السلام عليكن ورحمة الله وبركاته
فقد الأحبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..فإن من يعش في هذه الدنيا يرى من عجائب الزمان صوراً، ومن حوادث الأيام عبراً، وكلما طال به الأمد، فإذا به يطوي المرحلة تلو المرحلة، حتى يصل إلى الغاية التي عندها منتهى أجله، وانقطاع أمله.
وإنه بين ذلك ليمر بمحطات الاختبار والامتحان، فمرة ينجو ويسلّم، ومرة يصاب في مقتل.
وكلما كان إيمان العبد بالله أقوى، كلما كان بلاؤه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: "يبتلى المرء على حسب دينه، فإن وجد في دينه رقة خفف عنه، وإن وجد في دينه صلابة زيد في بلائه"، وما هذا الابتلاء إلا من أجل تطهير العبد من الذنوب، ولا يزال الابتلاء به حتى يوم القيامة وقد كُفّرت سيئاته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
والفائز الحق عند هيجان عواصف الابتلاء، من قوى بالله يقينه، واطمأن قلبه لأقدار الله، وعلم أن كل شيء بقدر، {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}.
وعلى تنوع الابتلاءات التي تمر بالعبد، فإنه مأمور بالصبر على كل حال، لأن في الصبر تسلية للمصاب، وتهدئة للنفوس، وبعثاً للطمأنينة في قلب العبد.
وإن من أعظم ما يبتلى به المرء: (فقد الأحبة) من قريب أو صاحب..
وما الدهـر إلا هكذا فاصطبر لـه رزيـة مـالٍ أو فراق حبــيب
فبينما يعيش المرء في كنف والده، يغذوه بالحنان، ويمده بالعطف، ويعلمه كيف يعيش في هذه الدنيا على خير حال، فإذا بالموت يخطفه، وإذا به قد أقام تحت الجنادل وحيداً قد خلّف كل شيء وراءه ولم يأخذ معه إلا عمله، وإذ بذلك الابن الذي كان لا يعرف الهم، حمل هم أسرة فقدت عائلها فراح يكابد عناء المعيشة.
وإذا بفراغ يخيم على قلبه كلما علم أنه فقد باباً من أبواب البر وطريقاً إلى الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأَضع ذلك الباب أو احفظه".
فقد كان يطمع أن يلج الجنة من خلال ذلك الباب، براً وإحساناً فإذا به يفقده، وكم هي حسرة إنْ لم يكن قد أحسن معاشرة أبيه في حياته!..
وآخرون افتقدوا نبع الحنان الذي لا ينضب، من والدة كانت ترعى الصغير حتى كبر، وتأمل أن يكون لها متكئاً عند النوائب، تعلمه الوصل بإخوانه، والرحمة بأخواته، تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، لا تسأم ولا تمل.
وفجأة!! فإذا بها تودع الدنيا، مخلّفة قلوباً منكسرة، وأكباداً متصدعة، لا يُعلم على أي حال يكونون!.
فإذا بالولد يحتاج إلى مستند، وإذا بالبنت يُخاف عليها الضيعة إن لم تجد أباً أو أخا قوياً ناصحاً، وإذا بالأبناء قد افتقدوا سلماً إلى الجنة وجسراً موصلاً إليها.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك"، فقال: "هل لك من أم؟"، قال: "نعم"، قال: "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها".
وحق على من علم أن برها كنـز موصل إلى الجنة، أن يحزن على خسران ما يرجوه من البر والخير والعمل الصالح، وأن يكون هذا دافعاً لحسن صحبتها في الدنيا..
وأمـك كم بـاتت بثقلـك تشتكيتواصل ممـا شقهـا البـؤس والغمّـا
وفي الوضع كم عانت وحيـن فطامهامنيبـا يشـق الجلد واللحم والعظما
وكـم سهرت وجـداً عليك جفونها وأكبادها لهفاً بجمـر الأسى تحمـى
وكم غسلـت عنك الأذى بيمينــها حنوّاً وإشفاقـاً وأكثـرت الضمّـا
وآخر قد افتقد زوجةً كانت عنواناً في الأدب، ورأساً في العفة والسلوك الحسن، ومقدّمةً في الصلاح..، تحوطه بنصحها وخدمتها، ولا تقصّر في مطالبه.
وتعينه على صلة رحمه، تتودد إليه طاعةً لله، لا تفشي سرّه، ولا تظهر أمرَه.
فبينما هي كذلك إذ باغتها الأجل، فإذا به وحيداً من أنيس، وحوله أطفالٌ يُخشى عليهم الضياع بين يدي نساء لا يعرفن احتساب الأجر ولا جرّبن حلاوة الصبر..
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍولا فـرسٌ يموت ولا بعيـر
ولكـنَّ الرزية فقـد حريموت لمـوتـه خلـق كثير
وآخر قد افتقد ابناً كان يراه يترعرع بين يديه، كلما كبر رأى أحلامه فيه تكبر، وبينما هو يراه كالشجرة اليانعة، في كل يوم تزداد أغصانها زهواً، وعذوقها ثمرا..
وبينما يرى ابناً باراً به، يقوم بخدمته، ويتكيء عليه عند الملمات والضعف..
فجأة!.. فإذا بالموت يخترمه، وإذا به قد تصدع قلبه، وعاد فراغاً بعد أن كان مغتبطاً به فَرِحاً، وقد عظم عليه المصاب، وكاد أن يفقد صوابه، لكنه أيقن بموعود الله وصدّق بوعده، فإذا به صابراً محتسباً، لما علم من أجر الصبر على فقد الأحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
"وكان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبه" فقال: يا رسول الله: أحبك الله كما أحبُّه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما فعل ابن فلان؟" قالوا: يا رسول الله: مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما تحب ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟" فقال رجل: يا رسول الله: له خاصة أم لكلنا؟ قال: "بل لكلِّكم"".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم".
ومن الناس من يفقد أخاً كان له عوناً على ملمات الحوادث، وصولاً لرحمه، باذلاً نفسه في سبيل تحقيق راحته، قد رضعا من ثدي واحد وعاشا إلفين متآلفين، كلٌ منهما يعد أخاه ليوم حاجته، يستأنس به في الوحشة، ويخلفه في الغربة، وإذ بالموت يخطفه، وإذ به خاوي اليدين منه، وقد صار وحيداً بعد اجتماع، ضعيفاً بعد قوة ومنعه، مستهدفاً بعد تخوف.
وكم يزداد استيحاشه إذا كان ذا طاعة لربه، وسلوك حسن واستقامة على دين.
لما استشهد زيد بن الخطاب رضي الله عنه شقيق عمر بن الخطاب الأكبر ـ وهو من عبّاد الصحابة الأتقياء البررة ـ لما استشهد يوم اليمامة حزن عليه عمر كثيراً، وكان كثيراً ما يتذكره ويقول: ما هبت ريح الصبا إلا وأنا أجد ريح زيد.
ومن الناس من يفقد صديقاً، كان مؤنساً له في الوحشة، ومعيناً على الطاعة.
يقويه إذا ضعف، ويرشده إلى سبل الخير، ويسهّل له طرقه، قد اجتمعا على الطاعة وحسن القصد.
وفجأة!! إذ بالأجل يباغت صاحبه، في زمن قلّ فيه الأصدقاء الناصحون، والأحبةُ المخلصون المعينون على طاعة الله، وإذا به قد فقد من في فقده أبلغ التأثير.
فكم هو شديد على النفس أن تفقد ذا تقى، يهتدي به الضلال، ويستأنس به المستوحشون، ويسترشد به الحيارى..
إلى الله أشكـو لا إلى النـاس إنني أرى الأرض تُطوى والأخلاء تذهب
وهكذا تتنوع الابتلاءات في هذا الباب، وكلٌّ يفقد شخصاً يحبه ويوده ويألفه، ولكنَّ المصيبة العظمى!! أن كثيراً منا مفرطٌ في حقوق أحبته في حياتهم، فإذا رحلوا عن الدنيا بكى وتألم، وتمنى أن لو كان كذا وكذا.
فما دمنا في زمن الإمهال، فلماذا لا نحسن لأحبتنا ونعمل معهم في هذه الحياة، الذي طالما تمنينا فعله حين يُغَيَّبون عن أعيننا تحت الثرى؟!.
أيها الفضلاء.. إن من نعم الله على المؤمن، أن علم أنه في دار اختبار، فيورثه ذلك يقينا لا ينقطع.
ومن ابتُلي بفقد الأحبة فليعلم أن أعظم ما يعالج الإنسان فيه نفسه ويسلي قلبه، اليقين بأن ما قدره الله كائن لا محالة، وأنه لا يرد شيء من قضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، {وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}.
فإذا علم هذا الأصل العظيم، أورثه ذلك الصبر على الأقدار المؤلمة، ووجد بالصبر علاجه وراحته، قال تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
فلعظم منـزلة الصبر جعل الله تعالى لعبده هذا الأجر العظيم، من ثناء الله على العبد ورحمته له، وجعْلِه مهتدياً.
وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم لهذا الخلق الحسن الذي لا يأتي إلا بخير، وقد حث عليه بقوله وفعله وسيرته، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر".
ومَن أصابته مصيبة أو فقد حبيباً، فليتذكر مصيبته بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "من أصابته مصيبة فليتذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب".
فموته صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة وقعت على الأمة، لأن بموته انقطع الوحي وظهر الشر وانتشرت الفتن، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه، ورفعت الأمنة التي كانت بوجوده ودب التفرق والتشتت وكثر التخبط، قال أنس رضي الله عنه: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما مات صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وإنّا لفي دفنه ـ حتى أنكرنا قلوبنا".
اصبر لكل مصيبة وتجلّـد واعلم بأن المرء غيرُ مخلـد
وإذا ذكرت محمداً ومصابه فاجعل مصابك بالنبي محمد
وإذا احتسب العبد الأجر، ورزق الصبر، فقد هانت عليه مصيبته، وإذا تذكر معافاة الله له في جوانب كثيرة من حياته حمد الله أن لم تكن بلواه أعظم.
"جاء عن عروة بن الزبير ـ وكان عابداً تقياً ـ أنه قد وقعت في رجله الآكلة ـ وهو في سفر ـ فدُعي له الطبيب فقطع رجله من نصف الساق، فما سمع له حِسٌّ من صبره، ثم جاءه الخبر بوفاة ابنه محمد، وطأته بغلة في إسطبل فلم يسمع منه في ذلك كلمة، فلما رجع قافلاً قال: "لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت"".
ومن فقد حبيباً فليتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه ـ حبيبه ـ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة".
ومن علم أن الأرواح إنما هي أمانة في يد العبد، وأنها لا بد أن ترد إلى خالقها، وعلم أنه ليس بمخلد هانت عليه مصيبته، {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
وقد يبكي العبد من أجل فقد حبيب ارتحل عن هذه الدنيا، ولكن أما سأل نفسه كيف كان حاله معه في حياته؟
أكان يبر أماً وأباً؟ ويصل أختاً وأخاً؟ ويرحم زوجاً؟ ويشفق على ابنٍ؟ ويود صديقاً؟
أم أن العبد لا يتذكر هذه الصلات إلا في حال الموت والمفارقة..؟!
هل قمنا بواجب النصح لأحبتنا في حياتهم حتى إذا ماتوا وبكيناهم نبكي على فراقهم، ولا نبكي لأننا لا ندري على أي حال سيكونون في قبورهم، وقد كانوا في هذه الدنيا مسرفين.
هذا واعلموا أن الأحبة أحوج ما يكونون في قبورهم إلى أعمال الخير، التي تُرفع بها الدرجات، وتُمحى بها السيئات.. من صدقة..، ودعاء..، وإحسان..
فلا تبخلوا بما تستطيعون.
ألا واعلموا.. أن من كان باكي، فليبكِ على نفسه، وما رحيل هؤلاء الأحبة إلا إنذار لنا بأننا قريبٌ عن هذه الدنيا راحلون، ولهذه الدنيا مفارقون، فهل أحسنا العمل..؟؟!!
قال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فقال: يا محمد.. عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".
تبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الــدنيا فلـم يتفرقـوا
فهل قدمنا بين أيدينا من الأعمال الصالحة.. ما يكون سبباً في نجاتنا..؟؟!!
هل سينفعنا في قبورنا، دمعة تذرف، أو قلب ينـزف ويأن..؟، لا والله!، كل هذا يزول ويتلاشى ويُنسى، ولا يبق في القبور إلا العمل، فهل أخذنا معنا من الأعمال الصالحة ما تُنوَّر به القبور وتوسع، وتكون خير أنيس؟، أم لا زلنا نخوض في الغفلة رجاء أن يحسن لنا مَن بعدنا، وقد لا يحسن، وقد يحسن ولا يقبل..
ومن هانت عليه نفسه وضيعها.. كانت على غيره أهون..
إن لله عبــاداً فطنـــا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنـا
نظروا فيهـا ولمـا عَلمـوا أنـهـا ليست لحي وَطَنـا
جعلوهـا لُجـةً واتخـذواصالحَ الأعمالِ فيها سكنـاً
نسأل الله أن يرحمنا برحمته وأن يعاملنا بفضله وإحسانه، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون به علينا مصائب الدني، ونسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم، والشوق إلى لقائه، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
فقد الأحبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..فإن من يعش في هذه الدنيا يرى من عجائب الزمان صوراً، ومن حوادث الأيام عبراً، وكلما طال به الأمد، فإذا به يطوي المرحلة تلو المرحلة، حتى يصل إلى الغاية التي عندها منتهى أجله، وانقطاع أمله.
وإنه بين ذلك ليمر بمحطات الاختبار والامتحان، فمرة ينجو ويسلّم، ومرة يصاب في مقتل.
وكلما كان إيمان العبد بالله أقوى، كلما كان بلاؤه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: "يبتلى المرء على حسب دينه، فإن وجد في دينه رقة خفف عنه، وإن وجد في دينه صلابة زيد في بلائه"، وما هذا الابتلاء إلا من أجل تطهير العبد من الذنوب، ولا يزال الابتلاء به حتى يوم القيامة وقد كُفّرت سيئاته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
والفائز الحق عند هيجان عواصف الابتلاء، من قوى بالله يقينه، واطمأن قلبه لأقدار الله، وعلم أن كل شيء بقدر، {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}.
وعلى تنوع الابتلاءات التي تمر بالعبد، فإنه مأمور بالصبر على كل حال، لأن في الصبر تسلية للمصاب، وتهدئة للنفوس، وبعثاً للطمأنينة في قلب العبد.
وإن من أعظم ما يبتلى به المرء: (فقد الأحبة) من قريب أو صاحب..
وما الدهـر إلا هكذا فاصطبر لـه رزيـة مـالٍ أو فراق حبــيب
فبينما يعيش المرء في كنف والده، يغذوه بالحنان، ويمده بالعطف، ويعلمه كيف يعيش في هذه الدنيا على خير حال، فإذا بالموت يخطفه، وإذا به قد أقام تحت الجنادل وحيداً قد خلّف كل شيء وراءه ولم يأخذ معه إلا عمله، وإذ بذلك الابن الذي كان لا يعرف الهم، حمل هم أسرة فقدت عائلها فراح يكابد عناء المعيشة.
وإذا بفراغ يخيم على قلبه كلما علم أنه فقد باباً من أبواب البر وطريقاً إلى الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأَضع ذلك الباب أو احفظه".
فقد كان يطمع أن يلج الجنة من خلال ذلك الباب، براً وإحساناً فإذا به يفقده، وكم هي حسرة إنْ لم يكن قد أحسن معاشرة أبيه في حياته!..
وآخرون افتقدوا نبع الحنان الذي لا ينضب، من والدة كانت ترعى الصغير حتى كبر، وتأمل أن يكون لها متكئاً عند النوائب، تعلمه الوصل بإخوانه، والرحمة بأخواته، تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، لا تسأم ولا تمل.
وفجأة!! فإذا بها تودع الدنيا، مخلّفة قلوباً منكسرة، وأكباداً متصدعة، لا يُعلم على أي حال يكونون!.
فإذا بالولد يحتاج إلى مستند، وإذا بالبنت يُخاف عليها الضيعة إن لم تجد أباً أو أخا قوياً ناصحاً، وإذا بالأبناء قد افتقدوا سلماً إلى الجنة وجسراً موصلاً إليها.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك"، فقال: "هل لك من أم؟"، قال: "نعم"، قال: "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها".
وحق على من علم أن برها كنـز موصل إلى الجنة، أن يحزن على خسران ما يرجوه من البر والخير والعمل الصالح، وأن يكون هذا دافعاً لحسن صحبتها في الدنيا..
وأمـك كم بـاتت بثقلـك تشتكيتواصل ممـا شقهـا البـؤس والغمّـا
وفي الوضع كم عانت وحيـن فطامهامنيبـا يشـق الجلد واللحم والعظما
وكـم سهرت وجـداً عليك جفونها وأكبادها لهفاً بجمـر الأسى تحمـى
وكم غسلـت عنك الأذى بيمينــها حنوّاً وإشفاقـاً وأكثـرت الضمّـا
وآخر قد افتقد زوجةً كانت عنواناً في الأدب، ورأساً في العفة والسلوك الحسن، ومقدّمةً في الصلاح..، تحوطه بنصحها وخدمتها، ولا تقصّر في مطالبه.
وتعينه على صلة رحمه، تتودد إليه طاعةً لله، لا تفشي سرّه، ولا تظهر أمرَه.
فبينما هي كذلك إذ باغتها الأجل، فإذا به وحيداً من أنيس، وحوله أطفالٌ يُخشى عليهم الضياع بين يدي نساء لا يعرفن احتساب الأجر ولا جرّبن حلاوة الصبر..
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍولا فـرسٌ يموت ولا بعيـر
ولكـنَّ الرزية فقـد حريموت لمـوتـه خلـق كثير
وآخر قد افتقد ابناً كان يراه يترعرع بين يديه، كلما كبر رأى أحلامه فيه تكبر، وبينما هو يراه كالشجرة اليانعة، في كل يوم تزداد أغصانها زهواً، وعذوقها ثمرا..
وبينما يرى ابناً باراً به، يقوم بخدمته، ويتكيء عليه عند الملمات والضعف..
فجأة!.. فإذا بالموت يخترمه، وإذا به قد تصدع قلبه، وعاد فراغاً بعد أن كان مغتبطاً به فَرِحاً، وقد عظم عليه المصاب، وكاد أن يفقد صوابه، لكنه أيقن بموعود الله وصدّق بوعده، فإذا به صابراً محتسباً، لما علم من أجر الصبر على فقد الأحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
"وكان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبه" فقال: يا رسول الله: أحبك الله كما أحبُّه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما فعل ابن فلان؟" قالوا: يا رسول الله: مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما تحب ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟" فقال رجل: يا رسول الله: له خاصة أم لكلنا؟ قال: "بل لكلِّكم"".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم".
ومن الناس من يفقد أخاً كان له عوناً على ملمات الحوادث، وصولاً لرحمه، باذلاً نفسه في سبيل تحقيق راحته، قد رضعا من ثدي واحد وعاشا إلفين متآلفين، كلٌ منهما يعد أخاه ليوم حاجته، يستأنس به في الوحشة، ويخلفه في الغربة، وإذ بالموت يخطفه، وإذ به خاوي اليدين منه، وقد صار وحيداً بعد اجتماع، ضعيفاً بعد قوة ومنعه، مستهدفاً بعد تخوف.
وكم يزداد استيحاشه إذا كان ذا طاعة لربه، وسلوك حسن واستقامة على دين.
لما استشهد زيد بن الخطاب رضي الله عنه شقيق عمر بن الخطاب الأكبر ـ وهو من عبّاد الصحابة الأتقياء البررة ـ لما استشهد يوم اليمامة حزن عليه عمر كثيراً، وكان كثيراً ما يتذكره ويقول: ما هبت ريح الصبا إلا وأنا أجد ريح زيد.
ومن الناس من يفقد صديقاً، كان مؤنساً له في الوحشة، ومعيناً على الطاعة.
يقويه إذا ضعف، ويرشده إلى سبل الخير، ويسهّل له طرقه، قد اجتمعا على الطاعة وحسن القصد.
وفجأة!! إذ بالأجل يباغت صاحبه، في زمن قلّ فيه الأصدقاء الناصحون، والأحبةُ المخلصون المعينون على طاعة الله، وإذا به قد فقد من في فقده أبلغ التأثير.
فكم هو شديد على النفس أن تفقد ذا تقى، يهتدي به الضلال، ويستأنس به المستوحشون، ويسترشد به الحيارى..
إلى الله أشكـو لا إلى النـاس إنني أرى الأرض تُطوى والأخلاء تذهب
وهكذا تتنوع الابتلاءات في هذا الباب، وكلٌّ يفقد شخصاً يحبه ويوده ويألفه، ولكنَّ المصيبة العظمى!! أن كثيراً منا مفرطٌ في حقوق أحبته في حياتهم، فإذا رحلوا عن الدنيا بكى وتألم، وتمنى أن لو كان كذا وكذا.
فما دمنا في زمن الإمهال، فلماذا لا نحسن لأحبتنا ونعمل معهم في هذه الحياة، الذي طالما تمنينا فعله حين يُغَيَّبون عن أعيننا تحت الثرى؟!.
أيها الفضلاء.. إن من نعم الله على المؤمن، أن علم أنه في دار اختبار، فيورثه ذلك يقينا لا ينقطع.
ومن ابتُلي بفقد الأحبة فليعلم أن أعظم ما يعالج الإنسان فيه نفسه ويسلي قلبه، اليقين بأن ما قدره الله كائن لا محالة، وأنه لا يرد شيء من قضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، {وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}.
فإذا علم هذا الأصل العظيم، أورثه ذلك الصبر على الأقدار المؤلمة، ووجد بالصبر علاجه وراحته، قال تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
فلعظم منـزلة الصبر جعل الله تعالى لعبده هذا الأجر العظيم، من ثناء الله على العبد ورحمته له، وجعْلِه مهتدياً.
وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم لهذا الخلق الحسن الذي لا يأتي إلا بخير، وقد حث عليه بقوله وفعله وسيرته، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر".
ومَن أصابته مصيبة أو فقد حبيباً، فليتذكر مصيبته بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "من أصابته مصيبة فليتذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب".
فموته صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة وقعت على الأمة، لأن بموته انقطع الوحي وظهر الشر وانتشرت الفتن، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه، ورفعت الأمنة التي كانت بوجوده ودب التفرق والتشتت وكثر التخبط، قال أنس رضي الله عنه: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما مات صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وإنّا لفي دفنه ـ حتى أنكرنا قلوبنا".
اصبر لكل مصيبة وتجلّـد واعلم بأن المرء غيرُ مخلـد
وإذا ذكرت محمداً ومصابه فاجعل مصابك بالنبي محمد
وإذا احتسب العبد الأجر، ورزق الصبر، فقد هانت عليه مصيبته، وإذا تذكر معافاة الله له في جوانب كثيرة من حياته حمد الله أن لم تكن بلواه أعظم.
"جاء عن عروة بن الزبير ـ وكان عابداً تقياً ـ أنه قد وقعت في رجله الآكلة ـ وهو في سفر ـ فدُعي له الطبيب فقطع رجله من نصف الساق، فما سمع له حِسٌّ من صبره، ثم جاءه الخبر بوفاة ابنه محمد، وطأته بغلة في إسطبل فلم يسمع منه في ذلك كلمة، فلما رجع قافلاً قال: "لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت"".
ومن فقد حبيباً فليتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه ـ حبيبه ـ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة".
ومن علم أن الأرواح إنما هي أمانة في يد العبد، وأنها لا بد أن ترد إلى خالقها، وعلم أنه ليس بمخلد هانت عليه مصيبته، {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
وقد يبكي العبد من أجل فقد حبيب ارتحل عن هذه الدنيا، ولكن أما سأل نفسه كيف كان حاله معه في حياته؟
أكان يبر أماً وأباً؟ ويصل أختاً وأخاً؟ ويرحم زوجاً؟ ويشفق على ابنٍ؟ ويود صديقاً؟
أم أن العبد لا يتذكر هذه الصلات إلا في حال الموت والمفارقة..؟!
هل قمنا بواجب النصح لأحبتنا في حياتهم حتى إذا ماتوا وبكيناهم نبكي على فراقهم، ولا نبكي لأننا لا ندري على أي حال سيكونون في قبورهم، وقد كانوا في هذه الدنيا مسرفين.
هذا واعلموا أن الأحبة أحوج ما يكونون في قبورهم إلى أعمال الخير، التي تُرفع بها الدرجات، وتُمحى بها السيئات.. من صدقة..، ودعاء..، وإحسان..
فلا تبخلوا بما تستطيعون.
ألا واعلموا.. أن من كان باكي، فليبكِ على نفسه، وما رحيل هؤلاء الأحبة إلا إنذار لنا بأننا قريبٌ عن هذه الدنيا راحلون، ولهذه الدنيا مفارقون، فهل أحسنا العمل..؟؟!!
قال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فقال: يا محمد.. عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".
تبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الــدنيا فلـم يتفرقـوا
فهل قدمنا بين أيدينا من الأعمال الصالحة.. ما يكون سبباً في نجاتنا..؟؟!!
هل سينفعنا في قبورنا، دمعة تذرف، أو قلب ينـزف ويأن..؟، لا والله!، كل هذا يزول ويتلاشى ويُنسى، ولا يبق في القبور إلا العمل، فهل أخذنا معنا من الأعمال الصالحة ما تُنوَّر به القبور وتوسع، وتكون خير أنيس؟، أم لا زلنا نخوض في الغفلة رجاء أن يحسن لنا مَن بعدنا، وقد لا يحسن، وقد يحسن ولا يقبل..
ومن هانت عليه نفسه وضيعها.. كانت على غيره أهون..
إن لله عبــاداً فطنـــا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنـا
نظروا فيهـا ولمـا عَلمـوا أنـهـا ليست لحي وَطَنـا
جعلوهـا لُجـةً واتخـذواصالحَ الأعمالِ فيها سكنـاً
نسأل الله أن يرحمنا برحمته وأن يعاملنا بفضله وإحسانه، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون به علينا مصائب الدني، ونسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم، والشوق إلى لقائه، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.