قضاؤه استراحة سنة كاملة على الأقل، لكن بدلاً عن ذلك أنهى إيستوود إخراج هذا الفيلم في أغسطس 2004 وبهدوء أنجز تحريره خلال الخريف وأصدره في أيام السنة الأخيرة. النتيجة أربع أوسكارات لفيلم صغير كلفة وكبير فناً.
الفيلم الخامس العشرون لإيستوود إخراجاً عن مجال الملاكمة النسائية ما يذكر بأفلام لا تستأهل الذكر أصلاً، لكن هذا في كل طياته مصنوع بحرفة وشغف وصياغة بعمق لمخرج يكسر كليشيهات هذا النوع ويعبر فيه ببساطة مؤثرة عن عشقه وتأكيده لأهميات اتصال الناس بعضهم ببعض. أكثر من ذلك كان وجده إيستوود كوسيلة تعبير من القصص القصيرة لواضعها إف إكس تولي التي استمدها السيناريست بول هاجيس للفيلم والتي تجمع ثالوثاً من الخيوط الفكرية تحتويها سينما إيستوود هي: روابط وعلاقات الذات البشرية، تأثير الماضي والتغير الإنساني المكفر عن ذنب بعيد يعيد. في ذلك، للفيلم هناك مسارين متباينين على توحد وانسجام محكم.
وفي الفيلم أيضاًَ ثلاث من أداءات الوزن الثقيل. إيستوود نفسه (إلى جانب الإخراج والتمثيل أيضاً يلحن وينتج) كمدير الملاكمة الأشهب فرانكي الذي ترفض إبنته الوحيدة رؤيته ومراسلته (لسبب لا يقوله الفيلم) ثم مورغان فريمان في ثاني تعاون له مع إيستوود (الأول التحفة الغربية "لا يغتفر") كإيدي الملاكم المعتزل الأعور الذي يدير شؤون صالة فرانكي الرياضية وهيلاري سوانك كماغي النادلة الثلاثينية القاحلة التي تنصب على حلم امتهان لعبة الملاكمة أملاً في انجاز مسيرة احترافية مشرفة تحقق لها وجوداً وكياناً.
نوع أفلام الرياضة ترجع للحقبة الصامتة ولعبة الملاكمة أكثر فروعه وفرة إنتاجاً وفناً، وجزء مما يجعل "مليون دولار بيبي" منفرداً فيه في كونه لا ينشد وقوعاً في مطب ميلودراما النمطية التي غزلها النوع كثيراً والتي لا تترك لمشاهدها إلا شعوراً منفوخاً من انتصارات بطولية عسلية. لعل المسار الذي ينطلق به هذا الفيلم يحمل شيئاً من كلاسيكية الطراز، لكن الأصالة والمتعة في أتون تفاصيله وجوهر الفيلم يتحقق بخط السير النهائي منه (الربع الأخير تحديداً).
بعد رفض ومماطلة مديدة فرانكي يوافق على تدريب ماغي ، ففي نهاية المطاف إن الرغبة المشتعلة في ذاته لتحقيق انتصارات أكثر قبل الرحيل لم تطفأ بعد. من هنا وصاعداً تتبلور علاقة عميقة راقية وتجد الشخصيات (وهي فقط ثلاثة ) ذواتها في أحضان نعمة الحب العائلي وبالانتماء وبالقيمة الذاتية في التقرب والتوطد الإنساني.
هو فيلم حول حب ، تلك الصداقة والشراكة والاحترام المتبادل يجعل ماغي تجد في فرانكي الحب الأبوي المفقود وبالمقابل هو يمنحها الحب الذي لم يستطع منحه لإبنته المغتربة وكنوع من أنواع الكفارة. العلاقة تسمو على الألم والحرمان من ماضيهم وماضي شريك فرانك السابق إيدي الذي يجد ماغي شريكاً وانتصاراً كان لم يحققه. جانباً من هذا الفيلم هو فيلم ملاكمة، يحوي كثير من مشاهد التدرب والنزال والمشورات لكن التفاصيل (وبصوت الراوي فريمان الهاديء الآسر كحضوره) تلامس ببلاغة بسيطة قواعد ومواثيق اللعبة بحيثيات ومفاهيم الحياة.
إيستوود ممثلاً في العموم يمتلك إمكانيات جيدة لكن غالباً قولب نفسه في أفلام لا تستلزم منه تقنيات التعبير النفاذة، وفي هذا الفيلم أيضاً يجسد خصالاً من الشخصية المحببة التي يرتديها كبذلة عادة لكن الاختلاف بهذا الدور من كونه بمادة عاطفية معقدة وحيز مكنه من أن يشع شغفاً وصدقاً به.
هيلاري سوانك تمنح نبرة صوت ريفية ذليلة للشخصية ورائعة في جمع روح العزم والإصرار والقوة والقلق، الممثلة تملك جسداً وجمالاً رجولياً عزز من نجاح التأدية ووضوح تعبيرها وبساطتها وشدتها وبرائتها في آن كونت أداءاً كبيراً استحق تقديره مثبتة بأن أوسكارها الأول عن Boys Don't Cry (بدور امرأة تتخفى كرجل) لم يكن حظاً عفوياً.
هناك رهافة رائعة في العديد من مشاهد الفيلم ولمسة واقعية غير مسرفة. مشاهد الملاكمة يصورها إيستوود في توالٍ سريع، مُحكمة حقيقية لا غلو ولا تفريط ، ووقت أن تنجم عن كسر في غضروف الأنف فإنه يحفظ كاميراه هناك تماماً بلا قطع والأنف المتحطم تنزف دماه. أيضاً يوظف العمل توظيفاً جيداً بموسيقى وأجواء شاحبة حالمة تتماهى مع الموضوع موزعاً إضاءة وظلال تتخلل حضور الشخصيات بشكل متناغم معبر عن فراغات سوداء في ذواتهم.
أول ثلاثة أرباع من "مليون دولار بايبي" تواليات سهلة شيقة لكن وما بعدها نقلة وُضعت في تماسك متين مع السياق وما سبقها من أحداث لتحول الفيلم إلى دراما مشبعة من صدق الأحاسيس والعمق في صميم التجربة الإنسانية. لا يمكن قول أن الفيلم يحبذ أو يؤيد ذلك التوجه الذي ينتهي عليه، التحول كان جزءاً طبيعياً في السرد وفي وضع صمم كله لأجل رسالة مجانبة نيّرة تؤكد في طياتها بأن لا أسف على إخفاق إنما على عدم فرض المرء لوجوده.
هذا الفيلم النيّر كان مدهماً في وصوله ونتاجه على السواء. آلية الإعلام المضجة لم تحطه سلفاً ومباشرة حين صنع كلينت إيستوود فيلمه الجيد "ميستيك ريفر" 2003 كان من المفترض بهذا السبعيني (74 سنة حينها ولا يزال مهنياً في قمة شبابه) قضاؤه استراحة سنة كاملة على الأقل، لكن بدلاً عن ذلك أنهى إيستوود إخراج هذا الفيلم في أغسطس 2004 وبهدوء أنجز تحريره خلال الخريف وأصدره في أيام السنة الأخيرة. النتيجة أربع أوسكارات لفيلم صغير كلفة وكبير فناً.
الفيلم الخامس العشرون لإيستوود إخراجاً عن مجال الملاكمة النسائية ما يذكر بأفلام لا تستأهل الذكر أصلاً، لكن هذا في كل طياته مصنوع بحرفة وشغف وصياغة بعمق لمخرج يكسر كليشيهات هذا النوع ويعبر فيه ببساطة مؤثرة عن عشقه وتأكيده لأهميات اتصال الناس بعضهم ببعض. أكثر من ذلك كان وجده إيستوود كوسيلة تعبير من القصص القصيرة لواضعها إف إكس تولي التي استمدها السيناريست بول هاجيس للفيلم والتي تجمع ثالوثاً من الخيوط الفكرية تحتويها سينما إيستوود هي: روابط وعلاقات الذات البشرية، تأثير الماضي والتغير الإنساني المكفر عن ذنب بعيد يعيد. في ذلك، للفيلم هناك مسارين متباينين على توحد وانسجام محكم.
وفي الفيلم أيضاًَ ثلاث من أداءات الوزن الثقيل. إيستوود نفسه (إلى جانب الإخراج والتمثيل أيضاً يلحن وينتج) كمدير الملاكمة الأشهب فرانكي الذي ترفض إبنته الوحيدة رؤيته ومراسلته (لسبب لا يقوله الفيلم) ثم مورغان فريمان في ثاني تعاون له مع إيستوود (الأول التحفة الغربية "لا يغتفر") كإيدي الملاكم المعتزل الأعور الذي يدير شؤون صالة فرانكي الرياضية وهيلاري سوانك كماغي النادلة الثلاثينية القاحلة التي تنصب على حلم امتهان لعبة الملاكمة أملاً في انجاز مسيرة احترافية مشرفة تحقق لها وجوداً وكياناً.
نوع أفلام الرياضة ترجع للحقبة الصامتة ولعبة الملاكمة أكثر فروعه وفرة إنتاجاً وفناً، وجزء مما يجعل "مليون دولار بيبي" منفرداً فيه في كونه لا ينشد وقوعاً في مطب ميلودراما النمطية التي غزلها النوع كثيراً والتي لا تترك لمشاهدها إلا شعوراً منفوخاً من انتصارات بطولية عسلية. لعل المسار الذي ينطلق به هذا الفيلم يحمل شيئاً من كلاسيكية الطراز، لكن الأصالة والمتعة في أتون تفاصيله وجوهر الفيلم يتحقق بخط السير النهائي منه (الربع الأخير تحديداً).
بعد رفض ومماطلة مديدة فرانكي يوافق على تدريب ماغي ، ففي نهاية المطاف إن الرغبة المشتعلة في ذاته لتحقيق انتصارات أكثر قبل الرحيل لم تطفأ بعد. من هنا وصاعداً تتبلور علاقة عميقة راقية وتجد الشخصيات (وهي فقط ثلاثة ) ذواتها في أحضان نعمة الحب العائلي وبالانتماء وبالقيمة الذاتية في التقرب والتوطد الإنساني.
هو فيلم حول حب ، تلك الصداقة والشراكة والاحترام المتبادل يجعل ماغي تجد في فرانكي الحب الأبوي المفقود وبالمقابل هو يمنحها الحب الذي لم يستطع منحه لإبنته المغتربة وكنوع من أنواع الكفارة. العلاقة تسمو على الألم والحرمان من ماضيهم وماضي شريك فرانك السابق إيدي الذي يجد ماغي شريكاً وانتصاراً كان لم يحققه. جانباً من هذا الفيلم هو فيلم ملاكمة، يحوي كثير من مشاهد التدرب والنزال والمشورات لكن التفاصيل (وبصوت الراوي فريمان الهاديء الآسر كحضوره) تلامس ببلاغة بسيطة قواعد ومواثيق اللعبة بحيثيات ومفاهيم الحياة.
إيستوود ممثلاً في العموم يمتلك إمكانيات جيدة لكن غالباً قولب نفسه في أفلام لا تستلزم منه تقنيات التعبير النفاذة، وفي هذا الفيلم أيضاً يجسد خصالاً من الشخصية المحببة التي يرتديها كبذلة عادة لكن الاختلاف بهذا الدور من كونه بمادة عاطفية معقدة وحيز مكنه من أن يشع شغفاً وصدقاً به.
هيلاري سوانك تمنح نبرة صوت ريفية ذليلة للشخصية ورائعة في جمع روح العزم والإصرار والقوة والقلق، الممثلة تملك جسداً وجمالاً رجولياً عزز من نجاح التأدية ووضوح تعبيرها وبساطتها وشدتها وبرائتها في آن كونت أداءاً كبيراً استحق تقديره مثبتة بأن أوسكارها الأول عن Boys Don't Cry (بدور امرأة تتخفى كرجل) لم يكن حظاً عفوياً.
هناك رهافة رائعة في العديد من مشاهد الفيلم ولمسة واقعية غير مسرفة. مشاهد الملاكمة يصورها إيستوود في توالٍ سريع، مُحكمة حقيقية لا غلو ولا تفريط ، ووقت أن تنجم عن كسر في غضروف الأنف فإنه يحفظ كاميراه هناك تماماً بلا قطع والأنف المتحطم تنزف دماه. أيضاً يوظف العمل توظيفاً جيداً بموسيقى وأجواء شاحبة حالمة تتماهى مع الموضوع موزعاً إضاءة وظلال تتخلل حضور الشخصيات بشكل متناغم معبر عن فراغات سوداء في ذواتهم.
أول ثلاثة أرباع من "مليون دولار بايبي" تواليات سهلة شيقة لكن وما بعدها نقلة وُضعت في تماسك متين مع السياق وما سبقها من أحداث لتحول الفيلم إلى دراما مشبعة من صدق الأحاسيس والعمق في صميم التجربة الإنسانية. لا يمكن قول أن الفيلم يحبذ أو يؤيد ذلك التوجه الذي ينتهي عليه، التحول كان جزءاً طبيعياً في السرد وفي وضع صمم كله لأجل رسالة مجانبة نيّرة تؤكد في طياتها بأن لا أسف على إخفاق إنما على عدم فرض المرء لوجوده.