أقوال الصحابة وحجيتها في التفسير
أكرم الله سبحانه هذه الأمة بسيدنا محمد r، لينقذها -حين ضلَّت وزاغت- من ظلمات الجهل وغيابات الضلال، وأنزل عليه ذلك الكتاب الخالد ما دامت السماوات والأرض، وقال له: "لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إنّ علينا بيانه" ( القيامة: 16-19)، فكان سبحانه هو المبيِّن الأول للمراد من آيات كتابه، فما أُجْمِلَ في مكان فُصِّلَ في موضع آخر، وأوكل سبحانه إلى رسوله عليه الصلاة والسلام بيان ما أجمل في القرآن كله: "وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون" (النحل: 44)، فكان عليه الصلاة والسلام المبيِّن الثاني للقرآن، وقام بهذه المهمة خير قيام، فشرح كلام ربه قولاً وفعلاً حتى كان بسلوكه قرآناً يمشي بين الناس، وكان صحابته الكرام يرجعون إليه ليبين لهم ما أشكل عليهم من آي الذكر الحكيم، ويفهمون ما وراء ذلك بسليقتهم الصافية، وفطرتهم النقية.
فلما انتقل رسول الله r إلى الرفيق الأعلى، صار صحبه الكرام يفسرون كتاب ربهم تارة بما يروونه عن نبيهم، وتارة بما ينقلونه عن لغتهم، وتارة بما يفتح الله عليهم من معاني هذا الكتاب وأسراره، وقد نقلت إلينا كثير من تفسيرات الصحابة رضي الله عنهم، وزخرت بها كتب التفسير لاسيما التفسير بالمأثور. ولكن ما قيمة هذه الأقوال في التفسير؟ وما مدى الاعتماد عليها والوقوف عندها؟ هل هي حجة بمثابة القرآن والسنة والإجماع بحيث لا يجوز للمفسر أن يخالف قول صحابي في تفسير آية؟! هذا ما سأتناوله في هذا المقال الذي جعلته في خمسة محاور هي:
أولاً: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً
الصحابي في اللغة:
الصحابي اسم منسوب إلى (الصحابة) الذي صار علماً على أولئك الذين كان لهم شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما جازت النسبة إلى الجمع مع أن الأصل النسبة إلى المفرد فيقال: صاحبي، لأن كلمة (الصحابة) جرت مجرى العلم، وذلك سائغ في اللغة كما قالوا: أنصاري، وأصولي.
والصحابة جمع صاحب، والصاحب في اللغة مشتق من الصُّحبة -بضم الصاد- وهي المعاشرة والملازمة والمرافقة كثيرة كانت أو قليلة (1)، ومنه قوله تعالى: "قال أصحاب موسى إنا لمدركون" (الشعراء: 61). وقولك: زيد صاحب عمرو، أي معاشره وملازمه، وصحبتُ فلاناً في سفره، أي رافقته، ولكن لا يطلق لفظ (صاحب) في العرف إلا على من كثرت ملازمته وطالت معاشرته (2).
الصحابي في الاصطلاح:
اختلف العلماء في تحديد الصحابي، فعرّفه جمهور المحدثين وبعض الأصوليين بأنه: "كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم تطل صحبته له، وإن لم يرو عنه شيئاً" (3). وأما جمهور الأصوليين فقالوا: "الصحابي مسلم اختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطالت صحبته معه على طريق الاتباع له والأخذ عنه" (4). وتظهر ثمرة الخلاف فيمن لم تَطُل صحبته، فهو عند المحدِّثين صحابي، لذلك لا يحتاج إلى التزكية والبحث عن عدالته، أما عند الأصوليين فإنه ليس صحابيّاً، لذلك يحتاج إلى التزكية والبحث عن عدالته، لأنه مجهول الحال (5).
ثانياً: تحرير موضوع النزاع في هذه المسألة
لابد قبل عرض آراء العلماء في أقوال الصحابة، وأدلة كل فريق من تحرير موضع النزاع، وبيان مواطن الاتفاق في هذه المسألة ومواطن الاختلاف فأقول:
1- اتفق العلماء على أن إجماع الصحابة حجة لا ريب فيها، حتى إن داود الظاهري ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة، فإذا وجد المفسر هذا الإجماع في تفسير لفظة أو إقرار حكم فليس له أن يتجاوز إجماعهم (6).
2- اتفق العلماء على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر، قال الآمدي: "اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً (7).
3- اتفق العلماء على أنه إذا قال الصحابي الذي لا يُعْرَف بالأخذ عن الإسرائيليات قولاً لا مجال للرأي فيه كان قوله حجة، لأن له حكم المرفوع كما قرر علماء الحديث (.
ومثال هذا الذي له حكم المرفوع ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" (النجم: 18) قال: "رأى رفرفاً أخضر قد سدَّ الأفق" (9)، وما أخرجه أيضاً بسنده عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر" قالت: هو نهر أُعطيه نبيكم r، شاطئاه عليه دُرٌّ مجوَّف، آنيته كعدد النجوم" (10).
فهذه الصور الثلاث خارجة عن موضع النزاع، وإنما صورة الخلاف هنا: إذا قال الصحابي قولاً باجتهاده -سواء في الفقه أو في التفسير- ولم يكن موضع إجماع عند الصحابة، فما حكم هذا القول بالنسبة لمن بعد الصحابة من المجتهدين؟ هل هو حجة أم لا؟ هذا هو موضع النزاع الذي سأوجز القول فيه في المحاور الآتية.
ثالثاً: القائلون بحجيّة أقوال الصحابة وأدلتهم
ذهب إلى حجية قول الصحابي الإمام مالك في المشهور من أقواله، والشافعي في مذهبه القديم وقيل في الجديد أيضاً، ونسب هذا القول إلى أبي حنيفة (11) وهو قول الإمام أحمد على الأصح (12) وإليه ذهب ابن تيمية (13) وابن القيم (14)، وقال به من المفسرين ابن كثير (15).
واستدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة من الكتاب والسنة والمعقول، وفيما يلي أهم هذه الأدلة:
أدلتهم من الكتاب:
1- قوله تعالى: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم" (التوبة: 100).
وجه الدلالة: يقول ابن القيم – رحمه الله - : " فوجه الدلالة أن الله تعالى اثنى على من اتبعهم (أي الصحابة)، فإذا قالوا قولاً فاتبعهم عليه متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك وأن يستحق الرضوان، ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميّاً، وأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذٍ" (16).
2- قوله تعالى: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " (يوسف: 108).
وجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر أن من اتبع الرسول r يدعو إلى الله، ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب اتباعه لقوله تعالى - فيما حكاه عن الجن - : " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به" (الأحقاف: 31) (17).
3- قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران: 110).
وجه الدلالة: أن هذه الآية قد قررت - وهي خطاب مشافهة للصحابة - أن كلَّ ما أمروا معروف، وكلَّ ما نهوا عنه منكر، فيكون الأخذ بقول الواحد منهم أو مذهبه واجباً، لأن الأمر بالمعروف واجب القبول، والنهي عن المنكر واجب الامتثال (18).
أدلتهم من السنة:
1- ما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (19).
وجه الدلالة: أن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر أن خير الناس قرنَه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، فأقوالهم إذاً مقدَّمة قطعاً على أقوال من بعدهم؛ لأنها خير منها (20)
2- ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " (21).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب الاهتداء بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم، فليس أمانهم للأمة إلا برجوعها إلى مذاهبهم (22).
3- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وجه الدلالة: أن ظاهر الحديث يقتضي جواز الاقتداء بالواحد منهم، وأن الاقتداء به اهتداء، وإذا كان مذهبه محكوماً له بالهدى لم يجز العدول عنه إلى غيره (23).
دليلهم من المعقول:
وذلك من وجهين:
1- أنه يحتمل أن يكون مستند قول الصحابي النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- أن قول الصحابي وإن كان صادراً عن الرأي ، فرأي الصحابة أقوى من رأي غيرهم وأقرب إلى الحق؛ لأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وفهموا التأويل، وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب، ولهم من سلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، ونقاء عقيدتهم، وعلوِّ كعبهم في الفصاحة والبيان ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكتاب الله (24).
رابعاً: القائلون بعدم حجية أقوال الصحابة وأدلتهم:
ذهب إلى أن قول الصحابة ليس بحجة مطلقاً، وإنما هو كقول غيره من المجتهدين جمهور الأصوليين، فهو مذهب الإمام الشافعي في جديده، وهو قول جمهور أصحابه كالبيضاوي والآمدي والغزالي والرازي وغيرهم (25)، وهو رواية عن أحمد (26)، وهو قول للإمام مالك (27)، وقال به جماعة من الحنفية كأبي الحسن الكرخي والدبوسي وغيرهما (28)، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري (29)، وقال به من المفسرين الإمام الشوكاني (30).
واستدلوا بعدة أدلة من الكتاب والإجماع والقياس والمعقول.
أدلتهم من الكتاب:
1- قوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر: 2).
وجه الدلالة : أن الآية الكريمة دلّت على وجوب الاعتبار أي الاجتهاد، والتقليد ينافيه سواء أكان تقليداً لصحابي أم لغيره (31).
2- قوله تعالى: " فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول " (النساء: 59).
وجه الدلالة : أن الآية الكريمة نصت على أنه عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، فالرجوع إلى قول الصحابي يكون تركاً للواجب وهو ممتنع (32).
دليلهم من الإجماع:
أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، ولو كان قول الواحد منهم حجة لما كان كذلك، ولوقع الإنكار على من خالفه منهم.
دليلهم من القياس:
أنه قد تمَّ الاتفاق على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من المجتهدين في أصول الدين، فلا يكون حجة في فروعها، والجامع تمكن المجتهد في الموضعين من الوقوف على الحكم بطريقه (33).
دليلهم من المعقول:
وذلك من وجوه:
1- أن الصحابي يجوز عليه الخطأ والسهو، ولم تثبت عصمته فلا حجة في قوله، وقد كان الواحد منهم ربما يجتهد، ثم يتبيَّن له الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف قوله.
مثال ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن حُمُر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ: " قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً " (الأنعام: 145). (34)
قال صديق خان معقباً على قول ابن عباس : " وأقول: وإن أبى ذلك البحر ابن عباس فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف" (35).
2- أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل، وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من المجتهدين لكانت حجج الله مختلفة ومتناقضة، ولم يكن اتباع البعض أولى من البعض الآخر (36).
3- أنه قد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم، صح ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم، وكلهم يقول: (أقول هذا برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي، وزاد بعضهم (ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان)، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرأوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس ديناً، وما دام قد ظهر منهم الفتوى بالرأي واشتهر، وبما أن احتمال الخطأ في اجتهادهم ثابت لكونهم غير معصومين من الخطأ كسائر المجتهدين؛ فإن مذهبهم متردد بين الخطأ والصواب كسائر المجتهدين؛ فلا يكون حجة (37).
4- أن قول الصحابي لو كان حجة لكان قول الأعلم والأفضل حجة على غيره، واللازم منتف بالإجماع، فالملزوم منتف كذلك.
5- أنه قد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم قد سوّغوا للتابعين الاجتهاد معهم، وكانوا يفتون مع توافر الصحابة، بل يخالفونهم في مسائل عديدة، ولم ينقل عن الصحابة أنهم أنكروا عليهم ذلك، بل كانوا يقرونهم عليه، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره لما ساغ للتابعي ذلك، ولأنكر عليه الصحابي مخالفته لمذهبه.
خامساً: بيان القول الراجح
وبعد هذه الجولة مع أدلة القائلين بحجية أقوال الصحابة والنافين لها، أجدني أميل إلى أن أقوال الصحابة – على شرفهم وشرفها- ليست بحجة ملزمة، وذلك لاطمئنان نفسي واقتناع عقلي بأدلة النافين لحجية قول الصاحب، وأما أدلة القائلين بالحجية فالجواب عنها كما يلي:
الجواب عن أدلتهم من الكتاب:
1- أما استدلالهم بقوله تعالى: " والسابقون الأولون " الآية؛ فالجواب أن المقصود باتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل، وهو سلوك سبيل الاجتهاد، لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله: " بإحسان" ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان، لأنه لو كان مطلق الاتباع محموداً لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان (38).
2- وأما استدلالهم بقوله : " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله " الآية، فالجواب أن المجتهدين في سائر الأزمان يتبعون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يدعون إلى الله على بصيرة، فالصحابة وغيرهم مأمورون بالدعوة إلى الله على بصيرة أي بالدليل، وهذا ينافي التقليد.
3- وأما استدلالهم بقوله : " كنتم خير أمة " الآية، فالجواب أن الخطاب في الآية وإن كان خطاب مشافهة فهو متوجه إلى جميع الأمة إلى آخر الزمان، ولا يختص بالصحابة، وهذا هو الصحيح، وبناءً عليه لا يمكن الاستدلال بالآية على حجية مذهب الصحابي، وإلا وجبت حجية مذهب كل من أمر بمعروف أو نهى عن منكر من الأمة، وهذا خلاف الإجماع (39).
وأما ما استدلوا به من السنة:
فالجواب أن غاية ما يستفاد من هذه الأحاديث هو الثناء عليهم، الذي يوجب حسن الاعتقاد فيهم من حيث فضلهم وعلمهم ودينهم محلهم عند الله تعالى، ولا يعني ذلك حجية أقوالهم، على أن الحديث الثالث " أصحابي كالنجوم " إما موضوع (40) وإما ضعيف جدّاً لا تقوم به حجة.
الجواب عن دليلهم من المعقول:
1- أما استدلالهم باحتمال أن يكون مستند قول الصحابي النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب أنَّا لا نسلم أن مستنده النقل، لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه، لأنه من العلوم النافعة التي يجب نشرها، لاسيما وقد علم إثم الذي يكتم العلم عن الناس.
2- وأما استدلالهم بفضل الصحابة رضي الله عنهم وعظيم شأنهم وعلوِّ قدرهم في العلم واللغة والفهم التام والاعتقاد السليم، فالجواب أنا لا ننكر شيئاً مما ذكرتموه، فإن مقام الصحبة مقام عظيم تكمل به الفضيلة ويعظم به الشأن، ولكنَّ هذا شيء، والعصمة من الخطأ شيء آخر، والله لم يبعث لهذه الأمة إلا رسولاً واحداً نأخذ عنه دون تردد، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (41).
أكرم الله سبحانه هذه الأمة بسيدنا محمد r، لينقذها -حين ضلَّت وزاغت- من ظلمات الجهل وغيابات الضلال، وأنزل عليه ذلك الكتاب الخالد ما دامت السماوات والأرض، وقال له: "لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إنّ علينا بيانه" ( القيامة: 16-19)، فكان سبحانه هو المبيِّن الأول للمراد من آيات كتابه، فما أُجْمِلَ في مكان فُصِّلَ في موضع آخر، وأوكل سبحانه إلى رسوله عليه الصلاة والسلام بيان ما أجمل في القرآن كله: "وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون" (النحل: 44)، فكان عليه الصلاة والسلام المبيِّن الثاني للقرآن، وقام بهذه المهمة خير قيام، فشرح كلام ربه قولاً وفعلاً حتى كان بسلوكه قرآناً يمشي بين الناس، وكان صحابته الكرام يرجعون إليه ليبين لهم ما أشكل عليهم من آي الذكر الحكيم، ويفهمون ما وراء ذلك بسليقتهم الصافية، وفطرتهم النقية.
فلما انتقل رسول الله r إلى الرفيق الأعلى، صار صحبه الكرام يفسرون كتاب ربهم تارة بما يروونه عن نبيهم، وتارة بما ينقلونه عن لغتهم، وتارة بما يفتح الله عليهم من معاني هذا الكتاب وأسراره، وقد نقلت إلينا كثير من تفسيرات الصحابة رضي الله عنهم، وزخرت بها كتب التفسير لاسيما التفسير بالمأثور. ولكن ما قيمة هذه الأقوال في التفسير؟ وما مدى الاعتماد عليها والوقوف عندها؟ هل هي حجة بمثابة القرآن والسنة والإجماع بحيث لا يجوز للمفسر أن يخالف قول صحابي في تفسير آية؟! هذا ما سأتناوله في هذا المقال الذي جعلته في خمسة محاور هي:
أولاً: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً
الصحابي في اللغة:
الصحابي اسم منسوب إلى (الصحابة) الذي صار علماً على أولئك الذين كان لهم شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما جازت النسبة إلى الجمع مع أن الأصل النسبة إلى المفرد فيقال: صاحبي، لأن كلمة (الصحابة) جرت مجرى العلم، وذلك سائغ في اللغة كما قالوا: أنصاري، وأصولي.
والصحابة جمع صاحب، والصاحب في اللغة مشتق من الصُّحبة -بضم الصاد- وهي المعاشرة والملازمة والمرافقة كثيرة كانت أو قليلة (1)، ومنه قوله تعالى: "قال أصحاب موسى إنا لمدركون" (الشعراء: 61). وقولك: زيد صاحب عمرو، أي معاشره وملازمه، وصحبتُ فلاناً في سفره، أي رافقته، ولكن لا يطلق لفظ (صاحب) في العرف إلا على من كثرت ملازمته وطالت معاشرته (2).
الصحابي في الاصطلاح:
اختلف العلماء في تحديد الصحابي، فعرّفه جمهور المحدثين وبعض الأصوليين بأنه: "كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم تطل صحبته له، وإن لم يرو عنه شيئاً" (3). وأما جمهور الأصوليين فقالوا: "الصحابي مسلم اختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطالت صحبته معه على طريق الاتباع له والأخذ عنه" (4). وتظهر ثمرة الخلاف فيمن لم تَطُل صحبته، فهو عند المحدِّثين صحابي، لذلك لا يحتاج إلى التزكية والبحث عن عدالته، أما عند الأصوليين فإنه ليس صحابيّاً، لذلك يحتاج إلى التزكية والبحث عن عدالته، لأنه مجهول الحال (5).
ثانياً: تحرير موضوع النزاع في هذه المسألة
لابد قبل عرض آراء العلماء في أقوال الصحابة، وأدلة كل فريق من تحرير موضع النزاع، وبيان مواطن الاتفاق في هذه المسألة ومواطن الاختلاف فأقول:
1- اتفق العلماء على أن إجماع الصحابة حجة لا ريب فيها، حتى إن داود الظاهري ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة، فإذا وجد المفسر هذا الإجماع في تفسير لفظة أو إقرار حكم فليس له أن يتجاوز إجماعهم (6).
2- اتفق العلماء على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر، قال الآمدي: "اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً (7).
3- اتفق العلماء على أنه إذا قال الصحابي الذي لا يُعْرَف بالأخذ عن الإسرائيليات قولاً لا مجال للرأي فيه كان قوله حجة، لأن له حكم المرفوع كما قرر علماء الحديث (.
ومثال هذا الذي له حكم المرفوع ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" (النجم: 18) قال: "رأى رفرفاً أخضر قد سدَّ الأفق" (9)، وما أخرجه أيضاً بسنده عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر" قالت: هو نهر أُعطيه نبيكم r، شاطئاه عليه دُرٌّ مجوَّف، آنيته كعدد النجوم" (10).
فهذه الصور الثلاث خارجة عن موضع النزاع، وإنما صورة الخلاف هنا: إذا قال الصحابي قولاً باجتهاده -سواء في الفقه أو في التفسير- ولم يكن موضع إجماع عند الصحابة، فما حكم هذا القول بالنسبة لمن بعد الصحابة من المجتهدين؟ هل هو حجة أم لا؟ هذا هو موضع النزاع الذي سأوجز القول فيه في المحاور الآتية.
ثالثاً: القائلون بحجيّة أقوال الصحابة وأدلتهم
ذهب إلى حجية قول الصحابي الإمام مالك في المشهور من أقواله، والشافعي في مذهبه القديم وقيل في الجديد أيضاً، ونسب هذا القول إلى أبي حنيفة (11) وهو قول الإمام أحمد على الأصح (12) وإليه ذهب ابن تيمية (13) وابن القيم (14)، وقال به من المفسرين ابن كثير (15).
واستدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة من الكتاب والسنة والمعقول، وفيما يلي أهم هذه الأدلة:
أدلتهم من الكتاب:
1- قوله تعالى: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم" (التوبة: 100).
وجه الدلالة: يقول ابن القيم – رحمه الله - : " فوجه الدلالة أن الله تعالى اثنى على من اتبعهم (أي الصحابة)، فإذا قالوا قولاً فاتبعهم عليه متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك وأن يستحق الرضوان، ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميّاً، وأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذٍ" (16).
2- قوله تعالى: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " (يوسف: 108).
وجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر أن من اتبع الرسول r يدعو إلى الله، ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب اتباعه لقوله تعالى - فيما حكاه عن الجن - : " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به" (الأحقاف: 31) (17).
3- قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران: 110).
وجه الدلالة: أن هذه الآية قد قررت - وهي خطاب مشافهة للصحابة - أن كلَّ ما أمروا معروف، وكلَّ ما نهوا عنه منكر، فيكون الأخذ بقول الواحد منهم أو مذهبه واجباً، لأن الأمر بالمعروف واجب القبول، والنهي عن المنكر واجب الامتثال (18).
أدلتهم من السنة:
1- ما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (19).
وجه الدلالة: أن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر أن خير الناس قرنَه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، فأقوالهم إذاً مقدَّمة قطعاً على أقوال من بعدهم؛ لأنها خير منها (20)
2- ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " (21).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب الاهتداء بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم، فليس أمانهم للأمة إلا برجوعها إلى مذاهبهم (22).
3- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وجه الدلالة: أن ظاهر الحديث يقتضي جواز الاقتداء بالواحد منهم، وأن الاقتداء به اهتداء، وإذا كان مذهبه محكوماً له بالهدى لم يجز العدول عنه إلى غيره (23).
دليلهم من المعقول:
وذلك من وجهين:
1- أنه يحتمل أن يكون مستند قول الصحابي النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- أن قول الصحابي وإن كان صادراً عن الرأي ، فرأي الصحابة أقوى من رأي غيرهم وأقرب إلى الحق؛ لأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وفهموا التأويل، وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب، ولهم من سلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، ونقاء عقيدتهم، وعلوِّ كعبهم في الفصاحة والبيان ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكتاب الله (24).
رابعاً: القائلون بعدم حجية أقوال الصحابة وأدلتهم:
ذهب إلى أن قول الصحابة ليس بحجة مطلقاً، وإنما هو كقول غيره من المجتهدين جمهور الأصوليين، فهو مذهب الإمام الشافعي في جديده، وهو قول جمهور أصحابه كالبيضاوي والآمدي والغزالي والرازي وغيرهم (25)، وهو رواية عن أحمد (26)، وهو قول للإمام مالك (27)، وقال به جماعة من الحنفية كأبي الحسن الكرخي والدبوسي وغيرهما (28)، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري (29)، وقال به من المفسرين الإمام الشوكاني (30).
واستدلوا بعدة أدلة من الكتاب والإجماع والقياس والمعقول.
أدلتهم من الكتاب:
1- قوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر: 2).
وجه الدلالة : أن الآية الكريمة دلّت على وجوب الاعتبار أي الاجتهاد، والتقليد ينافيه سواء أكان تقليداً لصحابي أم لغيره (31).
2- قوله تعالى: " فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول " (النساء: 59).
وجه الدلالة : أن الآية الكريمة نصت على أنه عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، فالرجوع إلى قول الصحابي يكون تركاً للواجب وهو ممتنع (32).
دليلهم من الإجماع:
أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، ولو كان قول الواحد منهم حجة لما كان كذلك، ولوقع الإنكار على من خالفه منهم.
دليلهم من القياس:
أنه قد تمَّ الاتفاق على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من المجتهدين في أصول الدين، فلا يكون حجة في فروعها، والجامع تمكن المجتهد في الموضعين من الوقوف على الحكم بطريقه (33).
دليلهم من المعقول:
وذلك من وجوه:
1- أن الصحابي يجوز عليه الخطأ والسهو، ولم تثبت عصمته فلا حجة في قوله، وقد كان الواحد منهم ربما يجتهد، ثم يتبيَّن له الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف قوله.
مثال ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن حُمُر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ: " قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً " (الأنعام: 145). (34)
قال صديق خان معقباً على قول ابن عباس : " وأقول: وإن أبى ذلك البحر ابن عباس فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف" (35).
2- أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل، وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من المجتهدين لكانت حجج الله مختلفة ومتناقضة، ولم يكن اتباع البعض أولى من البعض الآخر (36).
3- أنه قد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم، صح ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم، وكلهم يقول: (أقول هذا برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي، وزاد بعضهم (ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان)، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرأوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس ديناً، وما دام قد ظهر منهم الفتوى بالرأي واشتهر، وبما أن احتمال الخطأ في اجتهادهم ثابت لكونهم غير معصومين من الخطأ كسائر المجتهدين؛ فإن مذهبهم متردد بين الخطأ والصواب كسائر المجتهدين؛ فلا يكون حجة (37).
4- أن قول الصحابي لو كان حجة لكان قول الأعلم والأفضل حجة على غيره، واللازم منتف بالإجماع، فالملزوم منتف كذلك.
5- أنه قد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم قد سوّغوا للتابعين الاجتهاد معهم، وكانوا يفتون مع توافر الصحابة، بل يخالفونهم في مسائل عديدة، ولم ينقل عن الصحابة أنهم أنكروا عليهم ذلك، بل كانوا يقرونهم عليه، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره لما ساغ للتابعي ذلك، ولأنكر عليه الصحابي مخالفته لمذهبه.
خامساً: بيان القول الراجح
وبعد هذه الجولة مع أدلة القائلين بحجية أقوال الصحابة والنافين لها، أجدني أميل إلى أن أقوال الصحابة – على شرفهم وشرفها- ليست بحجة ملزمة، وذلك لاطمئنان نفسي واقتناع عقلي بأدلة النافين لحجية قول الصاحب، وأما أدلة القائلين بالحجية فالجواب عنها كما يلي:
الجواب عن أدلتهم من الكتاب:
1- أما استدلالهم بقوله تعالى: " والسابقون الأولون " الآية؛ فالجواب أن المقصود باتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل، وهو سلوك سبيل الاجتهاد، لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله: " بإحسان" ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان، لأنه لو كان مطلق الاتباع محموداً لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان (38).
2- وأما استدلالهم بقوله : " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله " الآية، فالجواب أن المجتهدين في سائر الأزمان يتبعون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يدعون إلى الله على بصيرة، فالصحابة وغيرهم مأمورون بالدعوة إلى الله على بصيرة أي بالدليل، وهذا ينافي التقليد.
3- وأما استدلالهم بقوله : " كنتم خير أمة " الآية، فالجواب أن الخطاب في الآية وإن كان خطاب مشافهة فهو متوجه إلى جميع الأمة إلى آخر الزمان، ولا يختص بالصحابة، وهذا هو الصحيح، وبناءً عليه لا يمكن الاستدلال بالآية على حجية مذهب الصحابي، وإلا وجبت حجية مذهب كل من أمر بمعروف أو نهى عن منكر من الأمة، وهذا خلاف الإجماع (39).
وأما ما استدلوا به من السنة:
فالجواب أن غاية ما يستفاد من هذه الأحاديث هو الثناء عليهم، الذي يوجب حسن الاعتقاد فيهم من حيث فضلهم وعلمهم ودينهم محلهم عند الله تعالى، ولا يعني ذلك حجية أقوالهم، على أن الحديث الثالث " أصحابي كالنجوم " إما موضوع (40) وإما ضعيف جدّاً لا تقوم به حجة.
الجواب عن دليلهم من المعقول:
1- أما استدلالهم باحتمال أن يكون مستند قول الصحابي النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب أنَّا لا نسلم أن مستنده النقل، لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه، لأنه من العلوم النافعة التي يجب نشرها، لاسيما وقد علم إثم الذي يكتم العلم عن الناس.
2- وأما استدلالهم بفضل الصحابة رضي الله عنهم وعظيم شأنهم وعلوِّ قدرهم في العلم واللغة والفهم التام والاعتقاد السليم، فالجواب أنا لا ننكر شيئاً مما ذكرتموه، فإن مقام الصحبة مقام عظيم تكمل به الفضيلة ويعظم به الشأن، ولكنَّ هذا شيء، والعصمة من الخطأ شيء آخر، والله لم يبعث لهذه الأمة إلا رسولاً واحداً نأخذ عنه دون تردد، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (41).