د ر ا ســــــة ¦¦ الخطاب الآخر مقاربة لأبجدية الشاعر ناقداً (ج 4) ¦¦
* الشاعر العراقي الحديث … مفهوم النقد ومنطلقاته..
(1)
لا نكاد نجد لدى الشاعر العراقي الذي عاش قبل هذا القرن ما يشير إلى عنايته بتحديد مفاهيمه الأدبية والنقدية، إذ لم يشغل نفسه بشيء أكثر من نظم الشعر، ولكن الحال تغيرت كثيراً لدى الشاعر الذي تفتح وعيه على مستجدات الحياة والفكر والثقافة في القرن العشرين، بما قدمه من رؤية وموقف يفصحان عن أفكاره وقناعاته. وربما يمكن تلمس مبررات لذلك في شخصية الشاعر الحديث وثقافته التي اتسعت وتراكمت فيها خبرات وتجارب. وقد نجدها في التغير الذي حصل في وعي الشاعر لدوره ومكانته في مجتمعه ومحيطه، بما يفرض عليه أن يحدد مفاهيمه ويقدم للآخرين ممن يهتمون بالشعر تصوراته وأفكاره، وهو أمر يحرص كل شاعر منهم عليه، لأنه يبرز شخصيته ويؤكد حضورها أمام الآخرين. وقد نجد ذلك امتداداً لتأثيرات الواقع السياسي الجديد الذي أخذ العراقيون يتمثلون صورته بعد قيام الحكم الأهلي وتشكيل بعض مؤسساته التي يفسح فيها المجال لإبداء الرأي والمناقشة وتحديد التصورات والمواقف من صحافة ومجلس نواب وأحزاب. فإذا كان رجل السياسة قادراً على أن يقدم أفكاره ومنهاج عمله السياسي والاجتماعي لم لا يكون للشاعر مثل ذلك، لاسيما أنه لم يقف بعيداً عن السياسية وممارساتها؟.. ثم يتواصل ذلك عنده، ليشمل رؤيته ليس في السياسة والاجتماع وحدهما بل الأدب والفن أيضاً.
ولعل ظهور وسائل الإعلام الحديثة، لاسيما الصحف والمجلات، قد هيأ للشاعر فرصة كبيرة للكتابة والنشر، فضلاً عن إدراك أصحاب تلك الصحف والمجلات لأهمية أن ينشر فيها الشعراء البارزون بما يحقق لها انتشاراً، ويجذب القراء الذين تشدهم إليها مكانة أولئك الشعراء وشهرتهم. وهكذا راحوا ينشرون للشعراء قصائدهم ومقالاتهم في أماكن بارزة من صحفهم، ويستطلعون آراءهم فيما يعنّ من مستجدات في الثقافة والأدب، ويهتمون بأخبارهم ومواقفهم من القضايا المختلفة. ولعل في اطلاع الشاعر العراقي الحديث على جانب من تجارب الشعراء والأدباء في الأقطار العربية الأخرى، لاسيما مصر، وأدباء الغرب وشعرائه وكتابتهم عن تجاربهم الأدبية والإشارة إلى مفاهيمهم الأدبية والنقدية ما يدعم توجهاته إلى الكتابة في هذا الاتجاه ويبررها.
تعكس المنطلقات النقدية للشاعرالعراقي الحديث وعي مرحلته التي عاش فيها بامتداداتها السياسية والاجتماعية ومؤثراتها المعرفية، فضلاً عن مكونات ثقافته وشخصيته، ومن هنا تصبح قناعاته ومواقفه التي يشوبها بعض التباين والتناقض أحياناً مبررة بفعل تلك المؤثرات الخارجية التي تخضع لها، فضلاً عن أن ذلك التناقض الذي قد يبرزه مفهوم الشاعر ومنطلقاته، يعكس حقيقة أن الشاعرغالباً ما يعاني عدم استكماله لأدواته النقدية ونضج وعيه المعرفي. وتقودنا ملاحقة التجربة النقدية لدى الشعراء العراقيين إلى القول أن الزهاوي أول شاعر عراقي حديث أخذ النقد منه اهتماماً بيّناً وملاحقة دائبة، منذ مقدمته لكتاب (شعراء العصر) التي عكست المستوى الذي توصلت إليه ذهنيته في تلك المرحلة( [1] ). وفضلاً عن القيمة التأريخية لهذه المقدمة امتلكت أهمية استثنائية، وهي كون هذه الآراء المبثوثة فيها جذوراً للمنحى الأدبي عند الزهاوي حيث أعاد كثيراً منها عام 1920، في مقالاته ومقدمات دواوينه ومحاضراته وشعره بعد توضيح وتفصيل أو تعديل"( [2] ).
أعطى الزهاوي النقد دوراً مؤثراً في مسيرة الإبداع الأدبي وتطوره، فعدّه، سبباً في بقاء الشعر مستمراً في حيويته ونضجه:
والشعر لا يحييه إلا الناقد ( [3])
والشعر لولا النقد يبقى ميتاً
وبقدر ما يعكس هذا الرأي مبالغة في تصور مكانة النقد ودوره يؤكد طبيعة نظر الزهاوي إليه وقناعته بأهمية دور الناقد في الإبقاء على نهر الشعر متجدداً.
وتبدو جدية الزهاوي في نظره إلى النقد حين صوره وكأنه معركة لا هوادة فيها، وعلى من يتصدى له التزود بعدة وسلاح مناسبين شرط ألا يكون الحقد والرغبة في إيذاء الآخرين بينهما.
تثخن العاجزين عنه الجراح
إنما النقد في الحياة كفاح
بالذي تفعل الظبى والرماح
والذي يفعل اليراع شبيه
فهو للناقدين بئس السلاح ( [4])
وإذا النقد كان حقداً وقذفاً
والنقد الذي يريده الزهاوي هو ما يرتضيه الجميع:
وأسوأ النقد ما يفضي إلى الجدل ( [5])
وأحسن النقد ما يرضى الجميع به
وتلك مسألة تفتقد الموضوعية، ولاشك في أن الزهاوي كان يدرك حقيقة كون النقد تعبيراً عن وجهات نظر تتعدد وتتناقض ويصبح الإجماع على رأي نقدي واحد أمراً غير وارد في الواقع، ويبدو أن تحديد الزهاوي لمايراه أحسن النقد أوقعه في قضية المفاضلة بين (الأحسن) و(الأسوأ)، وبما أنه ذكر في الشطر الأول ما يراه أحسن النقد فعليه أن يشير إلى نقيض ذلك في الشطر الثاني من البيت، وليس الأمر كذلك، فما الجدل والتباين في الرأي إلا إثراء للنقد بل هو أساس من مكونات العملية النقدية، ولعل الزهاوي انقاد إلى ذلك بسبب ما يراه شائعاً في نقد مرحلته من ظواهر سلبية لا يرتضيها. وفي ذلك يقول: "ما أكثر خلاف المتأدبين في الشعر وفي الجيد منه، ولكل واحد ذراع يقيسه بها، فإن وافقها عدّه حسناً وإن خالفها ظنه سيئاً. ولماكان مستوى الأكثرين عندنا في الأدب منحطاً لم يرضوا إلا ما وافق مقاييسهم من الأميال الرجعية، وهناك من لا يعجبه من الشعر إلا ماكان في ألفاظه وأسلوبه تقليد الشعراء في الجاهلية أو صدر الإسلام، وإن كانت معانيه سخيفة لا صلة لها بالشعور العصري، ومن لا يرضيه إلا ماكان في معانيه تقليد لشعراء الغرب وإن كانت ألفاظه سقيمة وتراكيبه ركيكة. وبين أولئك وهؤلاء نفر قليل عددهم، قوى حجتهم، فضلوا ما جمع إلى أحسن الألفاظ ومتانة التركيب شعوراً عصرياً يوائم ثقافة هذا العصر وأبناءه المؤمنين بتطوره، وهؤلاء هم في الحقيقة المجددون" ( [6] ). وكان الزهاوي ـ في مواقف كثيرة ـ عرضة للنقد والطعن بإمكاناته الأدبية والمعرفية( [7] ). وكان ذلك مما يضايقه، ويدفعه إلى الرد عليهم بالأسلوب ذاته أحياناً، متهماً إياهم بالحقد والجهل، وسعيهم إلى النيل من مكانته، من دون أن يكونوا أنداداً له:
يد الجهل من ناس بكيت على الشعر
ولما رأيت الشعر قد عبثت به
فلا تعبأن بالقدح منه وبالهذر
فقلت له لا يرهب الشعر نقدهم
ولكن قلى الغربان للبلبل الحر ( [8])
وما الأمر لو تدري قريض ونقده
أما الرصافي فلم يشغل نفسه كثيراً بتقديم رؤيته النقدية "ولو انصرف ـ كما انصرف الزهاوي ـ إلى تدوين آرائه في الأدب لجاء بكل طريف. ولكن السياسة صرفته أحياناً، وصرفه الشعر أحياناً أخرى عن الكتابة في النقد"( [9] ). ومن هنا راح الرصافي يناقش منطلقات عامة تتسع لفنون الأدب كلها، ليقدم من خلالها رؤيته للأدب ونقده.
كقضية التقليد والتجديد التي مال فيها إلى جانب التجديد ورفض التقليد: "وإن كان التقليد قبيحاً في غير الأدب فهو في الأدب أقبح. وأكثر قبحاً من ذلك في النقد، فقد نستحسن بيتاً أو قصيدة من الشعر ونجادل دون بلاغة ذلك البيت أو تلك القصيدة، لا لأننا أدركنا حسنهما بأفهامنا بل لمجرد أن صاحب الكتاب الفلاني من كتب الأدب قد استحسنهما أو لمجرد أن فلاناً الشاعر أو فلاناً الأديب قد استجادهما كل الاستجادة وأثنى على قائلهما أطيب الثناء، أو لمجرد أنهما قد اتفق في انتخابهما أكثر أهل المنتخبات الشعرية فنكون فيما نقول عندئذٍ مقلدين لا مجتهدين، وتابعين لا مستقلين، وجامدين لا مفكرين، مع أننا لو حكمنا فيهما أذواقنا، ورجعنا فيهما إلى أفهامنا لرأينا أنفسنا في غنى عن المجادلة دون حسنهما"( [10] ).
وكان البصير يرى أن النقد "نوع من القضاء"، يحتاج إلى ما يحتاجه هذا من فطنة ونزاهة وعلم"( [11] ). أما مهمته فهي "فحص المحررات والمحيرات البيانية التي رسمت لتتمثل بها النفوس على الطروس وتطبع بها الأرواح على الألواح، لتكون الصلة المتينة بين نفوس أصحابها ونفسية المجتمع الذي هم من أبنائه. وبعبارة أجلى أننا نريد بالنقد فحص العقول والأفهام وتحليل الميول والأذواق التي تتجسم عادة في البلاغة الحية"( [12] ).
ويطالب الناقد بالتجرد والموضوعية، فعلى الناقد "أن يقرر الحقيقة وإلا فإنه داعية لا ناقد"( [13] ). ويحدد البصير آفاق النقد فيراه قائماً على "دراسة متقنة للموضوع فالصورة فالغرض، فردّ ما في الأثر الفني كله أو بعضه إلى مصادره فمقارنة بينه وبين ما يشبهه، إن كان ثمة سبيل إلى المقارنة، فحكم عادل للمنقود أو عليه"( [14] ).
ولعل الصافي النجفي متفرد في موقفه من النقد، إذ عدّه وسيلة يلحق أصحابها الضرر بالإبداع، حين ينظر إليه بوصفه طريقاً لإرشاد الشاعر وتقديم النصح له.
ظلل الناظمين بالإرشاد ( [15])
كم جنى ناقد على الشعر لما
(2)
كان لابد أن ينعكس تطور المستوى الثقافي والمعرفي الذي أتيح لرواد الشعر الحر في طبيعة رؤيتهم للنقد ومفهومه، مثلما انعكس في التجربة الشعرية التي قدمها الشعراء، وهي تجربة اتسمت بموقف ورؤية جديدين ومفهوم يستجيب للمرحلة المعاصرة بثقافتها وفكرها وما استجد فيها من مسارب للمعرفة والاطلاع، واتجاهات ومدارس نقدية أتيح لهم أن يمعنوا النظر في بعض جوانبها، بما أثر في تكوين مفاهيمهم واستقرارها على قاعدة واضحة من الوعي الجديد للتجربة الأدبية ونقدها، وكأنهم أدركوا أن النقد الذي ينبغي لكل منهم تقديمه هو ما وصفه أحد النقاد الغربيين بأنه "نقد شاعر لا مجموعة بليدة من الفروض والنظريات، وليس تطلباً فظاً للعثرات التي يعجز المستقصي لها عن أن يقع فيها، وإنما هو مبحث حيوي قوي تمتزج فيه الفائدة بالمتعة. وفيه يثبت الناقد جدارته بالحكم عن طريق قوته في الأداء"( [16] ).
وتتكامل أبعاد مفهوم النقد ومنطلقاته عند هؤلاء الشعراء من خلال النظر في الآراء النقدية التي طرحوها على أساس أنها كيان واحد متجانس تتكامل صورته من خلال النظر إليه بوصفه وعي جيل جديد من الشعراء وانعكاساً لتجربة إبداعية جديدة انتسبوا إليها جميعاً، وليس موقفاً فردياً يمثل صاحبه وحده.
إن القناعة الأولى التي يتمثلها هؤلاء الشعراء في توجهاتهم النقدية هي أن النقد الأدبي في العراق لم يقف على قدمين ثابتتين على الرغم مما ينشر منه، إذ "لم يكن لدينا نقد بالمعنى الصحيح والموجود منه بحاجة إلى التقويم أكثر من الأدب، وهو ما حدا بالأديب العراقي الحديث إلى التحدث مباشرة إلى الجمهور عن نفسه"( [17] )..
ولاشك في أن المقارنة بين واقع النقد عندنا وما وصل إليه النقد الغربي تبدو عقيماً وتلك ملاحظة دفعت هؤلاء الشعراء إلىأن يلوذوا بما وصل إليه النقد العربي القديم ليضعوه بمواجهة ذلك الثقل الكبير الذي أخذ النقدالغربي يفرضه علىمن يتصدى للنقد. يقول السياب: "إن الذي يطلع على النقد العربي القديم في عهوده الزاهرة وليس في عهود انحطاطه … تروعه هذه النظرات الصائبة التي تضارع في عمقها بل وربما زادت في عمقها وفي دقتها وفي صحتها وفي جماليتها ما يكتبه النقاد الغربيون"( [18] ). ولعل نازك الملائكة وحسين مردان من أكثر شعراء جيلهما اهتماماً بالنقد ومفهومه الذي توافرت عليه قناعات جيلهما.
رأت نازك ـ منطلقة من قناعتها بأهمية دورها الريادي في هذه التجربة ـ أن عليها ترسيخ مستوى واضح من النقد الأدبي يوازي المسار الإبداعي الجديد الذي قدمه رواد الشعر الحر، فوضعت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) باباً خاصاً للنقد( [19] )، أشارت فيه إلى مفهومها له وأهميته في مواكبة تجربة الشاعرالعربي الحديث، مثبتة أسس النقد كما تراها، مشيرة إلى مايمكن أن يقع النقد فيه من مزالق، رأتها فيما يتعرض له النقد من خلط وتداخل مع أنواع أدبية أخرى، وتفسيرات نفسية وارتماء في ذاتية ضيقة ووقوعه أسير نظرة تجزيئية، تقف عند المظاهر الخارجية للعمل الأدبي، ولا تنظر إليه بوصفه هيكلاً فنياً متكاملاً، أو في ميل إلى التنظيرية واستهواء الأفكار الجاهزة( [20] ).
وترى نازك الملائكة أن النقد الأدبي "مرحلة يبدأ فيها الأدب العفوي إحساسه بذاته على إثر نضجه واكتمال نموه وشعوره بفيض من الحيوية الناقدة التي لابد لها أن تنطلق. وهو في حياة أية جماعة يمثل مرحلة اكتمال ثقافي يمكن أن نسميه وعياً بالذات"( [21] )..
وبما أن الواقع العربي الحديث لم يصل إلى مرحلة الاكتمال الثقافي هذه نجد النقد الأدبي بمعناه الحديث لا يزال "فناً ناشئاً في آدابنا المعاصرة، تنقصه الأسس التي يرتكز إليها في أحكامه ويعوزه التركيز والرصانة، فنحن ما زلنا نعبر من حياتنا تلك الفترة التي تتصف بالعفوية والاستغراق، وهي فترة تمر بها الآداب في أوائل يقظتها، حيث يكون إنتاجها غير شاعر بذاته، فيتفجر على صورة أدب يعالج الانطباعات النفسية والذهنية والاجتماعية معالجة تلقائية دون أن يقف ليراجع هذا الإنتاج ويحكم عليه"( [22] )..
وتتوقف نازك عند بعض سمات النقد العربي الذي كتب في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية فتراه قد وقع أسير رؤية رومانتيكية، بسبب شيوع تلك النظريات التعبيرية التي نادت بأن الشاعر ملهم، فلقد "سرت هذه النظريات إلى مفاهيم النقد نفسها، فقالوا بأن الناقد نفسه ملهم بحيث تنبع الأحكام من كيانه دون أن يميز القواعد بوضوح، وظنوا أن الارتكاز إلى القوانين الأدبية الدارجة يقلل من قيمة الناقد باعتباره موهوباً يرتكز إلى الفطرة المبدعة ولا يحتاج إلى الدراسة العلمية"( [23] ) وهذا يعني ـ طبقاً لرؤية نازك ـ أن النقد العربي لا يخضع لمستوى من الموضوعية المفترضة فيه، الأمر الذي يجعله يتحرك على أرضية غير محددة، وهذا ما يؤدي به إلى بعثرة جهوده ولمرحلة غير محددة"، حتى يهتدي إلى الأسس التي ستوجهه وتحكمه، وحتى تنشأ فيه النظريات والمذاهب والمدارس التي تستند إلى أدبنا المحلي، دون ارتكاز إلى نظريات النقد الأوربية( [24] ). وتشير إلى آثار التمسك بنظريات النقد الغربي الوافدة في تعطيل دور الناقد العربي واستثمار قدراته في اجتراح خصوصية نقدية عربية. فقد وقف أمامها مبهوراً جاعلاً إياها المثال الجدير بالتقليد والنقل، فما يكاد "يقرأ ما كتبه ايليوت وريشاردز وبرادلي ومالارميه وفاليري وغيرهم حتى يشتهي أن يطبق ما يقولون على الشعر العربي، مهما كلفه ذلك من تصنع وتعسف وجور على شعرنا ولغتنا"( [25] )، وهكذا "أغلق الناقد العربي الباب على منابع الفكر والخصوبة والموهبة في ذهنه وراح يغترف من معين الأساتذة النقاد الأوربيين، دون أن يفطن إلى أن النقد الأوربي يتحدر من تأريخ منعزل انعزالاً تاماً عن تأريخنا"( [26] )..
ومن هذا التوجه تدعو إلى نقد عربي في منطلقاته ورؤيته والمصطلح الذي يستخدمه فلقد "سئمنا سماع الكلمات الفرنسية والإنكليزية في النقد العربي، وأصبحنا نتعطش إلى نقد محلي، التجديد فيه منبعه العروبة والمصطلحات فيه ترتكز إلى مظاهر في الشعر العربي نفسه"( [27] )..
وتتمثل أوضح سمات المنهج النقدي العربي ـ طبقاً لرأي نازك ـ بالتركيز على الجانب اللغوي والعناية به" وذلك لأن سلامة اللغة شرط أكيد في جماليات العمل الفني"( [28] ) وتنبه النقاد العرب الذين يتبنون نظريات النقد الأوربي على ضرورة إدراك الخصوصية الظرفية للغة العربية، وأن لا يتصوروا أن إهمال تلك النظريات الجانب اللغوي يمكن قبوله فيما يخص أدبنا العربي بل العكس، إذ "أن المزيد من الاطلاع على النظريات الحديثة العميقة في النقد الأدبي، لابد أن يرد الناقد العربي إلى الثقة بالنفس والاستقلال الفكري، ومن ثم إلى احترام اللغة العربية وتراثها الأدبي"( [29] ).
يرى حسين مردان أن النقد "ليس ردود نظريات موضوعة ومتفق عليها حسب، وإنما هو تفسير لموجود أو لشيء يرتبط بمكان وزمان معينين، ومن ثم بمرحلة معينة"( [30] ).
ويوسع للنقد مساحة تمتد بسعة العطاء الإبداعي من خلال النظر إليه بوصفة عملية تقويمية تلاحق النص الأدبي أو تسايره، وإن كانت هذه العملية قد اتخذت مستويات متعددة، فالنقد بوصفه عملية تحليلية طبقاً لما يراه حسين مردان"موجود دائماً وبمرافقة العمل الأدبي، لأن كل قارئ يمارس في الحقيقة شكلاً معيناً من النقد. هذا بالإضافة إلى النقد الجماعي الذي يتمثل في الانطباع الواسع الذي يكونه الرأي العام حول أي عمل أدبي أو فني"( [31] ).
ويبدو أن هذه الآفاق التي يراها حسين مردان للنقد تمثل حالته العامة والمباشرة، وضمن وجود العمل الإبداعي في مجال التداول اليومي لـه من القرّاء عامة وذلك لا يلغي دور الناقد الحقيقي، ذلك "الراصد الذي لا يتعب من التحديق في الآفاق المجهولة، ليكتشف النجوم الجديدة … عين القارئ السحرية التي تريه القبح المستتر وراء الجمال، وتظهر لـه الجمال المتخفي خلف القبح"( [32] ). وهذا يعني أن ما يترتب على الناقد الحقيقي من مسؤوليات تبدو أكبر مما هي على الأديب المبدع فهو "الذي يأخذ على عاتقه إعادة تصحيح الصورة العامة أو المفردة عند القراء وعند المجتمع. ولذلك فإن مثل هذا الإنسان يتحمل مسؤولية مزدوجة"( [33] ).
وبحكم هذه المسؤوليات يحدد حسين مردان للناقد شروطاً متميزة إذ "يتطلب منه الإلمام والإحاطة التامة بجميع الأدوات الضرورية التي تؤهله للحكم. لأنه ـ أي الناقد ـ متبوع وليس بتابع. وهذا الموقف لا يفرض عليه التجرد أو النظافة فقط بل وقابلية التغلغل داخل الأثر الأدبي والتجول في أعماقه، مع لمس كل ذرة فيه، ليتمكن من استيعابه وعرض زواياه المطموسة"( [34] ).
ويبدو أن حسين مردان يميل إلى الرأي القائل أن أكثر النقاد تميزاً هو الناقد الذي يمارس الإبداع بإمكانات متميزة، تؤهله لمسؤولية النقد، "حيث أن الناقد يقوم بعدة أدوار في وقت واحد، فهو شارح ومقيم وموجه أيضاً ولهذا يتحتم عليه أن يكون متنوع الثقافة إضافة إلى مقدرته الأدبية المتفوقة"( [35] ). وهو بذلك يختلف مع نازك التي كانت ترى "أن النقد غير الشعر، وإن من كان شاعراً عظيماً قد لا يكون أكثر من ناقد متوسط"( [36] )..
ويلتقي علي الحلي مع نازك في القول بأن النقد "تجربة حية مستقلة التكوين والنضج، منفصلة عن تجربة الفنان وعمله الفني المتكامل. وقد تكون عملية النقد ناجحة ومثمرة وأكثر إشراقاً وعطاءً إنسانياً من العمل الأدبي"( [37] ).
ومع أنه يشارك القائلين بأن النقد عملية تقويم وتقدير ينبه على ضرورة عدم الخلط بين مفاهيم النقد المختلفة وأشكاله" فإلى جانب النقد الأدبي بصورته الذاتية والموضوعية هناك النقد اللغوي والنقد التأريخي والنقد الفني والنقد الاجتماعي والنقد النفسي والنقد السياسي، ولكل منها مقاييسه وضوابطه ومستلزماته"( [38] ).
ولكن هذه الاتجاهات جميعاً تتفق على شروط أساس ينبغي توافر الناقد عليها، "فهي تفترض في الناقد الحقيقي الصفات المتحدة في التجرد والذوق والثقافة"( [39] )..
ويرى الحلي أن هناك صلة وثقى بين الإبداع ونقده "فكثيراً ما يصاحب جودة التجارب الأدبية والفنية محصل جيد كذلك في النقد الأدبي والفني"( [40] ). وهذا يعني أن ظهور بوادر الجدب الإبداعي وضعف المواهب الأدبية قد يؤثر في مجال التجربة النقدية لتقلل من قيمتها وتأثيرها، لاسيما حين تهيمن عليها العلاقات الشخصية، وتتحكم بها المعايير الفردية، لتحيلها إلى أشكال "من المديح والثناء والإطراء، نتيجة عدم القدرة على الاستيعاب الموضوعي في التحليل، واختفاء النظرة العلمية، وهيمنة العامل الذاتي على وجدان الناقد وعواطفه"( [41] )..
تتضح مهمة النقد عند محمد جميل شلش في "تحليله الأثر الأدبي وفي إبراز مافيه من قيم فنية وجمالية مرتبطة بقيمته الموضوعية والتعبيرية، وتحديد مكانته، ومقدار تفاعله مع المناخ الاجتماعي ومدى نجاحه في تصوير صاحبه فكرياً ونفسياً، ومقدار تأثره وتأثيره في محيطه، ومن ثم انفتاحه أو انغلاقه من خلال الذات على القيم السائدة وعلى حركة التأريخ والمجتمع، بما يشيعه من شمول عفوي يربطه بقضايا الفكر والكون والإنسان"( [42] ).
ويجد ضرورة تواصل الناقد مع تجربة المبدع، من دون أن يكون ذلك عنده تقديماً لأهمية أحدهما على الآخر، بقدر الرغبة في اكتمال التجربة وإنضاج تصور كامل عنها. ولذلك يرى أن على الناقد أن يمر بحالات الخلق والتجارب التي مر بها المبدع "لكي يستطيع من خلال هذه المعاناة أن يحلل، وأن يقارن، وأن يغوص إلى أعماق من ينقده"( [43] )
--------------------------------------------------------------------------------
( [1]) لعل أهم ما كتبه الزهاوي من مقالات أدبية ونقدية :
ـ مقدمة الجزء الثاني من كتاب (شعراء العصر) لمحمد صبري الصادر عام 1912.
ـ مقدمته لبعض النصوص الشعرية ا لتي سماها (عيون الشعر) ونشرها في مجلة مرآة العراق في 7 مارس 1919.
ـ محاضرة في المعهد العلمي ببغداد عام 1922، نشرها رفائيل بطي في كتابه (سحر الشعر) بعنوان (محاضرة في الشعر)، ص 4، وما بعدها.
ـ مقال (نظرة في الشعر) نشرها في مجلة اليقين عام 1922، وهي مقدمة لنصوص منتقاة من الشعر العربي.
ـ (نزعتي في الشعر) وهي مقدمة ديوانه الصادر عام 1924.
ـ ما نشره في الأعداد الستة الصادرة من مجلة (الإصابة) عام 1926.
ـ مقال (حول النثر والشعر) وهي مساجلة مع طه حسين عام 1927.
ـ مقال (حول العاطفة والعقل) وهي مناظرة مع العقاد عام 1927.
ـ (كلمة في الشعر) نشرها في مجلة (لغة العرب) عام 1928.
( [2]) توفيق، ص 22.
( [3]) الزهاوي، الديوان، بيروت 1979، 1: 691.
( [4]) الزهاوي، اللباب، بغداد 1928، ص 258.
( [5]) الزهاوي، الرباعيات، بيروت، 1924، ص72.
( [6]) لغة العرب، الجزء الثاني، 6 شباط 1928، ص 117.
( [7]) ينظر: عبد الرزاق الهلالي، الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية، بغداد 1982، والصفحات، 24-72-106-127-237-276.
( [8]) مجلة لغة العرب، الجزء الثانيي، 6 شباط 1928، ص 117.
( [9])مطلوب، ص 60.
( [10]) الرصافي، دروس في تأريخ آداب اللغة العربية، ص 70.
( [11]) البصير، خطرات، بغداد، 1950، ص180.
( [12]) البصير، النقد الأدبي، مجلة المرشد، بغداد، الجزء 3، نيسان 1927، ص 90.
( [13]) البصير، خطرات، ص 180.
( [14]) المصدر نفسه، ص 179.
( [15]) الصافي النجفي، أشعة ملونة، بيروت 1971، ص 141.
( [16]) ديتش، ص 371، والنص للشاعر الدكتور جونسن عن النقد الذي كتبه الشاعر درايدن.
( [17]) خضر الولي، آراء في الشعر والقصة، بغداد 1956، ص 23 والرأي لبلند الحيدري.
( [18]) السياب، حوار مع السياب، مجلة ألف باء، العدد 431، السنة التاسعة، كانون الأول 1976، ص 34.
( [19]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر ص 280، ومابعدها، ويتأكد هذا الموقف لديها بما كانت قد حكمت فيه على النقد الذي كتبه بعض الشعراء العرب، كونه يفتقر إلى المنهجية والموضوعية. تنظر: الملائكة، منبر النقد، مجلة الآداب، بيروت، العدد 4، نيسان 1959، ص 3.
( [20]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 283.
( [21]) المصدر نفسه.
( [22]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 283.
( [23]) المصدر نفسه، ص 55، ولعلنا لا نجد لهذا النمط الذي تعنيه نازك أمثلة في النقد العربي، وربماكان مثل هذا النقدموجوداً عند الغربيين، وإليه أشار إليوت بقوله الذي قد تكون نازك قد اهتمت به: "وهناك اتجاه إلى التقليل من أهمية العمل النقدي الذي يقوم به الفنان وإلى ترويج فكرة مؤداها أن الكاتب العظيم هو الذي لا يعي ما يفعل"(إليوت، مقالات في النقد الأدبي، ص 32).
( [24]) المصدر نفسه، ص 284.
( [25]) الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 298.
( [26]) المصدر نفسه، ص 297.
( [27]) المصدر نفسه، ص 300.
( [28]) الملائكة، منبر النقد، ص 3، وينظر: د.عبد الرضا علي، ص 56، حيث فصّل في هذه المسألة عند نازك.
( [29]) الملائكة، الصومعة والشرفة الحمراء، ص 221.
( [30]) حسين مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 143.
( [31]) المصدر نفسه، ص 142.
( [32]) حسين مردان، مقالات في النقد الأدبي، بغداد 1955، ص 79.
( [33]) حسين مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 142.
( [34]) المصدر نفسه.
( [35]) مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 142.
( [36]) الملائكة، منبر النقد، ص 3.
( [37]) علي الحلي، النظرة الموضوعية في النقد، جريدة الجمهورية، 2 تشرين الأول 1958، ص 4.
( [38]) الحلي، ظواهر في النقد الإجمالي، جريدة الثورة، 4 آذار 1971، ص 4.
( [39]) الحلي ، النظرة الموضوعية في النقد ، ص 4.
( [40]) الحلي، ظواهرفي النقد الإجمالي، ص 4.
( [41]) الحلي، ظواهر في النقد الإجمالي، ص 4.
( [42]) محمد جميل شلش، حول كتاب: السياب رائد الشعر الحر، مجلة الأقلام، بغداد، الجزء السابع، آذار 1967، ص 186.
( [43]) المصدر نفسه.
* الشاعر العراقي الحديث … مفهوم النقد ومنطلقاته..
(1)
لا نكاد نجد لدى الشاعر العراقي الذي عاش قبل هذا القرن ما يشير إلى عنايته بتحديد مفاهيمه الأدبية والنقدية، إذ لم يشغل نفسه بشيء أكثر من نظم الشعر، ولكن الحال تغيرت كثيراً لدى الشاعر الذي تفتح وعيه على مستجدات الحياة والفكر والثقافة في القرن العشرين، بما قدمه من رؤية وموقف يفصحان عن أفكاره وقناعاته. وربما يمكن تلمس مبررات لذلك في شخصية الشاعر الحديث وثقافته التي اتسعت وتراكمت فيها خبرات وتجارب. وقد نجدها في التغير الذي حصل في وعي الشاعر لدوره ومكانته في مجتمعه ومحيطه، بما يفرض عليه أن يحدد مفاهيمه ويقدم للآخرين ممن يهتمون بالشعر تصوراته وأفكاره، وهو أمر يحرص كل شاعر منهم عليه، لأنه يبرز شخصيته ويؤكد حضورها أمام الآخرين. وقد نجد ذلك امتداداً لتأثيرات الواقع السياسي الجديد الذي أخذ العراقيون يتمثلون صورته بعد قيام الحكم الأهلي وتشكيل بعض مؤسساته التي يفسح فيها المجال لإبداء الرأي والمناقشة وتحديد التصورات والمواقف من صحافة ومجلس نواب وأحزاب. فإذا كان رجل السياسة قادراً على أن يقدم أفكاره ومنهاج عمله السياسي والاجتماعي لم لا يكون للشاعر مثل ذلك، لاسيما أنه لم يقف بعيداً عن السياسية وممارساتها؟.. ثم يتواصل ذلك عنده، ليشمل رؤيته ليس في السياسة والاجتماع وحدهما بل الأدب والفن أيضاً.
ولعل ظهور وسائل الإعلام الحديثة، لاسيما الصحف والمجلات، قد هيأ للشاعر فرصة كبيرة للكتابة والنشر، فضلاً عن إدراك أصحاب تلك الصحف والمجلات لأهمية أن ينشر فيها الشعراء البارزون بما يحقق لها انتشاراً، ويجذب القراء الذين تشدهم إليها مكانة أولئك الشعراء وشهرتهم. وهكذا راحوا ينشرون للشعراء قصائدهم ومقالاتهم في أماكن بارزة من صحفهم، ويستطلعون آراءهم فيما يعنّ من مستجدات في الثقافة والأدب، ويهتمون بأخبارهم ومواقفهم من القضايا المختلفة. ولعل في اطلاع الشاعر العراقي الحديث على جانب من تجارب الشعراء والأدباء في الأقطار العربية الأخرى، لاسيما مصر، وأدباء الغرب وشعرائه وكتابتهم عن تجاربهم الأدبية والإشارة إلى مفاهيمهم الأدبية والنقدية ما يدعم توجهاته إلى الكتابة في هذا الاتجاه ويبررها.
تعكس المنطلقات النقدية للشاعرالعراقي الحديث وعي مرحلته التي عاش فيها بامتداداتها السياسية والاجتماعية ومؤثراتها المعرفية، فضلاً عن مكونات ثقافته وشخصيته، ومن هنا تصبح قناعاته ومواقفه التي يشوبها بعض التباين والتناقض أحياناً مبررة بفعل تلك المؤثرات الخارجية التي تخضع لها، فضلاً عن أن ذلك التناقض الذي قد يبرزه مفهوم الشاعر ومنطلقاته، يعكس حقيقة أن الشاعرغالباً ما يعاني عدم استكماله لأدواته النقدية ونضج وعيه المعرفي. وتقودنا ملاحقة التجربة النقدية لدى الشعراء العراقيين إلى القول أن الزهاوي أول شاعر عراقي حديث أخذ النقد منه اهتماماً بيّناً وملاحقة دائبة، منذ مقدمته لكتاب (شعراء العصر) التي عكست المستوى الذي توصلت إليه ذهنيته في تلك المرحلة( [1] ). وفضلاً عن القيمة التأريخية لهذه المقدمة امتلكت أهمية استثنائية، وهي كون هذه الآراء المبثوثة فيها جذوراً للمنحى الأدبي عند الزهاوي حيث أعاد كثيراً منها عام 1920، في مقالاته ومقدمات دواوينه ومحاضراته وشعره بعد توضيح وتفصيل أو تعديل"( [2] ).
أعطى الزهاوي النقد دوراً مؤثراً في مسيرة الإبداع الأدبي وتطوره، فعدّه، سبباً في بقاء الشعر مستمراً في حيويته ونضجه:
والشعر لا يحييه إلا الناقد ( [3])
والشعر لولا النقد يبقى ميتاً
وبقدر ما يعكس هذا الرأي مبالغة في تصور مكانة النقد ودوره يؤكد طبيعة نظر الزهاوي إليه وقناعته بأهمية دور الناقد في الإبقاء على نهر الشعر متجدداً.
وتبدو جدية الزهاوي في نظره إلى النقد حين صوره وكأنه معركة لا هوادة فيها، وعلى من يتصدى له التزود بعدة وسلاح مناسبين شرط ألا يكون الحقد والرغبة في إيذاء الآخرين بينهما.
تثخن العاجزين عنه الجراح
إنما النقد في الحياة كفاح
بالذي تفعل الظبى والرماح
والذي يفعل اليراع شبيه
فهو للناقدين بئس السلاح ( [4])
وإذا النقد كان حقداً وقذفاً
والنقد الذي يريده الزهاوي هو ما يرتضيه الجميع:
وأسوأ النقد ما يفضي إلى الجدل ( [5])
وأحسن النقد ما يرضى الجميع به
وتلك مسألة تفتقد الموضوعية، ولاشك في أن الزهاوي كان يدرك حقيقة كون النقد تعبيراً عن وجهات نظر تتعدد وتتناقض ويصبح الإجماع على رأي نقدي واحد أمراً غير وارد في الواقع، ويبدو أن تحديد الزهاوي لمايراه أحسن النقد أوقعه في قضية المفاضلة بين (الأحسن) و(الأسوأ)، وبما أنه ذكر في الشطر الأول ما يراه أحسن النقد فعليه أن يشير إلى نقيض ذلك في الشطر الثاني من البيت، وليس الأمر كذلك، فما الجدل والتباين في الرأي إلا إثراء للنقد بل هو أساس من مكونات العملية النقدية، ولعل الزهاوي انقاد إلى ذلك بسبب ما يراه شائعاً في نقد مرحلته من ظواهر سلبية لا يرتضيها. وفي ذلك يقول: "ما أكثر خلاف المتأدبين في الشعر وفي الجيد منه، ولكل واحد ذراع يقيسه بها، فإن وافقها عدّه حسناً وإن خالفها ظنه سيئاً. ولماكان مستوى الأكثرين عندنا في الأدب منحطاً لم يرضوا إلا ما وافق مقاييسهم من الأميال الرجعية، وهناك من لا يعجبه من الشعر إلا ماكان في ألفاظه وأسلوبه تقليد الشعراء في الجاهلية أو صدر الإسلام، وإن كانت معانيه سخيفة لا صلة لها بالشعور العصري، ومن لا يرضيه إلا ماكان في معانيه تقليد لشعراء الغرب وإن كانت ألفاظه سقيمة وتراكيبه ركيكة. وبين أولئك وهؤلاء نفر قليل عددهم، قوى حجتهم، فضلوا ما جمع إلى أحسن الألفاظ ومتانة التركيب شعوراً عصرياً يوائم ثقافة هذا العصر وأبناءه المؤمنين بتطوره، وهؤلاء هم في الحقيقة المجددون" ( [6] ). وكان الزهاوي ـ في مواقف كثيرة ـ عرضة للنقد والطعن بإمكاناته الأدبية والمعرفية( [7] ). وكان ذلك مما يضايقه، ويدفعه إلى الرد عليهم بالأسلوب ذاته أحياناً، متهماً إياهم بالحقد والجهل، وسعيهم إلى النيل من مكانته، من دون أن يكونوا أنداداً له:
يد الجهل من ناس بكيت على الشعر
ولما رأيت الشعر قد عبثت به
فلا تعبأن بالقدح منه وبالهذر
فقلت له لا يرهب الشعر نقدهم
ولكن قلى الغربان للبلبل الحر ( [8])
وما الأمر لو تدري قريض ونقده
أما الرصافي فلم يشغل نفسه كثيراً بتقديم رؤيته النقدية "ولو انصرف ـ كما انصرف الزهاوي ـ إلى تدوين آرائه في الأدب لجاء بكل طريف. ولكن السياسة صرفته أحياناً، وصرفه الشعر أحياناً أخرى عن الكتابة في النقد"( [9] ). ومن هنا راح الرصافي يناقش منطلقات عامة تتسع لفنون الأدب كلها، ليقدم من خلالها رؤيته للأدب ونقده.
كقضية التقليد والتجديد التي مال فيها إلى جانب التجديد ورفض التقليد: "وإن كان التقليد قبيحاً في غير الأدب فهو في الأدب أقبح. وأكثر قبحاً من ذلك في النقد، فقد نستحسن بيتاً أو قصيدة من الشعر ونجادل دون بلاغة ذلك البيت أو تلك القصيدة، لا لأننا أدركنا حسنهما بأفهامنا بل لمجرد أن صاحب الكتاب الفلاني من كتب الأدب قد استحسنهما أو لمجرد أن فلاناً الشاعر أو فلاناً الأديب قد استجادهما كل الاستجادة وأثنى على قائلهما أطيب الثناء، أو لمجرد أنهما قد اتفق في انتخابهما أكثر أهل المنتخبات الشعرية فنكون فيما نقول عندئذٍ مقلدين لا مجتهدين، وتابعين لا مستقلين، وجامدين لا مفكرين، مع أننا لو حكمنا فيهما أذواقنا، ورجعنا فيهما إلى أفهامنا لرأينا أنفسنا في غنى عن المجادلة دون حسنهما"( [10] ).
وكان البصير يرى أن النقد "نوع من القضاء"، يحتاج إلى ما يحتاجه هذا من فطنة ونزاهة وعلم"( [11] ). أما مهمته فهي "فحص المحررات والمحيرات البيانية التي رسمت لتتمثل بها النفوس على الطروس وتطبع بها الأرواح على الألواح، لتكون الصلة المتينة بين نفوس أصحابها ونفسية المجتمع الذي هم من أبنائه. وبعبارة أجلى أننا نريد بالنقد فحص العقول والأفهام وتحليل الميول والأذواق التي تتجسم عادة في البلاغة الحية"( [12] ).
ويطالب الناقد بالتجرد والموضوعية، فعلى الناقد "أن يقرر الحقيقة وإلا فإنه داعية لا ناقد"( [13] ). ويحدد البصير آفاق النقد فيراه قائماً على "دراسة متقنة للموضوع فالصورة فالغرض، فردّ ما في الأثر الفني كله أو بعضه إلى مصادره فمقارنة بينه وبين ما يشبهه، إن كان ثمة سبيل إلى المقارنة، فحكم عادل للمنقود أو عليه"( [14] ).
ولعل الصافي النجفي متفرد في موقفه من النقد، إذ عدّه وسيلة يلحق أصحابها الضرر بالإبداع، حين ينظر إليه بوصفه طريقاً لإرشاد الشاعر وتقديم النصح له.
ظلل الناظمين بالإرشاد ( [15])
كم جنى ناقد على الشعر لما
(2)
كان لابد أن ينعكس تطور المستوى الثقافي والمعرفي الذي أتيح لرواد الشعر الحر في طبيعة رؤيتهم للنقد ومفهومه، مثلما انعكس في التجربة الشعرية التي قدمها الشعراء، وهي تجربة اتسمت بموقف ورؤية جديدين ومفهوم يستجيب للمرحلة المعاصرة بثقافتها وفكرها وما استجد فيها من مسارب للمعرفة والاطلاع، واتجاهات ومدارس نقدية أتيح لهم أن يمعنوا النظر في بعض جوانبها، بما أثر في تكوين مفاهيمهم واستقرارها على قاعدة واضحة من الوعي الجديد للتجربة الأدبية ونقدها، وكأنهم أدركوا أن النقد الذي ينبغي لكل منهم تقديمه هو ما وصفه أحد النقاد الغربيين بأنه "نقد شاعر لا مجموعة بليدة من الفروض والنظريات، وليس تطلباً فظاً للعثرات التي يعجز المستقصي لها عن أن يقع فيها، وإنما هو مبحث حيوي قوي تمتزج فيه الفائدة بالمتعة. وفيه يثبت الناقد جدارته بالحكم عن طريق قوته في الأداء"( [16] ).
وتتكامل أبعاد مفهوم النقد ومنطلقاته عند هؤلاء الشعراء من خلال النظر في الآراء النقدية التي طرحوها على أساس أنها كيان واحد متجانس تتكامل صورته من خلال النظر إليه بوصفه وعي جيل جديد من الشعراء وانعكاساً لتجربة إبداعية جديدة انتسبوا إليها جميعاً، وليس موقفاً فردياً يمثل صاحبه وحده.
إن القناعة الأولى التي يتمثلها هؤلاء الشعراء في توجهاتهم النقدية هي أن النقد الأدبي في العراق لم يقف على قدمين ثابتتين على الرغم مما ينشر منه، إذ "لم يكن لدينا نقد بالمعنى الصحيح والموجود منه بحاجة إلى التقويم أكثر من الأدب، وهو ما حدا بالأديب العراقي الحديث إلى التحدث مباشرة إلى الجمهور عن نفسه"( [17] )..
ولاشك في أن المقارنة بين واقع النقد عندنا وما وصل إليه النقد الغربي تبدو عقيماً وتلك ملاحظة دفعت هؤلاء الشعراء إلىأن يلوذوا بما وصل إليه النقد العربي القديم ليضعوه بمواجهة ذلك الثقل الكبير الذي أخذ النقدالغربي يفرضه علىمن يتصدى للنقد. يقول السياب: "إن الذي يطلع على النقد العربي القديم في عهوده الزاهرة وليس في عهود انحطاطه … تروعه هذه النظرات الصائبة التي تضارع في عمقها بل وربما زادت في عمقها وفي دقتها وفي صحتها وفي جماليتها ما يكتبه النقاد الغربيون"( [18] ). ولعل نازك الملائكة وحسين مردان من أكثر شعراء جيلهما اهتماماً بالنقد ومفهومه الذي توافرت عليه قناعات جيلهما.
رأت نازك ـ منطلقة من قناعتها بأهمية دورها الريادي في هذه التجربة ـ أن عليها ترسيخ مستوى واضح من النقد الأدبي يوازي المسار الإبداعي الجديد الذي قدمه رواد الشعر الحر، فوضعت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) باباً خاصاً للنقد( [19] )، أشارت فيه إلى مفهومها له وأهميته في مواكبة تجربة الشاعرالعربي الحديث، مثبتة أسس النقد كما تراها، مشيرة إلى مايمكن أن يقع النقد فيه من مزالق، رأتها فيما يتعرض له النقد من خلط وتداخل مع أنواع أدبية أخرى، وتفسيرات نفسية وارتماء في ذاتية ضيقة ووقوعه أسير نظرة تجزيئية، تقف عند المظاهر الخارجية للعمل الأدبي، ولا تنظر إليه بوصفه هيكلاً فنياً متكاملاً، أو في ميل إلى التنظيرية واستهواء الأفكار الجاهزة( [20] ).
وترى نازك الملائكة أن النقد الأدبي "مرحلة يبدأ فيها الأدب العفوي إحساسه بذاته على إثر نضجه واكتمال نموه وشعوره بفيض من الحيوية الناقدة التي لابد لها أن تنطلق. وهو في حياة أية جماعة يمثل مرحلة اكتمال ثقافي يمكن أن نسميه وعياً بالذات"( [21] )..
وبما أن الواقع العربي الحديث لم يصل إلى مرحلة الاكتمال الثقافي هذه نجد النقد الأدبي بمعناه الحديث لا يزال "فناً ناشئاً في آدابنا المعاصرة، تنقصه الأسس التي يرتكز إليها في أحكامه ويعوزه التركيز والرصانة، فنحن ما زلنا نعبر من حياتنا تلك الفترة التي تتصف بالعفوية والاستغراق، وهي فترة تمر بها الآداب في أوائل يقظتها، حيث يكون إنتاجها غير شاعر بذاته، فيتفجر على صورة أدب يعالج الانطباعات النفسية والذهنية والاجتماعية معالجة تلقائية دون أن يقف ليراجع هذا الإنتاج ويحكم عليه"( [22] )..
وتتوقف نازك عند بعض سمات النقد العربي الذي كتب في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية فتراه قد وقع أسير رؤية رومانتيكية، بسبب شيوع تلك النظريات التعبيرية التي نادت بأن الشاعر ملهم، فلقد "سرت هذه النظريات إلى مفاهيم النقد نفسها، فقالوا بأن الناقد نفسه ملهم بحيث تنبع الأحكام من كيانه دون أن يميز القواعد بوضوح، وظنوا أن الارتكاز إلى القوانين الأدبية الدارجة يقلل من قيمة الناقد باعتباره موهوباً يرتكز إلى الفطرة المبدعة ولا يحتاج إلى الدراسة العلمية"( [23] ) وهذا يعني ـ طبقاً لرؤية نازك ـ أن النقد العربي لا يخضع لمستوى من الموضوعية المفترضة فيه، الأمر الذي يجعله يتحرك على أرضية غير محددة، وهذا ما يؤدي به إلى بعثرة جهوده ولمرحلة غير محددة"، حتى يهتدي إلى الأسس التي ستوجهه وتحكمه، وحتى تنشأ فيه النظريات والمذاهب والمدارس التي تستند إلى أدبنا المحلي، دون ارتكاز إلى نظريات النقد الأوربية( [24] ). وتشير إلى آثار التمسك بنظريات النقد الغربي الوافدة في تعطيل دور الناقد العربي واستثمار قدراته في اجتراح خصوصية نقدية عربية. فقد وقف أمامها مبهوراً جاعلاً إياها المثال الجدير بالتقليد والنقل، فما يكاد "يقرأ ما كتبه ايليوت وريشاردز وبرادلي ومالارميه وفاليري وغيرهم حتى يشتهي أن يطبق ما يقولون على الشعر العربي، مهما كلفه ذلك من تصنع وتعسف وجور على شعرنا ولغتنا"( [25] )، وهكذا "أغلق الناقد العربي الباب على منابع الفكر والخصوبة والموهبة في ذهنه وراح يغترف من معين الأساتذة النقاد الأوربيين، دون أن يفطن إلى أن النقد الأوربي يتحدر من تأريخ منعزل انعزالاً تاماً عن تأريخنا"( [26] )..
ومن هذا التوجه تدعو إلى نقد عربي في منطلقاته ورؤيته والمصطلح الذي يستخدمه فلقد "سئمنا سماع الكلمات الفرنسية والإنكليزية في النقد العربي، وأصبحنا نتعطش إلى نقد محلي، التجديد فيه منبعه العروبة والمصطلحات فيه ترتكز إلى مظاهر في الشعر العربي نفسه"( [27] )..
وتتمثل أوضح سمات المنهج النقدي العربي ـ طبقاً لرأي نازك ـ بالتركيز على الجانب اللغوي والعناية به" وذلك لأن سلامة اللغة شرط أكيد في جماليات العمل الفني"( [28] ) وتنبه النقاد العرب الذين يتبنون نظريات النقد الأوربي على ضرورة إدراك الخصوصية الظرفية للغة العربية، وأن لا يتصوروا أن إهمال تلك النظريات الجانب اللغوي يمكن قبوله فيما يخص أدبنا العربي بل العكس، إذ "أن المزيد من الاطلاع على النظريات الحديثة العميقة في النقد الأدبي، لابد أن يرد الناقد العربي إلى الثقة بالنفس والاستقلال الفكري، ومن ثم إلى احترام اللغة العربية وتراثها الأدبي"( [29] ).
يرى حسين مردان أن النقد "ليس ردود نظريات موضوعة ومتفق عليها حسب، وإنما هو تفسير لموجود أو لشيء يرتبط بمكان وزمان معينين، ومن ثم بمرحلة معينة"( [30] ).
ويوسع للنقد مساحة تمتد بسعة العطاء الإبداعي من خلال النظر إليه بوصفة عملية تقويمية تلاحق النص الأدبي أو تسايره، وإن كانت هذه العملية قد اتخذت مستويات متعددة، فالنقد بوصفه عملية تحليلية طبقاً لما يراه حسين مردان"موجود دائماً وبمرافقة العمل الأدبي، لأن كل قارئ يمارس في الحقيقة شكلاً معيناً من النقد. هذا بالإضافة إلى النقد الجماعي الذي يتمثل في الانطباع الواسع الذي يكونه الرأي العام حول أي عمل أدبي أو فني"( [31] ).
ويبدو أن هذه الآفاق التي يراها حسين مردان للنقد تمثل حالته العامة والمباشرة، وضمن وجود العمل الإبداعي في مجال التداول اليومي لـه من القرّاء عامة وذلك لا يلغي دور الناقد الحقيقي، ذلك "الراصد الذي لا يتعب من التحديق في الآفاق المجهولة، ليكتشف النجوم الجديدة … عين القارئ السحرية التي تريه القبح المستتر وراء الجمال، وتظهر لـه الجمال المتخفي خلف القبح"( [32] ). وهذا يعني أن ما يترتب على الناقد الحقيقي من مسؤوليات تبدو أكبر مما هي على الأديب المبدع فهو "الذي يأخذ على عاتقه إعادة تصحيح الصورة العامة أو المفردة عند القراء وعند المجتمع. ولذلك فإن مثل هذا الإنسان يتحمل مسؤولية مزدوجة"( [33] ).
وبحكم هذه المسؤوليات يحدد حسين مردان للناقد شروطاً متميزة إذ "يتطلب منه الإلمام والإحاطة التامة بجميع الأدوات الضرورية التي تؤهله للحكم. لأنه ـ أي الناقد ـ متبوع وليس بتابع. وهذا الموقف لا يفرض عليه التجرد أو النظافة فقط بل وقابلية التغلغل داخل الأثر الأدبي والتجول في أعماقه، مع لمس كل ذرة فيه، ليتمكن من استيعابه وعرض زواياه المطموسة"( [34] ).
ويبدو أن حسين مردان يميل إلى الرأي القائل أن أكثر النقاد تميزاً هو الناقد الذي يمارس الإبداع بإمكانات متميزة، تؤهله لمسؤولية النقد، "حيث أن الناقد يقوم بعدة أدوار في وقت واحد، فهو شارح ومقيم وموجه أيضاً ولهذا يتحتم عليه أن يكون متنوع الثقافة إضافة إلى مقدرته الأدبية المتفوقة"( [35] ). وهو بذلك يختلف مع نازك التي كانت ترى "أن النقد غير الشعر، وإن من كان شاعراً عظيماً قد لا يكون أكثر من ناقد متوسط"( [36] )..
ويلتقي علي الحلي مع نازك في القول بأن النقد "تجربة حية مستقلة التكوين والنضج، منفصلة عن تجربة الفنان وعمله الفني المتكامل. وقد تكون عملية النقد ناجحة ومثمرة وأكثر إشراقاً وعطاءً إنسانياً من العمل الأدبي"( [37] ).
ومع أنه يشارك القائلين بأن النقد عملية تقويم وتقدير ينبه على ضرورة عدم الخلط بين مفاهيم النقد المختلفة وأشكاله" فإلى جانب النقد الأدبي بصورته الذاتية والموضوعية هناك النقد اللغوي والنقد التأريخي والنقد الفني والنقد الاجتماعي والنقد النفسي والنقد السياسي، ولكل منها مقاييسه وضوابطه ومستلزماته"( [38] ).
ولكن هذه الاتجاهات جميعاً تتفق على شروط أساس ينبغي توافر الناقد عليها، "فهي تفترض في الناقد الحقيقي الصفات المتحدة في التجرد والذوق والثقافة"( [39] )..
ويرى الحلي أن هناك صلة وثقى بين الإبداع ونقده "فكثيراً ما يصاحب جودة التجارب الأدبية والفنية محصل جيد كذلك في النقد الأدبي والفني"( [40] ). وهذا يعني أن ظهور بوادر الجدب الإبداعي وضعف المواهب الأدبية قد يؤثر في مجال التجربة النقدية لتقلل من قيمتها وتأثيرها، لاسيما حين تهيمن عليها العلاقات الشخصية، وتتحكم بها المعايير الفردية، لتحيلها إلى أشكال "من المديح والثناء والإطراء، نتيجة عدم القدرة على الاستيعاب الموضوعي في التحليل، واختفاء النظرة العلمية، وهيمنة العامل الذاتي على وجدان الناقد وعواطفه"( [41] )..
تتضح مهمة النقد عند محمد جميل شلش في "تحليله الأثر الأدبي وفي إبراز مافيه من قيم فنية وجمالية مرتبطة بقيمته الموضوعية والتعبيرية، وتحديد مكانته، ومقدار تفاعله مع المناخ الاجتماعي ومدى نجاحه في تصوير صاحبه فكرياً ونفسياً، ومقدار تأثره وتأثيره في محيطه، ومن ثم انفتاحه أو انغلاقه من خلال الذات على القيم السائدة وعلى حركة التأريخ والمجتمع، بما يشيعه من شمول عفوي يربطه بقضايا الفكر والكون والإنسان"( [42] ).
ويجد ضرورة تواصل الناقد مع تجربة المبدع، من دون أن يكون ذلك عنده تقديماً لأهمية أحدهما على الآخر، بقدر الرغبة في اكتمال التجربة وإنضاج تصور كامل عنها. ولذلك يرى أن على الناقد أن يمر بحالات الخلق والتجارب التي مر بها المبدع "لكي يستطيع من خلال هذه المعاناة أن يحلل، وأن يقارن، وأن يغوص إلى أعماق من ينقده"( [43] )
--------------------------------------------------------------------------------
( [1]) لعل أهم ما كتبه الزهاوي من مقالات أدبية ونقدية :
ـ مقدمة الجزء الثاني من كتاب (شعراء العصر) لمحمد صبري الصادر عام 1912.
ـ مقدمته لبعض النصوص الشعرية ا لتي سماها (عيون الشعر) ونشرها في مجلة مرآة العراق في 7 مارس 1919.
ـ محاضرة في المعهد العلمي ببغداد عام 1922، نشرها رفائيل بطي في كتابه (سحر الشعر) بعنوان (محاضرة في الشعر)، ص 4، وما بعدها.
ـ مقال (نظرة في الشعر) نشرها في مجلة اليقين عام 1922، وهي مقدمة لنصوص منتقاة من الشعر العربي.
ـ (نزعتي في الشعر) وهي مقدمة ديوانه الصادر عام 1924.
ـ ما نشره في الأعداد الستة الصادرة من مجلة (الإصابة) عام 1926.
ـ مقال (حول النثر والشعر) وهي مساجلة مع طه حسين عام 1927.
ـ مقال (حول العاطفة والعقل) وهي مناظرة مع العقاد عام 1927.
ـ (كلمة في الشعر) نشرها في مجلة (لغة العرب) عام 1928.
( [2]) توفيق، ص 22.
( [3]) الزهاوي، الديوان، بيروت 1979، 1: 691.
( [4]) الزهاوي، اللباب، بغداد 1928، ص 258.
( [5]) الزهاوي، الرباعيات، بيروت، 1924، ص72.
( [6]) لغة العرب، الجزء الثاني، 6 شباط 1928، ص 117.
( [7]) ينظر: عبد الرزاق الهلالي، الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية، بغداد 1982، والصفحات، 24-72-106-127-237-276.
( [8]) مجلة لغة العرب، الجزء الثانيي، 6 شباط 1928، ص 117.
( [9])مطلوب، ص 60.
( [10]) الرصافي، دروس في تأريخ آداب اللغة العربية، ص 70.
( [11]) البصير، خطرات، بغداد، 1950، ص180.
( [12]) البصير، النقد الأدبي، مجلة المرشد، بغداد، الجزء 3، نيسان 1927، ص 90.
( [13]) البصير، خطرات، ص 180.
( [14]) المصدر نفسه، ص 179.
( [15]) الصافي النجفي، أشعة ملونة، بيروت 1971، ص 141.
( [16]) ديتش، ص 371، والنص للشاعر الدكتور جونسن عن النقد الذي كتبه الشاعر درايدن.
( [17]) خضر الولي، آراء في الشعر والقصة، بغداد 1956، ص 23 والرأي لبلند الحيدري.
( [18]) السياب، حوار مع السياب، مجلة ألف باء، العدد 431، السنة التاسعة، كانون الأول 1976، ص 34.
( [19]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر ص 280، ومابعدها، ويتأكد هذا الموقف لديها بما كانت قد حكمت فيه على النقد الذي كتبه بعض الشعراء العرب، كونه يفتقر إلى المنهجية والموضوعية. تنظر: الملائكة، منبر النقد، مجلة الآداب، بيروت، العدد 4، نيسان 1959، ص 3.
( [20]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 283.
( [21]) المصدر نفسه.
( [22]) تنظر: الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 283.
( [23]) المصدر نفسه، ص 55، ولعلنا لا نجد لهذا النمط الذي تعنيه نازك أمثلة في النقد العربي، وربماكان مثل هذا النقدموجوداً عند الغربيين، وإليه أشار إليوت بقوله الذي قد تكون نازك قد اهتمت به: "وهناك اتجاه إلى التقليل من أهمية العمل النقدي الذي يقوم به الفنان وإلى ترويج فكرة مؤداها أن الكاتب العظيم هو الذي لا يعي ما يفعل"(إليوت، مقالات في النقد الأدبي، ص 32).
( [24]) المصدر نفسه، ص 284.
( [25]) الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 298.
( [26]) المصدر نفسه، ص 297.
( [27]) المصدر نفسه، ص 300.
( [28]) الملائكة، منبر النقد، ص 3، وينظر: د.عبد الرضا علي، ص 56، حيث فصّل في هذه المسألة عند نازك.
( [29]) الملائكة، الصومعة والشرفة الحمراء، ص 221.
( [30]) حسين مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 143.
( [31]) المصدر نفسه، ص 142.
( [32]) حسين مردان، مقالات في النقد الأدبي، بغداد 1955، ص 79.
( [33]) حسين مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 142.
( [34]) المصدر نفسه.
( [35]) مردان، الأزهار تورق داخل الصاعقة، ص 142.
( [36]) الملائكة، منبر النقد، ص 3.
( [37]) علي الحلي، النظرة الموضوعية في النقد، جريدة الجمهورية، 2 تشرين الأول 1958، ص 4.
( [38]) الحلي، ظواهر في النقد الإجمالي، جريدة الثورة، 4 آذار 1971، ص 4.
( [39]) الحلي ، النظرة الموضوعية في النقد ، ص 4.
( [40]) الحلي، ظواهرفي النقد الإجمالي، ص 4.
( [41]) الحلي، ظواهر في النقد الإجمالي، ص 4.
( [42]) محمد جميل شلش، حول كتاب: السياب رائد الشعر الحر، مجلة الأقلام، بغداد، الجزء السابع، آذار 1967، ص 186.
( [43]) المصدر نفسه.