الزورق
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
أخيراً انتهى حفل الزفاف ، وآن لي أن أحمل عروسي وأرحل ، ترحل الناس في سياراتهم ، وأنا أرحل في زورق لأني صياد ، البحر دنياي ، وعلى الجزيرة مسكني ، والرزق في شباكي ، والأسماك مأكلي ، هذا قدري وأنا سعيد به
سرت على الجسر الخشبي وسط المياه حيث يرسوا زورقي ، بينما العروس لا تزال تودع أهلها وتتلقى المزيد من النصائح ، ولا زلت غير مصدقاً أنني سقطت في شباك امرأة وتزوجت ، إنني لم ءألف النساء ، ولا أحسن معاملتهن ، ثم إنني بالكاد أعول نفسي ، فكيف أعولها ، ثم أبنائها .
كدت أطيح في البحر بينما أرفع مرسى الزورق من هذا العبء الثقيل فصببت عليها جام غضبي وصرخت فيها منادياً :
- هيا أيها العروس ... فأنت بالكاد تزوجتي ، ولا يزال أمامنا سفر بعيد .
ارتعبت المسكينة وراحت تمسك بفستانها الأبيض الطويل وتركض نحوي حتى غضبي لا يستشيط ، وما أن أطرفت عيني إلا وكانت أمامي ، وأنا أنظر إلى الجسر الطويل ، وجسدها المنهك ، وأنفاسها التي تتلاحق كأنها عبرت المحيط !! أشفقت عليها وكدت اعتذر لها ، لكن لا.... لا هذا مستحيل .
قفزت إلى الزورق كأنني عاشق ، واحتضنني الزورق كأنه عشيق ، وبقيت العروس على المرسى بلا عاشق ولا عشيق ، تنتظر يداً ممدودة ، فأبت اليد أن تلبي ، وتحجر قلبي بين الضلوع ، وأقسمت إذا لم تقفز فلسوف أتركها على المرسى وأرحل .
وكأن ما همست به في نفسي قد ذاع في الوجود ، وإذا بها تقفز في يأس المنتحرة على متن الزورق وتستقر في قاعه وهي تتألم بأنات صامتة ، وتنظر لي في ذهول ، جلست في وسط القارب ، وأمسكت المجدافين ، ورحت أجدف في حماس ، وأنظر لها وهي تتوارى من الألم ، وتكتم النواح ، حتى تمكنت من الجلوس أمامي وبدأت تشعر بارتياح ، وساد صمت ، خيم عليه سكون ، فضحه ضوء القمر ، المتلأليء على بساط ممدود بلا حدود ، يشقه زورقي الجامح بلا هدوء .
راحت تتنحنح ، وتتحشرج ، تحاول أن تستنطقني ، وأنا في وعثاء السفر غارق ، ومن التجديف منهك ، وأكظم غيظي ، فالزورق لم يكن ثقيلاً هكذا من قبل ، والطريق أبداً ما ألفته طويلاً ، تفصد جسدي عرقاً غزيراً ، غزيراً وابتل ثوبي وتغلغلت نسمات باردة في عظامي ، فسرت في جسدي قشعريرة ، وتباطأ الزورق شيئاً فشيئاً حتى كاد أن يتوقف وإذا بصوت آسر ، يدغدغ مسامعي :
- هل تسمح لي أن أساعدك ؟!
تكبرت أن أجيبها ، وأنا في نفسي أتوسل لها أن تفعل !! فدنت مني وجلست إلى جواري ، وأمسكت بالمجداف وراحت تضرب الماء بقوة الضعيف ، وراح الزورق يندفع ، ويندفع كأنه مستكين ، ويهلل الماء لمجدافها ويناشدها بالمزيد ، فانحرف الزورق في اتجاهها ، ولم أستطع مجاراتها ، فدار الزورق حول نفسه حتى صرت أستحي وأتلفت حولي عسى أن يشفق علي البحر ويبتلعني من هذا المشهد الرهيب ، فهمست بصوتها الآسر مرة أخرى متسللة إلى أعماق ، أعماق قلبي قائلة :
- هل يمكن لك أن تستريح ؟
لم أتمالك نفسي ورحت أضحك ، وأضحك ، وأضحك ، ويعود صدى ضحكاتي إلي فأضحك أكثر ، وأكثر، وأكثر ، وأنا أنظر إلى هذا المتكبر يتنحى عن متن زورقه ، تاركاً مجدافيه لزوجته ، لأنه هوى من تعب مرير ، ولما استقريت على مؤخرة الزورق ، وبدأت ضحكاتي تتوارى مع فضيحتي المدوية ، سألتها :
- لماذا قبلتي الزواج بي ؟
فنظرت إلي وهي لا تزال تجدف كأنها ولدت في زورق قائلة :
- أنا لم أعترض على ما وافق عليه أهلي ؟!
فنظرت لها هازاً رأسي بأنني لم أفهم ، فقالت مستأذنة :
- أتسمح لي بأن أشيح حجابي ؟!
فأسرعت مازحاً :
- ولما لا فأنا لست إلا زوجك !!
تركت المجدافين ، وأشاحت بالحجاب عن وجهها ، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة شاهدت فيها أفق الجنة ، وكشفت عن ساقيها ، وشمرت عن ذراعيها ، وراحت تجدف بحماس بالغ ، وشعرت بأنني مع صديقاً ألفته وليس امرأة تزوجتها ثم قالت :
- أنا لم أخير حتى أختار ، والزواج قدر نخضع له متى جاء !!
نظرت لها مستغرباً ، مندهشاً ، متسائلاً :
- ألم تعشقي من قبل ؟!
ضحكت ضحكة مجلجلة وحماسها في التجديف راح يزداد وقالت :
- وهل علمت بعشق في هذه الديار ؟! نحن إذا عشقنا الشمس كسفوها ! وإذا عشقنا القمر خسفوه ! حتى الظلم إذا ما عشقناه نصروه؟!
فصحت فيها معترضاً أحاول أن أهدأها :
- ليس لهذه الدرجة فنحن نقدركن ، ونصون مشاعركن !!
فعادت تضحك ضحكتها الساخرة قائلة :
- أية مشاعر يا سيدي ... نحن لدينا عقول إذا فكرنا بها أتهمنا بالجنون ، وقلوب إذا عبرنا عنها أتهمنا بالفجور ، ومشاعرنا يجب أن تبقى حبيسة صدورنا حتى ينزلونا القبور !!
ووجدت نفسي أنظر في قاع الزورق تهرب عينيا من مواجهتها ، فأنا منذ غمضة عين كنت قاسياً عليها ، وتعاملت معها أسوأ مما أتعامل به مع زورقي ، لا أدري ماذا أفعل ، كيف أتقرب إليها ، وأنا أرنوا منها بطرف عيني ، أتأمل وجهها الأبيض المستدير ، بملامحه الملائكية ، و جسدها الثائر ، الذي فجر بداخلي ينابيع لم تكن تتفجر لولاها ، حتى قالت :
- أتعدني أن تحبني ؟ وإذا ما كرهتني لا تظلمني ؟!!
أسرعت نحوها وأنا أشتم عبق أنفاسها الطاهرة ، وتلفحني خصلات شعرها المتراقصة ، لأقول بصدق لأول مرة يغمرني :
- نعم أعدك بذلك !!
تهللت أساريرها ، ولكن بدا تجديفها يخفت ، ويخفت ، حتى كاد الزورق يتوقف ، فرحت أجدف إلى جوارها ، فراح الزورق ينحرف في اتجاهي ، حتى أنهكت تماماً فشددت على أنامل كفها الصغير ، فارتعشت يديها ، وارتجف جسدها ، وراحت تغوص في أعماق ، أعماق عيني ، وصدقت لغة العيون عندما قالت عيناها كل قصائد العشق لعيني ، وهمست بصوت العاشق في أذنيها قائلاً :
- سامحيني على قسوتي فإن الرجل الشرقي لا يكون إلا بقسوته رجلاً ، متكبراً أنا وكل من حولي صغار ، والحب كما توارثته امتلاك ، فامتلاك ، فجحود ، فاستريحي الآن يا حبيبتي .
وجلست على مؤخرة الزورق ، ورحت أنا أجدف، وأجدف ، وأجدف ، وأصبح الزورق الذي كان ثقيلاً ، ريشة في الهواء ، وإذا بالزورق يغوص في الرمال ، لقد وصلنا الجزيرة ، وكان الإبحار قصيراً ، قصيراً ، قفزت من الزورق ، وأنا أمد يدي لتمسك بيديها ، حتى فاجأتها بأني إلي جذبتها ، فراحت تطلق ذراعيها في الهواء ، وسقطت بين ذراعي ، فحملتها وأنا امتلأ سعادة بحملها، وأنشد وأنا اخطوا بجدية :
- مرحباً بك يا شريكتي .... في جزيرتي !!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
أخيراً انتهى حفل الزفاف ، وآن لي أن أحمل عروسي وأرحل ، ترحل الناس في سياراتهم ، وأنا أرحل في زورق لأني صياد ، البحر دنياي ، وعلى الجزيرة مسكني ، والرزق في شباكي ، والأسماك مأكلي ، هذا قدري وأنا سعيد به
سرت على الجسر الخشبي وسط المياه حيث يرسوا زورقي ، بينما العروس لا تزال تودع أهلها وتتلقى المزيد من النصائح ، ولا زلت غير مصدقاً أنني سقطت في شباك امرأة وتزوجت ، إنني لم ءألف النساء ، ولا أحسن معاملتهن ، ثم إنني بالكاد أعول نفسي ، فكيف أعولها ، ثم أبنائها .
كدت أطيح في البحر بينما أرفع مرسى الزورق من هذا العبء الثقيل فصببت عليها جام غضبي وصرخت فيها منادياً :
- هيا أيها العروس ... فأنت بالكاد تزوجتي ، ولا يزال أمامنا سفر بعيد .
ارتعبت المسكينة وراحت تمسك بفستانها الأبيض الطويل وتركض نحوي حتى غضبي لا يستشيط ، وما أن أطرفت عيني إلا وكانت أمامي ، وأنا أنظر إلى الجسر الطويل ، وجسدها المنهك ، وأنفاسها التي تتلاحق كأنها عبرت المحيط !! أشفقت عليها وكدت اعتذر لها ، لكن لا.... لا هذا مستحيل .
قفزت إلى الزورق كأنني عاشق ، واحتضنني الزورق كأنه عشيق ، وبقيت العروس على المرسى بلا عاشق ولا عشيق ، تنتظر يداً ممدودة ، فأبت اليد أن تلبي ، وتحجر قلبي بين الضلوع ، وأقسمت إذا لم تقفز فلسوف أتركها على المرسى وأرحل .
وكأن ما همست به في نفسي قد ذاع في الوجود ، وإذا بها تقفز في يأس المنتحرة على متن الزورق وتستقر في قاعه وهي تتألم بأنات صامتة ، وتنظر لي في ذهول ، جلست في وسط القارب ، وأمسكت المجدافين ، ورحت أجدف في حماس ، وأنظر لها وهي تتوارى من الألم ، وتكتم النواح ، حتى تمكنت من الجلوس أمامي وبدأت تشعر بارتياح ، وساد صمت ، خيم عليه سكون ، فضحه ضوء القمر ، المتلأليء على بساط ممدود بلا حدود ، يشقه زورقي الجامح بلا هدوء .
راحت تتنحنح ، وتتحشرج ، تحاول أن تستنطقني ، وأنا في وعثاء السفر غارق ، ومن التجديف منهك ، وأكظم غيظي ، فالزورق لم يكن ثقيلاً هكذا من قبل ، والطريق أبداً ما ألفته طويلاً ، تفصد جسدي عرقاً غزيراً ، غزيراً وابتل ثوبي وتغلغلت نسمات باردة في عظامي ، فسرت في جسدي قشعريرة ، وتباطأ الزورق شيئاً فشيئاً حتى كاد أن يتوقف وإذا بصوت آسر ، يدغدغ مسامعي :
- هل تسمح لي أن أساعدك ؟!
تكبرت أن أجيبها ، وأنا في نفسي أتوسل لها أن تفعل !! فدنت مني وجلست إلى جواري ، وأمسكت بالمجداف وراحت تضرب الماء بقوة الضعيف ، وراح الزورق يندفع ، ويندفع كأنه مستكين ، ويهلل الماء لمجدافها ويناشدها بالمزيد ، فانحرف الزورق في اتجاهها ، ولم أستطع مجاراتها ، فدار الزورق حول نفسه حتى صرت أستحي وأتلفت حولي عسى أن يشفق علي البحر ويبتلعني من هذا المشهد الرهيب ، فهمست بصوتها الآسر مرة أخرى متسللة إلى أعماق ، أعماق قلبي قائلة :
- هل يمكن لك أن تستريح ؟
لم أتمالك نفسي ورحت أضحك ، وأضحك ، وأضحك ، ويعود صدى ضحكاتي إلي فأضحك أكثر ، وأكثر، وأكثر ، وأنا أنظر إلى هذا المتكبر يتنحى عن متن زورقه ، تاركاً مجدافيه لزوجته ، لأنه هوى من تعب مرير ، ولما استقريت على مؤخرة الزورق ، وبدأت ضحكاتي تتوارى مع فضيحتي المدوية ، سألتها :
- لماذا قبلتي الزواج بي ؟
فنظرت إلي وهي لا تزال تجدف كأنها ولدت في زورق قائلة :
- أنا لم أعترض على ما وافق عليه أهلي ؟!
فنظرت لها هازاً رأسي بأنني لم أفهم ، فقالت مستأذنة :
- أتسمح لي بأن أشيح حجابي ؟!
فأسرعت مازحاً :
- ولما لا فأنا لست إلا زوجك !!
تركت المجدافين ، وأشاحت بالحجاب عن وجهها ، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة شاهدت فيها أفق الجنة ، وكشفت عن ساقيها ، وشمرت عن ذراعيها ، وراحت تجدف بحماس بالغ ، وشعرت بأنني مع صديقاً ألفته وليس امرأة تزوجتها ثم قالت :
- أنا لم أخير حتى أختار ، والزواج قدر نخضع له متى جاء !!
نظرت لها مستغرباً ، مندهشاً ، متسائلاً :
- ألم تعشقي من قبل ؟!
ضحكت ضحكة مجلجلة وحماسها في التجديف راح يزداد وقالت :
- وهل علمت بعشق في هذه الديار ؟! نحن إذا عشقنا الشمس كسفوها ! وإذا عشقنا القمر خسفوه ! حتى الظلم إذا ما عشقناه نصروه؟!
فصحت فيها معترضاً أحاول أن أهدأها :
- ليس لهذه الدرجة فنحن نقدركن ، ونصون مشاعركن !!
فعادت تضحك ضحكتها الساخرة قائلة :
- أية مشاعر يا سيدي ... نحن لدينا عقول إذا فكرنا بها أتهمنا بالجنون ، وقلوب إذا عبرنا عنها أتهمنا بالفجور ، ومشاعرنا يجب أن تبقى حبيسة صدورنا حتى ينزلونا القبور !!
ووجدت نفسي أنظر في قاع الزورق تهرب عينيا من مواجهتها ، فأنا منذ غمضة عين كنت قاسياً عليها ، وتعاملت معها أسوأ مما أتعامل به مع زورقي ، لا أدري ماذا أفعل ، كيف أتقرب إليها ، وأنا أرنوا منها بطرف عيني ، أتأمل وجهها الأبيض المستدير ، بملامحه الملائكية ، و جسدها الثائر ، الذي فجر بداخلي ينابيع لم تكن تتفجر لولاها ، حتى قالت :
- أتعدني أن تحبني ؟ وإذا ما كرهتني لا تظلمني ؟!!
أسرعت نحوها وأنا أشتم عبق أنفاسها الطاهرة ، وتلفحني خصلات شعرها المتراقصة ، لأقول بصدق لأول مرة يغمرني :
- نعم أعدك بذلك !!
تهللت أساريرها ، ولكن بدا تجديفها يخفت ، ويخفت ، حتى كاد الزورق يتوقف ، فرحت أجدف إلى جوارها ، فراح الزورق ينحرف في اتجاهي ، حتى أنهكت تماماً فشددت على أنامل كفها الصغير ، فارتعشت يديها ، وارتجف جسدها ، وراحت تغوص في أعماق ، أعماق عيني ، وصدقت لغة العيون عندما قالت عيناها كل قصائد العشق لعيني ، وهمست بصوت العاشق في أذنيها قائلاً :
- سامحيني على قسوتي فإن الرجل الشرقي لا يكون إلا بقسوته رجلاً ، متكبراً أنا وكل من حولي صغار ، والحب كما توارثته امتلاك ، فامتلاك ، فجحود ، فاستريحي الآن يا حبيبتي .
وجلست على مؤخرة الزورق ، ورحت أنا أجدف، وأجدف ، وأجدف ، وأصبح الزورق الذي كان ثقيلاً ، ريشة في الهواء ، وإذا بالزورق يغوص في الرمال ، لقد وصلنا الجزيرة ، وكان الإبحار قصيراً ، قصيراً ، قفزت من الزورق ، وأنا أمد يدي لتمسك بيديها ، حتى فاجأتها بأني إلي جذبتها ، فراحت تطلق ذراعيها في الهواء ، وسقطت بين ذراعي ، فحملتها وأنا امتلأ سعادة بحملها، وأنشد وأنا اخطوا بجدية :
- مرحباً بك يا شريكتي .... في جزيرتي !!