تمت رسالة الدكتوراة الموسومة بـ ((الشعر الإسلامي في عصر صدر الإسلام ـ دراسة فكرية فنية ـ )) تحاول إقامة التوازن بين الفكر والفن من خلال تتبع التفاعل العميق بين الإسلام والشعر، على مدى تمهيد، وقسمين، فكري وفني: أما التمهيد فيبحث مفهوم الشعر الإسلامي وارتباط الفنون بالعقائد بعامة وبالإسلام بخاصة، ويؤسس لمصطلح الأدب الإسلامي ومنه (الشعر) في منظور النقد القديم، تعزيزاً لأصالة هذا التصور. وإشارة إلى جذوره التي تضرب في أعماق التصور الأدبي العربي منذ فجر الإسلام، ويناقش عروبة لغة الأدب الإسلامي في إطار الواقع والطموح ويعالج مسألة الانفتاح على الآداب الأجنبية، ومدى إمكانية دراسة الأدب الإسلامي وفق التقنيات الفنية الحديثة التي لا تتعدى حدود الإسلام، ويناقش البحث بعضاً من دوافع مزاعم ضعف الشعر الإسلامي في صدور الإسلام على أربعة محاور تتمثل في:
1 ـ حرية الشعر ومفهومها بين الإباحة والإسلام.
2 ـ القدم والحداثة والنظر إلى الشعر من خلال نظرة محافظة منحازة للجاهلي سلفاً.
3 ـ أثر الحضارة والبيئة في الشعر ولغته وأسلوبه وتأثير ذلك في أحكام النقاد اللغويين التي جاءت لصالح الجاهلي لغلبة المفردات الغربية عليه والتي لا تلائم ذوق النقاد اللغويين.
4 ـ التصور الفني لأسلوبي القرآن الكريم والحديث النوبي الذي طغى على ذوق النقاد في القديم والحديث فطالبوا الشعر عن وعي وعن غير وعي أن يضاهيهما وإلا فهو ضعيف.
وأما القسم الفكري فيدرس الشعر من خلال التصور الإسلامي للإنسان حسبما أبداه الشعر الإسلامي في عشرة مباحث هي: الإنسان رسولاً وقائداً، وداعية، وعابداً، وفي الوسط الاجتماعي، ومهاجراً، ومجاهداً، وشيخاً، وخص شعر المرأة بمبحث نعود بعد لدراسة الإنسان مرتداً، وعدواً.
وقد ظهر الإنسان في الشعر الإسلامي محوراً للكون موفقاً في أداء الدور الذي ناطه الله به، وكلمة الله الفاعلة في الأرض وخليفته فيها، ولذلك تقدم الفصل الذي يدرسه على بقية الفصول.
إن الإنسان لا يتحرك في هذه الدنيا إلا بمجموعة من القيم والمثل، تكون للمؤمن الحياة الحقيقية التي يعيش وفق منهجها حتى تشكل له الضوء والنهج والصراط المستقيم الذي هداه الله إليه، ولذلك يدرس الفصل الثاني الحياة كما بدت في الشعر الإسلامي الذي كان متفاعلاً معها في نفس الشاعر وعقله وعواطفه، فصدر عن التصور الإسلامي لجوانب الحياة المختلفة من خلال ثمانية مباحث هي:
1 ـ التوحيد الذي جمع العرب أمة واحدة لعبادة الله الواحد، وأزاح الوثنية والعصبية القبلية.
2 ـ الأمة بدل القبيلة، وتحويل القبيلة إلى خدمة الأمة.
3 ـ الدنيا والآخرة، وملذات الدنيا قبل الإسلام ونظرة المسلمين إليها على أنها فانية قصيرة مخادعة، وأنها ميدان عمل تحصد ثماره في الآخرة، فإما إلى الجنة وإما إلى السعير، مع وقفة قصيرة عند مفهوم الخلود قبل الإسلام وبعده.
4 ـ الغنى والإنفاق والتوازن بينهما، والسعي من أجل الرزق، وعدم الاتكال على سؤال الناس، وأن المال لله يعطيه من يشاء ويأخذه ممن يشاء.
5 ـ الإيمان بالقضاء والقدر والاطمئنان إلى حتمية الموت، وترك الخوف من المجهول القديم الذي ساد النظرة قبل الإسلام.
6 ـ الحنين والغربة بسبب الهجرة والأسر والسفر والجهاد والردة.
7 ـ العفاف في التعامل مع المرأة، والامتناع عن الخمر والمحرمات.
8 ـ التفاؤل والتطير، وترك الخوف من المجهول، والإيمان بما كتب الله على المرء من خير أو شر.
ودعا القرآن الكريم إلى التأمل في آيات الله في خلق الطبيعة وما فيها من أدلة تسوق العقل إلى الإيمان، ومنافع تخدم الإنسان. وحَبّب الطبيعة إليه وسخرها له، ولذلك خص الفصل الثالث لدراسة شعر الطبيعة وفق مباحث تدرس اللمسات الإسلامية عليه وهي:
1 ـ السماء وما يرتبط بها من شمس وقمر ونجوم وليل، ولا يقف الشعر عندها ليبين جمالها بقدر ما يقف ليسوقها دليلاً وآية على وجود الله وعظمته محاولاً أن يجعل منها سبيلاً إلى تعميق الإيمان في النفس، ويوظفها لإثبات مخادعة الحياة الدنيا وزوالها ويدعو الإنسان لاستشراف الآخرة من خلالها.
ويتعامل الشعر مع الطبيعة تعاملاً إنسانياً بعامة ويخصه بلمسات إسلامية، وقد يوحي بالتصور الإسلامي من وراء التصور الإنساني العام.
2 ـ الأرض وما عليها من الثوابت، التي جعلها الشعر الإسلامي مسرحاً لحركة الإنسان وتنقلاته، وميداناً يتقابل فيه الموت والحياة ولكن الشاعر ينتصر دوماً للحياة لأنه متفائل بالنصر الذي وعده الله به وقد تختفي اللمسات الإسلامية المباشرة من القصيدة ولكن يبقى الإيماء ومناسبة القصيدة شاهدين على اسلاميتها. وقد تبدو ظاهرة واضحة للعيان عندما يخلع الشاعر عليها صفة العاقل المؤمن، وقد يدعو المؤمن للطبيعة دعاءً وجدانياً مشحوناً بالحب والألفة وعندها يستمد الشعر إسلاميته من المناسبة والاشتراك الإنساني بين الشعر الإسلامي وما سواه من شعر انطلاقاً من نفس الشاعر المؤمنة.
3 ـ الحيوان، وقد ورد في الشعر الإسلامي مسخراً للإنسان ودليلاً على عظمة الخالق سبحانه وكان رمزاً من رموز الإيمان وشريكاً للإنسان في الحياة على الأرض، وأكثر الحيوان وروداً في الشعر الناقة فالفرس، فهما من وسائط النقل والسفر والجهاد في سبيل الله وسلاحان ماضيان من أسلحة جيش الأمة. وخاطب المجاهد ناقته برفق وحنان ورأفة ورحمة وشكر لأنها أوصلته إلى ساحة الجهاد. ولم يقف الشعر عند الناقة والفرس ولكنه أكثر وصف إبل المسلمين وخيلهم مجتمعة متأثراً بوحدة الأمة ومنطلقاً من روح الجماعة التي طغت على النزعات الفردية الذاتية، وظهرت السباع مضرباً للمثل على حتمية الموت ورأينا شاهداً يبين الأسد جندياً من جنود الله، وكان الطير شريكاً للإنسان في عواطفه وأحزانه وبخاصة آلام البعد والفراق بين الشاعر ومَن يحب، وبدا الفيل مهين المكانة لأنه كان من أسلحة العدو ولم يكن له حضور عند العرب كحضور الخيل والإبل.
وأما القسم الثاني ـ الدراسة الفنية ـ فإنه يأتي تعزيزاً لما أكدته الدراسة الفكرية من قدرة الشعر الإسلامي على التعبير عن فكر الأمة، وتصوير عقيدتها، وتصورها للإنسان والحياة والطبيعة، وأن هذا الشعر لم يكن عاجزاً عن استيعاب الإسلام استيعاباً يعزز أصالته، ويبعده عن التقليد، ويثبت عمق إحساس شعرائه واستقلاليتهم في التعبير، وتأتي الدراسة الفنية إتماماً لطرفي معادلة التوازن الإسلامي في الأدب بين الفكر والفن، وذلك في خمسة مباحث: درس الأول منها هيكل القصيدة ووحدتها، فرأى فواتح إسلامية للقصائد تمثلت في تسبيح الله، والدعاء، والمناجاة، والترحم على الشهداء، والحكم الإسلامية الخالصة، وذم الخمر، والتوبة، وحمد الله وشكره، وقد ختم الشعراء قصائدهم بأبيات على صيغة المثل في سهولة إيقاعه، أو بجواب على سؤال كان الشاعر قد عرضه في فاتحة القصيدة، وقد وفق الشعراء في ربط مطلع القصيدة بعاطفتها وخاتمتها معبرين عن تجربة إيمانية رائدة.
ورأينا في مقدمات القصائد التي تصدرت أكثر من نصف قصائد الشعر الإسلامي ـ حسبما أحصينا ـ رموزاً الحياة الدنيا، وصلة الرحم، والنصر، وحياة الجاهلية، ورأينا محاورات ـ بين الشاعر وعاذلاته على الجهاد والكرم والسفر ـ أصابها تحول عظيم في المنبع الفكري، ورأينا أن العاذلات كن حقيقيات حيناً ورمزاً حيناً آخر، واختفت من الشعر الإسلامي مقدمات وصف الرحلة والظعائن، تلك الرحلات التي كانت رماً للعلاقات القبلية وصلات الرحم المتقطعة، والأحلاف الموصولة، وكان اختفاؤها نابعاً من اختفاء دواعيها، لأن الإسلام جاء بدولة الأمة، وجمع القبائل بالوحدة والتوحيد، واستقرت الحال الاقتصادية للقبائل بما تهيأ لها من العطاء من بيت المال.
وبرع الشعراء في التخلص (حسن الانتقال) من موضوع إلى آخر في القصيدة بخفاء لا يشعر به المتلقى.
واعتدل طول القصائد وارتبط بالتجربة الشعورية التي صدرت عنها القصيدة وقد نبع الاعتدال والتوسط في طول القصيدة بسبب غياب المقدمات حيناً، وإيجازها حيناً آخر، أو اقتصار القصيدة على موضوع واحد.
وأوشكت الوحدة الموضوعية أن تسود الشعر الإسلامي كله ـ إذا احتسبنا المقدمة جزءاً أساسياً من موضوع القصيدة ـ تأصيلاً لوحدة الأمة والعبادة وسمة من سمات تطور هذا الشعر، وتمثلت الوحدة العضوية أيضاً في القصيدة الإسلامية، لأن العواطف والتجارب في القصيدة تتجه لإقامة موقف إيماني موحد من الإنسان والحياة والطبيعة.
ودرس المبحث الثاني اللغة والمعاني والأسلوب، فتبين أن الشعر الإسلامي استقى لغته من لغة القرآن الكريم، وغذته الحضارة بنعيمها، واقتربت هذه اللغة من لغة الحياة اليومية التي عدها إليوت شرطاً من شروط الإبداع الشعري، وكانت لغة واقعية جمعت البدوي والحضري، وانسجمت مع الإنسان في موقفه من الحياة والطبيعة وضوحاً وسهولة ويسراً، وأعرضت عن الغرابة وغدت أكثر قدرة وطواعية على إبراز العاطفة التي تضمنها تجربة الشاعر. وحملت ألفاظها دلالات أوسع مدى من دلالاتها السابقة بفضل ثقافة الشاعر التي طغت عليها الثقافة القرآنية، وبفضل تحول الحياة إلى جانب الإسلام.
واختصت معاني شعر المديح بفضائل النفس الإنسانية ومن العقل والعفة والعدل والشجاعة والرفعة، ونصر الإسلام وحسن السيرة والسياسة والعلم والحلم والورع والرأفة والرحمة والكرم والهيبة.
واتجهت معاني الغزل إلى الأوصاف الشخصية للمرأة بعيداً عن الإثارة والمفاتن، ملتزمة جانب العفاف وجمال الخلق والسيرة.
وجاء شعر الرثاء بمعاني الصبر، واحتساب الثواب في الآخرة، وتأكيد نعيم الجنة والخلود، وإبراز دور الشهيد في الدنيا الآخرة وضرب الحكم والأمثال.
وبنى الهجاء معانيه على هدم قيم المروءة الإسلامية في شخص المهجو، مع السخرية منه والهزء به، بعيداً عن الفحش إلا نادراً.
وأما الأساليب فقد كان أغلب الشعر الإسلامي مطبوعاً خالياً من التكلف بعيداً عن الصنعة، كما جاء كثير منه على الأسلوب التعبيري (الموحي) الذي ينشط الذكاء لاستشفاف الفكرة، وجاء بعضه على الأسلوب التقريري المباشر الذي يصلح في شعر الوصايا وسوح الوغى لأحداث التأثير السريع.
وكان أسلوب المثل من الأساليب التي أكدها القرآن الكريم، فجاء الشعر الإسلامي متأثراً به في تركيز الفكرة وتكثيف المعنى في صياغة سهلة واضحة مُنغمة يسهل حفظها وذيوعها.
واعتمد الشعراء الأضداد في المطابقة والمقابلة بين المواقف والمعاني والأفكار والألفاظ الإسلامية وما يناقضها، كما لجأوا إلى الكناية التي استمدوا بعض مدلولاتها من التصور الإسلامي.
ودرس المبحث الثالث الصورة الشعرية وفق موضوعات الشعر بمفهوم أوسع من مفهوم الصورة البلاغية، فرأينا قدرة الشاعر على صوغ صور جزئية تجتمع لتكون صورة كلية معتمدين على الفكرة والعاطفة معياراً لإسلاميتها، وكانت الصور أنواعاً وألواناً، منها: الحسية والذهنية، وتقوم على التجسيم والتشخيص والاستعارة والكناية والمقابلة والتشبيه والطباق، يرسمها اللون والظل والحركة والصوت واللمس والبصر، وقد تكون جزئية، وقد تكون متكاملة، أو مكتظة، يستقى الشاعر مضمونها من المضمون الإنساني العام بعامة، ومن المضمون الإسلامي بخاصة، ومنها صور نادرة ومبتكرة تشهد لتطور الشعر الإسلامي وأصالته.
ودرس المبحث الرابع الإيقاع الخارجي بإيجاز وتلبث عند الإيقاع الداخلي، لأنه ميدان البراعة الحقيقية للشاعر يحققه بوسائل هي: التكرار الذي يحدث التأكيد والمتعة والتنغيم، وكثر في الشعر الإسلامي وتنوع تأثراً بأسلوب القرآن الكريم. فمنه تكرار شطر بيت من الشعر أو جملة أو لفظة أو حروف أو ضمائر أو أسماء، وأشرنا إلى أن تكرار الحروف من ألصق أنواع التكرار بالفن، لأنه يحقق انسجاماً صوتياً متناسقاً، ولا يتفوق عليه في تحقيق هذا الانسجام سوى تكرار الصيغ الصرفية، لأنه يتساوق مع النفس ويفتح أبواباً رحبة للخيال، ويستجن وراء السطور، وهناك تكرار حسن التقسيم، والتكرار الممهد للقافية الذي يشرك المتلقى في متعة توقع القاضية في البيت.
ودرس المبحث الخامس الأداء القصصي. فرأينا أن القصائد التي اقتربت من القصصية قد تأثر الشاعر فيها بأسلوب القصص القرآني، ونبعت موضوعاتها من التصور الإسلامي للإنسان والحياة والطبيعة، وكثيراً ما يستمد الحدث توجهه من قدرة الله سبحانه في شعر الحرب والجهاد. وسادت بعض تلك القصص نزعة درامية هي دليل على تطور هذا الشعر ورقيه درجة في سلم الفن الشعري.
وبعد فثمة شهادات أنصفت الرسالة وصاحبها، أدلة بها المختصون الأجلاء في جلسة المناقشة منها:
أولاً: ما قاله الأستاذ الدكتور سامي مكي العاني: ((ومما يحمد للباحث صفاء عقيدته وغيرته الإسلامية وشهامته العربية في الدفاع عن المثل الإسلامية والأخلاق العربية ومناقشاته العلمية للأفكار المضللة التي تضمنتها بعض الكتب الحديثة.
وأن الباحث ظل وفياً للفكرة التي يحملها والمنهج الذي ارتضاه في كل رسالته منذ المقدمة إلى الخاتمة بلا تردد أو ضعف أو تناقض.
وكان شجاعاً وعلمياً وجريئاً في مناقشة من يعتقد بشططه في الأحكام وتصديه المنطقي لذلك الشطط والزيغ)).
ثانياً: قول الأستاذ الدكتور جليل رشيد فالح: ((تكتسب هذه الرسالة خصوصيتها من خصوصية الإسلام نفسه، فقد رسمت ـ على نحو عملي تطبيقي ـ معالم الأدب المنتمي، بعد ن مضت حقبة طويلة من الزمن. ومصطلح الأدب الإسلامي على ألسنة الباحثين وأسلات أقلام الكتاب التقليديين فقد هوية الانتماء محكومة نظراتهم ورؤاهم بالإطار الزمني لهذا المصطلح...
أكبر فيك إقدامك على هذا العمل الذي لا يتأتى إلا لمن يملك الثقة الكاملة بالنفس وحظاً وافيراً من الرؤية الإسلامية الحصيفة الناضجة وقد فعلت)).
ثالثاً: قول الأستاذ الدكتور حازم عبدالله خضر: ((أحمد الله تعالى على أني رأيت رسالة تنطق باسم الأدب الإسلامي، وأحمد الله كذلك أن هيأ لها باحثاً بذل جهداً كبيراً في أن تكون رسالته معبرة عن أمرين مهمين:
أولهما: أن هناك أدباً إسلامياً يهدف إلى العقيدة ويصدر عنها ويلتزم بمضامينها ويعبر عن أهدافها وغاياتها تلك الأهداف التي أنزلها الله عزوجل لتتكون مناراً للبشرية على مر الدهور والعصور.
وثانيهما: ((عمله على رفع فرية أو مقولة طالما رددها كثيرون دون أن يتدبروا وأن يرجعوا إلى هذا الأدب حين كانوا يقولون إن الأدب العربي في صدر الاسلام قد ضعف بسبب العقيدة وأنه في ظل الإسلام غيره فيما كان قبل الإسلام)).
المصدر: مجلة المسلم المعاصر/العدد60/1991م
1 ـ حرية الشعر ومفهومها بين الإباحة والإسلام.
2 ـ القدم والحداثة والنظر إلى الشعر من خلال نظرة محافظة منحازة للجاهلي سلفاً.
3 ـ أثر الحضارة والبيئة في الشعر ولغته وأسلوبه وتأثير ذلك في أحكام النقاد اللغويين التي جاءت لصالح الجاهلي لغلبة المفردات الغربية عليه والتي لا تلائم ذوق النقاد اللغويين.
4 ـ التصور الفني لأسلوبي القرآن الكريم والحديث النوبي الذي طغى على ذوق النقاد في القديم والحديث فطالبوا الشعر عن وعي وعن غير وعي أن يضاهيهما وإلا فهو ضعيف.
وأما القسم الفكري فيدرس الشعر من خلال التصور الإسلامي للإنسان حسبما أبداه الشعر الإسلامي في عشرة مباحث هي: الإنسان رسولاً وقائداً، وداعية، وعابداً، وفي الوسط الاجتماعي، ومهاجراً، ومجاهداً، وشيخاً، وخص شعر المرأة بمبحث نعود بعد لدراسة الإنسان مرتداً، وعدواً.
وقد ظهر الإنسان في الشعر الإسلامي محوراً للكون موفقاً في أداء الدور الذي ناطه الله به، وكلمة الله الفاعلة في الأرض وخليفته فيها، ولذلك تقدم الفصل الذي يدرسه على بقية الفصول.
إن الإنسان لا يتحرك في هذه الدنيا إلا بمجموعة من القيم والمثل، تكون للمؤمن الحياة الحقيقية التي يعيش وفق منهجها حتى تشكل له الضوء والنهج والصراط المستقيم الذي هداه الله إليه، ولذلك يدرس الفصل الثاني الحياة كما بدت في الشعر الإسلامي الذي كان متفاعلاً معها في نفس الشاعر وعقله وعواطفه، فصدر عن التصور الإسلامي لجوانب الحياة المختلفة من خلال ثمانية مباحث هي:
1 ـ التوحيد الذي جمع العرب أمة واحدة لعبادة الله الواحد، وأزاح الوثنية والعصبية القبلية.
2 ـ الأمة بدل القبيلة، وتحويل القبيلة إلى خدمة الأمة.
3 ـ الدنيا والآخرة، وملذات الدنيا قبل الإسلام ونظرة المسلمين إليها على أنها فانية قصيرة مخادعة، وأنها ميدان عمل تحصد ثماره في الآخرة، فإما إلى الجنة وإما إلى السعير، مع وقفة قصيرة عند مفهوم الخلود قبل الإسلام وبعده.
4 ـ الغنى والإنفاق والتوازن بينهما، والسعي من أجل الرزق، وعدم الاتكال على سؤال الناس، وأن المال لله يعطيه من يشاء ويأخذه ممن يشاء.
5 ـ الإيمان بالقضاء والقدر والاطمئنان إلى حتمية الموت، وترك الخوف من المجهول القديم الذي ساد النظرة قبل الإسلام.
6 ـ الحنين والغربة بسبب الهجرة والأسر والسفر والجهاد والردة.
7 ـ العفاف في التعامل مع المرأة، والامتناع عن الخمر والمحرمات.
8 ـ التفاؤل والتطير، وترك الخوف من المجهول، والإيمان بما كتب الله على المرء من خير أو شر.
ودعا القرآن الكريم إلى التأمل في آيات الله في خلق الطبيعة وما فيها من أدلة تسوق العقل إلى الإيمان، ومنافع تخدم الإنسان. وحَبّب الطبيعة إليه وسخرها له، ولذلك خص الفصل الثالث لدراسة شعر الطبيعة وفق مباحث تدرس اللمسات الإسلامية عليه وهي:
1 ـ السماء وما يرتبط بها من شمس وقمر ونجوم وليل، ولا يقف الشعر عندها ليبين جمالها بقدر ما يقف ليسوقها دليلاً وآية على وجود الله وعظمته محاولاً أن يجعل منها سبيلاً إلى تعميق الإيمان في النفس، ويوظفها لإثبات مخادعة الحياة الدنيا وزوالها ويدعو الإنسان لاستشراف الآخرة من خلالها.
ويتعامل الشعر مع الطبيعة تعاملاً إنسانياً بعامة ويخصه بلمسات إسلامية، وقد يوحي بالتصور الإسلامي من وراء التصور الإنساني العام.
2 ـ الأرض وما عليها من الثوابت، التي جعلها الشعر الإسلامي مسرحاً لحركة الإنسان وتنقلاته، وميداناً يتقابل فيه الموت والحياة ولكن الشاعر ينتصر دوماً للحياة لأنه متفائل بالنصر الذي وعده الله به وقد تختفي اللمسات الإسلامية المباشرة من القصيدة ولكن يبقى الإيماء ومناسبة القصيدة شاهدين على اسلاميتها. وقد تبدو ظاهرة واضحة للعيان عندما يخلع الشاعر عليها صفة العاقل المؤمن، وقد يدعو المؤمن للطبيعة دعاءً وجدانياً مشحوناً بالحب والألفة وعندها يستمد الشعر إسلاميته من المناسبة والاشتراك الإنساني بين الشعر الإسلامي وما سواه من شعر انطلاقاً من نفس الشاعر المؤمنة.
3 ـ الحيوان، وقد ورد في الشعر الإسلامي مسخراً للإنسان ودليلاً على عظمة الخالق سبحانه وكان رمزاً من رموز الإيمان وشريكاً للإنسان في الحياة على الأرض، وأكثر الحيوان وروداً في الشعر الناقة فالفرس، فهما من وسائط النقل والسفر والجهاد في سبيل الله وسلاحان ماضيان من أسلحة جيش الأمة. وخاطب المجاهد ناقته برفق وحنان ورأفة ورحمة وشكر لأنها أوصلته إلى ساحة الجهاد. ولم يقف الشعر عند الناقة والفرس ولكنه أكثر وصف إبل المسلمين وخيلهم مجتمعة متأثراً بوحدة الأمة ومنطلقاً من روح الجماعة التي طغت على النزعات الفردية الذاتية، وظهرت السباع مضرباً للمثل على حتمية الموت ورأينا شاهداً يبين الأسد جندياً من جنود الله، وكان الطير شريكاً للإنسان في عواطفه وأحزانه وبخاصة آلام البعد والفراق بين الشاعر ومَن يحب، وبدا الفيل مهين المكانة لأنه كان من أسلحة العدو ولم يكن له حضور عند العرب كحضور الخيل والإبل.
وأما القسم الثاني ـ الدراسة الفنية ـ فإنه يأتي تعزيزاً لما أكدته الدراسة الفكرية من قدرة الشعر الإسلامي على التعبير عن فكر الأمة، وتصوير عقيدتها، وتصورها للإنسان والحياة والطبيعة، وأن هذا الشعر لم يكن عاجزاً عن استيعاب الإسلام استيعاباً يعزز أصالته، ويبعده عن التقليد، ويثبت عمق إحساس شعرائه واستقلاليتهم في التعبير، وتأتي الدراسة الفنية إتماماً لطرفي معادلة التوازن الإسلامي في الأدب بين الفكر والفن، وذلك في خمسة مباحث: درس الأول منها هيكل القصيدة ووحدتها، فرأى فواتح إسلامية للقصائد تمثلت في تسبيح الله، والدعاء، والمناجاة، والترحم على الشهداء، والحكم الإسلامية الخالصة، وذم الخمر، والتوبة، وحمد الله وشكره، وقد ختم الشعراء قصائدهم بأبيات على صيغة المثل في سهولة إيقاعه، أو بجواب على سؤال كان الشاعر قد عرضه في فاتحة القصيدة، وقد وفق الشعراء في ربط مطلع القصيدة بعاطفتها وخاتمتها معبرين عن تجربة إيمانية رائدة.
ورأينا في مقدمات القصائد التي تصدرت أكثر من نصف قصائد الشعر الإسلامي ـ حسبما أحصينا ـ رموزاً الحياة الدنيا، وصلة الرحم، والنصر، وحياة الجاهلية، ورأينا محاورات ـ بين الشاعر وعاذلاته على الجهاد والكرم والسفر ـ أصابها تحول عظيم في المنبع الفكري، ورأينا أن العاذلات كن حقيقيات حيناً ورمزاً حيناً آخر، واختفت من الشعر الإسلامي مقدمات وصف الرحلة والظعائن، تلك الرحلات التي كانت رماً للعلاقات القبلية وصلات الرحم المتقطعة، والأحلاف الموصولة، وكان اختفاؤها نابعاً من اختفاء دواعيها، لأن الإسلام جاء بدولة الأمة، وجمع القبائل بالوحدة والتوحيد، واستقرت الحال الاقتصادية للقبائل بما تهيأ لها من العطاء من بيت المال.
وبرع الشعراء في التخلص (حسن الانتقال) من موضوع إلى آخر في القصيدة بخفاء لا يشعر به المتلقى.
واعتدل طول القصائد وارتبط بالتجربة الشعورية التي صدرت عنها القصيدة وقد نبع الاعتدال والتوسط في طول القصيدة بسبب غياب المقدمات حيناً، وإيجازها حيناً آخر، أو اقتصار القصيدة على موضوع واحد.
وأوشكت الوحدة الموضوعية أن تسود الشعر الإسلامي كله ـ إذا احتسبنا المقدمة جزءاً أساسياً من موضوع القصيدة ـ تأصيلاً لوحدة الأمة والعبادة وسمة من سمات تطور هذا الشعر، وتمثلت الوحدة العضوية أيضاً في القصيدة الإسلامية، لأن العواطف والتجارب في القصيدة تتجه لإقامة موقف إيماني موحد من الإنسان والحياة والطبيعة.
ودرس المبحث الثاني اللغة والمعاني والأسلوب، فتبين أن الشعر الإسلامي استقى لغته من لغة القرآن الكريم، وغذته الحضارة بنعيمها، واقتربت هذه اللغة من لغة الحياة اليومية التي عدها إليوت شرطاً من شروط الإبداع الشعري، وكانت لغة واقعية جمعت البدوي والحضري، وانسجمت مع الإنسان في موقفه من الحياة والطبيعة وضوحاً وسهولة ويسراً، وأعرضت عن الغرابة وغدت أكثر قدرة وطواعية على إبراز العاطفة التي تضمنها تجربة الشاعر. وحملت ألفاظها دلالات أوسع مدى من دلالاتها السابقة بفضل ثقافة الشاعر التي طغت عليها الثقافة القرآنية، وبفضل تحول الحياة إلى جانب الإسلام.
واختصت معاني شعر المديح بفضائل النفس الإنسانية ومن العقل والعفة والعدل والشجاعة والرفعة، ونصر الإسلام وحسن السيرة والسياسة والعلم والحلم والورع والرأفة والرحمة والكرم والهيبة.
واتجهت معاني الغزل إلى الأوصاف الشخصية للمرأة بعيداً عن الإثارة والمفاتن، ملتزمة جانب العفاف وجمال الخلق والسيرة.
وجاء شعر الرثاء بمعاني الصبر، واحتساب الثواب في الآخرة، وتأكيد نعيم الجنة والخلود، وإبراز دور الشهيد في الدنيا الآخرة وضرب الحكم والأمثال.
وبنى الهجاء معانيه على هدم قيم المروءة الإسلامية في شخص المهجو، مع السخرية منه والهزء به، بعيداً عن الفحش إلا نادراً.
وأما الأساليب فقد كان أغلب الشعر الإسلامي مطبوعاً خالياً من التكلف بعيداً عن الصنعة، كما جاء كثير منه على الأسلوب التعبيري (الموحي) الذي ينشط الذكاء لاستشفاف الفكرة، وجاء بعضه على الأسلوب التقريري المباشر الذي يصلح في شعر الوصايا وسوح الوغى لأحداث التأثير السريع.
وكان أسلوب المثل من الأساليب التي أكدها القرآن الكريم، فجاء الشعر الإسلامي متأثراً به في تركيز الفكرة وتكثيف المعنى في صياغة سهلة واضحة مُنغمة يسهل حفظها وذيوعها.
واعتمد الشعراء الأضداد في المطابقة والمقابلة بين المواقف والمعاني والأفكار والألفاظ الإسلامية وما يناقضها، كما لجأوا إلى الكناية التي استمدوا بعض مدلولاتها من التصور الإسلامي.
ودرس المبحث الثالث الصورة الشعرية وفق موضوعات الشعر بمفهوم أوسع من مفهوم الصورة البلاغية، فرأينا قدرة الشاعر على صوغ صور جزئية تجتمع لتكون صورة كلية معتمدين على الفكرة والعاطفة معياراً لإسلاميتها، وكانت الصور أنواعاً وألواناً، منها: الحسية والذهنية، وتقوم على التجسيم والتشخيص والاستعارة والكناية والمقابلة والتشبيه والطباق، يرسمها اللون والظل والحركة والصوت واللمس والبصر، وقد تكون جزئية، وقد تكون متكاملة، أو مكتظة، يستقى الشاعر مضمونها من المضمون الإنساني العام بعامة، ومن المضمون الإسلامي بخاصة، ومنها صور نادرة ومبتكرة تشهد لتطور الشعر الإسلامي وأصالته.
ودرس المبحث الرابع الإيقاع الخارجي بإيجاز وتلبث عند الإيقاع الداخلي، لأنه ميدان البراعة الحقيقية للشاعر يحققه بوسائل هي: التكرار الذي يحدث التأكيد والمتعة والتنغيم، وكثر في الشعر الإسلامي وتنوع تأثراً بأسلوب القرآن الكريم. فمنه تكرار شطر بيت من الشعر أو جملة أو لفظة أو حروف أو ضمائر أو أسماء، وأشرنا إلى أن تكرار الحروف من ألصق أنواع التكرار بالفن، لأنه يحقق انسجاماً صوتياً متناسقاً، ولا يتفوق عليه في تحقيق هذا الانسجام سوى تكرار الصيغ الصرفية، لأنه يتساوق مع النفس ويفتح أبواباً رحبة للخيال، ويستجن وراء السطور، وهناك تكرار حسن التقسيم، والتكرار الممهد للقافية الذي يشرك المتلقى في متعة توقع القاضية في البيت.
ودرس المبحث الخامس الأداء القصصي. فرأينا أن القصائد التي اقتربت من القصصية قد تأثر الشاعر فيها بأسلوب القصص القرآني، ونبعت موضوعاتها من التصور الإسلامي للإنسان والحياة والطبيعة، وكثيراً ما يستمد الحدث توجهه من قدرة الله سبحانه في شعر الحرب والجهاد. وسادت بعض تلك القصص نزعة درامية هي دليل على تطور هذا الشعر ورقيه درجة في سلم الفن الشعري.
وبعد فثمة شهادات أنصفت الرسالة وصاحبها، أدلة بها المختصون الأجلاء في جلسة المناقشة منها:
أولاً: ما قاله الأستاذ الدكتور سامي مكي العاني: ((ومما يحمد للباحث صفاء عقيدته وغيرته الإسلامية وشهامته العربية في الدفاع عن المثل الإسلامية والأخلاق العربية ومناقشاته العلمية للأفكار المضللة التي تضمنتها بعض الكتب الحديثة.
وأن الباحث ظل وفياً للفكرة التي يحملها والمنهج الذي ارتضاه في كل رسالته منذ المقدمة إلى الخاتمة بلا تردد أو ضعف أو تناقض.
وكان شجاعاً وعلمياً وجريئاً في مناقشة من يعتقد بشططه في الأحكام وتصديه المنطقي لذلك الشطط والزيغ)).
ثانياً: قول الأستاذ الدكتور جليل رشيد فالح: ((تكتسب هذه الرسالة خصوصيتها من خصوصية الإسلام نفسه، فقد رسمت ـ على نحو عملي تطبيقي ـ معالم الأدب المنتمي، بعد ن مضت حقبة طويلة من الزمن. ومصطلح الأدب الإسلامي على ألسنة الباحثين وأسلات أقلام الكتاب التقليديين فقد هوية الانتماء محكومة نظراتهم ورؤاهم بالإطار الزمني لهذا المصطلح...
أكبر فيك إقدامك على هذا العمل الذي لا يتأتى إلا لمن يملك الثقة الكاملة بالنفس وحظاً وافيراً من الرؤية الإسلامية الحصيفة الناضجة وقد فعلت)).
ثالثاً: قول الأستاذ الدكتور حازم عبدالله خضر: ((أحمد الله تعالى على أني رأيت رسالة تنطق باسم الأدب الإسلامي، وأحمد الله كذلك أن هيأ لها باحثاً بذل جهداً كبيراً في أن تكون رسالته معبرة عن أمرين مهمين:
أولهما: أن هناك أدباً إسلامياً يهدف إلى العقيدة ويصدر عنها ويلتزم بمضامينها ويعبر عن أهدافها وغاياتها تلك الأهداف التي أنزلها الله عزوجل لتتكون مناراً للبشرية على مر الدهور والعصور.
وثانيهما: ((عمله على رفع فرية أو مقولة طالما رددها كثيرون دون أن يتدبروا وأن يرجعوا إلى هذا الأدب حين كانوا يقولون إن الأدب العربي في صدر الاسلام قد ضعف بسبب العقيدة وأنه في ظل الإسلام غيره فيما كان قبل الإسلام)).
المصدر: مجلة المسلم المعاصر/العدد60/1991م