-------------------------------------------------------------------
قبيل أن يسدل الليل خيوط عباءته السوداء، وحين تخترق آخر أسراب الطيور احمرار غمام السماء؛
في أرض منبسطة، على سفوح جبال وعرة، بين تلال هامدة، وبحيرة حالمة ..
ثغاء، خوار ومأمأة، تخترقها نغمات ناي حزينة، من راعٍ نحيل، اعتادت سحنات وجهه حنايا المكان.
هي الأجواء ذاتها، وكأن الزمن متوقف من حينها، منذ أن رمقت عيناي نور المكان لأول
مرة وأنا طفل صغير.
اعتادت قدماي أن تطأ تراب المكان في مثل هذا الوقت من المساء
في كل مرة أزور فيها المنطقة، هي ليست صدفة، إنما هو إصرار، حتى لا أفوت سحر اللحظة في يومي الأول.
كل شيء هنا يوحي بالفطرة، بالسريرة، بكل معاني الجمال؛ رائحة التربة، لمسات النسيم
ونظراتها هي، التي لا تقاوم؛ تجدني مشدودا نحو سحرها الأخاذ، وهمسات صوتها الجذاب؛
تناديتي مرة وتتذمر مني أخرى، تخالني خجولا منها، كيف لا وهي الصامدة، الثابتة،
التي لا تعرف للتراجع عنوانا أو للضعف زمانا.
أسير بخطوات محتشمة نحوها، وكلما اقتربت زدت من الصفاء بالا،
وتلمست من جثوم الصدر زوالا؛ هي الشامخة، هي الباسقة؛ عمرها مديد وطلعها نضيد؛
عرشها على الماء وفروعها في السماء؛ لكن مع ذلك، فإن لها في التواضع باع،
ومن السخاء والتضحية متاع.
...
وأنا أحبو على صُخَيرات الوادي في اتجاهي
إليها نحو الضفة الأخرى، أشعر وكأن أوراقها من فوقي تحملني من السقوط،
ونظرات عيونها تشغلني عن الإلتفات إلى جريان المياه الهادر، الذي كسر هدوء المكان.
تحتضنني بحرارة الأم لوليدها، ألامسها، أعانقها، أحوم حواليها، أتطلع إلى قامتها المنتصبة،
وهمتها المرتفعة، هكذا هي منذ عشرات سنين عمرها البالغ عتيا،
لا يتغير جلدها ولا تنجرف مع تيار الوادي، تعرف كيف تحمي نفسها بنفسها،
برباطة جئشها، بصلابة عودها، بشوك ثمرها وبكثافة أوراقها.
أجلس متكئا على صدرها العريض الحنون، أتنفس نسمات روحها الدافئة، أتجاذب معها
أطراف الحديث وكأني ذاك الكاهن المناجي لآلهة السراب؛ أتأمل كلمات حكايتها الضاربة
في عمق الأزل، وأترقب البوح بأسرارها الدفينة، علني لا أعود بخفي حنين كما كل مرة.
...
خيوط الظلام ماضية في نشر سوادها، وصوت مؤذن ينبعث معلنا نهاية نهار طويل رتيب،
وأنا الغارق في سحرها حد الثمالى، لا أقدر أو لا أجرؤ على مغادرتها؛ كيف لا وهي
رمز الجوهر في زمن المظهر؛ ورمز الإباء في زمن الزبد الجفاء؛ معلمة معنى الرغبة في
التحدي والصمود، ونبذ التلكؤ والجمود؛ أنهض وأنا أستند إلى نهدها،
عائد بخطواتي إلى الوراء بنية إحتواءها بنظرة الفراق؛ يشرد ذهني،
وتعلو محياي شحنات الحيرة والحسرة .. أصيح في وجهها !! أين معظمنا منك؟؟!
النفاق وسيلتنا، الحِلم عدونا وخرق الأرض وبلوغ الجبال طولا غايتنا؛
لنا للمثالية وفاء وللتواضع جفاء؛ قابلية الإنجراف عندنا حداثة وثبات الأصول رجعة؛
لب الجوهر بالشتائم منبوذ، وحنضل القشور بالنواجد معضود.
...
أدير ظهري لها وأنا أشعر بثقل يعثر خطواتي، وفي ذات اللحظة أسمع دوي صفير متقطع،
مصحوب بصوت مبحوح عميق، ينادي بحروف إسمي؛ يبدو أنني لم أقاوم هذياني،
رغم أن الظلام قد مضى في السواد أشواطا ...
،أعود وألتفت إليها بعد أن أكون قد انتقلت إلى الضفة الأخرى من الوادي
... أتأملها والذهول يعلو سحنات وجهي، ولسان حالي يقول .. عائد،،، عائد
مع تحياتي