لم يتطرق العلامة عبد الرحمن بن خلدون(ت808ه ) للحنابلة –طائفة و مذهبا- إلا في مواضع قليلة من مقدمته ، و أغفلهم في مواضع أخري كان سياق الكلام يستدعي ذكرهم فيها . فمن المواضع التي ذكرهم فيها ، أنه عندما تكلم عن انتشار المذاهب السنية الأربعة في الأقطار الإسلامية ،و مدى تمذهب الناس بها ، قال: (( فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل ، لبعد مذهبه عن الاجتهاد ،و أصالته في معاضدة الرواية و الأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها )) (1) .
و قوله هذا غير مستقيم ،و مخالف للحقائق التاريخية الثابتة ، فهو أولا علل قلة أتباع المذهب الحنبلي ببعده عن الاجتهاد ،و هو تعليل غبر صحيح ؛ لأن من المعروف في التاريخ-و الواقع أيضا- أن عامة الناس ما كانت تختار مذاهبها و عقائدها بناء على البحث و الاجتهاد و الاقتناع ، وإنما كانت تتبناها تجاوبا و انسياقا مع الظروف السياسية و الاجتماعية السائدة في المجتمع ؛ لأن الغالبة العظمى من الناس كانوا-و مازالوا- على دين ملوكهم أولا و علمائهم ثانيا . فعندما حكم الرافضة الإسماعيلية مصر تحوّل معظم شعبها إلى مذهبهم ؛ و عندما استعادها الأيوبيون تخلى الناس عن ذلك المذهب و عادوا إلى المذاهب السنية الأربعة، و هذا أمر ثابت متواتر لا يحتاج إلى توثيق .
و أما الأسباب الحقيقية التي أدت إلى قلة أتباع المذهب الحنبلي ، فلم يذكرها ابن خلدون في مقدمته ؛ وهي –في اعتقادي- أربعة أسباب أساسية ، أولها تأخر ظهور مذهب الحنابلة ، فهو آخر المذاهب السنية ظهورا و انتشارا (ق:3-4ه) .فقد سبقه المذهب الحنفي و المالكي و الشافعي ؛ لذا فهو عندما ظهر وجد الناس قد تمذهبوا بتلك المذاهب ، مما صعّب عليه الانتشار بينهم . و الثاني هو أنه لم يكن للحنابلة – خلال العصر الإسلامي- دولة تبنت مذهبهم و طبقته على الناس أصولا و فروعا .و السبب الثالث هو أن علماء الحنابلة و أعيانهم ابتعدوا عن العمل السياسي المباشر و الفعّال ، كتسلّم الوزارة و الحجابة ،و قيادة الجيوش ؛ و لا يعرف من تولى منهم الوزارة إلا نحو خمسة فقط( في ظرف يزيد عن خمسة قرون ) ، أشهرهم : عون الدين بن هبيرة (ت 560ه) و جلال الدين بن يونس(ق:6ه) . فابتعادهم عن ذلك حرم مذهبهم من الدعم السياسي و المادي للانتشار بين الناس .
و السبب الرابع هو أن المذهب الحنبلي وجد في طريقه ضغوطات و عراقيل كثيرة من المذاهب السنية الأخرى ؛ فقد تصدت له و قاومته و حدّت من نشاطه ، في فترات كثيرة من التاريخ الإسلامي ، كما هو الحال زمن الوزير السلجوقي نظام الملك(ت485ه) ،و الأيوبيين و المماليك (2) . لكن المذاهب السنية الأخرى حالها يختلف عن حال المذهب الحنبلي ؛ فهي أهم عامل ساهم في انتشارها و تثبيتها و صمودها، هو العامل السياسي فقد كانت لها دول تبنتها و دافعت عنها بحماس ؛ فمن الثابت تاريخيا أن معظم دول المغرب و الأندلس كانت تتبنى المذهب المالكي . و الدولة العباسية و السلجوقية و الزنكية و العثمانية كانت كلها على المذهب الحنفي . و الدولتان الأيوبية و المملوكية كانتا على المذهب الشافعي . و أما العوامل الأخرى فإن تأثيرها كان محدودا لا يرقى إلى تأثير العامل السياسي الحاسم .
و أما ثانيا فإن ابن خلدون ذكر أن مذهب الإمام احمد بعيد عن الاجتهاد ، و هو قول غير صحيح ، لأن توسع المذهب الحنبلي في الأخذ بالروايات و أقوال السلف لم يحد من مجال اجتهاداته ، وإنما زوّده بثروة علمية متنوعة من الاختيارات و المناهج ،و فتح عليه مجالا واسعا للاجتهاد تعليلا و مقارنة و اختيارا . و الشاهد على ذلك أن الحنابلة الأوائل قد رووا عن إمامهم ثروة فقهية كبيرة و متنوعة جمع أكثرها أبو بكر الخلال (ت311ه) و تلميذه غلام الخلال(ت361ه) (3) . و رووا عنه-أيضا- أنه كان يذم التقليد و يحث على الاجتهاد في الفروع ، كقوله : (( لا تقلدني و لا تقلد مالكا و لا الأوزاعي و لا النخعي و لا غيرهم ، و خذ الأحكام من حيث أخذوا ، من الكتاب و السنة )) (4).
و مما يُبين أن الاجتهاد في المذهب الحنبلي أصيل و له مكانة مرموقة فيه ، أنه قد برز فيه علماء مجتهدون كبار ، في زمن خيم عليه التقليد و التعصب المذهبيين ( فيما بين القرنين:5-8ه ) فكسروا ذلك القيد و كانت لهم اجتهادات حرة جديرة بالتدبر و التقدير ، منهم : أبو الوفاء بن عقيل البغدادي(ت 513ه) ،و أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي(ت510ه) ،و عبد الرحمن بن الجوزي(ت597ه) ،و الموفق بن قدامة المقدسي (ت620ه) ،و تقي الدين بن تيمية (ت 728ه) ، و تلميذه ابن قيم الجوزية (ت751ه ) .
و فيما يخص مواطن انتشار المذهب الحنبلي بالمشرق الإسلامي ، فإن ابن خلدون قد ذكر أن أكثر المناطق التي يتواجد فيها هي في الشام و العراق ، وهذا صحيح لكنه فاته أن يذكر مصر و القاهرة ، فقد أصبح للحنابلة فيهما وجود بارز و مؤثر قبيل سقوط الدولة الفاطمية( سنة:567ه) و بعدها ، حيث ازداد نفوذهم قوة و اتساعا خلال القرنين السابع و الثامن الهجريين ،و بالأخص زمن شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية و تلاميذه ؛ فأصبح لهم في تلك المدينتين مدارس و قضاء خاص بهم منذ القرن السابع الهجري (5) .
و أما المواضع التي أغفل فيها ابن خلدون ذكر الحنابلة و كان موضوع البحث يستدعي ذكرهم فيه ، فمنها أنه عندما تطرق لعلم أصول الفقه ،و الخلاف ،و الجدل و ما صنف في تلك العلوم من مصنفات ؛ ذكر بعض مؤلفات الشافعية و الحنفية و المالكية و المعتزلة،و لم يذكر ما صنفه علماء الحنابلة في تلك العلوم و لم يشر إليهم أصلا (6) ، رغم أنهم قد ألفوا فيها كتبا كثيرة ، منها :منهاج الأصول في علم الأصول لعبد الرحمن بن الجوزي (ت597ه) ، و الوافي في أصول الفقه لنجم الدين بن حمدان (ت 692ه) (7) ، و المسوّدة في أصول الفقه لآل تيمية ،و أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية ،و الخلاف الكبير لأبي الخطاب الكلوذاني (ت510ه) ،و التبصرة في الخلاف للقاضي أبي خازم بن أبي يعلى الفراء (ت527ه ) ( ،و كتاب الجدل لأبن عقيل البغدادي(ت513ه)،و كتاب تنبيه العاقل على تمويه الجدل الباطل لابن تيمية (9) .
و تكرر نفس الأمر عندما تطرّق ابن خلدون لعلم الكلام ، فقد ذكر بعض ما صنفه كبار علماء الأشعرية في ذلك العلم ،و لم يذكر الحنابلة أصلا (10) ؛ رغم أنهم قد صنفوا كتبا كثيرة في أصول الدين و علم الكلام ، منها : المعتمد في أصول الدين ،و إبطال التأويلات ، للقاضي أبي يعلى الفراء (ت458ه) .و كتاب الإرشاد في أصول الدين ،و نفي التشبيه ،و الانتصار لأهل الحديث (11) . و كتاب تحريم النظر في كتب علم الكلام ،و مناظرة في القرآن ،و التبيان في بيان القرآن , و ذم التأويل ، وهذه المصنفات كلها مطبوعة و هي للموفق بن قدامة المقدسي(ت 620ه) .و أشهر مصنفاتهم في علم الكلام وأصول الدين ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية و تلميذه ابن القيم الجوزية ، و قد امتازت مؤلفاتهما بالدقة و التحقيق ، و بالإبداع و الشمولية ؛ فللأول : درء تعارض النقل و العقل ،و الرسالة التدمرية ،و الواسطية ،و الحموية ،و منهاج السنة النبوية و غيرها كثير .و للثاني : الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة ،و اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الجهمية و المعطلة .
لكن تلك الملاحظة لا تسري على ابن خلدون في كل أنواع العلوم الشرعية ، فإنه عندما تطرّق لعلم الفرائض ،و ذكر بعض ما صنفه المالكية و الشافعية في ذلك العلم ، أشار إلى أن الحنابلة و الحنفية هم كذلك ألفوا في علم المواريث (12) . دون أن يذكر لهم أية مصنفات كنماذج على ذلك .
و أشير في هذا المقام إلى أن ابن خلدون ، كما أنه كثيرا ما اغفل ذكر الحنابلة ومذهبهم في مقدمته ، فإنه أيضا قد اغفل ذكر كبار علمائهم فيها -ما عدا الإمام احمد- ؛ فإنني لم اعثر فيها على أي ذكر من هؤلاء ، كالقاضي أبي يعلى الفراء ،و ابن عقيل ،و ابن الجوزي ، و الموفق بن قدامة المقدسي ،و ابن تيمية،و ابن القيم الجوزية .
و يتبين مما تقدم ذكره أن ابن خلدون لم يوفق في تعليل ظاهرة قلة الحنابلة بالمشرق الإسلامي الوسيط ،و أنه –أيضا- أغفل ذكرهم في مواضع من مقدمته. فما هي الأسباب التي أوقعته في ذلك ؟ يبدو لي – و الله أعلم- أن أهمها ثلاثة أسباب ، أولها أن معرفة ابن خلدون بالحنابلة ومذهبهم ، كانت-على ما يظهر- معرفة ناقصة .و ثانيها أن نظرته للحنابلة كأقلية بين أكثرية شافعية و حنفية ، قد تكون صرفته عنهم في النظر إليهم كطائفة فاعلة في المجتمع و مؤثرة فيه . و ثالثها الخلاف بينه وبينهم في قضايا الصفات ، ربما يكون قد صرفه عن الاهتمام بهم ؛ فهم كانوا على مذهب السلف في إثبات كل الصفات الإلهية بلا تأويل و لا تعطيل ،و هو كان على مذهب الخلف من الأشعرية و الماتريدية ، في إثبات بعض الصفات ،و تأويل معظمها .
تم و لله الحمد
د . خالد كبير علال
-----------------------
الهوامش :
1-مقدمة ابن خلدون ، ص: 448 .
2-الموفق بن قدامة المقدسي: التبيان في بيان القرآن ، مجلة البحوث الإسلامية، الرياض العدد:19 ص:280 .و المقريزي: الخطط ج2 ص: 443 .
3-ابن كثير: البداية ج11ص:278 .و بدر الدين الحنبلي: مختصر فتاوى ابن تيمية، ص: 614 .
4-ولي الله الدهلوي: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ، ص: 105 .
5- المقريزي : المصدر السابق ج 2 ص: 374.و ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة، ج2ص:294-295
6- مقدمة ابن خلدون ص: 455، 456 ، 457، 458 .
7-ابن رجب : المصدر السابق ج2 ص: 331، 361 .و محسن التركي:أصول مذهب الإمام احمد ص: 23 .
8-ابن رجب : نفس المصدر ج1 ص: 218، 221 ،و ج2 ص: 177 .
9-محمد بن عبد الهادي: العقود الدرية ص: 29 .
10- انظر المقدمة ص: 466-467 .
11-ابن رجب : المصدر السابق ج1 ص: 188،189.و عبد القادر أبو فارس :القاضي أبو يعلى الفراء ص:246.
12- مقدمة ابن خلدون ص : 451، 485