للشيخ
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
راجعها أحد طلبة العلم
السلام عليكم ورحمة الله ..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن من أعظم النعم التي أنعم الله U بها على هذه الأمة أن أتم لها النعمة وأكمل عليها الدين؛ وذلك أن الله عز وجل قد أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام قوله جل وعلا : }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { ؛ فسمى الله جل وعلا الدين نعمة، وهو أعظم نعمة رزق الله U بها العباد والخلق؛ وهو أن تكون علة وجودهم عبادة الله جل وعلا والانصراف إليه، وأن تكون تلك العلة على محجةٍ بيضاءٍ وطريقةٍ بيِّنةٍ واضحةٍ؛ فكانت شريعة الله U من أعظم الشرائع، بل أعظم الشرائع على الإطلاق؛ حتى أنها كانت ناسخةً لما قبلها من الشرائع السماوية.
ولما أتم الله U على هذه الأمة الدين جعل من تمامه أنه صالحٌ لكل زمان ومكان؛ فلا يعوذه إحداثٌ وابتداعٌ، ولا ينقصه إدخالُ دخيلٍ فيه؛ وذلك أنه كاملٌ لا يقدح فيه شيءٌ ولا يناله قصورٌ؛ لهذا جعله الله U ناسخاً، وهو العالِم I بتغير الأحوال والزمان؛ فلا دين بعده، ولا نبيَّ بعد نبيِّنا محمد r إلى أن يرث الله U الأرض وما عليها.
إن شمولية هذا الدين وكماله هي من أعظم ما يُحِّيرُ الناظرين للإسلام عَن بُعدٍ، ويَأسر قلوب المتمسكين به الملتزمين بأوامر الله U والممتثلين لها بأن يكونوا على بيِّنةٍ ويقين من ربهم؛ وذلك أن الله U قد جَعل أصولاً يندرج تحتها كثيرٌ من المسائل الفرعية من فروع الدين مما نَصَّ عليه النبيُّ r ومما لم ينص من نوازل الأحكام وحوادث الزمان التي يستوعبها الدين بلا نقصان، وهذا لا شَكَّ أنه عند الناظِر فيه من أعظم المعجزات التي جعلها الله U في هذا الدين ظاهرةً باقيةً إلى قيام الساعة.
ثُمَّ مِنْ كمال هذه النِّعمة أن جعل الله U هذا الدين محفوظاً، لا يناله الدخيل ما دام أهلُ العلم قائمين بأمْر الله، وجعل الله جل وعلا أصل المَحجَّة كتابه I محفوظاً إلى قيام الساعة؛ منه بدأ وإليه يعود، وما تقرَّب مُتقربٌ بمثل ما خرج منه؛ قال الله جل وعلا : }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { ؛ لمَّا كان هذا في أصل الدين كان في فَرعه حمايةٌ من الأصْل لذلك الفَرْع، أو لتلك الأصول التي كانت تحته من جهة الجلالة والقدر - وإن كانت قسيمة له من جهة الاحتجاج – كالسُّنَّة والإجماع والقياس وغير ذلك مما يطول ذِكْرُهُ مِمَّا ذكره العلماء في مواضع متعدِّدة، فليلتمس في مظانِّه.
الكلام في ليلتين بإذن الله تعالى عن مسائل مهمةٍ جليلةِ القدر، كثيرٌ منها يلتبس فيه كثيرٌ من العامة أو أكثرهم، ويحتاج إليه، نتكلم عليها باقتضاب؛ وذلك لضيق الوقت، ونُلْحِقُ كلَّ فرعٍ بأصله، وإن كان ثمَّة دليل على الأصلٍ من الكتاب والسُّنَّة نبيِّنه، وإن لم يكن ثمة دليل نلحقه بأعلى شيء في ذلك الباب من أصول الاحتجاج؛ من إجماع السلف من الصحابة وغيرهم، أو القياس وغير ذلك، وكما يُعْلَمُ أن الله جل وعلا قد أمر بإتباع طريق الذين كانوا مع رسوله r ؛ وذلك أنهم قد شهدوا التنزيل وعاينوا الحال عند نزول كلامه I ؛ فهم أعلم الناس بمراد النبيِّ r ، بأوامره ونواهيه؛ لهذا من أغْفَلَ فِقْهَ ذلك الجيل وجَهِلَ أهمية قَدْره وعظيم مكانته في معرفة أحكام الله I وأحكام رسوله الله r حُرِمَ التوفيق، ووقع في نَقْصٍ كثيرٍ جليلٍ، وتَخَبَّط في كثيرٍ من المسائل؛ وذلك أنَّه إما أن يكون يجري على قاعدةٍ معينةٍ يجب أن يَطَّرد فيها بكل حال، كما يَذْكره جماعةٌ من الفقهاء أنَّ الأصل في الأمر الوجوب، أو أنَّ الأصل في النهي التحريم، ونحو ذلك، ويغفلون في ذلك أصلاً عظيماً وهو عَمَل السَّلف من الصحابة وغيرهم الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا صوارف الأمور، وكذلك أعمال الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى – عند نزول الوحي على رسوله - عليه الصلاة والسلام -.
إن فقه النوازل من المهمات الجليلة التي يحتاج إليها الناس عند نزول تلك النازلة.
والنوازل يتكلم عليها العلماء في مصنفاتٍ متعددةٍ؛ كلٌّ بحسب عَصْرِه، ونوازل زمانه؛ بما استطاع من إلحاق النازلة بأصولها من الكتاب والسُّنَّة وغيرها من أصول الدين.
وتمتاز تلك المسائل التي يذكرها العلماء في مصنفاتهم من النوازل، تتباين من جهة القوة؛ بإلحاق الفروع بالأصول، ويَرْجع ذلك إلى مَلَكَةِ ذلك العالِم وإحاطته بالأصول؛ بأصول الديانة وأصول الاستدلال التي أمر الله U بالرجوع إليها؛ فقد شرع الله U الاعتبار، وسَنَّ I القياس، وأمر بلزومه؛ فقال الله - جل وعلا- : }فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ { ؛ أي : ألحقوا ما لم يَرِدْ فيه نَصٌّّ بما ورد فيه نصٌّ من شريعة الله I ؛ لهذا كان الله - جل وعلا - في كتابه العظيم في مجمل الأحوال يتكلم عن أصول وحجج أهل الباطل؛ من جهة العموم؛ من غير ذكرٍ لتفاصيلها.
والناظر فيها من أهل العلم والدراية ينظر إلى تلك الأصول، ثم يلحق أهل الضَّلال وأهل الابتداع في تلك الأصول؛ فيردَّ عليها كما رد عليها أولئك؛ مع تَنوُّع الابتداع، وكذلك تنوُّع الرادّ واختلاف الزمان؛ لهذا كان القرآن لما كان يَسْري على تلك الأصول كان أعظم حُجَّةً على سائر الأمم على تباين أحوالهم.
ولو نزل القرآن بأسماء المسائل والنوازل التي كانت في عصر رسول الله r لكان مَنْ جاء بعد ذلك يعوزه النظر ويجد مشقةً عظيمةً في أن يستنبط من تلك الفروع إلحاقاً بأصولها، ثم يُلْحق بعد ذلك تلك الفروع بأصولها، وهذا يلزم منه مشقَّةً كبيرة، وكذلك يطرأ على الإنسان من الضعف والقصور ما يطرأ عليه.
ومن نظر إلى أحوال النوازل على مَرِّ العصور يجد تبايناً في كلام العلماء واختلافاً في الترجيح كثيراً؛ لا يكاد يوجَدُ في المسائل المنصوصِ عليها من جهة الدليل في الكتاب والسُّنَّة.
هذا مع أنَّ الشريعة قد جاءت بالأصول فَسَهُلَ على الإنسان أَنْ يُلْحِقَ الفرع بأصله؛ فإذا كانت نصوص الشريعة قد جاءت بالفروع ولم تبين الأصول فإنه يكون على الناظر والمستنبط أكثر مشقَّة؛ فإنه يلزم من ذلك أن يُلْحِق الفرعَ بأصْلٍ، ثم يُلْحق الفرع النازل بذلك الأصل؛ وذلك أنَّ الشريعة قد جاءت بفروع؛ والفروع ينبغي أنْ توضع لها قواعد؛ فإذا وضعِتْ لها قواعد ينبغي أن توضع لتلك القواعد ما يندرج تحتها من مسائل الدين وفروع الأحكام النازلةِ وغيرها.
صنَّف جماعةٌ من العلماء في أحكام النوازل وفقهها؛ منهم من صنَّف في أبواب التأصيل والتقعيد لهذه المسائل من غير خوضٍ لمسائل النَّوازل على مَرِّ الزمان، ومنهم من جمع مسائل النوازل على وَجْه العموم التي قد مَرَّت به، وهي ما يسميه العلماء - رحمة الله عليهم - في مصنفاتهم بالفتاوى؛ أو يسمونهم بالنوازل، أو النوادر، أو كذلك في عصرنا ما يُسمّونها بفقه الواقع أو الفقه المعاصر، ونحو ذلك.
الشريعة تستوعب ذلك كله؛ من نظر إلى النوازل في عصرنا - في أبواب الديانة كلها - وَجَدَ أنه لا يخلو بابٌ من أبواب الدين إلا وفيه نازلةٌ تحتاج إلى النظر فيها.
وأقل أبواب العلم نوازل هي أبواب العبادات؛ لأنَّ مَرَدَّها إلى التوقيف، ويوجد فيها من النوازل شيءٌ يسير ليست كغيرها في أبواب الأحكام؛ كالمعاملات والعقود والأنكحة والطلاق وغير ذلك من مسائل الديانة، وهذه كلها قد جاءت فيها مسائل على مَرِّ العصور؛ في العبادات قد جاءت نوازل متعدِّدة في أبواب الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة وغير ذلك، وكذلك في أبواب المعاملات بأنواعها؛ أكثر الأبواب وروداً في النوازل هي أبواب المعامَلات.
ومن جهة النظر فإنَّ النازلة تكون من جهة الإحصاء أقلُّ عدداً من جهة الفروع التي قد دلَّ الدليل عليها، بخلاف المعاملات؛ فإن النوازل فيها أكثر مما دَلَّ عليه الدليل في نوازل في عصر النبي r والصدر الأول على وَجْهِ العموم؛ في العبادات، في الطهارة؛ جاءت مسائل متعدِّدة؛ كمسألة تنقية المياه الملوثة ونحو ذلك، وفي الصلاة؛ كمسألة الصلاة في الطائرة ونحو ذلك، وغير ذلك في أبواب الصيام؛ كمسائل الإفطار الحديثة، بالإبر ونحو ذلك، وفي الحجِّ ما نحن بصدده؛ كذلك من جهة الزكاة في مصارف الأموال المتنوعة التي لم يرد دليلٌ فيها؛ وهي كثيرةٌ جداً وقد تكلم عليها غيرُ واحدٍٍ من المتأخرين؛ كذلك في أبواب المعاملات بأنواعها؛ ثمَّة مسائل قد طرأت على الواقع؛ هي أصليةٌ لا تلحق من جهة النظر بأصلٍ بيِّنٍ واضحٍ؛ لهذا قد اختلف فيها العلماء في مواضع متعددةٍ؛ منهم مَنْ يُلْحِقها بأصلٍ، ومنهم مَن يُلْحقها بأصلٍ آخر، فيقع الخلاف بحسب اجتهاد الناظر؛ كمسألة الأوراق النقدية وغير ذلك.
كذلك من المسائل في أبواب النكاح والطلاق والرجعة وغير ذلك مما طرأ كذلك في العصور المتأخِّرة مما يعرفه الجميع.
دراسة النوازل هي من الواجبات على أهل العلم؛ على خِلافٍ عند العلماء في النظر فيها؛ هل هي من الواجبات على الأعيان، أم هي من فروض الكفايات.
والدليل في كلام الله I ، وفي كلام الرسول r أن الله U قد أخذ الميثاق على أهل العلم أن يبِّنوا للناس ما احتاجوه من أمور دينهم، وإن قصروا في بيان تلك النوازل فتخبَّطَ فيها الناس فيقعوا في المتشابه يلزم من ذلك وقوع في الحرام؛ فحينئذٍ يقعون في الإثم حتماً؛ وذلك أنهم قد قصَّروا بأداء الرسالة؛ وذلك أنهم ورثة الأنبياء، وحملوا الشريعة عنهم، فيجب عليهم أن يبلغوا دين الله I ، ولما امتازوا بالدين وبالفقه فيه وَجَبَ عليهم أن يتمرسوا بمعرفة النوازل وإلحاقها بأصولها.
من جهة الأصل فقه النوازل ومعرفتها هي من فروض الكفايات، وذلك هو الأصل فيها، وقد تكون من فروض الأعيان؛ وذلك إذا سُئِلَ العالم ولم يكن للسائل أحدٌ يحلُّ معضلته إلا هو وجب عليه أن يستفرغ وسعه بتلك النازلة؛ كذلك أيضاً إذا غلب على ظنه أو تيقَّن أن من يتكلم في هذه المسألة أنهم يسلكون غير طريق محمدٍ r بالضرب يمنةً ويسرة بإتباع رغبات أقوامٍ وترك رغبات آخرين ونحو ذلك وَجَبَ عليه أن يستفرغ وسعه بما يدين به الله I ، وإلا من جهة الأصل فهي من فروض الكفايات التي يجب على أهل العلم من ذلك العصر أن يتبينوا ويتفقهوا فيها، وأن يستفرغوا الوسع فيها.
وينبغي لطالب العلم أن يُكْثر النظر في كتب النوازل للعلماء الأوائل، وهي ما يسمَّى بالفتاوى أو ما يسمى بأحكام النوازل على المذاهب الأربعة، ولا يوجد مذهبٌ من المذاهب حتى مذهب الظاهرية إلا وفيه كلامٌ على مسائل نوازل الدين؛ فينبغي لمن أراد ميراثاً وأن يتقن مسائل النوازل، وأن يُجيد إلحاق الفروع بالأصول، وأن يكون لديه ملكة الاستنباط في معرفة أحكام الشريعة والاستئناس بوقائع الحال على الترجيح - أن يُكْثرَ القراءة في كتب أهل العلم؛ وذلك لكي يستفيد من أخطائهم في النوازل؛ فذاك يصيب وذاك يُخطئ وذاك يرد عليه ونحو ذلك؛ فيكون لديه من الملكة ما لديه.
كذلك ينبغي للناظر في أحكام النوازل والمفتي فيها ألا يَأْطِره الواقع على أنْ يُفتي بنازلةٍ بخلاف ما يدين الله عز وجل فيها؛ وذلك أنَّ الواقعَ يغلب عليه نظرة العوام، والعوام يتباينون في نظرتهم؛ فمنهم من يهتم بالجزئيات ويغلب الفروع على الأصول ويضخمها، ويجعل الخلاف فيها أعظم من الأصول؛ ولهذا يقول عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الصحيح من حديث محمد بن فضيل عن أبيه فضيل بن غزوان عن سالم بن عبد الله بن عمر أنَّ عبد الله بن عمر قال لأهل العراق: يا أهل العراق، ما أسألكم على الصغيرة، وأجرأكم على الكبيرة. في قوله - عليه رحمة الله - " ما أسألكم على الصغيرة، وأجرأكم على الكبيرة" : أي أنكم تضخمون بحُسن نيَّةٍ الصغائر وتبالغون في التدقيق فيها والتنقيب عن أحكام الله U فيها، وتقعون في الكبائر ولا تبالون فيها.
وهذا ينبغي أن يتأمله الناظر في أحكام النوازل، أنّ كلام العامة، وكذلك أنصاف المتعلمين الذين يجعلون من دقائق الدين مناطَ ولاءٍ وبراءٍ للأمة ألا يغير ذلك في نظرته شيئاً.
كذلك ينبغي للناظر في النوازل أن يعلم أن رغبات الناس وأهوائهم - وإن كانوا يفرقون بين أصول الدين وفروعه - أنَّ رغباتهم لا تغير من حُكْم الله U شيئاً، فكم من نصوص الشريعة قد جاهد عليها رسول الله r جهاداً بليغاً؛ فرفع عليها السِّنان، وأطلق - عليه الصلاة والسلام - اللسان في بيان الحق، ودحض الباطل وشُبَه المبطلين في نصوص كبيرةٍ قد جاءت عنه - عليه الصلاة والسلام -.
ومن نظر إلى النصوص عن رسول الله r قبل بعثته وجداله مع المنافقين، وكذلك للجهلة ممن جاء إلى رسول الله r من جهالة الأعراب عن حُسن قَصْدٍ - وجد أن رسول الله r جاهدهم جهاداً بليغاً؛ مع أن رسول الله r يتحلَّى بالجملة الحكمة واللين والرقة، إلا أنَّ ذلك كله لا يغير من حكم الله U شيئاً؛ فيكون الحكمُ ثابتاً من جهة التحريم أو التحليل، أو الكراهة أو الاستحباب، أو الإباحة؛ لا يُجامَلُ أحدٌ في دين الله I ؛ وكذلك أيضاً ينبغي للناظر في أحكام النوازل وفقهها أنْ يَعْلَم أن ثمة نصوص تتشوف على الصَّبْر على الأذى في دين الله I ؛ وذلك بالنَّظر إلى حال النِّبي r وحال أصحابه والتابعين وأئمة الإسلام الذين صبروا على القول بمسائل من فروع الديانة، وكذلك الجلادة في مواجهة أهل الباطل ونحو ذلك؛ فأوْجَدَ ذلك أصلاً في نفوس كثير من العامَّة، أو كثير من المتفقهة؛ بتحُّمل البله ببعض فروع الدين ونحو ذلك، وهذا قد وُجِدَ أصلُه عند السلفِ الصالح من الصحابة وغَيرِهم.
قد جاء في الصحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله r لمَّا كان يُحاصِر الطائف وأطال الحصار، قد ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله r قد حاصَرَ الطائفَ ثلاثين يوماً، وجاء في روايةٍ عنده أنه حاصر الطائف أربعين يوماً، فقال رسول الله r لأصحابه : "إنا قافلون غداً" فقالوا لرسول الله r : كيف نَقْفل غداً ونحن لم نُقاتلهم ولم نفتح الطائف؟! فضحك رسول الله r فأبقاهم، فلمَّا قاتلوا وأصيبوا وجُرِحوا قال رسول الله r : "إنا قافلون غداً". فلمِّا سمعوا ذلك من رسول الله r ضحكوا واستبشروا برجوعهم.
من نظر إلى هذا النصِّ عن رسول الله r وأصحابه يستفيد منه أموراً متعدِّدة:
- أولاً : من جهة حصار النبيِّ - عليه الصلاة والسلام- للطائف؛ من جهة أصل الجهاد أنه فرضٌ على من جاء مع رسول الله r على أعيانهم؛ وذلك أنَّ الرسول الله r قد انتدبهم واكتتبهم في هذا الغزوة؛ فكان المنصرف منها كالنافر كالمُدْبر يوم الزحف والمتولي عنه، وذلك مِن أكبر الكبائر.
لما طال المقام برسول الله r قال : "إنا قافلون غداً". فلما سمع الصحابة رسول الله r قال ذلك تَشَوَّفَت نفوسهم على الصبر البلاء، ورسول الله r هو أشدُّ الناس علماً وصبراً في جنب الله، وما دفعه عن ذلك خشية بلاءٍ ومَضَرَّة؛ وإنِّما لحكمةٍ إلهيةٍ لا تستوجب الإلزام؛ لهذا خضع رسولُ الله r لرغبتهم؛ ليَنْظُر حالهم، فلما جُرِحوا وأخبرهم رسول الله r أنهم قافلون غداً استبشروا وضحكوا، فرجع رسول الله r بهم.
الرجوع جائزٌ في الحالَيْن ؛ في الحالة الأولى، وفي الحالة الثانية؛ لكنها في الحالة الأولى كانت النفوس تتشوف على الصبر، لكن لمَّا نزل بها الأذى تشوفت النفوس إلى الرجوع إلى المدينة وعدم تحمُّل الأذى؛ لهذا ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ الناظر في مسائل النوازل - أنه إذا لم يكن قد وقع الحالُ به - أنَّ نظره يكون بذلك قاصراً؛ وهذا ينبغي أن ينظر فيه الناظرُ في أحكم النوازل على وجه العموم، إذا لم يقع في تلك النازلة، أو تكن في مجتمعه فليحجم عنها قَدْر الإمكان ما دام أهل البلد الذين قد وقعت فيهم النازلة لديهم من أهل العلم والدراية والمعرفة ما يُمكنهم أن يستنبطوا لتلك النازلة دليلاً.
لهذا كان رسول الله r يُخْرِجُ الغُزاةَ من أصحابه ويعلمهم الأصول، ويَدَعُ الفروع لهم لأنهم أعلم الناس بحالهم؛ ولهذا ثمة كثير من النوازل في وقتنا ينبغي أن يُمسِك عنها كثيرٌ مَن لو نزل به ذلك تلك النازلة، أو نزل به ذلك البلاء لقال بقولهم، أو تَخَّبط بالقول يَمْنةً ويَسرة؛ كفقه الأقليات في كثيرٍ من بلدان العالم؛ تقع فيه النوازل كثيرة، فيفتي في ذلك كثيرٌ من أهل العلم الذين لم يقعوا في ذلك البلد، أولم يَحْصُل لهم أن وطأت أقدامهم تلك البلاد؛ فيفتوا بذلك من غير نظرٍ لأحواله؛ ( كذلك مسائل أهل الثغور ينبغي أن تُتْرك لهم؛ وذلك لصعوبة المسائل والمدارك ).
ومن نظر إلى أحوال النبيَّ r وجد ذلك ظاهراً بيِّناً فيه.
ومن المهمات أيضاً في هذا الباب أن يعلم الناظر أنه إنْ مَلَك دليلاً في أي مسألة من مسائل الدين أنَّ ذلك لا يعني منه أنه يَملُك أن يُنْزل ذلك الدليل على كل مَسْألةٍ مشابهة لها وإنْ كانت من كل الوجوه؛ وذلك ربما يكون ثمة دافع لتلك النازلة، أو لذلك النَّظير؛ يدفع الدليل عنها؛ لإنزال أمرٍ آخر.
مثال ذلك أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام أحمد - عليه رحمة الله - فقال له: إن أبي أمرني أنْ أطلِّق زوجتي. فقال له : لا تُطلِّق. فقال: أليس عَبْدُ الله بن عمر أمره أبوه أن يُطلِّق زوجته فطلقها. فقال - عليه رحمة الله - : حتى يكون أبوك كعمر.
من جهة ورود الدليل عند الإمام أحمد؛ أعلى دليلٍ في هذه المسألة ما جاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - ومعلومٌ منهج الإمام أحمد - عليه رحمة الله - أنَّه يُقدِّمُ الصحابة إذا لم يَكُن في الباب غَيْرُهُم؛ وذلك لجلالة قَدْرهم، وهم وصيةِ رسول الله r بالإتباع؛ خاصة الخلفاء الراشدين؛ كما جاء في السُّنن وغيرها من حديث العرباض ن سارية أن رسول الله r قال : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بَعْدي". أمر رسولُ الله r بسلوك سبيلهم؛ بلغ إليه الدليل واحتجَّ عليه المحتج، ولم يكن ذلك خافياً عليه - عليه رحمة الله - احتجَّ عليه بأن ذلك قد ثبت عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى؛ لكن كان نظر الإمام أحمد أنَّ مناط ذلك لشيءٍ وَقَعَ في النفس، وأنَّ أمر الوالد لولده بالطلاق ليس نافذاً على وَجْهِ العموم حتى يكون الوالد منصرفاً عن رغبات النفس ومطامعها التي تتشوف بحرمان الغير، وبما في يده ورضا نفسه عن رضا غيره رضا الله I .
لما كان ذلك منتفياً في عمر، وأدرك تلك العلة الإمام أحمد -عليه رحمة الله- لم ينزل الحكم على ذلك السائل، ولو كان ذلك السائل سأل غيره ممَّن هو دونه لأوقع عليه ذلك الحكم، ولو بقي على نَفْسه وهو يحمل الدليل لأخذ بذلك.
لهذا حاجَّ الإمام أحمد - عليه رحمة الله تعالى - بحال عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - مع ابنه.
الكلام في هذه المسائل مما يطول جداً، ولكن ينبغي التنبيه على أصلٍ مهمٍ في هذا الباب؛ وهي أنَّ شريعة الله I الأصل فيها أنَّها ثابتةٌ لا تتغير، لا يُمكن أن تتغير بحالٍ، وهذا هو الأصل فيها، أمَّا من المسائل التي ما عَلَّق الشارع فيها النظر إلى عُرْفِ الناس؛ فإنها تدور بتغير الحال.
ومن تلك المسائل ما جاء عن أبي حنيفة - عليه رحمة الله - أنَّه تكلم على مَسْأَلة الشاهدين، وعدم وجوب تزكيتهما، وانصراف صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن عن قوله، وعللا ذلك لتغيُّر الزمان؛ لتغيُّر زمانه وفساد أحوال الناس، وأنَّه ينبغي أنْ يُزَكَّى الشاهدان؛ وذلك أنَّ تغيُّرَ أحوال الناس قد يغيِّرُ بعض الأحكام. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن القيم - عليه رحمة الله تعالى - في كتابه "إعلام الموقعين"، وكذلك الشاطبي في كتابه "الاعتصام والموافقات"، وغيرهم من أهل العلم أشاروا إلى أنَّ جُمْلَةً من مسائل الدين قد تتباين وتتغير من وقتٍ إلى وقت؛ فيُفْتي العالِمُ بقولٍ؛ فيظن الناظرُ في هذا أنه قد استند إلى دليلٍ من النصِّ، وهو قد استند إلى العادة وإلى النظر في أحوال الناس؛ فإذا تَغير ذلك الزمان وفسد أحوال الناس أو صلحوا تغيَّر ذلك الحكم بتغير ذلك الزمان.
وكثيرٌ من العلماء لا ينصُّون على تلك العلَّة التي قد تغيَّر الحُكْمُ لأجلها، وإنما يفتون بالقول؛ فيظن بعض من لا عناية له أنَّ هذا القول قولٌ قطعيٌ في المسألة، وقد استند فيه إلى أصول الإسلام؛ لا إلى عُرْفِ الناس؛ فيظن أنه قول واحد، فإذا خالف ذلك الإمام ظنَّ أنه قد خالف أصله، وما علم أن ذلك الإمام قد قال بهذا القول نظراً إلى عُرفِ الناس وأحوالهم.
ومن المهمات أيضاً ما يجب أنْ يُتنبَّهَ له؛ أنَّ ثمَّة موجة عظيمة في وقتنا قد تولى كبرها كثيرٌ ممَّن يُحْسَنُ الظن به؛ بامتطاء كثيرٍٍ من مسائلِ العلم؛ من النوازل وغيرها ؛ حتى جعلوا من ذلك تأصيلاً لما يُسمَّى "فقه التيسير" فميَّعوا كثيراً من أصول الديانة، وأذابوا كثيراً مِن أحكام الدين، وتشبثوا بحُجَج وآراء لبعض العلماء على مَرِّ العصور، وجمعوا في ذلك مصنَّفاتٍ متعددةً؛ أرادوا بذلك عن حُسنِ قصدٍ التيسير على الناس، وما علموا أنَّ ذلك مخالفٌ لمنهج الأئمة - عليهم رحمة الله؛ بل هو مخالفٌ لما جاء عن رسول الله r ؛ بلزوم العزيمة مِنْ جهة الأصل، والأخذ بالرُّخَص والتيسير في بعض الأمور ونوازل الأحكام.
وأما إذا كان النصُّ في ذلك ظاهرٌ عن رسول الله r فلا قولَ لأحدٍ مِنْ أهل العلم في نازلةٍ أيّاً كانت؛ إلا إذا كان ثمة أصلٌ يُعْتَمَدُ عليه بدفع ذلك الدليل - هو أعظم منه، والكلام في ذلك في الفروع أهونُ منه في الأصول، وإن كانت الأصول قد تغاضى رسول الله r عن شيءٍ من فروعها؛ لمصْلحةٍ في الإسلام أعظم؛ وكذلك كان أصحاب رسول الله r ؛ كما جاء عنهم - عليهم رضوان الله تعالى - أنَّ بعضهم قد عَطَّل بعضاً من حدود الشريعة؛ لا من جهة التقليل والتحكيم لغير ما أنزل الله؛ وإنما في واقعةٍ بعينها؛ لمصلحة رأوها كما جاء عن رسول الله r أنَّه قد درء قَتْلَ جُمْلَةٍ مِن أهل الشِّقاقِ والنِّفاقِ؛ لِعِلَّةٍ راجحةٍ تتعلَّق بأصول الديانة.
والكلام على أمثال هذه المسائل يطول جداً؛ ولكنْ ينبغي أنْ يُعْلَم أنه ينبغي لطالب العلم أنْ يلتمس الدليل، وأنَّ العالِمَ إذا قال بمسألةٍ من مسائل الديانة على مَرِّ العصور، أنه يكون مَعْذوراً إذا استفرغ وسعَه بتلمُّس الدليل، وأنَّ المقلِّد لذلك العالِم قد يكون آثماً بتقليده ذلك إذا كان ذلك عن هوى، وأنَّ مسألة التيسير بذاتها لا تُضْرَب بها النصوص المحكمة عن رسول الله r ؛ والتي عليها إجماعُ الصحابة وغيرهم، وأنَّه لا يكاد يوجَدُ مسألةٌ مِن مسائل الديانة إلا وفيها قَوْلٌ شاذٌ لأحدٍ من العلماء المعتَبرين على مَرِّ العصور؛ سواءً من أئمة السَّلف من التابعين وغيرهم.
ومن نظر إلى الكتب التي تعتني بفقه الخلاف، وذِكْر الخلاف العالي والنازل وجد ذلك ظاهراً بيناً؛ لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالأدلة والأصول عن رسول الله r والإجماع، وأنْ يعلم قَدْرها، وأنَّ أعلى ما جاء في ذلك الوحي كلام الله I ، وكلام رسول الله r ، ثم يلي ذلك الإجماعُ، وأعلى الإجماعِ إجماعُ الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - كما قال الإمام أحمد : الإجماع إجماع الصحابة ومَنْ بعدهم تَبَعٌ لهم، ثم يلحق في ذلك الأصول؛ كمسألة القياس ومسألة المصالح والمفاسد وغير ذلك من مقاصد الشريعة التي قد دَلَّ عليها الدليل.
لا يَعْني من ذلك دَفع التيسير على وجه العموم والإطلاق؛ وإنما يَعني الاحتراز ممَّن يُطْلَقُ هذه العبارة، وهو يريد بها في الأغْلَبِ خيراً - أنَّ هذه العبارة قد امتطاها كثيرٌ ممَّن يريد بالإسلام سوءاً؛ فظهرت كثيرٌ من مسائل الديانة بتلمُّس أقوالٍ شاذَّةٍ فيها؛ فقيل بجواز إمامة المرأة، وقيل بإسقاطِ كثيرٍ من أحكام الديانة؛ كالخَلوَة والدَّعوةِ إلى الاختلاط والتبرُّجِ والسُّفور؛ كما أنَّه ينبغي للناظر في مسائل الديانة على وَجْهِ العموم، ومن انبرى للفُتيا أن يَنْظر إلى حال السائل، لا إلى حال المسألة التي يُسألُ عنها؛ فإنَّ السائلَ قد يَسأل وهو يريد شُبَه؛ وما أراد ديانةً وتتّبُعاً؛ فكثيرٌ ممن يلتمسُ المسائل الشاذَّةَ في الدين؛ فإنه يريد بذلك طَعْناً في دين الله، وإذابةً لمسائل الدين؛ فإنه ينبغي النَّظرُ إلى حاله؛ إذا كان ممَّن يُسَلِّم ويتبع المسائل التي قد اتَّفق الناسُ عليها وأجمعوا عليها، فإنَّ ذلك قَد يُحْسَنُ الظن ه، وإذا كان ممَّن لا يَرفعُ الإجماع رأساً، ولا يَنْظر إلى الدليل، ويكون ممَّن يتَّبع هواه، فإنَّ ذلك أحرى بأن يُشَدَّد عليه، وأنْ يُحجَّرَ عليه، وأنْ يبَّين حاله للناس؛ لأنه ربما يَفتن الناسَ في دينهم، وإن كان ما يسأله من مسائل الدين محلَّ خلافٍ ونحو ذلك؛ فنحن نسمعُ بين الفَينة والأخرى من يتكلَّمُ عل مسائل الحجاب، ومسائل العورات، وكثيرٍ من أحكام الديانة، ولو قال ذلك أنَّ في تلك المسائل خلافاً لقيل له أن ذلك صحيح؛ ولكن ينبغي أن يُنْظرَ لحاله؛ هل هو ممَّن يعظم العورات التي قد اتفق عليها العلماء؟!
ومن نظر إلى أحوال كثيرٍ ممن يقتنص تلك المسائل وَجَدَ أنهم لا يُقيمون للعورات المغلظة التي قد أجمع العلماءُ على وجوب سَترها؛ لا يرفع بها رأساً، ولا يَعتني بها ولا يلتمس الدليل، وإنما ينظر إلى تلك الفرعيات.
فينبغي للعالم حينما يتكلَّم في أمثال هذه المسائل أن يكون مُطَّلعاً لأحوال السائلين؛ سابراً لأحوالهم؛ عارفاً بما يريدون؛ لهذا كان السَّلفُ لا يجيبون كلَّ سائلٍ.
وكذلك مما ينبغي أن يتنبه له النظر في مسائل الخلاف؛ أنَّ مسائلَ الخلاف حالَ الكلامِ عليها عند العامة لا ينبغي ذِكرُ الخلافِ وتَركُ الترجيح؛ ممن يغلب عليه هواه؛ لغلبة الهوى، واتبَّاع النَّفْس في ذلك؛ فينبغي أنْ يُربط الناس بالدليل، ولو ذُكِرَ الخلاف؛ لأنَّ الدليل هو الحجَّة وليس غيره؛ لأن اللهَ I ما تعبدنا بشيءٍ إلا بذلك.
الكلام على هذه الأصول وهذه المهمات يطول جدَّا؛ فلا نَرْغبُ أنْ يَصْرفنا عن مقصدنا مِن هاتين المحاضرتين؛ نحن في هذه الليلة - بإذن الله تعالى - نتكلم على جُملَةٍ من المسائل في نوازل الحج.
الحَجُّ كما لا يخفى أنه ركنٌ من أركان الإسلام، ومن دعائمه العظام؛ قد دلَّ على ذلك الدليلُ من الكتاب والسُّنَّة قد أمرَ الله U به.
ويكفْى في ذلك أن جعله الله U ركناً من بُنيان الإسلام العظيم؛ وذلك أنَّ البِنَا لا يقوم إلا على أركان؛ فمِن تلك الأركان ما لو سَقَطَ ذلك البنا، ومنها ما لا يَسقط إلا بأكثر أركانه، ومن البُنيان ما يَسْقطُ بركنٍ واحدٍ؛ وذلك بتباين الدليل.
وينبغي النظر في أحوال مسائل التكفير بأركان الإسلام لمَن تركها كسلاً وتهاوناً إلى الأدلَِّة من الكتاب والسنة، وليس هذا محل ضبطها.
النوازل في الحج متعدِّدة؛ وهي ليست بالكثيرة؛ نتكلم على جملةٍ منها في هذه الليلة، ونُلحِقُ ما ظهر من هذه النوازل بأصولها؛ وبالجُملَة فإنه ما مِن نازلةٍ إلا ولها أصل، وبعض النوازل من نظر إلى كلام الفقهاء وجد أن العلماء يتكلمون عليها في مصنَّفاتهم؛ لكنها على طريقةٍ أخرى؛ وذلك لتباين الاصطلاح، وتغيُّر الحال ونحو ذلك، وهذه مسائل متعددة يأتي الكلام عليها بإذن الله.
النوازل منها ما يَطلب الناظر لها أصلاً ، ولا يكاد يجد لها أصلاً إلا بعض ما جاء عن السلف من متأخريهم من أتباع التابعين وغيرهم.
وعلى كلٍّ فإنَّا نستفرغُ الوُسْعَ بإلحاق كل فرعٍ بأصلهِ من الكتاب والسُّنَّة أو أقوال السَّلَف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام.
مسائل النوازل في الحج متعدِّدة، منها ما ظهر في الوقْت المتأخِّر من تحديد زمنٍ معين للعمرة، وتحديد زمنٍ معينٍ للحج.
ونَبْتدئ بالعمرة فإنه من المعلوم أنَّ العُمْرةَ لكثيرٍ من أهل البلدان قد حُدِّد فيها مواسم معلومة لأدائها، وغير ذلك يُمْنَعُ منه؛ أولاً : من جِهَةِ أداء العمرة؛ فالعمرة واجبة على الصحيح، وهو قولُ عامة السَّلَف؛ كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وغيرهم من أصحاب رسول الله r ، وليس لها وقتٌ محدَّد وهي مشروعةٌ في سائر أيام السنة على وَجْه العموم؛ من غير استيفاء يومٍ بعينه عند عامة العلماء؛ خلافاً لأبي حنيفة، وما يُروى عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنهم استثنوا من ذلك أربعة أيام؛ أولها يومُ عرفة، الثاني يوم النَّحر، الثالث والرابع اليومان بعده؛ وهما أيام التشريق.
وقد جاء عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - كما عند البيهقي من حديث يزيد الرِشك عن معاذة عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - أنها قالت : أُِحلَّتِ العمرة في السنة كلها إلا في أربعة أيام؛ وهذا الحديث أو الأثر عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - قد قال فيه النووي : باطلٌ لا يثبت. قال البيهقي عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه "السُّنن" : هذا الأمرُ عندنا لمن كان حاجَّاً وفي المناسك أنه لا يعتمر في هذه الأيام، وأما غير الحاجّ فإنه يعتمر فيه.
ويقال أنه يُسْتند إلى هذا التعليل مع صحة الدليل؛ فلمَّا كان الدليل لا يَصِّحُّ كان الأمر باقياً على الأمر، وأما مِن جهة الحجِّ فإن الحجِّ قد جاء عن رسول الله r الأمر بالمتابعة؛ الحث المتابعة عليه؛ فقال - عليه الصلاة والسلام : "تابعوا بين الحجِّ والعمرة".
وحَثَّ رسول الله r على الإكثار منه؛ فقال - عليه الصلاة والسلام : "الحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة". وقال - عليه الصلاة والسلام : "مَنْ حَجَّ ولم يَرْفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمُّه".
وجاء عن رسول الله r الترغيب بأنْ يَحجَّ الإنسان كلَّ خمسة أعوام، وقد جاء ذلك مِن طُرُقٍ متعددة، ولا يصح منها شيء؛ فلا يَصحُّ عن رسول الله r تحديد مدَّةٍ معينةٍ في الحجّ، ولا في العُمْرة؛ وإنما جاء الدليل في العُمرة ببيان وقت الفاضلِ عن غيره؛ ببيان وقت الفاضل كما جاء عن رسول الله r في بيان فضل العمرة في رمضان، وكذلك اعتمار رسول الله r في أشهُر الحج؛ فإن رسول الله r قد اعتمر أربع مراتٍ، وكانت عُمْره عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج، ما اعتمر - عليه الصلاة والسلام - في غيرها، ولما كان كذلك عُلِمَ أنَّ الأصْلَ ألا يمنع الناس من أداء العمرة على وَجْهِ العموم؛ وذلك أنَّ رسول الله r قد قال : "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت أو صلَّى أية ساعةٍ من ليلٍ أو نهار". وهذا الخطاب ينصرف إلى سائر الناس؛ عربيهم وأعجميّهم؛ كذلك قد حَثَّ رسول الله r على عدم أذيَّةِ الحاجّ على وجه العموم، فيستنبط منه إذا كانت الأذيَّة له حال وصوله؛ فكيف بمنعه من جهة الأصل!
كذلك أيضاً ما جاء عن السلف - عليهم رحمة الله تعالى - كعمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - وغيره؛ من إخلاء مكة من أهلها؛ من دورٍ ونحو ذلك للحجاج ممَّن كان قاصداً بيت الله I وأنهم أولى بذلك من غيرهم.
وقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب كما رواه الفاكهي في أخبار مكة من حديث عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أنه نهى عن بيع وإيجار دور مكة، وأمر بفتح أبواب الدور، وأن ينصب الناس الخيام حيث شاءوا.
وهذا صحيحٌ عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - وقد جاء بنحوه عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولا يصح.
أما من جهة التقييد والمنع يقال أنه قد ثبت عن بعض الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - أنهم قد مَنَعوا من الاعتمار في بعض المواسم البدعية التي قد يظن الناس فيها قصداً لم يرد فيه دليلٌ من الكتاب والسنة.
قد يلحق مسألة التقييد بهذه المصلحة كما جاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - أنه كان يمنع من الاعتمار في أشهرِ الحرم وأشهر الحج، وذلك كما رواه ابن أبي شيبة، وذلك ابن جرير الطبري في التاريخ وغيره.
وقد حاجَّه بعض الصحابة كعمران - عليهم رضوان الله تعالى - في مسألة المنع؛ فعلل ذلك عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - أنَّهم يَعْمَرون في أشهر الحج، فينظرون أن ذلك يُجْزئ عنهم عن الحج، فيدخلون إلى أهليهم، فلما كان ذلك التعليل لم يرد فيه دليل منعه عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من ذلك، وجاء تعليلٌ عنه عليه رضوان الله تعالى - أنَّه مَنَع مِنْ ذلك لكيلا يُهْجَر البيت فيما سواه، فإذا كان ثمَّة مصلحة شرعية جاز تقييد الوقت في أزمنة محدَّدة؛ كمن يحدِّد أزمنةَ في أشهرٍ من السنة؛ وذلك لترتيب أوقات المعتمرين، وتسهيل وصولهم، وترتيب وصول الأفواج منهم؛ وذلك دَفعاً للزحام والمشقَّة من غير مَنْعٍ على وجه العموم؛ فإن هذا له مقصد شرعي، وأصله ثابتٌ عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
ويلحق في ذلك منع أهل الظلال والزيغ من التعبد في أوقاتٍ مخصوصة؛ سواءً في مكة وغيرها؛ ممن أمر الشارع بالإتيان إليها على وَجْه العموم في جميع مواسم العام؛ فيقال أنه إذا كان ثمة من أهل البدع من يتعبد بأوقاتٍ وأزمنةٍ محددة فيما دَلَّ الدليلُ على أنَّ التعبَّد فيه على وَجْه العموم جائزٌ يجوز منعه؛ كمن يعتمر في رجب، أو يحتفل بليالٍ معروفة؛ كالميلاد وليلة الإسراء في بعض المساجد ونحو ذلك، وإن كان دخول المساجد والتعبد فيها هو من أعظم العبادات، ومن المشروع في الديانة، وصَدُّ الناس عن المساجد مِنْ أعظم الآثام، وقد حَذَّر الله I مِنْ ذلك أعظم تحذير، وحذر منه عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة.
وعليه فإنَّ خلاصة هذه المسألة أنه يجوز تحديد أزمنة محدَّدة لمصلحة تيسير أمر الحجاج من عدم الزحام ونحو ذلك ، (وإلا فالأصل أنه ما وجد سَعَة وما وجد فُسحة فإنه لا يجوز مَنعهم بحالٍ)؛ فمن أراد قَصْدَ الحج في أي يومٍ من أيام السنة فإنه يُيَسَّر له ذلك ولا يُمنَعُ منه على وجه العموم؛ فينبغي أن يُغَلَّبَ هذا الأصلُ على العِلَّةِ وعلى النازلة قَدْر الإمكان، إلا إذا كان في ذلك علة أو نازلة ظاهرة بيِّنة؛ فإنها تُغلَّبُ لعِلَّةٍ ظاهرةٍ تتعلق بمقاصد التشريع؛ لثبوت ذلك عن بعض أصحاب رسول الله r .
ومن المسائل النازلة في هذا الباب ما يُسمَّى في عصرنا بـ "قوافل" أو "حملات الحج"؛ هذه القوافل وحملات الحج هي من النوازل في هذا الزمان، وقد تباين الناسُ في هذا الباب؛ بين مُغالٍ وغير مُغالٍ، بين مُتَّبعٍ للمشقة، وبين مُتَّبعٍ للتيسير والسعة، وبين مُسرفٍ يدفع الغالي والنفيس؛ لتقليل الراحة وطلب السَّعة، وعدم النظر إلى أصْل المشقةِ في الحج؛ وذلك أن الشارع قد سمَّى الحج جهاداً، فقد جاء عن رسول الله r كما جاء في البخاري من حديث عائشة عليها - رضوان الله تعالى - أنه قال : "على النساء جهاد لا قتال فيه" وقال : "الحج"، وقد جاء في غير البخاري بذكر العمرة، وهي غير محفوظة؛ فسمَّى رسول الله r الحجَّ جهاداً؛ وذلك لما فيه من الجهد والمشقة، ورسول الله r وأصحابه كانوا - عليهم رضوان الله تعالى - مع يُسر بعضهم إلا أنه يَتَحيَّن التقشف والتقلل وعدم تلمُّس المبالغة بالراحة؛ كما جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - في المسند وغيره من حديث يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال : حج رسول الله r على رَحلٍ رَثٍّ، وقميصه لا يساوي أربعة دراهم، وحَجَّ أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى على ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنه رأى رفقة قد جاءوا إلى الحج من أهل اليمن بعد وفاة رسول الله r على رواحل رثَّة، بها مزادتهم، فقال عليه رضوان الله تعالى: من أراد أن ينظر إلى رسول الله r ومن معه فلينظر إلى هذا الوفد. يعني الذين جاءوا إلى الحج وحالهم تلك المذكورة.
وقد جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الصحيح من حديث أمامة أنَّ أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - أنه حجَّ على رَحلٍ، وليس بشحيح؛ أي أنه ليس بضيق ذات اليد؛ وإنما يملك مالاً؛ إلا أنه تقلَّلَ من ذلك وترك الإسراف.
ومن نظر إلى أحوال كثيرٍ من أهل الحملات في وقتنا وجد المبالغة في ذلك، وبعضهم يدفع الألوف المؤلفة لكي يتيسر له الحج، فلا يلتمس فيه مشقة، فأحبَّ أن يُفسح له الطريق، فلم ينظر إلى حال رسول الله في حجه وهو من هو، فكان رسول الله r يحج على راحلةٍ واحدةٍ، وعلى هذه الراحلة مزادته وطعامه، وفيها رحله عليه الصلاة والسلام ومتاعه؛ قال: قد جاء عن بعض السلف أنَّ أول من حج براحلتين؛ راحلة يمتطيها وراحلة عليها مزادته هو عثمان بن عفان - عليه رضوان الله تعالى؛ فرسول الله r من نظر إلى حاله وجد أنه لا يلتمس المشقة ويتقصدها؛ وإنما كان رسول الله r يَحُجُّ راكباً وماشياً، وكان رسول الله r لا يؤذي أحداً ولا يزاحم، وكان يحذر أصحابه - عليهم رضوان الله تعالى - من الزحام وأذية الخلق؛ وذلك دفعاً للمشقة، وطلباً للتيسير، وقد رخَّص عليه الصلاة والسلام كذلك للضعفاء أن ينفروا بَعْد منتصفِ الليل مِن مزدلِفة أو بعد طلوع القمر؛ كما جاء ذلك عن غير واحدٍ مِن أصحاب رسول الله r ، كعبد الله بن عباس، والفضل، وأسماء، وغيرهم من أصحاب رسول الله r ؛ نفروا مع أنَّ المبيت في مزدلفة واجبٌ؛ طلباً للتيسير وكذلك رخص رسول الله r للعباس ومَن معه ألا يبيت بِمِنى؛ وذلك لمصلحة سقاية الحج، ورخَّص رسول الله r لمَنْ يسبقه فيضرب له خيمةً بِـ"نَمِرَة"؛ ومعلومٌ أنَّ البقاء بـ "مِنَى" يومَ التروية وقبل ذلك هو السُّنَّةُ والأولى؛ ولكن ذلك لمَّا كان يتعلَّق بمصلحة المسلمين وتيسير طريقهم جاز الترخُّص ببعض الأحوال، إلا أنَّ الإنسان أن يلتمس دَفْعَ المشقَّةِ على وَجْهِ العموم وطلب التيسير والترفُّه ليس ذلك من نهج محمدٍ r .
وهذا مذمومٌ من وجوه:
- الوجه الأول : أنَّ النبيِّ r قد حَذَّر من الإسراف؛ وذلك أن التيسيرَ في الحج لا يمكن إلا بدفع مبالغ باهظة لحملاتٍ معينة تيسر للإنسان تَنَقُّلَه وتيسر له ملبسه ومطعمه بشيءٍ لا يتخيل الإنسان أنه في حج؛ وهذا معلومٌ مشاهَدٌ لمن لمس ذلك، وقد حَذَّر رسول الله r من الإسراف؛ كما جاء في السنن من حديث بَهْز بن حكيم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدَّه أن رسول الله r قال : "كل واشرب وتصدق من غير سَرَفٍ ولا مَخْيَلَة". قد حَذَّر الله I من الإسراف بقوله جلَّ وعلا : }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا { ، وبيَّن I أن الإسرافَ مِنْ خصال الشياطين، ومِن كان على نَحْوِهم؛ كذلك الثاني أنَّ رسول الله r مع تيسير أمره، وأنَّ الحجَّ كان في آخرِ أحواله، بعد أن بَسَطَ الله U له في الرزق، فكان رسول الله r يَدَّخِرُ في آخر حياته قوتَ سنةٍ كاملةٍ، وهذا يدلُّ على تيسير الرِّزْق، وكذلك السَّعَة لليد، ثم أنَّ من نظر إلى حال رسول الله r فقد جاء بهَدْيٍ وأهدى، وهي مائة، فذبح رسول الله r بيده ثلاثاً وستين، ورجلٌ يَمْلِكُ ذلك من الهدي ويأتي براحلة واحدة رثة وعليها مزادَتُه وطعامه ولباسُه؛ وهذا يدلُّ على أنَّ رسول الله r قد تقصَّدَ عَدَمَ تتبُّع التيسير على وجه العموم ، وإنْ كان التيسير مطلوباً؛ وذلك لدفعِ المشقة والأذية عن الناس؛ أما من جهة الإنسان بنفسه فإن الأصل في الحج أنه من الجهاد.
- الأمر الثاني : أنَّ الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا على نهج محمدٍ r كما جاء عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمر؛ بل وعن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى؛ فإنَّ كثيراً من الحجَّاج الذين يبالغون بدفع الأموال الطائلة، ويبالغون بطلب الراحة والأماكن الفسيحة ونحو ذلك، ولا يرغبون بالجلوس مع الناس، ويرغبون بخلواتٍ؛ ليس لذكر الله I والتعبد؛ وإنما دفعاً لمخالفة الناس وخُلُوِّ الذِّهن أو الانشغال بقراءة كتبٍ لا علاقة لها بالمناسك ونحو ذلك، لا شكَّ أن هذا من البعد.
وقد جاء في المصنَّفِ عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ رجلاً قال له : ما أكثر الحجاج! فقال عبد الله بن عمر: ما أقلهم! ثم نظر عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - إلى رجلٍ على رَحلٍ رثٍ، قال، لعلَّ هذا، يعني من هؤلاء القليل؛ فإن الفوز والنجاح وكذلك القبول فيمن طَلَبَ المشقة مِن غير أذيَّةٍ في نفسه أولى مِن غيره؛ وذلك أنَّ رسول الله r كانت حالُهُ كذلك.
ومن النوازل في هذا الباب مسألة المواقيت، ومحاذاتها جَوَّاً :
أولاً : يقال أنَّ المحاذاة من جهة الجو لم يدل عليها الدليل من جهة الأصل. وهذا معلومٌ.
العلماء يُلحقون هذه المسألة بأصلٍ وقاعدةٍ، وهي أنَّ الهواء له حُكْمُ القرار ، وأنَّه داخلٌ في ملك الإنسان، وكذلك يستدلون بقياس الأَولى؛ قالوا أنَّ رسول الله r لمَّا جعل للمحاذي في البر، وليس في ملك المالك لو كان يملك ذلك؛ فجَعَله في حُكمه، وقد جاء هذا عن رسول الله r ، وجاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - لما وقَّت ذات عِرق، ولم يكن قبل ذلك ذات عرق؛ فوقَّت عليه رضوان الله تعالى تيسيراً للناس، فلما كان كذلك كان الهواءُ مِن باب أَولى.
والمحاذاة بالطائرة هي من المسائل التي عليها الاتفاق؛ أنَّ مَن حاذي الميقات من جهة الجو؛ أنه يجوز له الإحرام، ولا يجب عليه أن يعودَ إلى الميقات.
ويتفرع عن هذه المسألة تبعٌ لها مسألةٌ قد تكلم عليها جماعة من العلماء؛ وهي حُكْم جُدَّة؛ هل هي من المواقيت أم لا، وهذه من المسائل التي قد تكلم عليها جماعة من المتأخرين، وقد صَنَّفَ في ذلك بعض الفقهاء من الحنفية من المتأخرين كتاباً سمَّاه "دفع الشِّدَّة بجواز تأخير الإحرام إلى جُدَّة"؛ وذلك لجعفر النُّعَيمْي الحنفي - عليه رحمة الله، وجَوَّز أن يكون المحرم يوخِّر إحرامه إلى جدة، وجعلها مُحاذيهً.
أولاً : ينبغي النظر إلى تأصيل المسألة، أنَّ مسألة المواقيت قد دلَّ الدليل على أمورٍ مما يُحْرِمُ منه الحاجُ أو المعتمرُ، وذلك في عدة أحوالٍ:
- الحالة الأولى : من جهة من كان من أهل الآفاق مِن وراء المواقيت؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من المواقيت الموصوفة عن رسول الله r في حديث عبد الله بن عباس، ولا يجوز له أن يتجاوز هذه المواقيت، وإن تجاوزها وجبَ عليه أن يعود ما لم يكن في ذلك مشقَّة عليه؛ فإن كان في ذلك مشقة فإنه ينجبر على خلافٍ في الدم؛ فعامة العلماء على وجوب الدم، وذهب بعض السلف كإبراهيم النخعي إلى عدم وجوبه، وهو الأظهر.
- أما إذا كانوا - وهي الثانية - دون المواقيت فإنهم يُهلُّون من مكانهم الذي هم فيه - أي من بلدهم - وألا يُغادروا البنيان إلا بإحرام؛ فإن غادروه بغير إحرام فقد تجاوزوا ميقاتهم.
- الثالثة : مسألة المحاذاة للمواقيت : وهذه يأتي الكلام عليها.
- الرابعة : وهي ميقات أهل مكة : وميقات أهل مكة يختلف ويتباين إذا أرادوا الحجَّ أو العمرة، ويقال أنَّ المكيَّ إذا كان يريد حّجَّاً فإنه يُحرم من مكة من داره، ولا يخرج إلى الحِلّ؛ وهذا الذي عليه عامة أهل العلم. أمَّا إذا أراد العمرة على خلافٍ عند العلماء في استحباب مشروعية العمرة للمكي؛ هل تُشرع العمرة للمكيّ أم لا؟ فذهب بعضُ السلف - وهو قولٌ لعبد الله بن عباس وعطاء بن أبي رباح - أن المكي ليس عليه عمرة.
وجاء ذلك عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ المكي ليس عليه عمرة؛ وإنما عليه الطواف؛ لكن إذا أراد العمرة أو كان ثَمَّةَ آفاقي قد جاء إلى مكة ثم نوى عمرةً فإنه يخرج إلى الحِل ليعتمر، كما جاء في حديث عائشة - عليها رضوان الله تعالى - وفي هذه المسألة إجماعٌ.
وذهب بعض أهل الرأي وبعض أهل الظاهر من المتأخرين إلى أنَّ الحج والعمرة يحرم منهما من الحل، وهذا لا شكَّ أنه قولٌ مردودٌ مخالفٌ لما عليه الإجماع، ومسألتنا هنا تَلحَقُ بمسألة المحاذاة، وهي:
القسمُ الثالث؛ يقال أن المحاذاة قد دلَّ عليها الدليل، وهي مَحَلُّ اتفاق عند العلماء؛ سواءً كان من البرِّ أو من البحر، أو مسألة الجو، وهي من مسائلِ النوازل.
ويتفرع عن هذا مَسألتنا وهي مَسألة الميقات من جُدَّة؛ الإحرام من جُدَّة هل هو ميقات أم لا؟ يقال : لما دل الدليل على المحاذاة، ينظر إلى جدة هل هي محاذية أم لا؟ أولاً: لمن كان قادماً من البحر؛ من نَظَر إلى كلام العلماء - عليهم رحمة الله - وَجَدَ أنهم يقولون أنه يُحْرِمُ مَن كان قادماً من البحر من السفينة؛ مَن كان قادماً من المغرب ونحو ذلك؛ من بلاد السودان أو المغرب وغير ذلك؛ وهذا الذي عليه قول عامة العلماء؛ خلافاً للإمام مالك في رواية؛ فقد روى عنه ابن نافع - عن الإمام مالك - أنه لا يحرم المحرم بالسفينة؛ فكأنه يرى أنَّه يُحرِمُ بعد قدومه إلى البَرّ.
وجدة لم تكن معمورةً بذلك ، ولم يكن يصل إليها هذا العدد وهؤلاء الحجاج بهذا الجَمْع؛ فكانت غير مقصودةٍ، وهذه المسألة كانت من النوازل، وأفتى فيها جماعةٌ من العلماء بأقوالٍ :
- منهم من قال أنها ميقاتٌ للجميع؛ سواءً كانوا ممَّن يَقْدُمُ عن طريق البرِّ أو البحر أو الجو؛ أنه يُحرم إذا قَدُمَ من جدة.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ لمن قدم من البحر؛ من المغرب ونحو ذلك، وحمل رواية الإمام مالك - عليه رحمة الله تعالى - على ذلك.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ على وجه العموم؛ سواءً قُصدت من البر أو البحر أو الجو.
- ومنهم من قال أنها ليست بميقاتٍ على وجه العموم.
وعلى كلٍ فيقال أن الصواب في هذه المسألة أن جدة ميقاتٌ لمن
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
راجعها أحد طلبة العلم
السلام عليكم ورحمة الله ..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن من أعظم النعم التي أنعم الله U بها على هذه الأمة أن أتم لها النعمة وأكمل عليها الدين؛ وذلك أن الله عز وجل قد أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام قوله جل وعلا : }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { ؛ فسمى الله جل وعلا الدين نعمة، وهو أعظم نعمة رزق الله U بها العباد والخلق؛ وهو أن تكون علة وجودهم عبادة الله جل وعلا والانصراف إليه، وأن تكون تلك العلة على محجةٍ بيضاءٍ وطريقةٍ بيِّنةٍ واضحةٍ؛ فكانت شريعة الله U من أعظم الشرائع، بل أعظم الشرائع على الإطلاق؛ حتى أنها كانت ناسخةً لما قبلها من الشرائع السماوية.
ولما أتم الله U على هذه الأمة الدين جعل من تمامه أنه صالحٌ لكل زمان ومكان؛ فلا يعوذه إحداثٌ وابتداعٌ، ولا ينقصه إدخالُ دخيلٍ فيه؛ وذلك أنه كاملٌ لا يقدح فيه شيءٌ ولا يناله قصورٌ؛ لهذا جعله الله U ناسخاً، وهو العالِم I بتغير الأحوال والزمان؛ فلا دين بعده، ولا نبيَّ بعد نبيِّنا محمد r إلى أن يرث الله U الأرض وما عليها.
إن شمولية هذا الدين وكماله هي من أعظم ما يُحِّيرُ الناظرين للإسلام عَن بُعدٍ، ويَأسر قلوب المتمسكين به الملتزمين بأوامر الله U والممتثلين لها بأن يكونوا على بيِّنةٍ ويقين من ربهم؛ وذلك أن الله U قد جَعل أصولاً يندرج تحتها كثيرٌ من المسائل الفرعية من فروع الدين مما نَصَّ عليه النبيُّ r ومما لم ينص من نوازل الأحكام وحوادث الزمان التي يستوعبها الدين بلا نقصان، وهذا لا شَكَّ أنه عند الناظِر فيه من أعظم المعجزات التي جعلها الله U في هذا الدين ظاهرةً باقيةً إلى قيام الساعة.
ثُمَّ مِنْ كمال هذه النِّعمة أن جعل الله U هذا الدين محفوظاً، لا يناله الدخيل ما دام أهلُ العلم قائمين بأمْر الله، وجعل الله جل وعلا أصل المَحجَّة كتابه I محفوظاً إلى قيام الساعة؛ منه بدأ وإليه يعود، وما تقرَّب مُتقربٌ بمثل ما خرج منه؛ قال الله جل وعلا : }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { ؛ لمَّا كان هذا في أصل الدين كان في فَرعه حمايةٌ من الأصْل لذلك الفَرْع، أو لتلك الأصول التي كانت تحته من جهة الجلالة والقدر - وإن كانت قسيمة له من جهة الاحتجاج – كالسُّنَّة والإجماع والقياس وغير ذلك مما يطول ذِكْرُهُ مِمَّا ذكره العلماء في مواضع متعدِّدة، فليلتمس في مظانِّه.
الكلام في ليلتين بإذن الله تعالى عن مسائل مهمةٍ جليلةِ القدر، كثيرٌ منها يلتبس فيه كثيرٌ من العامة أو أكثرهم، ويحتاج إليه، نتكلم عليها باقتضاب؛ وذلك لضيق الوقت، ونُلْحِقُ كلَّ فرعٍ بأصله، وإن كان ثمَّة دليل على الأصلٍ من الكتاب والسُّنَّة نبيِّنه، وإن لم يكن ثمة دليل نلحقه بأعلى شيء في ذلك الباب من أصول الاحتجاج؛ من إجماع السلف من الصحابة وغيرهم، أو القياس وغير ذلك، وكما يُعْلَمُ أن الله جل وعلا قد أمر بإتباع طريق الذين كانوا مع رسوله r ؛ وذلك أنهم قد شهدوا التنزيل وعاينوا الحال عند نزول كلامه I ؛ فهم أعلم الناس بمراد النبيِّ r ، بأوامره ونواهيه؛ لهذا من أغْفَلَ فِقْهَ ذلك الجيل وجَهِلَ أهمية قَدْره وعظيم مكانته في معرفة أحكام الله I وأحكام رسوله الله r حُرِمَ التوفيق، ووقع في نَقْصٍ كثيرٍ جليلٍ، وتَخَبَّط في كثيرٍ من المسائل؛ وذلك أنَّه إما أن يكون يجري على قاعدةٍ معينةٍ يجب أن يَطَّرد فيها بكل حال، كما يَذْكره جماعةٌ من الفقهاء أنَّ الأصل في الأمر الوجوب، أو أنَّ الأصل في النهي التحريم، ونحو ذلك، ويغفلون في ذلك أصلاً عظيماً وهو عَمَل السَّلف من الصحابة وغيرهم الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا صوارف الأمور، وكذلك أعمال الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى – عند نزول الوحي على رسوله - عليه الصلاة والسلام -.
إن فقه النوازل من المهمات الجليلة التي يحتاج إليها الناس عند نزول تلك النازلة.
والنوازل يتكلم عليها العلماء في مصنفاتٍ متعددةٍ؛ كلٌّ بحسب عَصْرِه، ونوازل زمانه؛ بما استطاع من إلحاق النازلة بأصولها من الكتاب والسُّنَّة وغيرها من أصول الدين.
وتمتاز تلك المسائل التي يذكرها العلماء في مصنفاتهم من النوازل، تتباين من جهة القوة؛ بإلحاق الفروع بالأصول، ويَرْجع ذلك إلى مَلَكَةِ ذلك العالِم وإحاطته بالأصول؛ بأصول الديانة وأصول الاستدلال التي أمر الله U بالرجوع إليها؛ فقد شرع الله U الاعتبار، وسَنَّ I القياس، وأمر بلزومه؛ فقال الله - جل وعلا- : }فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ { ؛ أي : ألحقوا ما لم يَرِدْ فيه نَصٌّّ بما ورد فيه نصٌّ من شريعة الله I ؛ لهذا كان الله - جل وعلا - في كتابه العظيم في مجمل الأحوال يتكلم عن أصول وحجج أهل الباطل؛ من جهة العموم؛ من غير ذكرٍ لتفاصيلها.
والناظر فيها من أهل العلم والدراية ينظر إلى تلك الأصول، ثم يلحق أهل الضَّلال وأهل الابتداع في تلك الأصول؛ فيردَّ عليها كما رد عليها أولئك؛ مع تَنوُّع الابتداع، وكذلك تنوُّع الرادّ واختلاف الزمان؛ لهذا كان القرآن لما كان يَسْري على تلك الأصول كان أعظم حُجَّةً على سائر الأمم على تباين أحوالهم.
ولو نزل القرآن بأسماء المسائل والنوازل التي كانت في عصر رسول الله r لكان مَنْ جاء بعد ذلك يعوزه النظر ويجد مشقةً عظيمةً في أن يستنبط من تلك الفروع إلحاقاً بأصولها، ثم يُلْحق بعد ذلك تلك الفروع بأصولها، وهذا يلزم منه مشقَّةً كبيرة، وكذلك يطرأ على الإنسان من الضعف والقصور ما يطرأ عليه.
ومن نظر إلى أحوال النوازل على مَرِّ العصور يجد تبايناً في كلام العلماء واختلافاً في الترجيح كثيراً؛ لا يكاد يوجَدُ في المسائل المنصوصِ عليها من جهة الدليل في الكتاب والسُّنَّة.
هذا مع أنَّ الشريعة قد جاءت بالأصول فَسَهُلَ على الإنسان أَنْ يُلْحِقَ الفرع بأصله؛ فإذا كانت نصوص الشريعة قد جاءت بالفروع ولم تبين الأصول فإنه يكون على الناظر والمستنبط أكثر مشقَّة؛ فإنه يلزم من ذلك أن يُلْحِق الفرعَ بأصْلٍ، ثم يُلْحق الفرع النازل بذلك الأصل؛ وذلك أنَّ الشريعة قد جاءت بفروع؛ والفروع ينبغي أنْ توضع لها قواعد؛ فإذا وضعِتْ لها قواعد ينبغي أن توضع لتلك القواعد ما يندرج تحتها من مسائل الدين وفروع الأحكام النازلةِ وغيرها.
صنَّف جماعةٌ من العلماء في أحكام النوازل وفقهها؛ منهم من صنَّف في أبواب التأصيل والتقعيد لهذه المسائل من غير خوضٍ لمسائل النَّوازل على مَرِّ الزمان، ومنهم من جمع مسائل النوازل على وَجْه العموم التي قد مَرَّت به، وهي ما يسميه العلماء - رحمة الله عليهم - في مصنفاتهم بالفتاوى؛ أو يسمونهم بالنوازل، أو النوادر، أو كذلك في عصرنا ما يُسمّونها بفقه الواقع أو الفقه المعاصر، ونحو ذلك.
الشريعة تستوعب ذلك كله؛ من نظر إلى النوازل في عصرنا - في أبواب الديانة كلها - وَجَدَ أنه لا يخلو بابٌ من أبواب الدين إلا وفيه نازلةٌ تحتاج إلى النظر فيها.
وأقل أبواب العلم نوازل هي أبواب العبادات؛ لأنَّ مَرَدَّها إلى التوقيف، ويوجد فيها من النوازل شيءٌ يسير ليست كغيرها في أبواب الأحكام؛ كالمعاملات والعقود والأنكحة والطلاق وغير ذلك من مسائل الديانة، وهذه كلها قد جاءت فيها مسائل على مَرِّ العصور؛ في العبادات قد جاءت نوازل متعدِّدة في أبواب الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة وغير ذلك، وكذلك في أبواب المعاملات بأنواعها؛ أكثر الأبواب وروداً في النوازل هي أبواب المعامَلات.
ومن جهة النظر فإنَّ النازلة تكون من جهة الإحصاء أقلُّ عدداً من جهة الفروع التي قد دلَّ الدليل عليها، بخلاف المعاملات؛ فإن النوازل فيها أكثر مما دَلَّ عليه الدليل في نوازل في عصر النبي r والصدر الأول على وَجْهِ العموم؛ في العبادات، في الطهارة؛ جاءت مسائل متعدِّدة؛ كمسألة تنقية المياه الملوثة ونحو ذلك، وفي الصلاة؛ كمسألة الصلاة في الطائرة ونحو ذلك، وغير ذلك في أبواب الصيام؛ كمسائل الإفطار الحديثة، بالإبر ونحو ذلك، وفي الحجِّ ما نحن بصدده؛ كذلك من جهة الزكاة في مصارف الأموال المتنوعة التي لم يرد دليلٌ فيها؛ وهي كثيرةٌ جداً وقد تكلم عليها غيرُ واحدٍٍ من المتأخرين؛ كذلك في أبواب المعاملات بأنواعها؛ ثمَّة مسائل قد طرأت على الواقع؛ هي أصليةٌ لا تلحق من جهة النظر بأصلٍ بيِّنٍ واضحٍ؛ لهذا قد اختلف فيها العلماء في مواضع متعددةٍ؛ منهم مَنْ يُلْحِقها بأصلٍ، ومنهم مَن يُلْحقها بأصلٍ آخر، فيقع الخلاف بحسب اجتهاد الناظر؛ كمسألة الأوراق النقدية وغير ذلك.
كذلك من المسائل في أبواب النكاح والطلاق والرجعة وغير ذلك مما طرأ كذلك في العصور المتأخِّرة مما يعرفه الجميع.
دراسة النوازل هي من الواجبات على أهل العلم؛ على خِلافٍ عند العلماء في النظر فيها؛ هل هي من الواجبات على الأعيان، أم هي من فروض الكفايات.
والدليل في كلام الله I ، وفي كلام الرسول r أن الله U قد أخذ الميثاق على أهل العلم أن يبِّنوا للناس ما احتاجوه من أمور دينهم، وإن قصروا في بيان تلك النوازل فتخبَّطَ فيها الناس فيقعوا في المتشابه يلزم من ذلك وقوع في الحرام؛ فحينئذٍ يقعون في الإثم حتماً؛ وذلك أنهم قد قصَّروا بأداء الرسالة؛ وذلك أنهم ورثة الأنبياء، وحملوا الشريعة عنهم، فيجب عليهم أن يبلغوا دين الله I ، ولما امتازوا بالدين وبالفقه فيه وَجَبَ عليهم أن يتمرسوا بمعرفة النوازل وإلحاقها بأصولها.
من جهة الأصل فقه النوازل ومعرفتها هي من فروض الكفايات، وذلك هو الأصل فيها، وقد تكون من فروض الأعيان؛ وذلك إذا سُئِلَ العالم ولم يكن للسائل أحدٌ يحلُّ معضلته إلا هو وجب عليه أن يستفرغ وسعه بتلك النازلة؛ كذلك أيضاً إذا غلب على ظنه أو تيقَّن أن من يتكلم في هذه المسألة أنهم يسلكون غير طريق محمدٍ r بالضرب يمنةً ويسرة بإتباع رغبات أقوامٍ وترك رغبات آخرين ونحو ذلك وَجَبَ عليه أن يستفرغ وسعه بما يدين به الله I ، وإلا من جهة الأصل فهي من فروض الكفايات التي يجب على أهل العلم من ذلك العصر أن يتبينوا ويتفقهوا فيها، وأن يستفرغوا الوسع فيها.
وينبغي لطالب العلم أن يُكْثر النظر في كتب النوازل للعلماء الأوائل، وهي ما يسمَّى بالفتاوى أو ما يسمى بأحكام النوازل على المذاهب الأربعة، ولا يوجد مذهبٌ من المذاهب حتى مذهب الظاهرية إلا وفيه كلامٌ على مسائل نوازل الدين؛ فينبغي لمن أراد ميراثاً وأن يتقن مسائل النوازل، وأن يُجيد إلحاق الفروع بالأصول، وأن يكون لديه ملكة الاستنباط في معرفة أحكام الشريعة والاستئناس بوقائع الحال على الترجيح - أن يُكْثرَ القراءة في كتب أهل العلم؛ وذلك لكي يستفيد من أخطائهم في النوازل؛ فذاك يصيب وذاك يُخطئ وذاك يرد عليه ونحو ذلك؛ فيكون لديه من الملكة ما لديه.
كذلك ينبغي للناظر في أحكام النوازل والمفتي فيها ألا يَأْطِره الواقع على أنْ يُفتي بنازلةٍ بخلاف ما يدين الله عز وجل فيها؛ وذلك أنَّ الواقعَ يغلب عليه نظرة العوام، والعوام يتباينون في نظرتهم؛ فمنهم من يهتم بالجزئيات ويغلب الفروع على الأصول ويضخمها، ويجعل الخلاف فيها أعظم من الأصول؛ ولهذا يقول عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الصحيح من حديث محمد بن فضيل عن أبيه فضيل بن غزوان عن سالم بن عبد الله بن عمر أنَّ عبد الله بن عمر قال لأهل العراق: يا أهل العراق، ما أسألكم على الصغيرة، وأجرأكم على الكبيرة. في قوله - عليه رحمة الله - " ما أسألكم على الصغيرة، وأجرأكم على الكبيرة" : أي أنكم تضخمون بحُسن نيَّةٍ الصغائر وتبالغون في التدقيق فيها والتنقيب عن أحكام الله U فيها، وتقعون في الكبائر ولا تبالون فيها.
وهذا ينبغي أن يتأمله الناظر في أحكام النوازل، أنّ كلام العامة، وكذلك أنصاف المتعلمين الذين يجعلون من دقائق الدين مناطَ ولاءٍ وبراءٍ للأمة ألا يغير ذلك في نظرته شيئاً.
كذلك ينبغي للناظر في النوازل أن يعلم أن رغبات الناس وأهوائهم - وإن كانوا يفرقون بين أصول الدين وفروعه - أنَّ رغباتهم لا تغير من حُكْم الله U شيئاً، فكم من نصوص الشريعة قد جاهد عليها رسول الله r جهاداً بليغاً؛ فرفع عليها السِّنان، وأطلق - عليه الصلاة والسلام - اللسان في بيان الحق، ودحض الباطل وشُبَه المبطلين في نصوص كبيرةٍ قد جاءت عنه - عليه الصلاة والسلام -.
ومن نظر إلى النصوص عن رسول الله r قبل بعثته وجداله مع المنافقين، وكذلك للجهلة ممن جاء إلى رسول الله r من جهالة الأعراب عن حُسن قَصْدٍ - وجد أن رسول الله r جاهدهم جهاداً بليغاً؛ مع أن رسول الله r يتحلَّى بالجملة الحكمة واللين والرقة، إلا أنَّ ذلك كله لا يغير من حكم الله U شيئاً؛ فيكون الحكمُ ثابتاً من جهة التحريم أو التحليل، أو الكراهة أو الاستحباب، أو الإباحة؛ لا يُجامَلُ أحدٌ في دين الله I ؛ وكذلك أيضاً ينبغي للناظر في أحكام النوازل وفقهها أنْ يَعْلَم أن ثمة نصوص تتشوف على الصَّبْر على الأذى في دين الله I ؛ وذلك بالنَّظر إلى حال النِّبي r وحال أصحابه والتابعين وأئمة الإسلام الذين صبروا على القول بمسائل من فروع الديانة، وكذلك الجلادة في مواجهة أهل الباطل ونحو ذلك؛ فأوْجَدَ ذلك أصلاً في نفوس كثير من العامَّة، أو كثير من المتفقهة؛ بتحُّمل البله ببعض فروع الدين ونحو ذلك، وهذا قد وُجِدَ أصلُه عند السلفِ الصالح من الصحابة وغَيرِهم.
قد جاء في الصحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله r لمَّا كان يُحاصِر الطائف وأطال الحصار، قد ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله r قد حاصَرَ الطائفَ ثلاثين يوماً، وجاء في روايةٍ عنده أنه حاصر الطائف أربعين يوماً، فقال رسول الله r لأصحابه : "إنا قافلون غداً" فقالوا لرسول الله r : كيف نَقْفل غداً ونحن لم نُقاتلهم ولم نفتح الطائف؟! فضحك رسول الله r فأبقاهم، فلمَّا قاتلوا وأصيبوا وجُرِحوا قال رسول الله r : "إنا قافلون غداً". فلمِّا سمعوا ذلك من رسول الله r ضحكوا واستبشروا برجوعهم.
من نظر إلى هذا النصِّ عن رسول الله r وأصحابه يستفيد منه أموراً متعدِّدة:
- أولاً : من جهة حصار النبيِّ - عليه الصلاة والسلام- للطائف؛ من جهة أصل الجهاد أنه فرضٌ على من جاء مع رسول الله r على أعيانهم؛ وذلك أنَّ الرسول الله r قد انتدبهم واكتتبهم في هذا الغزوة؛ فكان المنصرف منها كالنافر كالمُدْبر يوم الزحف والمتولي عنه، وذلك مِن أكبر الكبائر.
لما طال المقام برسول الله r قال : "إنا قافلون غداً". فلما سمع الصحابة رسول الله r قال ذلك تَشَوَّفَت نفوسهم على الصبر البلاء، ورسول الله r هو أشدُّ الناس علماً وصبراً في جنب الله، وما دفعه عن ذلك خشية بلاءٍ ومَضَرَّة؛ وإنِّما لحكمةٍ إلهيةٍ لا تستوجب الإلزام؛ لهذا خضع رسولُ الله r لرغبتهم؛ ليَنْظُر حالهم، فلما جُرِحوا وأخبرهم رسول الله r أنهم قافلون غداً استبشروا وضحكوا، فرجع رسول الله r بهم.
الرجوع جائزٌ في الحالَيْن ؛ في الحالة الأولى، وفي الحالة الثانية؛ لكنها في الحالة الأولى كانت النفوس تتشوف على الصبر، لكن لمَّا نزل بها الأذى تشوفت النفوس إلى الرجوع إلى المدينة وعدم تحمُّل الأذى؛ لهذا ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ الناظر في مسائل النوازل - أنه إذا لم يكن قد وقع الحالُ به - أنَّ نظره يكون بذلك قاصراً؛ وهذا ينبغي أن ينظر فيه الناظرُ في أحكم النوازل على وجه العموم، إذا لم يقع في تلك النازلة، أو تكن في مجتمعه فليحجم عنها قَدْر الإمكان ما دام أهل البلد الذين قد وقعت فيهم النازلة لديهم من أهل العلم والدراية والمعرفة ما يُمكنهم أن يستنبطوا لتلك النازلة دليلاً.
لهذا كان رسول الله r يُخْرِجُ الغُزاةَ من أصحابه ويعلمهم الأصول، ويَدَعُ الفروع لهم لأنهم أعلم الناس بحالهم؛ ولهذا ثمة كثير من النوازل في وقتنا ينبغي أن يُمسِك عنها كثيرٌ مَن لو نزل به ذلك تلك النازلة، أو نزل به ذلك البلاء لقال بقولهم، أو تَخَّبط بالقول يَمْنةً ويَسرة؛ كفقه الأقليات في كثيرٍ من بلدان العالم؛ تقع فيه النوازل كثيرة، فيفتي في ذلك كثيرٌ من أهل العلم الذين لم يقعوا في ذلك البلد، أولم يَحْصُل لهم أن وطأت أقدامهم تلك البلاد؛ فيفتوا بذلك من غير نظرٍ لأحواله؛ ( كذلك مسائل أهل الثغور ينبغي أن تُتْرك لهم؛ وذلك لصعوبة المسائل والمدارك ).
ومن نظر إلى أحوال النبيَّ r وجد ذلك ظاهراً بيِّناً فيه.
ومن المهمات أيضاً في هذا الباب أن يعلم الناظر أنه إنْ مَلَك دليلاً في أي مسألة من مسائل الدين أنَّ ذلك لا يعني منه أنه يَملُك أن يُنْزل ذلك الدليل على كل مَسْألةٍ مشابهة لها وإنْ كانت من كل الوجوه؛ وذلك ربما يكون ثمة دافع لتلك النازلة، أو لذلك النَّظير؛ يدفع الدليل عنها؛ لإنزال أمرٍ آخر.
مثال ذلك أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام أحمد - عليه رحمة الله - فقال له: إن أبي أمرني أنْ أطلِّق زوجتي. فقال له : لا تُطلِّق. فقال: أليس عَبْدُ الله بن عمر أمره أبوه أن يُطلِّق زوجته فطلقها. فقال - عليه رحمة الله - : حتى يكون أبوك كعمر.
من جهة ورود الدليل عند الإمام أحمد؛ أعلى دليلٍ في هذه المسألة ما جاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - ومعلومٌ منهج الإمام أحمد - عليه رحمة الله - أنَّه يُقدِّمُ الصحابة إذا لم يَكُن في الباب غَيْرُهُم؛ وذلك لجلالة قَدْرهم، وهم وصيةِ رسول الله r بالإتباع؛ خاصة الخلفاء الراشدين؛ كما جاء في السُّنن وغيرها من حديث العرباض ن سارية أن رسول الله r قال : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بَعْدي". أمر رسولُ الله r بسلوك سبيلهم؛ بلغ إليه الدليل واحتجَّ عليه المحتج، ولم يكن ذلك خافياً عليه - عليه رحمة الله - احتجَّ عليه بأن ذلك قد ثبت عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى؛ لكن كان نظر الإمام أحمد أنَّ مناط ذلك لشيءٍ وَقَعَ في النفس، وأنَّ أمر الوالد لولده بالطلاق ليس نافذاً على وَجْهِ العموم حتى يكون الوالد منصرفاً عن رغبات النفس ومطامعها التي تتشوف بحرمان الغير، وبما في يده ورضا نفسه عن رضا غيره رضا الله I .
لما كان ذلك منتفياً في عمر، وأدرك تلك العلة الإمام أحمد -عليه رحمة الله- لم ينزل الحكم على ذلك السائل، ولو كان ذلك السائل سأل غيره ممَّن هو دونه لأوقع عليه ذلك الحكم، ولو بقي على نَفْسه وهو يحمل الدليل لأخذ بذلك.
لهذا حاجَّ الإمام أحمد - عليه رحمة الله تعالى - بحال عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - مع ابنه.
الكلام في هذه المسائل مما يطول جداً، ولكن ينبغي التنبيه على أصلٍ مهمٍ في هذا الباب؛ وهي أنَّ شريعة الله I الأصل فيها أنَّها ثابتةٌ لا تتغير، لا يُمكن أن تتغير بحالٍ، وهذا هو الأصل فيها، أمَّا من المسائل التي ما عَلَّق الشارع فيها النظر إلى عُرْفِ الناس؛ فإنها تدور بتغير الحال.
ومن تلك المسائل ما جاء عن أبي حنيفة - عليه رحمة الله - أنَّه تكلم على مَسْأَلة الشاهدين، وعدم وجوب تزكيتهما، وانصراف صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن عن قوله، وعللا ذلك لتغيُّر الزمان؛ لتغيُّر زمانه وفساد أحوال الناس، وأنَّه ينبغي أنْ يُزَكَّى الشاهدان؛ وذلك أنَّ تغيُّرَ أحوال الناس قد يغيِّرُ بعض الأحكام. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن القيم - عليه رحمة الله تعالى - في كتابه "إعلام الموقعين"، وكذلك الشاطبي في كتابه "الاعتصام والموافقات"، وغيرهم من أهل العلم أشاروا إلى أنَّ جُمْلَةً من مسائل الدين قد تتباين وتتغير من وقتٍ إلى وقت؛ فيُفْتي العالِمُ بقولٍ؛ فيظن الناظرُ في هذا أنه قد استند إلى دليلٍ من النصِّ، وهو قد استند إلى العادة وإلى النظر في أحوال الناس؛ فإذا تَغير ذلك الزمان وفسد أحوال الناس أو صلحوا تغيَّر ذلك الحكم بتغير ذلك الزمان.
وكثيرٌ من العلماء لا ينصُّون على تلك العلَّة التي قد تغيَّر الحُكْمُ لأجلها، وإنما يفتون بالقول؛ فيظن بعض من لا عناية له أنَّ هذا القول قولٌ قطعيٌ في المسألة، وقد استند فيه إلى أصول الإسلام؛ لا إلى عُرْفِ الناس؛ فيظن أنه قول واحد، فإذا خالف ذلك الإمام ظنَّ أنه قد خالف أصله، وما علم أن ذلك الإمام قد قال بهذا القول نظراً إلى عُرفِ الناس وأحوالهم.
ومن المهمات أيضاً ما يجب أنْ يُتنبَّهَ له؛ أنَّ ثمَّة موجة عظيمة في وقتنا قد تولى كبرها كثيرٌ ممَّن يُحْسَنُ الظن به؛ بامتطاء كثيرٍٍ من مسائلِ العلم؛ من النوازل وغيرها ؛ حتى جعلوا من ذلك تأصيلاً لما يُسمَّى "فقه التيسير" فميَّعوا كثيراً من أصول الديانة، وأذابوا كثيراً مِن أحكام الدين، وتشبثوا بحُجَج وآراء لبعض العلماء على مَرِّ العصور، وجمعوا في ذلك مصنَّفاتٍ متعددةً؛ أرادوا بذلك عن حُسنِ قصدٍ التيسير على الناس، وما علموا أنَّ ذلك مخالفٌ لمنهج الأئمة - عليهم رحمة الله؛ بل هو مخالفٌ لما جاء عن رسول الله r ؛ بلزوم العزيمة مِنْ جهة الأصل، والأخذ بالرُّخَص والتيسير في بعض الأمور ونوازل الأحكام.
وأما إذا كان النصُّ في ذلك ظاهرٌ عن رسول الله r فلا قولَ لأحدٍ مِنْ أهل العلم في نازلةٍ أيّاً كانت؛ إلا إذا كان ثمة أصلٌ يُعْتَمَدُ عليه بدفع ذلك الدليل - هو أعظم منه، والكلام في ذلك في الفروع أهونُ منه في الأصول، وإن كانت الأصول قد تغاضى رسول الله r عن شيءٍ من فروعها؛ لمصْلحةٍ في الإسلام أعظم؛ وكذلك كان أصحاب رسول الله r ؛ كما جاء عنهم - عليهم رضوان الله تعالى - أنَّ بعضهم قد عَطَّل بعضاً من حدود الشريعة؛ لا من جهة التقليل والتحكيم لغير ما أنزل الله؛ وإنما في واقعةٍ بعينها؛ لمصلحة رأوها كما جاء عن رسول الله r أنَّه قد درء قَتْلَ جُمْلَةٍ مِن أهل الشِّقاقِ والنِّفاقِ؛ لِعِلَّةٍ راجحةٍ تتعلَّق بأصول الديانة.
والكلام على أمثال هذه المسائل يطول جداً؛ ولكنْ ينبغي أنْ يُعْلَم أنه ينبغي لطالب العلم أنْ يلتمس الدليل، وأنَّ العالِمَ إذا قال بمسألةٍ من مسائل الديانة على مَرِّ العصور، أنه يكون مَعْذوراً إذا استفرغ وسعَه بتلمُّس الدليل، وأنَّ المقلِّد لذلك العالِم قد يكون آثماً بتقليده ذلك إذا كان ذلك عن هوى، وأنَّ مسألة التيسير بذاتها لا تُضْرَب بها النصوص المحكمة عن رسول الله r ؛ والتي عليها إجماعُ الصحابة وغيرهم، وأنَّه لا يكاد يوجَدُ مسألةٌ مِن مسائل الديانة إلا وفيها قَوْلٌ شاذٌ لأحدٍ من العلماء المعتَبرين على مَرِّ العصور؛ سواءً من أئمة السَّلف من التابعين وغيرهم.
ومن نظر إلى الكتب التي تعتني بفقه الخلاف، وذِكْر الخلاف العالي والنازل وجد ذلك ظاهراً بيناً؛ لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالأدلة والأصول عن رسول الله r والإجماع، وأنْ يعلم قَدْرها، وأنَّ أعلى ما جاء في ذلك الوحي كلام الله I ، وكلام رسول الله r ، ثم يلي ذلك الإجماعُ، وأعلى الإجماعِ إجماعُ الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - كما قال الإمام أحمد : الإجماع إجماع الصحابة ومَنْ بعدهم تَبَعٌ لهم، ثم يلحق في ذلك الأصول؛ كمسألة القياس ومسألة المصالح والمفاسد وغير ذلك من مقاصد الشريعة التي قد دَلَّ عليها الدليل.
لا يَعْني من ذلك دَفع التيسير على وجه العموم والإطلاق؛ وإنما يَعني الاحتراز ممَّن يُطْلَقُ هذه العبارة، وهو يريد بها في الأغْلَبِ خيراً - أنَّ هذه العبارة قد امتطاها كثيرٌ ممَّن يريد بالإسلام سوءاً؛ فظهرت كثيرٌ من مسائل الديانة بتلمُّس أقوالٍ شاذَّةٍ فيها؛ فقيل بجواز إمامة المرأة، وقيل بإسقاطِ كثيرٍ من أحكام الديانة؛ كالخَلوَة والدَّعوةِ إلى الاختلاط والتبرُّجِ والسُّفور؛ كما أنَّه ينبغي للناظر في مسائل الديانة على وَجْهِ العموم، ومن انبرى للفُتيا أن يَنْظر إلى حال السائل، لا إلى حال المسألة التي يُسألُ عنها؛ فإنَّ السائلَ قد يَسأل وهو يريد شُبَه؛ وما أراد ديانةً وتتّبُعاً؛ فكثيرٌ ممن يلتمسُ المسائل الشاذَّةَ في الدين؛ فإنه يريد بذلك طَعْناً في دين الله، وإذابةً لمسائل الدين؛ فإنه ينبغي النَّظرُ إلى حاله؛ إذا كان ممَّن يُسَلِّم ويتبع المسائل التي قد اتَّفق الناسُ عليها وأجمعوا عليها، فإنَّ ذلك قَد يُحْسَنُ الظن ه، وإذا كان ممَّن لا يَرفعُ الإجماع رأساً، ولا يَنْظر إلى الدليل، ويكون ممَّن يتَّبع هواه، فإنَّ ذلك أحرى بأن يُشَدَّد عليه، وأنْ يُحجَّرَ عليه، وأنْ يبَّين حاله للناس؛ لأنه ربما يَفتن الناسَ في دينهم، وإن كان ما يسأله من مسائل الدين محلَّ خلافٍ ونحو ذلك؛ فنحن نسمعُ بين الفَينة والأخرى من يتكلَّمُ عل مسائل الحجاب، ومسائل العورات، وكثيرٍ من أحكام الديانة، ولو قال ذلك أنَّ في تلك المسائل خلافاً لقيل له أن ذلك صحيح؛ ولكن ينبغي أن يُنْظرَ لحاله؛ هل هو ممَّن يعظم العورات التي قد اتفق عليها العلماء؟!
ومن نظر إلى أحوال كثيرٍ ممن يقتنص تلك المسائل وَجَدَ أنهم لا يُقيمون للعورات المغلظة التي قد أجمع العلماءُ على وجوب سَترها؛ لا يرفع بها رأساً، ولا يَعتني بها ولا يلتمس الدليل، وإنما ينظر إلى تلك الفرعيات.
فينبغي للعالم حينما يتكلَّم في أمثال هذه المسائل أن يكون مُطَّلعاً لأحوال السائلين؛ سابراً لأحوالهم؛ عارفاً بما يريدون؛ لهذا كان السَّلفُ لا يجيبون كلَّ سائلٍ.
وكذلك مما ينبغي أن يتنبه له النظر في مسائل الخلاف؛ أنَّ مسائلَ الخلاف حالَ الكلامِ عليها عند العامة لا ينبغي ذِكرُ الخلافِ وتَركُ الترجيح؛ ممن يغلب عليه هواه؛ لغلبة الهوى، واتبَّاع النَّفْس في ذلك؛ فينبغي أنْ يُربط الناس بالدليل، ولو ذُكِرَ الخلاف؛ لأنَّ الدليل هو الحجَّة وليس غيره؛ لأن اللهَ I ما تعبدنا بشيءٍ إلا بذلك.
الكلام على هذه الأصول وهذه المهمات يطول جدَّا؛ فلا نَرْغبُ أنْ يَصْرفنا عن مقصدنا مِن هاتين المحاضرتين؛ نحن في هذه الليلة - بإذن الله تعالى - نتكلم على جُملَةٍ من المسائل في نوازل الحج.
الحَجُّ كما لا يخفى أنه ركنٌ من أركان الإسلام، ومن دعائمه العظام؛ قد دلَّ على ذلك الدليلُ من الكتاب والسُّنَّة قد أمرَ الله U به.
ويكفْى في ذلك أن جعله الله U ركناً من بُنيان الإسلام العظيم؛ وذلك أنَّ البِنَا لا يقوم إلا على أركان؛ فمِن تلك الأركان ما لو سَقَطَ ذلك البنا، ومنها ما لا يَسقط إلا بأكثر أركانه، ومن البُنيان ما يَسْقطُ بركنٍ واحدٍ؛ وذلك بتباين الدليل.
وينبغي النظر في أحوال مسائل التكفير بأركان الإسلام لمَن تركها كسلاً وتهاوناً إلى الأدلَِّة من الكتاب والسنة، وليس هذا محل ضبطها.
النوازل في الحج متعدِّدة؛ وهي ليست بالكثيرة؛ نتكلم على جملةٍ منها في هذه الليلة، ونُلحِقُ ما ظهر من هذه النوازل بأصولها؛ وبالجُملَة فإنه ما مِن نازلةٍ إلا ولها أصل، وبعض النوازل من نظر إلى كلام الفقهاء وجد أن العلماء يتكلمون عليها في مصنَّفاتهم؛ لكنها على طريقةٍ أخرى؛ وذلك لتباين الاصطلاح، وتغيُّر الحال ونحو ذلك، وهذه مسائل متعددة يأتي الكلام عليها بإذن الله.
النوازل منها ما يَطلب الناظر لها أصلاً ، ولا يكاد يجد لها أصلاً إلا بعض ما جاء عن السلف من متأخريهم من أتباع التابعين وغيرهم.
وعلى كلٍّ فإنَّا نستفرغُ الوُسْعَ بإلحاق كل فرعٍ بأصلهِ من الكتاب والسُّنَّة أو أقوال السَّلَف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام.
مسائل النوازل في الحج متعدِّدة، منها ما ظهر في الوقْت المتأخِّر من تحديد زمنٍ معين للعمرة، وتحديد زمنٍ معينٍ للحج.
ونَبْتدئ بالعمرة فإنه من المعلوم أنَّ العُمْرةَ لكثيرٍ من أهل البلدان قد حُدِّد فيها مواسم معلومة لأدائها، وغير ذلك يُمْنَعُ منه؛ أولاً : من جِهَةِ أداء العمرة؛ فالعمرة واجبة على الصحيح، وهو قولُ عامة السَّلَف؛ كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وغيرهم من أصحاب رسول الله r ، وليس لها وقتٌ محدَّد وهي مشروعةٌ في سائر أيام السنة على وَجْه العموم؛ من غير استيفاء يومٍ بعينه عند عامة العلماء؛ خلافاً لأبي حنيفة، وما يُروى عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنهم استثنوا من ذلك أربعة أيام؛ أولها يومُ عرفة، الثاني يوم النَّحر، الثالث والرابع اليومان بعده؛ وهما أيام التشريق.
وقد جاء عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - كما عند البيهقي من حديث يزيد الرِشك عن معاذة عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - أنها قالت : أُِحلَّتِ العمرة في السنة كلها إلا في أربعة أيام؛ وهذا الحديث أو الأثر عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - قد قال فيه النووي : باطلٌ لا يثبت. قال البيهقي عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه "السُّنن" : هذا الأمرُ عندنا لمن كان حاجَّاً وفي المناسك أنه لا يعتمر في هذه الأيام، وأما غير الحاجّ فإنه يعتمر فيه.
ويقال أنه يُسْتند إلى هذا التعليل مع صحة الدليل؛ فلمَّا كان الدليل لا يَصِّحُّ كان الأمر باقياً على الأمر، وأما مِن جهة الحجِّ فإن الحجِّ قد جاء عن رسول الله r الأمر بالمتابعة؛ الحث المتابعة عليه؛ فقال - عليه الصلاة والسلام : "تابعوا بين الحجِّ والعمرة".
وحَثَّ رسول الله r على الإكثار منه؛ فقال - عليه الصلاة والسلام : "الحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة". وقال - عليه الصلاة والسلام : "مَنْ حَجَّ ولم يَرْفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمُّه".
وجاء عن رسول الله r الترغيب بأنْ يَحجَّ الإنسان كلَّ خمسة أعوام، وقد جاء ذلك مِن طُرُقٍ متعددة، ولا يصح منها شيء؛ فلا يَصحُّ عن رسول الله r تحديد مدَّةٍ معينةٍ في الحجّ، ولا في العُمْرة؛ وإنما جاء الدليل في العُمرة ببيان وقت الفاضلِ عن غيره؛ ببيان وقت الفاضل كما جاء عن رسول الله r في بيان فضل العمرة في رمضان، وكذلك اعتمار رسول الله r في أشهُر الحج؛ فإن رسول الله r قد اعتمر أربع مراتٍ، وكانت عُمْره عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج، ما اعتمر - عليه الصلاة والسلام - في غيرها، ولما كان كذلك عُلِمَ أنَّ الأصْلَ ألا يمنع الناس من أداء العمرة على وَجْهِ العموم؛ وذلك أنَّ رسول الله r قد قال : "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت أو صلَّى أية ساعةٍ من ليلٍ أو نهار". وهذا الخطاب ينصرف إلى سائر الناس؛ عربيهم وأعجميّهم؛ كذلك قد حَثَّ رسول الله r على عدم أذيَّةِ الحاجّ على وجه العموم، فيستنبط منه إذا كانت الأذيَّة له حال وصوله؛ فكيف بمنعه من جهة الأصل!
كذلك أيضاً ما جاء عن السلف - عليهم رحمة الله تعالى - كعمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - وغيره؛ من إخلاء مكة من أهلها؛ من دورٍ ونحو ذلك للحجاج ممَّن كان قاصداً بيت الله I وأنهم أولى بذلك من غيرهم.
وقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب كما رواه الفاكهي في أخبار مكة من حديث عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أنه نهى عن بيع وإيجار دور مكة، وأمر بفتح أبواب الدور، وأن ينصب الناس الخيام حيث شاءوا.
وهذا صحيحٌ عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - وقد جاء بنحوه عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولا يصح.
أما من جهة التقييد والمنع يقال أنه قد ثبت عن بعض الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - أنهم قد مَنَعوا من الاعتمار في بعض المواسم البدعية التي قد يظن الناس فيها قصداً لم يرد فيه دليلٌ من الكتاب والسنة.
قد يلحق مسألة التقييد بهذه المصلحة كما جاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - أنه كان يمنع من الاعتمار في أشهرِ الحرم وأشهر الحج، وذلك كما رواه ابن أبي شيبة، وذلك ابن جرير الطبري في التاريخ وغيره.
وقد حاجَّه بعض الصحابة كعمران - عليهم رضوان الله تعالى - في مسألة المنع؛ فعلل ذلك عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - أنَّهم يَعْمَرون في أشهر الحج، فينظرون أن ذلك يُجْزئ عنهم عن الحج، فيدخلون إلى أهليهم، فلما كان ذلك التعليل لم يرد فيه دليل منعه عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من ذلك، وجاء تعليلٌ عنه عليه رضوان الله تعالى - أنَّه مَنَع مِنْ ذلك لكيلا يُهْجَر البيت فيما سواه، فإذا كان ثمَّة مصلحة شرعية جاز تقييد الوقت في أزمنة محدَّدة؛ كمن يحدِّد أزمنةَ في أشهرٍ من السنة؛ وذلك لترتيب أوقات المعتمرين، وتسهيل وصولهم، وترتيب وصول الأفواج منهم؛ وذلك دَفعاً للزحام والمشقَّة من غير مَنْعٍ على وجه العموم؛ فإن هذا له مقصد شرعي، وأصله ثابتٌ عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
ويلحق في ذلك منع أهل الظلال والزيغ من التعبد في أوقاتٍ مخصوصة؛ سواءً في مكة وغيرها؛ ممن أمر الشارع بالإتيان إليها على وَجْه العموم في جميع مواسم العام؛ فيقال أنه إذا كان ثمة من أهل البدع من يتعبد بأوقاتٍ وأزمنةٍ محددة فيما دَلَّ الدليلُ على أنَّ التعبَّد فيه على وَجْه العموم جائزٌ يجوز منعه؛ كمن يعتمر في رجب، أو يحتفل بليالٍ معروفة؛ كالميلاد وليلة الإسراء في بعض المساجد ونحو ذلك، وإن كان دخول المساجد والتعبد فيها هو من أعظم العبادات، ومن المشروع في الديانة، وصَدُّ الناس عن المساجد مِنْ أعظم الآثام، وقد حَذَّر الله I مِنْ ذلك أعظم تحذير، وحذر منه عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة.
وعليه فإنَّ خلاصة هذه المسألة أنه يجوز تحديد أزمنة محدَّدة لمصلحة تيسير أمر الحجاج من عدم الزحام ونحو ذلك ، (وإلا فالأصل أنه ما وجد سَعَة وما وجد فُسحة فإنه لا يجوز مَنعهم بحالٍ)؛ فمن أراد قَصْدَ الحج في أي يومٍ من أيام السنة فإنه يُيَسَّر له ذلك ولا يُمنَعُ منه على وجه العموم؛ فينبغي أن يُغَلَّبَ هذا الأصلُ على العِلَّةِ وعلى النازلة قَدْر الإمكان، إلا إذا كان في ذلك علة أو نازلة ظاهرة بيِّنة؛ فإنها تُغلَّبُ لعِلَّةٍ ظاهرةٍ تتعلق بمقاصد التشريع؛ لثبوت ذلك عن بعض أصحاب رسول الله r .
ومن المسائل النازلة في هذا الباب ما يُسمَّى في عصرنا بـ "قوافل" أو "حملات الحج"؛ هذه القوافل وحملات الحج هي من النوازل في هذا الزمان، وقد تباين الناسُ في هذا الباب؛ بين مُغالٍ وغير مُغالٍ، بين مُتَّبعٍ للمشقة، وبين مُتَّبعٍ للتيسير والسعة، وبين مُسرفٍ يدفع الغالي والنفيس؛ لتقليل الراحة وطلب السَّعة، وعدم النظر إلى أصْل المشقةِ في الحج؛ وذلك أن الشارع قد سمَّى الحج جهاداً، فقد جاء عن رسول الله r كما جاء في البخاري من حديث عائشة عليها - رضوان الله تعالى - أنه قال : "على النساء جهاد لا قتال فيه" وقال : "الحج"، وقد جاء في غير البخاري بذكر العمرة، وهي غير محفوظة؛ فسمَّى رسول الله r الحجَّ جهاداً؛ وذلك لما فيه من الجهد والمشقة، ورسول الله r وأصحابه كانوا - عليهم رضوان الله تعالى - مع يُسر بعضهم إلا أنه يَتَحيَّن التقشف والتقلل وعدم تلمُّس المبالغة بالراحة؛ كما جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - في المسند وغيره من حديث يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال : حج رسول الله r على رَحلٍ رَثٍّ، وقميصه لا يساوي أربعة دراهم، وحَجَّ أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى على ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنه رأى رفقة قد جاءوا إلى الحج من أهل اليمن بعد وفاة رسول الله r على رواحل رثَّة، بها مزادتهم، فقال عليه رضوان الله تعالى: من أراد أن ينظر إلى رسول الله r ومن معه فلينظر إلى هذا الوفد. يعني الذين جاءوا إلى الحج وحالهم تلك المذكورة.
وقد جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الصحيح من حديث أمامة أنَّ أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - أنه حجَّ على رَحلٍ، وليس بشحيح؛ أي أنه ليس بضيق ذات اليد؛ وإنما يملك مالاً؛ إلا أنه تقلَّلَ من ذلك وترك الإسراف.
ومن نظر إلى أحوال كثيرٍ من أهل الحملات في وقتنا وجد المبالغة في ذلك، وبعضهم يدفع الألوف المؤلفة لكي يتيسر له الحج، فلا يلتمس فيه مشقة، فأحبَّ أن يُفسح له الطريق، فلم ينظر إلى حال رسول الله في حجه وهو من هو، فكان رسول الله r يحج على راحلةٍ واحدةٍ، وعلى هذه الراحلة مزادته وطعامه، وفيها رحله عليه الصلاة والسلام ومتاعه؛ قال: قد جاء عن بعض السلف أنَّ أول من حج براحلتين؛ راحلة يمتطيها وراحلة عليها مزادته هو عثمان بن عفان - عليه رضوان الله تعالى؛ فرسول الله r من نظر إلى حاله وجد أنه لا يلتمس المشقة ويتقصدها؛ وإنما كان رسول الله r يَحُجُّ راكباً وماشياً، وكان رسول الله r لا يؤذي أحداً ولا يزاحم، وكان يحذر أصحابه - عليهم رضوان الله تعالى - من الزحام وأذية الخلق؛ وذلك دفعاً للمشقة، وطلباً للتيسير، وقد رخَّص عليه الصلاة والسلام كذلك للضعفاء أن ينفروا بَعْد منتصفِ الليل مِن مزدلِفة أو بعد طلوع القمر؛ كما جاء ذلك عن غير واحدٍ مِن أصحاب رسول الله r ، كعبد الله بن عباس، والفضل، وأسماء، وغيرهم من أصحاب رسول الله r ؛ نفروا مع أنَّ المبيت في مزدلفة واجبٌ؛ طلباً للتيسير وكذلك رخص رسول الله r للعباس ومَن معه ألا يبيت بِمِنى؛ وذلك لمصلحة سقاية الحج، ورخَّص رسول الله r لمَنْ يسبقه فيضرب له خيمةً بِـ"نَمِرَة"؛ ومعلومٌ أنَّ البقاء بـ "مِنَى" يومَ التروية وقبل ذلك هو السُّنَّةُ والأولى؛ ولكن ذلك لمَّا كان يتعلَّق بمصلحة المسلمين وتيسير طريقهم جاز الترخُّص ببعض الأحوال، إلا أنَّ الإنسان أن يلتمس دَفْعَ المشقَّةِ على وَجْهِ العموم وطلب التيسير والترفُّه ليس ذلك من نهج محمدٍ r .
وهذا مذمومٌ من وجوه:
- الوجه الأول : أنَّ النبيِّ r قد حَذَّر من الإسراف؛ وذلك أن التيسيرَ في الحج لا يمكن إلا بدفع مبالغ باهظة لحملاتٍ معينة تيسر للإنسان تَنَقُّلَه وتيسر له ملبسه ومطعمه بشيءٍ لا يتخيل الإنسان أنه في حج؛ وهذا معلومٌ مشاهَدٌ لمن لمس ذلك، وقد حَذَّر رسول الله r من الإسراف؛ كما جاء في السنن من حديث بَهْز بن حكيم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدَّه أن رسول الله r قال : "كل واشرب وتصدق من غير سَرَفٍ ولا مَخْيَلَة". قد حَذَّر الله I من الإسراف بقوله جلَّ وعلا : }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا { ، وبيَّن I أن الإسرافَ مِنْ خصال الشياطين، ومِن كان على نَحْوِهم؛ كذلك الثاني أنَّ رسول الله r مع تيسير أمره، وأنَّ الحجَّ كان في آخرِ أحواله، بعد أن بَسَطَ الله U له في الرزق، فكان رسول الله r يَدَّخِرُ في آخر حياته قوتَ سنةٍ كاملةٍ، وهذا يدلُّ على تيسير الرِّزْق، وكذلك السَّعَة لليد، ثم أنَّ من نظر إلى حال رسول الله r فقد جاء بهَدْيٍ وأهدى، وهي مائة، فذبح رسول الله r بيده ثلاثاً وستين، ورجلٌ يَمْلِكُ ذلك من الهدي ويأتي براحلة واحدة رثة وعليها مزادَتُه وطعامه ولباسُه؛ وهذا يدلُّ على أنَّ رسول الله r قد تقصَّدَ عَدَمَ تتبُّع التيسير على وجه العموم ، وإنْ كان التيسير مطلوباً؛ وذلك لدفعِ المشقة والأذية عن الناس؛ أما من جهة الإنسان بنفسه فإن الأصل في الحج أنه من الجهاد.
- الأمر الثاني : أنَّ الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا على نهج محمدٍ r كما جاء عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمر؛ بل وعن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى؛ فإنَّ كثيراً من الحجَّاج الذين يبالغون بدفع الأموال الطائلة، ويبالغون بطلب الراحة والأماكن الفسيحة ونحو ذلك، ولا يرغبون بالجلوس مع الناس، ويرغبون بخلواتٍ؛ ليس لذكر الله I والتعبد؛ وإنما دفعاً لمخالفة الناس وخُلُوِّ الذِّهن أو الانشغال بقراءة كتبٍ لا علاقة لها بالمناسك ونحو ذلك، لا شكَّ أن هذا من البعد.
وقد جاء في المصنَّفِ عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ رجلاً قال له : ما أكثر الحجاج! فقال عبد الله بن عمر: ما أقلهم! ثم نظر عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - إلى رجلٍ على رَحلٍ رثٍ، قال، لعلَّ هذا، يعني من هؤلاء القليل؛ فإن الفوز والنجاح وكذلك القبول فيمن طَلَبَ المشقة مِن غير أذيَّةٍ في نفسه أولى مِن غيره؛ وذلك أنَّ رسول الله r كانت حالُهُ كذلك.
ومن النوازل في هذا الباب مسألة المواقيت، ومحاذاتها جَوَّاً :
أولاً : يقال أنَّ المحاذاة من جهة الجو لم يدل عليها الدليل من جهة الأصل. وهذا معلومٌ.
العلماء يُلحقون هذه المسألة بأصلٍ وقاعدةٍ، وهي أنَّ الهواء له حُكْمُ القرار ، وأنَّه داخلٌ في ملك الإنسان، وكذلك يستدلون بقياس الأَولى؛ قالوا أنَّ رسول الله r لمَّا جعل للمحاذي في البر، وليس في ملك المالك لو كان يملك ذلك؛ فجَعَله في حُكمه، وقد جاء هذا عن رسول الله r ، وجاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - لما وقَّت ذات عِرق، ولم يكن قبل ذلك ذات عرق؛ فوقَّت عليه رضوان الله تعالى تيسيراً للناس، فلما كان كذلك كان الهواءُ مِن باب أَولى.
والمحاذاة بالطائرة هي من المسائل التي عليها الاتفاق؛ أنَّ مَن حاذي الميقات من جهة الجو؛ أنه يجوز له الإحرام، ولا يجب عليه أن يعودَ إلى الميقات.
ويتفرع عن هذه المسألة تبعٌ لها مسألةٌ قد تكلم عليها جماعة من العلماء؛ وهي حُكْم جُدَّة؛ هل هي من المواقيت أم لا، وهذه من المسائل التي قد تكلم عليها جماعة من المتأخرين، وقد صَنَّفَ في ذلك بعض الفقهاء من الحنفية من المتأخرين كتاباً سمَّاه "دفع الشِّدَّة بجواز تأخير الإحرام إلى جُدَّة"؛ وذلك لجعفر النُّعَيمْي الحنفي - عليه رحمة الله، وجَوَّز أن يكون المحرم يوخِّر إحرامه إلى جدة، وجعلها مُحاذيهً.
أولاً : ينبغي النظر إلى تأصيل المسألة، أنَّ مسألة المواقيت قد دلَّ الدليل على أمورٍ مما يُحْرِمُ منه الحاجُ أو المعتمرُ، وذلك في عدة أحوالٍ:
- الحالة الأولى : من جهة من كان من أهل الآفاق مِن وراء المواقيت؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من المواقيت الموصوفة عن رسول الله r في حديث عبد الله بن عباس، ولا يجوز له أن يتجاوز هذه المواقيت، وإن تجاوزها وجبَ عليه أن يعود ما لم يكن في ذلك مشقَّة عليه؛ فإن كان في ذلك مشقة فإنه ينجبر على خلافٍ في الدم؛ فعامة العلماء على وجوب الدم، وذهب بعض السلف كإبراهيم النخعي إلى عدم وجوبه، وهو الأظهر.
- أما إذا كانوا - وهي الثانية - دون المواقيت فإنهم يُهلُّون من مكانهم الذي هم فيه - أي من بلدهم - وألا يُغادروا البنيان إلا بإحرام؛ فإن غادروه بغير إحرام فقد تجاوزوا ميقاتهم.
- الثالثة : مسألة المحاذاة للمواقيت : وهذه يأتي الكلام عليها.
- الرابعة : وهي ميقات أهل مكة : وميقات أهل مكة يختلف ويتباين إذا أرادوا الحجَّ أو العمرة، ويقال أنَّ المكيَّ إذا كان يريد حّجَّاً فإنه يُحرم من مكة من داره، ولا يخرج إلى الحِلّ؛ وهذا الذي عليه عامة أهل العلم. أمَّا إذا أراد العمرة على خلافٍ عند العلماء في استحباب مشروعية العمرة للمكي؛ هل تُشرع العمرة للمكيّ أم لا؟ فذهب بعضُ السلف - وهو قولٌ لعبد الله بن عباس وعطاء بن أبي رباح - أن المكي ليس عليه عمرة.
وجاء ذلك عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ المكي ليس عليه عمرة؛ وإنما عليه الطواف؛ لكن إذا أراد العمرة أو كان ثَمَّةَ آفاقي قد جاء إلى مكة ثم نوى عمرةً فإنه يخرج إلى الحِل ليعتمر، كما جاء في حديث عائشة - عليها رضوان الله تعالى - وفي هذه المسألة إجماعٌ.
وذهب بعض أهل الرأي وبعض أهل الظاهر من المتأخرين إلى أنَّ الحج والعمرة يحرم منهما من الحل، وهذا لا شكَّ أنه قولٌ مردودٌ مخالفٌ لما عليه الإجماع، ومسألتنا هنا تَلحَقُ بمسألة المحاذاة، وهي:
القسمُ الثالث؛ يقال أن المحاذاة قد دلَّ عليها الدليل، وهي مَحَلُّ اتفاق عند العلماء؛ سواءً كان من البرِّ أو من البحر، أو مسألة الجو، وهي من مسائلِ النوازل.
ويتفرع عن هذا مَسألتنا وهي مَسألة الميقات من جُدَّة؛ الإحرام من جُدَّة هل هو ميقات أم لا؟ يقال : لما دل الدليل على المحاذاة، ينظر إلى جدة هل هي محاذية أم لا؟ أولاً: لمن كان قادماً من البحر؛ من نَظَر إلى كلام العلماء - عليهم رحمة الله - وَجَدَ أنهم يقولون أنه يُحْرِمُ مَن كان قادماً من البحر من السفينة؛ مَن كان قادماً من المغرب ونحو ذلك؛ من بلاد السودان أو المغرب وغير ذلك؛ وهذا الذي عليه قول عامة العلماء؛ خلافاً للإمام مالك في رواية؛ فقد روى عنه ابن نافع - عن الإمام مالك - أنه لا يحرم المحرم بالسفينة؛ فكأنه يرى أنَّه يُحرِمُ بعد قدومه إلى البَرّ.
وجدة لم تكن معمورةً بذلك ، ولم يكن يصل إليها هذا العدد وهؤلاء الحجاج بهذا الجَمْع؛ فكانت غير مقصودةٍ، وهذه المسألة كانت من النوازل، وأفتى فيها جماعةٌ من العلماء بأقوالٍ :
- منهم من قال أنها ميقاتٌ للجميع؛ سواءً كانوا ممَّن يَقْدُمُ عن طريق البرِّ أو البحر أو الجو؛ أنه يُحرم إذا قَدُمَ من جدة.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ لمن قدم من البحر؛ من المغرب ونحو ذلك، وحمل رواية الإمام مالك - عليه رحمة الله تعالى - على ذلك.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ على وجه العموم؛ سواءً قُصدت من البر أو البحر أو الجو.
- ومنهم من قال أنها ليست بميقاتٍ على وجه العموم.
وعلى كلٍ فيقال أن الصواب في هذه المسألة أن جدة ميقاتٌ لمن