المجـتمـع المـدنــى
الفصل الأول
أصــل المجـتمـع المـدنــى
منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنزل أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة…..الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
وقد ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ……الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها .
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
الفصل الثانى
خصائص المجتمع المدنى ووظـــائــفــه
أولاً : شروط وخصائص المجتمع المدنى
هناك نوعان من الشروط لقيام مجتمع مدني حقيقي وهي شروط مادية وأخرى معنوية
1 - الشروط والخصائص المادية :
أ - المؤسسات المتعددة :
يستلزم قيام المجتمع المدني وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تعمل في ميادين مختلفة باستقلال عن حكومة الدولة مثل الأحزاب السياسية التي تسعى للوصول إلى السلطة والمشاركة في صنع السياسات، والنقابات التي تدافع عن مصالح أعضائها الاقتصادية وتسعى لرفع مستوى المهنة، واتحادات الكتاب والجمعيات العلمية والثقافية التي تسعى إلى نشر الوعي بأفكار وآراء معينة، والجمعيات الخيرية التي تسهم في أغراض التنمية الاجتماعية، والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن قضايا معينة كالديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والأندية الرياضية والترفيهية… وغيرها .
هذا الركن المادي في تكوين المجتمع المدني يعكس الانقسامات المختلفة والمتعددة في المجتمع، كما يسعى إلى تحويلها إلى علاقات تعاون وتكامل وتنافس سلمي شريف بدلاً من الصراع والتناحر الذي يؤدي إلى تقسيم المجتمع وتفتيت وحدته .
وعلى ذلك، فإن المجتمع المدني ليس كتلة واحدة أو متجانسة لا توجد بها أي اختلافات أو انقسامات، وإنما هو يتكون من جماعات تتسم بالتعدد والتنوع ولكنه يهدف إلى تحقيق التوفيق والتراضي بينها .
ب - الموارد :
كذلك تعد الموارد التي تمتلكها المؤسسات والجمعيات المكونة للمجتمع المدني، سواء كانت موارد معنوية أو مادية، من أهم متطلبات قيامه بدوره السياسي والاجتماعي وإدارة علاقته بالدولة بما يضمن استقلاله في مواجهتها .
أما إذا كانت الموارد شحيحة أو قليلة فإن المجتمع المدني قد يضطر إلى اللجوء إلى الحكومة لطلب العون والمساعدة والتي يتبعها التدخل الحكومي في شئون المنظمات التي تحصل على الدعم الحكومي كما يفتح أبواب الفساد الذي يصبح كالسوس الذي ينخر عظام المجتمع ويؤدي إلى انهياره.
2 - الشروط والخصائص المعنوية والأخلاقية :
وتعد تلك الشروط أهم من الشروط المادية ولكنها أصعب في الحصول عليها. فالأهم من وجود المؤسسات وجود مبادئ وقيم تحكمها بما يضمن تحقيق الهدف من وجودها. فلو تصورنا أننا قمنا ببناء عمارة جميلة ولكن سكانها لم يلتزموا بمبادئ الجيرة والتعاون ربما يؤدي ذلك إلى انهيار العمارة فوق رؤوسهم جميعاً ولذا، نتناول بتفصيل أكبر تلك الخصائص والصفات التي يجب أن تتحلى بها وحدات المجتمع المدني :
أ - الاستقلال :
ونعني به أن تكون هناك حدود واضحة لتدخل السلطة في المجتمع تحترمها الدولة وتلتزم بها، بحيث يتسع مجال الحركة الحرة المتاح للجماعات المختلفة ولا تتدخل فيه الحكومة إلا بمبررات ويقبلها المحكومون برضاهم .
ب - الحرية :
فلن يكون للمجتمع المدني وجود دون تمتع الأفراد بحرية الاختيار والتعبير عن الإرادة. وبينما تفرض الدولة جنسيتها وقوانينها على كل من يولدون على أرضها دون استشارتهم أو سؤالهم، حيث يولد الفرد ليجد نفسه حاملاً لجنسية معينة بحكم الميراث، نجد أن هذا الفرد يسعى للانضمام إلى التنظيمات والجمعيات باختياره وبإرادته الحرة لتحقيق غاية معينة كالدفاع عن مصلحة أو قضية معينة تهمه .
ج - التراضى العام :
حيث يتم تأسيس وحدات المجتمع المدني بالالتزام بقواعد الدستور والقانون وما تكفله من حماية لحقوق الأفراد في التعبير والتصويت والمشاركة في مناخ مفتوح لتبادل الآراء. تلك الشروط القانونية لتأسيس الجمعيات إذا تم وضعها بالاتفاق والتراضي بين مختلف التيارات في المجتمع، كان ذلك دليلاً على توافر الحرية والديموقراطية. أما إذا فرضتها سلطة أو فئة معينة على الآخرين، فإن ذلك يعني عدم وجود مجتمع مدني حقيقي .
ومما تجدر ملاحظته أن هذا الشرط يميز المجتمع المدني عما عداه من تجمعات وكيانات اجتماعية. فالمؤسسات التقليدية كالأسرة والقبيلة والعشيرة مثلاً ليست تجمعات منظمة بفعل الإرادة البشرية وإنما هي نتيجة لتطور طبيعي تلقائي ليس للإنسان دخل كبير فيه. أما إذا ما اكتسبت تلك التجمعات صفة التنظيم وأصبح انتماء الفرد لها يتوقف على الاختيار الحر بدلاً من الإجبار، كما صارت تقبل الدخول في منافسة سلمية مع غيرها من التجمعات للحصول على مزيد من الأنصار من خلال الاشتراك في حوار مفتوح مع الجماعات الأخرى لتبادل الآراء والأفكار المختلفة دون محاولة فرض رأي بعينه، فإنها تعد بذلك جزءاً من المجتمع المدني .
فالشكل الذي يوجد عليه التجمع ليس هو المهم، وإنما يعد سلوك الجماعة والمبادئ التي تسير عليها هو الأهم. وعلى راس هذه المبادئ نبذ التعصب والتطرف وقبول حق الجميع في الاعتقاد فيما يشاءون لكم دينكم ولي دين .
د - احترام النظام والقانون القائم :
فقيام مجتمع مدني حقيقي يستلزم وجود دولة قادرة على فرض القواعد القانونية وحماية الحقوق التي ينص عليها الدستور بالنسبة للأفراد والجماعات. وبدون هذا الدور للدولة سيتحول المجتمع المدني إلى كيان أجوف خالٍ من أي معنى حقيقي، بل الأخطر من ذلك أنه قد يتحول إلى عدو يهدد حريات الأفراد بشكل لا يقل خطورة عن تهديد الحكومة المستبدة في غياب الديموقراطية .
وكما رأينا فإن قوة المجتمع المدني لا تستغني عن وجود دولة قوية تحكمها سلطة ديموقراطية. والقوة كصفة للدولة لا تعني الاستبداد، وإنما تعني القدرة على الاستجابة لاحتياجات ومطالب المحكومين كما أن قوة المجتمع المدني لا تعني خروجه على النظام أو القانون القائم وإنما ترتبط قوته بالتزامه واحترامه لقواعد اللعبة السياسية السائدة. وهذا الالتزام يثير التساؤل حول موقف المجتمع المدني من التغيير، وهل هو أداة للحفاظ على النظام ؟ وهل يعني ذلك الجمود وعدم التغيير ؟ أم أن المجتمع المدني يصلح كوسيلة للتغيير ؟ الحقيقة أنه من الوارد أن يطالب المجتمع المدني بتغيير الأوضاع القائمة وهذا ما يشير إلى صفة أخرى للمجتمع المدني .
هـ - التغيير والتنافس بالوسائل السلمية :
عندما يسعى المجتمع المدني للتغيير فإنه لابد أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات السلمية في ممارسة نشاطه بدءاً بالتعبير عن الرأي مروراً بالمطالبة بالتغيير وانتهاءً بالاشتراك الفعلي في عملية التغيير .
ونقطة البداية هي قبول وحدات المجتمع المدني للقواعد القانونية وللنظام السائد ولمبدأ العمل في إطاره ومحاولة تغييره سلمياً دون الخروج عليه أو استعمال العنف ضده. أما إذا حدث العكس بأن تسعى إحدى الجماعات إلى قلب النظام أو الثورة عليه فإن ذلك يخرجها من إطار المجتمع المدني.
صحيح أن معارضة الحكومة وتوجيه الانتقادات إلى سياساتها وقراراتها هو من صميم وظيفة محاسبة المجتمع المدني للدولة إلا أن ذلك لا يجوز أن يصل إلى حد السماح لتلك الجماعات بالإطاحة بها أو إسقاطها أو بمحاولة إحلالها بحكومة أخرى. فالمجتمع المدني يجب أن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الأخطاء الحكومية والمطالبة بتعديل السياسات من خلال التنبيه إلى أوجه القصور ووقف الممارسات التي تتعدى على حقوق الأفراد بالكشف عن الأخطاء ومحاسبة الحكومة عليها، وليس بالثورة أو الانقلاب بهدف هدم النظام القائم وتدميره بشكل جذري .
غير أن هناك اتجاها آخر فى دراسة المجتمع المدنى يرى أن التغير الجذري للقانون والنظام القائم قد يكون هدفاً مشروعا ومقبولاً في حد ذاته. ولكن أسلوب تحقيقه يجب أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات والأدوات السلمية لكي يظل مقبولاً أما إذا ما لجأت إحدى مؤسسات المجتمع المدني إلى استخدام العنف والقوة المادية بهدف تغيير النظام فإنها تخرج بذلك من المجتمع المدني وتحرم من عضويته .
و - الشعور بالانتماء والمواطنة :
والحقيقة أن هذا الشرط يعتبر من أهم العناصر لتحقيق التماسك والترابط لإيمان الأفراد بأنهم يتمتعون بهوية مشتركة وأنهم قادرون على الدفاع عنها وحمايتها مقابل أداء واجباتهم والتزاماتهم نحو الدولة. فلكي يطيع الجزء الكل لابد أن يعبر الكل عن مطالبه واحتياجاته. فالمواطنة بمعناها الحقيقي هي مجموعة الحقوق والمسؤوليات التي تربط الأفراد بالدولة على قدم المساواة وبغض النظر عن الاختلافات بينهم ، وهي مصدر شعور الأفراد بالولاء والانتماء بما يشجعهم على الاهتمام بالشئون العامة وتوجيه الانتقادات للسياسات الحكومية والسعي للتأثير عليها .
وهذه الرابطة المعروفة بالمواطنة هي مفتاح تحقيق التماسك في المجتمع ككل، حيث تغرس مشاعر الانتماء إلى الجماعة الصغيرة فى الشعور بالولاء للجماعة الكبيرة. ولكنه تماسك وتضامن تلعب فيه الإرادة الشخصية الدور الرئيسي لأنه مبني على الاتفاق الذي دخله الأفراد باختيارهم الحر لتأسيس منظمات وجمعيات تدافع عن مصالحهم الخاصة وتلتزم بالعمل في حدود النظام والقواعد القانونية المحددة للسلوك بحيث تحقق أهدافها بالوسائل السلمية المقبولة والمسموح بها دون اللجوء إلى استعمال العنف وهو ما يعني الحفاظ على استقرار المجتمع .
غير أن تحقيق الاستقرار لا يعني القضاء على الاختلافات وإنما الإبقاء عليها واحترامها مع معالجتها بالوسائل السلمية الشريفة بدفع الأفراد والجماعات إلى التغلب على مشاعر الأنانية السلبية والتضحية بالجهود والتطوع في سبيل الآخرين والقيام بالمبادرة الإيجابية للانتقال من اللامبالاة إلى الاهتمام دون تعصب بالشئون العامة .
ز - التسامح :
التسامح هو الذي يجعلنا نطلق صفة مدني على المجتمع. فالمجتمع الذي تسوده روح المدنية هو المجتمع الذي يقبل فيه الأفراد والجماعات وجود آخرين يختلفون معهم في الرأي والمصلحة، كما يحترمون حقوقهم في التعبير عن وجهات نظرهم .
كما يعني اعتراف الجميع بأنه ليس هناك أي طرف يمتلك وحده الحقيقة وأن تعدد واختلاف الآراء والاتجاهات هو ظاهرة طبيعية وصحية. أما التنافس فهو ليس عيباً يقلل من تضامن المجتمع ووحدته كما أنه ليس مشكلة إلا إذا تحول إلى صراع عنيف. وهذا يحدث في حالة خروج أطراف المنافسة على القواعد القانونية التي تحدد لهم القنوات السلمية للمشاركة والقواعد المقبولة والجائزة للسلوك .
أما إذا ارتبط التعدد بالتسامح والتعايش السلمي بين الأطراف المختلفة، فإنه يتحول من سبب محتمل للانقسام والصراع والتمزق والتفكك إلى عامل أساسي وراء تعاون وتضامن الجماعات والأفراد وتماسك المجتمع وتحضره ورقيه .
ومن المهم هنا توضيح أن التسامح مطلوب كمبدأ ليس فقط في العلاقات والتعاملات السياسية والاجتماعية بين الحكام والمحكومين ولكن أيضا بين الأفراد والجماعات وبعضهم البعض. فكيف يطالب المجتمع المدني حكومته بالتسامح معه واحترام حقه في الاختلاف معها ونقدها لو لم يكن هو نفسه يسوده التسامح بين وحداته وعناصره المكونة له ففاقد الشىء لا يعطيه. ولا شك أن انتشار أمراض التعصب والتطرف وضيق الأفق داخل المجتمع المدني قد يؤدي إلى دفع الدولة بدورها نحو عدم التسامح مع الاختلاف لأنه أصبح خطراً يهدد استقرار الأمن والنظام في المجتمع ككل. فالعنف لا يولد إلا مزيداً من العنف .
ج - الديموقراطية داخل المجتمع المدني :
أي جماعة مهما بلغت درجة تماسكها سيظل بها قدر من الاختلاف والتعدد بين عناصرها. صحيح أن هناك مصلحة أو أهداف مشتركة اجتمع عليها الأفراد كأرضية مشتركة بينهم لتأسيس الجماعة، إلا أنه تبقى مصالح وأهداف شخصية وخاصة لدى كل منهم. هذا التنوع والاختلاف داخل الجماعة لابد أن يتم التعامل معه على أنه مصدر للثراء يزيد من قوة الجماعة ككل إذا ما سمح له بالتعبير عن نفسه علناً بدلا من كبته أو إخفائه أو التظاهر بعدم وجوده. ولابد أن تستمع القيادة داخل كل منظمة أو جمعية إلى بقية الأعضاء وأن تستشيرهم فيما تتخذه من قرارات بشأن الجمعية وأن تتقبل ما يوجهونه لها من انتقادات تساعدها على تصحيح الأخطاء، والأهم من ذلك أن تأتي تلك القيادة باختيار الأعضاء لها من خلال انتخابات حرة ونزيهة تتيح المنافسة المفتوحة والشريفة أمام الجميع بحيث يتمتع أعضاء أي منظمة داخل المجتمع المدني بحق التصويت والترشيح والمشاركة في صنع القرار الداخلي لتلك المنظمة. أما التعامل بأسلوب الكبت والقمع وغياب الديموقراطية داخل المنظمة بحجة الحفاظ على تماسكها فإنه قد يقود المختلفين إلى الانفجار ويصبح البديل الوحيد المتاح لهم هو الانفصال الكامل عن الجماعة .
وكما يتضح فيما سبق، فإن الركن الأخلاقى والمعنوي يعد هو أساس وجود المجتمع المدني. فالعبرة ليست بوجود منظمات أو مؤسسات وهيئات متعددة من ناحية الكم اذا كانت لا تعبر عن جوهر المجتمع المدني من الناحية الكيفية أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى التزامهم في تعاملهم مع بعضهم البعض بقيم ومبادئ الحوار والتسامح والتنافس السلمي وقبول التعدد والاختلاف واحترام حقوق المعارضين والمختلفين ونبذ العنف ورفض استعماله. ففى هذه الحالة لا تكون تلك القيم مجرد شعارات ترفعها الجماعات، وإنما مبادئ حاكمة فعلاً لسلوكها وأفعالها وهذا هو معيار الصدق، كما أن ديموقراطية المجتمع المدني هي شرط أساسي لديموقراطية المجتمع ككل .
الفصل الأول
أصــل المجـتمـع المـدنــى
منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنزل أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة…..الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
وقد ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ……الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها .
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
الفصل الثانى
خصائص المجتمع المدنى ووظـــائــفــه
أولاً : شروط وخصائص المجتمع المدنى
هناك نوعان من الشروط لقيام مجتمع مدني حقيقي وهي شروط مادية وأخرى معنوية
1 - الشروط والخصائص المادية :
أ - المؤسسات المتعددة :
يستلزم قيام المجتمع المدني وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تعمل في ميادين مختلفة باستقلال عن حكومة الدولة مثل الأحزاب السياسية التي تسعى للوصول إلى السلطة والمشاركة في صنع السياسات، والنقابات التي تدافع عن مصالح أعضائها الاقتصادية وتسعى لرفع مستوى المهنة، واتحادات الكتاب والجمعيات العلمية والثقافية التي تسعى إلى نشر الوعي بأفكار وآراء معينة، والجمعيات الخيرية التي تسهم في أغراض التنمية الاجتماعية، والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن قضايا معينة كالديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والأندية الرياضية والترفيهية… وغيرها .
هذا الركن المادي في تكوين المجتمع المدني يعكس الانقسامات المختلفة والمتعددة في المجتمع، كما يسعى إلى تحويلها إلى علاقات تعاون وتكامل وتنافس سلمي شريف بدلاً من الصراع والتناحر الذي يؤدي إلى تقسيم المجتمع وتفتيت وحدته .
وعلى ذلك، فإن المجتمع المدني ليس كتلة واحدة أو متجانسة لا توجد بها أي اختلافات أو انقسامات، وإنما هو يتكون من جماعات تتسم بالتعدد والتنوع ولكنه يهدف إلى تحقيق التوفيق والتراضي بينها .
ب - الموارد :
كذلك تعد الموارد التي تمتلكها المؤسسات والجمعيات المكونة للمجتمع المدني، سواء كانت موارد معنوية أو مادية، من أهم متطلبات قيامه بدوره السياسي والاجتماعي وإدارة علاقته بالدولة بما يضمن استقلاله في مواجهتها .
أما إذا كانت الموارد شحيحة أو قليلة فإن المجتمع المدني قد يضطر إلى اللجوء إلى الحكومة لطلب العون والمساعدة والتي يتبعها التدخل الحكومي في شئون المنظمات التي تحصل على الدعم الحكومي كما يفتح أبواب الفساد الذي يصبح كالسوس الذي ينخر عظام المجتمع ويؤدي إلى انهياره.
2 - الشروط والخصائص المعنوية والأخلاقية :
وتعد تلك الشروط أهم من الشروط المادية ولكنها أصعب في الحصول عليها. فالأهم من وجود المؤسسات وجود مبادئ وقيم تحكمها بما يضمن تحقيق الهدف من وجودها. فلو تصورنا أننا قمنا ببناء عمارة جميلة ولكن سكانها لم يلتزموا بمبادئ الجيرة والتعاون ربما يؤدي ذلك إلى انهيار العمارة فوق رؤوسهم جميعاً ولذا، نتناول بتفصيل أكبر تلك الخصائص والصفات التي يجب أن تتحلى بها وحدات المجتمع المدني :
أ - الاستقلال :
ونعني به أن تكون هناك حدود واضحة لتدخل السلطة في المجتمع تحترمها الدولة وتلتزم بها، بحيث يتسع مجال الحركة الحرة المتاح للجماعات المختلفة ولا تتدخل فيه الحكومة إلا بمبررات ويقبلها المحكومون برضاهم .
ب - الحرية :
فلن يكون للمجتمع المدني وجود دون تمتع الأفراد بحرية الاختيار والتعبير عن الإرادة. وبينما تفرض الدولة جنسيتها وقوانينها على كل من يولدون على أرضها دون استشارتهم أو سؤالهم، حيث يولد الفرد ليجد نفسه حاملاً لجنسية معينة بحكم الميراث، نجد أن هذا الفرد يسعى للانضمام إلى التنظيمات والجمعيات باختياره وبإرادته الحرة لتحقيق غاية معينة كالدفاع عن مصلحة أو قضية معينة تهمه .
ج - التراضى العام :
حيث يتم تأسيس وحدات المجتمع المدني بالالتزام بقواعد الدستور والقانون وما تكفله من حماية لحقوق الأفراد في التعبير والتصويت والمشاركة في مناخ مفتوح لتبادل الآراء. تلك الشروط القانونية لتأسيس الجمعيات إذا تم وضعها بالاتفاق والتراضي بين مختلف التيارات في المجتمع، كان ذلك دليلاً على توافر الحرية والديموقراطية. أما إذا فرضتها سلطة أو فئة معينة على الآخرين، فإن ذلك يعني عدم وجود مجتمع مدني حقيقي .
ومما تجدر ملاحظته أن هذا الشرط يميز المجتمع المدني عما عداه من تجمعات وكيانات اجتماعية. فالمؤسسات التقليدية كالأسرة والقبيلة والعشيرة مثلاً ليست تجمعات منظمة بفعل الإرادة البشرية وإنما هي نتيجة لتطور طبيعي تلقائي ليس للإنسان دخل كبير فيه. أما إذا ما اكتسبت تلك التجمعات صفة التنظيم وأصبح انتماء الفرد لها يتوقف على الاختيار الحر بدلاً من الإجبار، كما صارت تقبل الدخول في منافسة سلمية مع غيرها من التجمعات للحصول على مزيد من الأنصار من خلال الاشتراك في حوار مفتوح مع الجماعات الأخرى لتبادل الآراء والأفكار المختلفة دون محاولة فرض رأي بعينه، فإنها تعد بذلك جزءاً من المجتمع المدني .
فالشكل الذي يوجد عليه التجمع ليس هو المهم، وإنما يعد سلوك الجماعة والمبادئ التي تسير عليها هو الأهم. وعلى راس هذه المبادئ نبذ التعصب والتطرف وقبول حق الجميع في الاعتقاد فيما يشاءون لكم دينكم ولي دين .
د - احترام النظام والقانون القائم :
فقيام مجتمع مدني حقيقي يستلزم وجود دولة قادرة على فرض القواعد القانونية وحماية الحقوق التي ينص عليها الدستور بالنسبة للأفراد والجماعات. وبدون هذا الدور للدولة سيتحول المجتمع المدني إلى كيان أجوف خالٍ من أي معنى حقيقي، بل الأخطر من ذلك أنه قد يتحول إلى عدو يهدد حريات الأفراد بشكل لا يقل خطورة عن تهديد الحكومة المستبدة في غياب الديموقراطية .
وكما رأينا فإن قوة المجتمع المدني لا تستغني عن وجود دولة قوية تحكمها سلطة ديموقراطية. والقوة كصفة للدولة لا تعني الاستبداد، وإنما تعني القدرة على الاستجابة لاحتياجات ومطالب المحكومين كما أن قوة المجتمع المدني لا تعني خروجه على النظام أو القانون القائم وإنما ترتبط قوته بالتزامه واحترامه لقواعد اللعبة السياسية السائدة. وهذا الالتزام يثير التساؤل حول موقف المجتمع المدني من التغيير، وهل هو أداة للحفاظ على النظام ؟ وهل يعني ذلك الجمود وعدم التغيير ؟ أم أن المجتمع المدني يصلح كوسيلة للتغيير ؟ الحقيقة أنه من الوارد أن يطالب المجتمع المدني بتغيير الأوضاع القائمة وهذا ما يشير إلى صفة أخرى للمجتمع المدني .
هـ - التغيير والتنافس بالوسائل السلمية :
عندما يسعى المجتمع المدني للتغيير فإنه لابد أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات السلمية في ممارسة نشاطه بدءاً بالتعبير عن الرأي مروراً بالمطالبة بالتغيير وانتهاءً بالاشتراك الفعلي في عملية التغيير .
ونقطة البداية هي قبول وحدات المجتمع المدني للقواعد القانونية وللنظام السائد ولمبدأ العمل في إطاره ومحاولة تغييره سلمياً دون الخروج عليه أو استعمال العنف ضده. أما إذا حدث العكس بأن تسعى إحدى الجماعات إلى قلب النظام أو الثورة عليه فإن ذلك يخرجها من إطار المجتمع المدني.
صحيح أن معارضة الحكومة وتوجيه الانتقادات إلى سياساتها وقراراتها هو من صميم وظيفة محاسبة المجتمع المدني للدولة إلا أن ذلك لا يجوز أن يصل إلى حد السماح لتلك الجماعات بالإطاحة بها أو إسقاطها أو بمحاولة إحلالها بحكومة أخرى. فالمجتمع المدني يجب أن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الأخطاء الحكومية والمطالبة بتعديل السياسات من خلال التنبيه إلى أوجه القصور ووقف الممارسات التي تتعدى على حقوق الأفراد بالكشف عن الأخطاء ومحاسبة الحكومة عليها، وليس بالثورة أو الانقلاب بهدف هدم النظام القائم وتدميره بشكل جذري .
غير أن هناك اتجاها آخر فى دراسة المجتمع المدنى يرى أن التغير الجذري للقانون والنظام القائم قد يكون هدفاً مشروعا ومقبولاً في حد ذاته. ولكن أسلوب تحقيقه يجب أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات والأدوات السلمية لكي يظل مقبولاً أما إذا ما لجأت إحدى مؤسسات المجتمع المدني إلى استخدام العنف والقوة المادية بهدف تغيير النظام فإنها تخرج بذلك من المجتمع المدني وتحرم من عضويته .
و - الشعور بالانتماء والمواطنة :
والحقيقة أن هذا الشرط يعتبر من أهم العناصر لتحقيق التماسك والترابط لإيمان الأفراد بأنهم يتمتعون بهوية مشتركة وأنهم قادرون على الدفاع عنها وحمايتها مقابل أداء واجباتهم والتزاماتهم نحو الدولة. فلكي يطيع الجزء الكل لابد أن يعبر الكل عن مطالبه واحتياجاته. فالمواطنة بمعناها الحقيقي هي مجموعة الحقوق والمسؤوليات التي تربط الأفراد بالدولة على قدم المساواة وبغض النظر عن الاختلافات بينهم ، وهي مصدر شعور الأفراد بالولاء والانتماء بما يشجعهم على الاهتمام بالشئون العامة وتوجيه الانتقادات للسياسات الحكومية والسعي للتأثير عليها .
وهذه الرابطة المعروفة بالمواطنة هي مفتاح تحقيق التماسك في المجتمع ككل، حيث تغرس مشاعر الانتماء إلى الجماعة الصغيرة فى الشعور بالولاء للجماعة الكبيرة. ولكنه تماسك وتضامن تلعب فيه الإرادة الشخصية الدور الرئيسي لأنه مبني على الاتفاق الذي دخله الأفراد باختيارهم الحر لتأسيس منظمات وجمعيات تدافع عن مصالحهم الخاصة وتلتزم بالعمل في حدود النظام والقواعد القانونية المحددة للسلوك بحيث تحقق أهدافها بالوسائل السلمية المقبولة والمسموح بها دون اللجوء إلى استعمال العنف وهو ما يعني الحفاظ على استقرار المجتمع .
غير أن تحقيق الاستقرار لا يعني القضاء على الاختلافات وإنما الإبقاء عليها واحترامها مع معالجتها بالوسائل السلمية الشريفة بدفع الأفراد والجماعات إلى التغلب على مشاعر الأنانية السلبية والتضحية بالجهود والتطوع في سبيل الآخرين والقيام بالمبادرة الإيجابية للانتقال من اللامبالاة إلى الاهتمام دون تعصب بالشئون العامة .
ز - التسامح :
التسامح هو الذي يجعلنا نطلق صفة مدني على المجتمع. فالمجتمع الذي تسوده روح المدنية هو المجتمع الذي يقبل فيه الأفراد والجماعات وجود آخرين يختلفون معهم في الرأي والمصلحة، كما يحترمون حقوقهم في التعبير عن وجهات نظرهم .
كما يعني اعتراف الجميع بأنه ليس هناك أي طرف يمتلك وحده الحقيقة وأن تعدد واختلاف الآراء والاتجاهات هو ظاهرة طبيعية وصحية. أما التنافس فهو ليس عيباً يقلل من تضامن المجتمع ووحدته كما أنه ليس مشكلة إلا إذا تحول إلى صراع عنيف. وهذا يحدث في حالة خروج أطراف المنافسة على القواعد القانونية التي تحدد لهم القنوات السلمية للمشاركة والقواعد المقبولة والجائزة للسلوك .
أما إذا ارتبط التعدد بالتسامح والتعايش السلمي بين الأطراف المختلفة، فإنه يتحول من سبب محتمل للانقسام والصراع والتمزق والتفكك إلى عامل أساسي وراء تعاون وتضامن الجماعات والأفراد وتماسك المجتمع وتحضره ورقيه .
ومن المهم هنا توضيح أن التسامح مطلوب كمبدأ ليس فقط في العلاقات والتعاملات السياسية والاجتماعية بين الحكام والمحكومين ولكن أيضا بين الأفراد والجماعات وبعضهم البعض. فكيف يطالب المجتمع المدني حكومته بالتسامح معه واحترام حقه في الاختلاف معها ونقدها لو لم يكن هو نفسه يسوده التسامح بين وحداته وعناصره المكونة له ففاقد الشىء لا يعطيه. ولا شك أن انتشار أمراض التعصب والتطرف وضيق الأفق داخل المجتمع المدني قد يؤدي إلى دفع الدولة بدورها نحو عدم التسامح مع الاختلاف لأنه أصبح خطراً يهدد استقرار الأمن والنظام في المجتمع ككل. فالعنف لا يولد إلا مزيداً من العنف .
ج - الديموقراطية داخل المجتمع المدني :
أي جماعة مهما بلغت درجة تماسكها سيظل بها قدر من الاختلاف والتعدد بين عناصرها. صحيح أن هناك مصلحة أو أهداف مشتركة اجتمع عليها الأفراد كأرضية مشتركة بينهم لتأسيس الجماعة، إلا أنه تبقى مصالح وأهداف شخصية وخاصة لدى كل منهم. هذا التنوع والاختلاف داخل الجماعة لابد أن يتم التعامل معه على أنه مصدر للثراء يزيد من قوة الجماعة ككل إذا ما سمح له بالتعبير عن نفسه علناً بدلا من كبته أو إخفائه أو التظاهر بعدم وجوده. ولابد أن تستمع القيادة داخل كل منظمة أو جمعية إلى بقية الأعضاء وأن تستشيرهم فيما تتخذه من قرارات بشأن الجمعية وأن تتقبل ما يوجهونه لها من انتقادات تساعدها على تصحيح الأخطاء، والأهم من ذلك أن تأتي تلك القيادة باختيار الأعضاء لها من خلال انتخابات حرة ونزيهة تتيح المنافسة المفتوحة والشريفة أمام الجميع بحيث يتمتع أعضاء أي منظمة داخل المجتمع المدني بحق التصويت والترشيح والمشاركة في صنع القرار الداخلي لتلك المنظمة. أما التعامل بأسلوب الكبت والقمع وغياب الديموقراطية داخل المنظمة بحجة الحفاظ على تماسكها فإنه قد يقود المختلفين إلى الانفجار ويصبح البديل الوحيد المتاح لهم هو الانفصال الكامل عن الجماعة .
وكما يتضح فيما سبق، فإن الركن الأخلاقى والمعنوي يعد هو أساس وجود المجتمع المدني. فالعبرة ليست بوجود منظمات أو مؤسسات وهيئات متعددة من ناحية الكم اذا كانت لا تعبر عن جوهر المجتمع المدني من الناحية الكيفية أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى التزامهم في تعاملهم مع بعضهم البعض بقيم ومبادئ الحوار والتسامح والتنافس السلمي وقبول التعدد والاختلاف واحترام حقوق المعارضين والمختلفين ونبذ العنف ورفض استعماله. ففى هذه الحالة لا تكون تلك القيم مجرد شعارات ترفعها الجماعات، وإنما مبادئ حاكمة فعلاً لسلوكها وأفعالها وهذا هو معيار الصدق، كما أن ديموقراطية المجتمع المدني هي شرط أساسي لديموقراطية المجتمع ككل .