حازم صاغية
هناك، في لغة دمشق السياسيّة، بضع عبارات مثيرة للفضول، لا يؤول تكرارها إلا إلى مضاعفة الفضول ذاك. فحيال الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيليّة، تتمسّك سوريّة الرسميّة «بحقّها في الردّ» الذي لا يحصل، تمسّكها بـ «تحديد مكان الردّ وزمانه». وهي عبارات باتت لتردادها من المأثورات البعثيّة الطريفة، وإن أضاف إليها مؤخّراً الرئيس الأسد استدراكه المهمّ: إن الرد العسكريّ هو ما تريده لنا إسرائيل...
ومن تلك اللغة أيضاً أننا «نرضى بما يتوافق عليه اللبنانيّون»، وأننا «نعمل لتسهيل كلّ تقارب بين العراقيّين وكلّ تهدئة للعراق تضبط أمنه وتصون دماء مواطنيه». ولكنْ أيضاً، وبلغة المراقب الحياديّ، أن لبنان لن يهدأ لأن ثمة «قوى» لا تريد له أن يهدأ إذ تعمل على ربطه بالأجنبيّ. وهو ما قد يقال أيضاً في العراق وفلسطين بألفاظ أخرى.
وهذا إنشاء متعالٍ من جهة، متقشّف ومتعفّف من أخرى، ينفي عن نفسه كلّ فعاليّة، جامعاً بين خيريّة كاملة لا يخالطها غرض وغرضيّة («لا أريد شيئاً لنفسي، أعوذ بالله!»)، وبين تواضع يتّخذ شكل تحقير النفس («من أنا لكي أطلب، ومن أنا لكي أؤثّر في المجريات... كلّ ما أرجوه سعادتكم»). والإنشاء، في مجمله، مصبوغ بتفجّع توراتيّ ينذر بغضب إلهيّ («إنتبهوا، إنكم تسيؤون الى أنفسكم، وبفعل ما تفعلونه، أنتم لا سواكم، فإن الغد أدهى وأعظم»).
الحال، طبعاً، ليست على هذا النحو، وما يجري في الواقع يستبعد التعالي استبعاده التعفّف. فالأخير، متى بولغ فيه، أخفى شهيّة وطموحاً لا يشبعان، تماماً كما أن تحقير النفس قد يكون قناعاً لـ «أنا» متورّمة يُخشى إذا ما انفجرت ألاّ يتّسع لها الكون العريض.
وهو سلوك يذكّر بالمستبدّ حين يسمّي نفسه «خادم الشعب» فحسب، منكراً أن يكون له مطمح شخصيّ، أو بربّ عمل جشع يؤكّد أن عمّاله أخوتُه، وأنه لا يعمل إلا لتوفير الحياة الأفضل لهم. غير أنه، مع هذا، يرفض تحسين أجورهم أو تسجيلهم في الضمان.
وهي، على العموم، فهلوة شرقيّة تعامل بشرها بوصفهم قوماً من البلهاء: فهم يسعهم، بعد مليون وعد من هذا القبيل، أن يتوقّعوا لحظة يقرّر فيها «البعث» مكان الردّ وزمانه، ويمكنهم أن يصدّقوا أن رضا الله وراحة الضمير هما وحدهما ما يرسم السياسة الدمشقيّة المتّبعة حيال «الأخوة» في لبنان والعراق وفلسطين.
وكان زوربا اليونانيّ قد نصح صديقه أنْ «دع الناس يغطّون في نومهم أيها الرئيس. فهم إذا فُتحت أعينهم ماذا يرون؟ بؤسهم. إذاً، دعهم يمضون في أحلامهم». والرئيس يسمع النصيحة طبعاً، والناس، لألف سبب وسبب، يقبلونها مسترسلين في الأحلام.
غير أن المستوى الآخر، الأهمّ والأعقد، يطال الصلة بين جزئي «خطاب» التعفّف والتعالي: فلو أُعلنت الرغبات الفعليّة حيال العراق ولبنان وفلسطين، لفقدت معناها محاولاتُ اتّقاء الضربات الإسرائيليّة بحجّة تأجيل الردّ أو استبعاده. وفي المقابل، لمّا كانت سوريّة متعالية، لا تردّ على انتهاكات «العدوّ»، فمن باب أولى أن تتعالى حيال إساءات «الأخوة»، تكتفي بتنبيههم الى مصالحهم.
وهي لغة «إستراتيجيّة» نشأت بعد حرب تشرين وفكّ الارتباط، ثم راحت تنمو بوتيرة تراكميّة، قاطعةً مع اللغة «الإيديولوجيّة» والثرثارة التي تميّز بها النظام البعثيّ بين 1963، لا سيّما 1966، و1970.
ففي السابق، كان اللسان الطليق قاتلاً لصاحبه ذي اليد المغلولة. أما اليوم، فاللسان مغلول واليد طليقة. والشاطر هو من يضبط اليد في جرم مشهود!
هكذا ينحصر السجال في الأقوال والتصريحات، فيسع دمشقَ أن تبرهن - وهو ما اتُّهم به مثقّفو اليسار في ستينات فرنسا - على عدم وجود الغولاغ عبر ترداد موادّ الدستور السوفياتيّ! ألم تدخل القوّات السوريّة الى لبنان، في 1976، لمجرّد «الدفاع عن المقاومة الفلسطينيّة والحفاظ على الديموقراطيّة اللبنانيّة؟» ألم تقل إذاعة دمشق وصحفها وخطابات قادتها ذلك؟
هناك، في لغة دمشق السياسيّة، بضع عبارات مثيرة للفضول، لا يؤول تكرارها إلا إلى مضاعفة الفضول ذاك. فحيال الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيليّة، تتمسّك سوريّة الرسميّة «بحقّها في الردّ» الذي لا يحصل، تمسّكها بـ «تحديد مكان الردّ وزمانه». وهي عبارات باتت لتردادها من المأثورات البعثيّة الطريفة، وإن أضاف إليها مؤخّراً الرئيس الأسد استدراكه المهمّ: إن الرد العسكريّ هو ما تريده لنا إسرائيل...
ومن تلك اللغة أيضاً أننا «نرضى بما يتوافق عليه اللبنانيّون»، وأننا «نعمل لتسهيل كلّ تقارب بين العراقيّين وكلّ تهدئة للعراق تضبط أمنه وتصون دماء مواطنيه». ولكنْ أيضاً، وبلغة المراقب الحياديّ، أن لبنان لن يهدأ لأن ثمة «قوى» لا تريد له أن يهدأ إذ تعمل على ربطه بالأجنبيّ. وهو ما قد يقال أيضاً في العراق وفلسطين بألفاظ أخرى.
وهذا إنشاء متعالٍ من جهة، متقشّف ومتعفّف من أخرى، ينفي عن نفسه كلّ فعاليّة، جامعاً بين خيريّة كاملة لا يخالطها غرض وغرضيّة («لا أريد شيئاً لنفسي، أعوذ بالله!»)، وبين تواضع يتّخذ شكل تحقير النفس («من أنا لكي أطلب، ومن أنا لكي أؤثّر في المجريات... كلّ ما أرجوه سعادتكم»). والإنشاء، في مجمله، مصبوغ بتفجّع توراتيّ ينذر بغضب إلهيّ («إنتبهوا، إنكم تسيؤون الى أنفسكم، وبفعل ما تفعلونه، أنتم لا سواكم، فإن الغد أدهى وأعظم»).
الحال، طبعاً، ليست على هذا النحو، وما يجري في الواقع يستبعد التعالي استبعاده التعفّف. فالأخير، متى بولغ فيه، أخفى شهيّة وطموحاً لا يشبعان، تماماً كما أن تحقير النفس قد يكون قناعاً لـ «أنا» متورّمة يُخشى إذا ما انفجرت ألاّ يتّسع لها الكون العريض.
وهو سلوك يذكّر بالمستبدّ حين يسمّي نفسه «خادم الشعب» فحسب، منكراً أن يكون له مطمح شخصيّ، أو بربّ عمل جشع يؤكّد أن عمّاله أخوتُه، وأنه لا يعمل إلا لتوفير الحياة الأفضل لهم. غير أنه، مع هذا، يرفض تحسين أجورهم أو تسجيلهم في الضمان.
وهي، على العموم، فهلوة شرقيّة تعامل بشرها بوصفهم قوماً من البلهاء: فهم يسعهم، بعد مليون وعد من هذا القبيل، أن يتوقّعوا لحظة يقرّر فيها «البعث» مكان الردّ وزمانه، ويمكنهم أن يصدّقوا أن رضا الله وراحة الضمير هما وحدهما ما يرسم السياسة الدمشقيّة المتّبعة حيال «الأخوة» في لبنان والعراق وفلسطين.
وكان زوربا اليونانيّ قد نصح صديقه أنْ «دع الناس يغطّون في نومهم أيها الرئيس. فهم إذا فُتحت أعينهم ماذا يرون؟ بؤسهم. إذاً، دعهم يمضون في أحلامهم». والرئيس يسمع النصيحة طبعاً، والناس، لألف سبب وسبب، يقبلونها مسترسلين في الأحلام.
غير أن المستوى الآخر، الأهمّ والأعقد، يطال الصلة بين جزئي «خطاب» التعفّف والتعالي: فلو أُعلنت الرغبات الفعليّة حيال العراق ولبنان وفلسطين، لفقدت معناها محاولاتُ اتّقاء الضربات الإسرائيليّة بحجّة تأجيل الردّ أو استبعاده. وفي المقابل، لمّا كانت سوريّة متعالية، لا تردّ على انتهاكات «العدوّ»، فمن باب أولى أن تتعالى حيال إساءات «الأخوة»، تكتفي بتنبيههم الى مصالحهم.
وهي لغة «إستراتيجيّة» نشأت بعد حرب تشرين وفكّ الارتباط، ثم راحت تنمو بوتيرة تراكميّة، قاطعةً مع اللغة «الإيديولوجيّة» والثرثارة التي تميّز بها النظام البعثيّ بين 1963، لا سيّما 1966، و1970.
ففي السابق، كان اللسان الطليق قاتلاً لصاحبه ذي اليد المغلولة. أما اليوم، فاللسان مغلول واليد طليقة. والشاطر هو من يضبط اليد في جرم مشهود!
هكذا ينحصر السجال في الأقوال والتصريحات، فيسع دمشقَ أن تبرهن - وهو ما اتُّهم به مثقّفو اليسار في ستينات فرنسا - على عدم وجود الغولاغ عبر ترداد موادّ الدستور السوفياتيّ! ألم تدخل القوّات السوريّة الى لبنان، في 1976، لمجرّد «الدفاع عن المقاومة الفلسطينيّة والحفاظ على الديموقراطيّة اللبنانيّة؟» ألم تقل إذاعة دمشق وصحفها وخطابات قادتها ذلك؟