...
كانت المسكينة لا تعرف من العالم سوى والديها وأخاها، وأصواتَ بعضٍ من أقاربها التي كانت تصلها وهي في مطبخ البيت تُعدُّ لهما غذاءً أو قهوةً، كلما أتوا زائرين لأبيها العليل.. لا تذكر من تفاصيل طفولتها الكثير سوى تلك اللمحات المؤرقة من توجعات أبيها وصراخه المتتالي في البيت خصوصا الفجائية منها ليلاً، ومنتصفه، وبدايته.. لم تكن تعرف طعمًا للنوم مذ كانت صغيرة تلهو وتستطيع أن تدخل وتخرج من باب البيت كيفما تشاء، عكس اليوم.. فقد فقدت القدرة على تخطي ما وراء هذا الباب الخشبي الكبير الذي أصبح يبدو لها شبحًا يُخبّئ مفاجآت يضطرب لها قلبها كلما حاولت تخيل ما وراءه..
كان لأخيها الدور الكبير في هذا السّجن المؤبد الذي حُكم عليها فيه من دُون سابق إنذار.. وها هي الآن ابنة الثلاثة والعشرين سنة، لا يملأ قلبها حب الحياة وشغفها، ولا الرغبات والأمنيات الكثيرة، ولا الأحلام الوردية التي من المفروض أن تغزو قلب ونفس وروح أي فتاة في مثل سنها..
أحكمَ أخوها عليها القبض عنوةً، وحكَّم عليها إقفال باب الحياة، الذي أصبح يتمثل في ذاك الذي أضحى لونه قـَمعـيًا ناصـعًا.. هكذا أصبحت تراه.. لونٌ لا ينتمي للألوان المعهودة.. فقد فقدت نعومة الألوان وزخرفها واكتفت بالتشبيهات المعنوية: من لون قمعي.. ولون حالك.. ولون مكفهر.. وغيره..
ابتدأت قصة الألوان الغامضة، والسِّجن المؤبد، والحياة الموءودة منذ ذلك اليوم الذي كانت فيه لا تزال اليافعة المقبلة على الحياة، حين زارهم بالبيت ابن خالتها الذي يُقاربها في السّن، حيث كانت تجري خلفه وتُسابقُه.. فمرّة يسبقها ومرة هي تسبقه، ومرة ترتفع أصواتهما لتملأ حيطان البيت بعفوية طفولتهما البريئة، ليدخل أخوها فجأة ويجد ابن الخالة الذي يعرف تمامًا تقاليد وأعراف القرية وأعراف بيتهما بالخصوص، وبأن الفتاة في مثل هذه السِّن قد صارت أجنبية عنه مُحرمٌ الحديث إليها فكيف باللعب ورفع الأصوات؟؟.. لم تدر مما حصل يومها إلا ويدٌ صارمةٌ قد انهالت فوق رأسها بعصا لتشجعه وتسيل دماؤها البريئة منه، ولم تسمع حينها إلا وصوت ابن خالتها يصرخ من ضربات أخيها الذي أشبعه قبل أن يطرده خارجًا.. لم تجد الأم المسكينة قليلة الحيلة سوى أن تهرع لتحاول الدفاع عن ما تبقى من أوجاع ابنتها الطفلة الضعيفة البريئة دون جدوى، إذ لم يشف ابنها غليله بعد فيها، وهو لا يزال يحلف ويتوعد بأن يقتلها وأن تكون مماتها على يديه.. حينها كانت الأم تبحث عن أية ذريعة تنقذ بها ابنتها من يَديْ أخيها المكهرب غضبًا.. وفجأة صرخت بصوت مبحوح من أثر العويل الذي لم يُجدي نفعًا قائلة: إنه أخوها يا بُني..! هو أخوها من الرضاعة لذلك سمحتُ لهما أن يلعبا معًا فقد أرضعته وهو صغير.. وهو أخ لها إذن.. فجأة كأن عاصفة الأخ قد توقفت، وتلك الحمم البركانية الغاضبة قد هدأت، وحتى أصواته الحانقة قد صمتت.. رمى عصاه، واتجه للمغسل يغسل وجهه وبعضًا من أطرافه التي تلطخت دمًا، ليخرج ويُغلق الباب بقوةٍ يكاد ينخلع فيها الباب من بين يديه..
ارتمت الفتاة على صدر أمها تبكي بكاءً مرًا ترتعش كفريسة وقعت في يد صياد نهش لحمها نهشًا دون رحمة.. مستاءةً في نفس الوقت من الكذبة التي اختلقتها أمها فقط لحمايتها..
منذ تلك الحادثة فقدت البنت القدرة على المشي السليم، فقد طغت العصا الظالمة على عظام فخديها وقد هشتهما هشًا وكسرتهما كسرًا، لم ينفع معها أي علاج، واكتفت العائلة بعلاج الوالد العليل ذي المرض المزمن، وتناست تلك الصغيرة التي أضحت زهرةً ذابلةً بقلبٍ يائسٍ لا يُقبـِل على عطرها أحد.. فمن ذا الذي يرغب بفتاة مُعاقة في قرية أغلب عقول سكانها متخلفة تشمئز من المعاقة !
كان ابن الخالة يتقطع شوقًا لابنة خالته يودّ لو تقدم لخطبتها بعدما مرت السنون، وبعدما أصبح قادرًا على الزواج.. خصوصًا أنّه منذ تلك الحادثة وهو يُحمّل نفسه مسؤولية الذي حصل لابنة خالته، ويُحمِّل نفسه تلك الإعاقة التي أصابت جسمها الناعم البريء ... ولكــن !!
أنـَّى له أن يفعل وقد قالت الأم ما قالت، فهل ستـُعدُّ كاذبة بعد مرور كل هذه السنين؟؟ ثم ما سيقوله أخوها الظالم لو علم أن تلك القصة كانت ملفقة فقط لحماية أخته التي لا تزال في عينيه مخطئة رغم الذي سمعه..
لازالت الشابة تستيقظ كل صباح لتحوم حول البيت الصغير، تعتني بوالدها وتطيع والدتها، وتركع بذلٍ تحت سيطرة أخيها، وتختلق في فكرها حكايات كثيرة عمَّا يوجد خلف الباب القمعيّ الناصع.. وحوله فقط بدأت تتجسد أحلامها المستحيلة !
للأمانة: (سمعتُ مقطعًا من القصة يومًا. فتخيلت المقدمة والنهاية وأبقيتُ على الفكرة مصدر الإلهام)
كانت المسكينة لا تعرف من العالم سوى والديها وأخاها، وأصواتَ بعضٍ من أقاربها التي كانت تصلها وهي في مطبخ البيت تُعدُّ لهما غذاءً أو قهوةً، كلما أتوا زائرين لأبيها العليل.. لا تذكر من تفاصيل طفولتها الكثير سوى تلك اللمحات المؤرقة من توجعات أبيها وصراخه المتتالي في البيت خصوصا الفجائية منها ليلاً، ومنتصفه، وبدايته.. لم تكن تعرف طعمًا للنوم مذ كانت صغيرة تلهو وتستطيع أن تدخل وتخرج من باب البيت كيفما تشاء، عكس اليوم.. فقد فقدت القدرة على تخطي ما وراء هذا الباب الخشبي الكبير الذي أصبح يبدو لها شبحًا يُخبّئ مفاجآت يضطرب لها قلبها كلما حاولت تخيل ما وراءه..
كان لأخيها الدور الكبير في هذا السّجن المؤبد الذي حُكم عليها فيه من دُون سابق إنذار.. وها هي الآن ابنة الثلاثة والعشرين سنة، لا يملأ قلبها حب الحياة وشغفها، ولا الرغبات والأمنيات الكثيرة، ولا الأحلام الوردية التي من المفروض أن تغزو قلب ونفس وروح أي فتاة في مثل سنها..
أحكمَ أخوها عليها القبض عنوةً، وحكَّم عليها إقفال باب الحياة، الذي أصبح يتمثل في ذاك الذي أضحى لونه قـَمعـيًا ناصـعًا.. هكذا أصبحت تراه.. لونٌ لا ينتمي للألوان المعهودة.. فقد فقدت نعومة الألوان وزخرفها واكتفت بالتشبيهات المعنوية: من لون قمعي.. ولون حالك.. ولون مكفهر.. وغيره..
ابتدأت قصة الألوان الغامضة، والسِّجن المؤبد، والحياة الموءودة منذ ذلك اليوم الذي كانت فيه لا تزال اليافعة المقبلة على الحياة، حين زارهم بالبيت ابن خالتها الذي يُقاربها في السّن، حيث كانت تجري خلفه وتُسابقُه.. فمرّة يسبقها ومرة هي تسبقه، ومرة ترتفع أصواتهما لتملأ حيطان البيت بعفوية طفولتهما البريئة، ليدخل أخوها فجأة ويجد ابن الخالة الذي يعرف تمامًا تقاليد وأعراف القرية وأعراف بيتهما بالخصوص، وبأن الفتاة في مثل هذه السِّن قد صارت أجنبية عنه مُحرمٌ الحديث إليها فكيف باللعب ورفع الأصوات؟؟.. لم تدر مما حصل يومها إلا ويدٌ صارمةٌ قد انهالت فوق رأسها بعصا لتشجعه وتسيل دماؤها البريئة منه، ولم تسمع حينها إلا وصوت ابن خالتها يصرخ من ضربات أخيها الذي أشبعه قبل أن يطرده خارجًا.. لم تجد الأم المسكينة قليلة الحيلة سوى أن تهرع لتحاول الدفاع عن ما تبقى من أوجاع ابنتها الطفلة الضعيفة البريئة دون جدوى، إذ لم يشف ابنها غليله بعد فيها، وهو لا يزال يحلف ويتوعد بأن يقتلها وأن تكون مماتها على يديه.. حينها كانت الأم تبحث عن أية ذريعة تنقذ بها ابنتها من يَديْ أخيها المكهرب غضبًا.. وفجأة صرخت بصوت مبحوح من أثر العويل الذي لم يُجدي نفعًا قائلة: إنه أخوها يا بُني..! هو أخوها من الرضاعة لذلك سمحتُ لهما أن يلعبا معًا فقد أرضعته وهو صغير.. وهو أخ لها إذن.. فجأة كأن عاصفة الأخ قد توقفت، وتلك الحمم البركانية الغاضبة قد هدأت، وحتى أصواته الحانقة قد صمتت.. رمى عصاه، واتجه للمغسل يغسل وجهه وبعضًا من أطرافه التي تلطخت دمًا، ليخرج ويُغلق الباب بقوةٍ يكاد ينخلع فيها الباب من بين يديه..
ارتمت الفتاة على صدر أمها تبكي بكاءً مرًا ترتعش كفريسة وقعت في يد صياد نهش لحمها نهشًا دون رحمة.. مستاءةً في نفس الوقت من الكذبة التي اختلقتها أمها فقط لحمايتها..
منذ تلك الحادثة فقدت البنت القدرة على المشي السليم، فقد طغت العصا الظالمة على عظام فخديها وقد هشتهما هشًا وكسرتهما كسرًا، لم ينفع معها أي علاج، واكتفت العائلة بعلاج الوالد العليل ذي المرض المزمن، وتناست تلك الصغيرة التي أضحت زهرةً ذابلةً بقلبٍ يائسٍ لا يُقبـِل على عطرها أحد.. فمن ذا الذي يرغب بفتاة مُعاقة في قرية أغلب عقول سكانها متخلفة تشمئز من المعاقة !
كان ابن الخالة يتقطع شوقًا لابنة خالته يودّ لو تقدم لخطبتها بعدما مرت السنون، وبعدما أصبح قادرًا على الزواج.. خصوصًا أنّه منذ تلك الحادثة وهو يُحمّل نفسه مسؤولية الذي حصل لابنة خالته، ويُحمِّل نفسه تلك الإعاقة التي أصابت جسمها الناعم البريء ... ولكــن !!
أنـَّى له أن يفعل وقد قالت الأم ما قالت، فهل ستـُعدُّ كاذبة بعد مرور كل هذه السنين؟؟ ثم ما سيقوله أخوها الظالم لو علم أن تلك القصة كانت ملفقة فقط لحماية أخته التي لا تزال في عينيه مخطئة رغم الذي سمعه..
لازالت الشابة تستيقظ كل صباح لتحوم حول البيت الصغير، تعتني بوالدها وتطيع والدتها، وتركع بذلٍ تحت سيطرة أخيها، وتختلق في فكرها حكايات كثيرة عمَّا يوجد خلف الباب القمعيّ الناصع.. وحوله فقط بدأت تتجسد أحلامها المستحيلة !
للأمانة: (سمعتُ مقطعًا من القصة يومًا. فتخيلت المقدمة والنهاية وأبقيتُ على الفكرة مصدر الإلهام)