السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشعر الأندلسي: مميزاته وخصائصه
مقدمة:
إنَّ الباحث في تراث الأندلُس ليجد من أمر هذه البلاد عجبًا، سواء في الثقافة أو الحضارة والعمران، بشكلٍ جعل من الأندلس على مرِّ التَّاريخ معينًا لا ينضب، يُقبِل عليه أهل الشرق والغرب على حدِّ السواء، بدراسات وأبحاث لم تنقطع يومًا، ولعلَّ ذلك راجع بالأساس إلى الحضارة الإسلاميَّة التي سادت لقرون عدَّة في هذه البقعة، هذا أوَّلاً.
وثانيًا: لما اتَّسم به أهلُها من مميِّزات وصفات جعلتْهم أحرَصَ النَّاس على التفرُّد والتميُّز، وفي هذا الصَّدد يقول المقري: "حال أهل الأندلس في فنون العلوم، فتحقيق الإنصاف في شأنِهم في هذا الباب أنَّهم أحْرَص النَّاس على التميُّز، فالجاهل الذي لم يوفِّقْه الله للعِلْم يَجهد أن يتميَّز بصنعة ويربأ بنفسه أن يُرى فارغًا عالة على الناس؛ لأنَّ هذا عندهم في نهاية القُبح، والعالِم عندهم معظَّم من الخاصَّة والعامَّة، يُشار إليْه ويُحال عليْه، وينْبه قدره وذكْرُه عند الناس"[1].
وهي من الصفات الحميدة التي إن توفَّرت في شعب ما، وضعتْه في المراتب السامية، ودفعتْه إلى مدارج التقدُّم والازدهار[2].
وسنحاول في هذه المقالةالوقوف على مكانة الشِّعْر عند الأندلسيين، ومميّزاته وخصائصه وأغراضه الأدبيَّة، مع الإشارة إلى مظاهر التميُّز والتفرُّد الأندلسي الذي دفعهم إلى ابتكار أجناس أدبيَّة خاصَّة باللغة العربية الفصيحة، سمِّيت بالموشَّحات، وأخرى بالعامِّية سميت بالزَّجل.
-أوَّلاً: مكانة الشِّعْر عند الأندلسيِّين:
كان الشِّعر على مرِّ العصور وسيلةً ترْفع صاحبها إلى أسمى مراتب الدَّولة، بغضِّ النَّظر عن عقيدة الشَّاعر ودينه، فقد نبغ عددٌ من الشُّعراء غير المسلمين، من بيْنِهم شواعر مثل: قسمونة بنت إسماعيل[3]، وحمدونة بنت زياد[4]، ... ولم يكن لشيءٍ من ذلك أن يحدث لولا تسامُح سائر المجتمع وتجانُسٍ أرْسى أصوله بين الناس[5].
وقد حظِي الشِّعْر عند الأندلسيِّين بمكانة عظيمة، وكان للشُّعراء من ملوكهم وجاهة ولهم عليهم وظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم[6]، وهو أمرٌ لم يكن مختلفًا كثيرًا عما كان للشُّعراء عند العرب.
وللإشارة فإنَّ بلاد الأندلُس عُرِفَت بِجمال مناظرِها وأوْضاعها الطبيعيَّة الخلاَّبة، فأفاض الشُّعراء في التغنِّي بمناظرها[7]، وقال فيها الوزير ابن الحمارة الأندلسي:
لاحَتْ قُرَاهَا بَيْنَ خُضْرَةِ أَيْكِهَا كَالدُّرِّ بَيْنَ زَبَرْجَـدٍِ[8] مَكْنُـون[9]
وكذلك قول ابن سفر المريني متغنِّيًا بمشاهد الأندلس ومواطن الجمال فيها:
فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ تَلْتَذُّ نَعْمَاءُ وَلا يُفَارِقُ فِيهَا القَلْبَ سَرَّاءُ
وَلَيْسَ فِي غَيْرِهَا بِالعَيْشِ مُنْتَفَعٌ وَلا تَقُومُ بِحَقِّ الأُنْسِ صَهْبَاءُ
وَأَيْنَ يُعْدَلُ عَنْ أَرْضٍ تَحُضُّ بِهَا عَلَى المُدَامَةِ أَمْوَاهٌ وَأَفْيَاءُ
وَكَيْفَ لا يُبْهِجُ الأَبْصَارَ رُؤْيَتُهَا وَكُلُّ رَوْضٍ بِهَا فِي الوَشْيِ صَنْعَاءُ
أَنْهَارُهَا فِضَّةٌ وَالمِسْكُ تُرْبَتُهَا وَالخَزُّ رَوْضَتُهَا وَالدُّرُّ حَصْبَاءُ[10]
ويقول في هذا الصدد لسان الدين بن الخطيب[11]:
غِرْنَاطَةٌ مَا لَهَا نَظِيرٌ مَا مِصْرُ مَا الشَّامُ مَا العِرَاقُ
مَا هِيَ إِلاَّ العَرُوسُ تُجْلَى وَتِلْكَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ[12]
ولعلَّ هذه الطبيعة هي التي غذت فيهم الروح الموسيقيَّة المرحة التي حدت بهم إلى أن يتفنَّنوا في الأوزان الشعريَّة، فيضيفوا إلى ما هو معروف منْها أوزانًا في غاية الخفَّة والجمال، وتعد الموشحات خير دليل.
ثانيا: نشأة الشعر الأندلسي:
ظهر الشعر الأندلسي في ظروف مختلِفة عن مثيله في الشرق، ظروف تتَّصل بطبيعة الأندلس وتنوُّعها وغنًى بمواطن جمالها، وأخرى متَّصلة بالتكوين الثقافي للسكَّان، فلأوَّل مرة يلتقي الجنس العربي مع أجناس لاتينيَّة وقوطية وبربريَّة ويهوديَّة على أرض واحدة، وتتعايش تحت سمائها الأدْيان السماوية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحيَّة، فيسمع صوت المؤذن إلى جانب رنين أجراس الكنائس والبِيَع، وتتحدَّث العربيَّة إلى جانب الأمازيغية، الإسبانية والكتلانية، فنشأ من التعايش بين هذه الأديان والأجناس والثقافات واللغات جوٌّ خاص وحضارة فذَّة.
إنَّ السماحة التي ظلَّلت المجتمع الأندلُسي وبعده عن التعصُّب المقيت، لعِب دورًا كبيرًا في خلق التَّعايُش والتَّجانُس بين سكَّان الأندلس، كان أثره المباشر على الشِّعْر الأندلسي.
هذا؛ وقد برز منهم بعض الأعلام في ميادين الأدَب والثقافة مثل ابن المعز الإشبيلي، الَّذي كان يكنى بأبي إسحاق، فقد كان شاعرًا مجيدًا ظهر في أيَّام المعتمد بن عبَّاد، ومن لطائف شعرِه قوله في كلبة صيد:
لَمْ أَرَ مَلْهًى لِذِي اقْتِنَاصِ وَمَقْنَعَ الكَاسِبِ الحَرِيصِ
كَمِثْلِ خَطْلاءَ ذَاتِ جِيدٍ أَغْيَدَ تِبْرِيَّةِ القَمِيصِ
كَالقَوْسِ فِي شَكْلِهَا وَلَكِنْ تَنْفُذُ كَالسَّهْمِ لِلقَنِيصِ[13]
لَم يكن ظهور الشِّعر الأندلُسي المعبِّر عن البيئة نتيجةَ عمل فرْدٍ واحد، إنَّما هو عبارة عن ملامح نجِدُها لدى شُعراء كثيرين على نحْوٍ مُتفاوت فيما بينهم، وتزداد مع الأيَّام وضوحًا إلى أن أصبح الشِّعر الأندلسي مميَّز الخصائص والسِّمات.
الشَّيء الذي يدفع للقَول بأنَّ اكتمال الشَّخصيَّة الشعرية الأندلسيَّة لم يؤدِّ إلى إثبات الوجدان الأندلسي المستقل فحسب؛ بل ساهم بشكْلٍ كبير في ظهور إبداع أندلسي أصيل شهِدته الأندلس، متمثِّلٍ في الموشَّحات والزَّجل، باعتبارهما فنَّين غير مسبوقين، كانا من ثمار التميز الأندلسي.
ـــــــــــــــــ
[1] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر: بيروت، لبنان، السنة: 1968، ج:1، ص: 220.
[2] الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشكعة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، السنة: 1979، ص: 71.
[3] قسمونة بنت إسماعيل النغريلة: شاعرة أندلسيَّة يهودية، عاشت في حوالي سنة 1009م، وللأسف لم تذكر المصادر نسبَها كاملاً، وكل ما ذكرته هي بعض المقاطع من موشَّحاتها، ومنها أنَّها ذات يوم نظرت إلى وجهها في المرآة وكانت عانسًا فأنشدت:
أرَى رَوْضَةً قَدْ حَانَ مِنْهَا قِطَافُهَا وَلَسْتُ أَرَى الجَانِي يَمُدُّ لَهَا يَدَا
فَوَا أَسَفًا يَمْضِي الشَّبَابُ مُضَنِّيًا وَيَبْقَى الَّذِي مَا إِنْ أُسَمِّيهِ مُفْرَدَا
[4] هي حمدة ويقال حمدونة بنت زياد بن تقي، من قرية بادي من أعمال وادي آش في المغرب، كان أبوها زياد مؤدبًا، وبوظيفة أبيها اشتهرتْ ونسبت فقالوا: حمدة بنت المؤدِّب، ومن ألقابها خنساء المغرب، ومن أشعارها:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ سَقَاهُ مُضَاعَفُ الغَيْثِ العَمِيمِ
حَلَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا حُنُوَّ المُرْضِعَاتِ عَلَى الفَطِيمِ
وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلالاً أَلَذَّ مِنَ المُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ
للمزيد عن هذه الشاعرة انظر: معجم الأدباء، ياقوت الحموي الرومي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ج: 3، ص:1211، وأعلام النساء، عمر رضا كحالة، مؤسَّسة الرسالة، مصر، ج: 1، ص: 292 - 293.
[5] الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشكعة، م س، ص: 75.
[6] نفح الطيب من غصن الأندلُس الرَّطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 222.
[7] الأدب الأندلُسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشَّكعة، م س، ص: 409.
[8] جاء في "لسان العرب"، الزَّبَرْجَد: حجرٌ يشبه الزمرُّد وهو ألوانٌ كثيرة، والمشْهور منها الأخضر.
[9] نفح الطيب من غصن الأندَلُس الرَّطيب، أحمد بن محمد المقّري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر، بيروت، لبنان، السنة: 1968، ج: 1، ص: 148.
[10] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 209، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، دار المعارف للنشر، الطبعة: العاشرة. دون تاريخ، ص: 411.
[11] لسان الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد بن الخطيب، انتقلت أسرته من قرطبة إلى طليطِلة بعد وقعة الربض أيَّام الحكم الأوَّل، ثم رجعت إلى مدينة لوشة واستقرَّت بها، وبعد ولادة لسان الدِّين في رجب سنة 713هـ انتقلت العائلة إلى غرناطة حيث دخل والده في خدمة السلطان أبي الحجاج يوسف، وفي غرناطة درس لسان الدين الطب والفلسفة والشريعة والأدب، ولما قتل والده سنة 741هـ في معركة طريف كان مُتَرْجَمنا في الثامنة والعشرين، فحلَّ مكان أبيه في أمانة السِّر للوزير أبي الحسن بن الجيّاب.
[12] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 148.
[13] الأدب الأندلسي: موضوعاته و فنونه، مصطفى الشكعة، م س، ص: 80 - 81.
الشعر الأندلسي: مميزاته وخصائصه
مقدمة:
إنَّ الباحث في تراث الأندلُس ليجد من أمر هذه البلاد عجبًا، سواء في الثقافة أو الحضارة والعمران، بشكلٍ جعل من الأندلس على مرِّ التَّاريخ معينًا لا ينضب، يُقبِل عليه أهل الشرق والغرب على حدِّ السواء، بدراسات وأبحاث لم تنقطع يومًا، ولعلَّ ذلك راجع بالأساس إلى الحضارة الإسلاميَّة التي سادت لقرون عدَّة في هذه البقعة، هذا أوَّلاً.
وثانيًا: لما اتَّسم به أهلُها من مميِّزات وصفات جعلتْهم أحرَصَ النَّاس على التفرُّد والتميُّز، وفي هذا الصَّدد يقول المقري: "حال أهل الأندلس في فنون العلوم، فتحقيق الإنصاف في شأنِهم في هذا الباب أنَّهم أحْرَص النَّاس على التميُّز، فالجاهل الذي لم يوفِّقْه الله للعِلْم يَجهد أن يتميَّز بصنعة ويربأ بنفسه أن يُرى فارغًا عالة على الناس؛ لأنَّ هذا عندهم في نهاية القُبح، والعالِم عندهم معظَّم من الخاصَّة والعامَّة، يُشار إليْه ويُحال عليْه، وينْبه قدره وذكْرُه عند الناس"[1].
وهي من الصفات الحميدة التي إن توفَّرت في شعب ما، وضعتْه في المراتب السامية، ودفعتْه إلى مدارج التقدُّم والازدهار[2].
وسنحاول في هذه المقالةالوقوف على مكانة الشِّعْر عند الأندلسيين، ومميّزاته وخصائصه وأغراضه الأدبيَّة، مع الإشارة إلى مظاهر التميُّز والتفرُّد الأندلسي الذي دفعهم إلى ابتكار أجناس أدبيَّة خاصَّة باللغة العربية الفصيحة، سمِّيت بالموشَّحات، وأخرى بالعامِّية سميت بالزَّجل.
-أوَّلاً: مكانة الشِّعْر عند الأندلسيِّين:
كان الشِّعر على مرِّ العصور وسيلةً ترْفع صاحبها إلى أسمى مراتب الدَّولة، بغضِّ النَّظر عن عقيدة الشَّاعر ودينه، فقد نبغ عددٌ من الشُّعراء غير المسلمين، من بيْنِهم شواعر مثل: قسمونة بنت إسماعيل[3]، وحمدونة بنت زياد[4]، ... ولم يكن لشيءٍ من ذلك أن يحدث لولا تسامُح سائر المجتمع وتجانُسٍ أرْسى أصوله بين الناس[5].
وقد حظِي الشِّعْر عند الأندلسيِّين بمكانة عظيمة، وكان للشُّعراء من ملوكهم وجاهة ولهم عليهم وظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم[6]، وهو أمرٌ لم يكن مختلفًا كثيرًا عما كان للشُّعراء عند العرب.
وللإشارة فإنَّ بلاد الأندلُس عُرِفَت بِجمال مناظرِها وأوْضاعها الطبيعيَّة الخلاَّبة، فأفاض الشُّعراء في التغنِّي بمناظرها[7]، وقال فيها الوزير ابن الحمارة الأندلسي:
لاحَتْ قُرَاهَا بَيْنَ خُضْرَةِ أَيْكِهَا كَالدُّرِّ بَيْنَ زَبَرْجَـدٍِ[8] مَكْنُـون[9]
وكذلك قول ابن سفر المريني متغنِّيًا بمشاهد الأندلس ومواطن الجمال فيها:
فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ تَلْتَذُّ نَعْمَاءُ وَلا يُفَارِقُ فِيهَا القَلْبَ سَرَّاءُ
وَلَيْسَ فِي غَيْرِهَا بِالعَيْشِ مُنْتَفَعٌ وَلا تَقُومُ بِحَقِّ الأُنْسِ صَهْبَاءُ
وَأَيْنَ يُعْدَلُ عَنْ أَرْضٍ تَحُضُّ بِهَا عَلَى المُدَامَةِ أَمْوَاهٌ وَأَفْيَاءُ
وَكَيْفَ لا يُبْهِجُ الأَبْصَارَ رُؤْيَتُهَا وَكُلُّ رَوْضٍ بِهَا فِي الوَشْيِ صَنْعَاءُ
أَنْهَارُهَا فِضَّةٌ وَالمِسْكُ تُرْبَتُهَا وَالخَزُّ رَوْضَتُهَا وَالدُّرُّ حَصْبَاءُ[10]
ويقول في هذا الصدد لسان الدين بن الخطيب[11]:
غِرْنَاطَةٌ مَا لَهَا نَظِيرٌ مَا مِصْرُ مَا الشَّامُ مَا العِرَاقُ
مَا هِيَ إِلاَّ العَرُوسُ تُجْلَى وَتِلْكَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ[12]
ولعلَّ هذه الطبيعة هي التي غذت فيهم الروح الموسيقيَّة المرحة التي حدت بهم إلى أن يتفنَّنوا في الأوزان الشعريَّة، فيضيفوا إلى ما هو معروف منْها أوزانًا في غاية الخفَّة والجمال، وتعد الموشحات خير دليل.
ثانيا: نشأة الشعر الأندلسي:
ظهر الشعر الأندلسي في ظروف مختلِفة عن مثيله في الشرق، ظروف تتَّصل بطبيعة الأندلس وتنوُّعها وغنًى بمواطن جمالها، وأخرى متَّصلة بالتكوين الثقافي للسكَّان، فلأوَّل مرة يلتقي الجنس العربي مع أجناس لاتينيَّة وقوطية وبربريَّة ويهوديَّة على أرض واحدة، وتتعايش تحت سمائها الأدْيان السماوية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحيَّة، فيسمع صوت المؤذن إلى جانب رنين أجراس الكنائس والبِيَع، وتتحدَّث العربيَّة إلى جانب الأمازيغية، الإسبانية والكتلانية، فنشأ من التعايش بين هذه الأديان والأجناس والثقافات واللغات جوٌّ خاص وحضارة فذَّة.
إنَّ السماحة التي ظلَّلت المجتمع الأندلُسي وبعده عن التعصُّب المقيت، لعِب دورًا كبيرًا في خلق التَّعايُش والتَّجانُس بين سكَّان الأندلس، كان أثره المباشر على الشِّعْر الأندلسي.
هذا؛ وقد برز منهم بعض الأعلام في ميادين الأدَب والثقافة مثل ابن المعز الإشبيلي، الَّذي كان يكنى بأبي إسحاق، فقد كان شاعرًا مجيدًا ظهر في أيَّام المعتمد بن عبَّاد، ومن لطائف شعرِه قوله في كلبة صيد:
لَمْ أَرَ مَلْهًى لِذِي اقْتِنَاصِ وَمَقْنَعَ الكَاسِبِ الحَرِيصِ
كَمِثْلِ خَطْلاءَ ذَاتِ جِيدٍ أَغْيَدَ تِبْرِيَّةِ القَمِيصِ
كَالقَوْسِ فِي شَكْلِهَا وَلَكِنْ تَنْفُذُ كَالسَّهْمِ لِلقَنِيصِ[13]
لَم يكن ظهور الشِّعر الأندلُسي المعبِّر عن البيئة نتيجةَ عمل فرْدٍ واحد، إنَّما هو عبارة عن ملامح نجِدُها لدى شُعراء كثيرين على نحْوٍ مُتفاوت فيما بينهم، وتزداد مع الأيَّام وضوحًا إلى أن أصبح الشِّعر الأندلسي مميَّز الخصائص والسِّمات.
الشَّيء الذي يدفع للقَول بأنَّ اكتمال الشَّخصيَّة الشعرية الأندلسيَّة لم يؤدِّ إلى إثبات الوجدان الأندلسي المستقل فحسب؛ بل ساهم بشكْلٍ كبير في ظهور إبداع أندلسي أصيل شهِدته الأندلس، متمثِّلٍ في الموشَّحات والزَّجل، باعتبارهما فنَّين غير مسبوقين، كانا من ثمار التميز الأندلسي.
ـــــــــــــــــ
[1] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر: بيروت، لبنان، السنة: 1968، ج:1، ص: 220.
[2] الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشكعة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، السنة: 1979، ص: 71.
[3] قسمونة بنت إسماعيل النغريلة: شاعرة أندلسيَّة يهودية، عاشت في حوالي سنة 1009م، وللأسف لم تذكر المصادر نسبَها كاملاً، وكل ما ذكرته هي بعض المقاطع من موشَّحاتها، ومنها أنَّها ذات يوم نظرت إلى وجهها في المرآة وكانت عانسًا فأنشدت:
أرَى رَوْضَةً قَدْ حَانَ مِنْهَا قِطَافُهَا وَلَسْتُ أَرَى الجَانِي يَمُدُّ لَهَا يَدَا
فَوَا أَسَفًا يَمْضِي الشَّبَابُ مُضَنِّيًا وَيَبْقَى الَّذِي مَا إِنْ أُسَمِّيهِ مُفْرَدَا
[4] هي حمدة ويقال حمدونة بنت زياد بن تقي، من قرية بادي من أعمال وادي آش في المغرب، كان أبوها زياد مؤدبًا، وبوظيفة أبيها اشتهرتْ ونسبت فقالوا: حمدة بنت المؤدِّب، ومن ألقابها خنساء المغرب، ومن أشعارها:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ سَقَاهُ مُضَاعَفُ الغَيْثِ العَمِيمِ
حَلَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا حُنُوَّ المُرْضِعَاتِ عَلَى الفَطِيمِ
وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلالاً أَلَذَّ مِنَ المُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ
للمزيد عن هذه الشاعرة انظر: معجم الأدباء، ياقوت الحموي الرومي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ج: 3، ص:1211، وأعلام النساء، عمر رضا كحالة، مؤسَّسة الرسالة، مصر، ج: 1، ص: 292 - 293.
[5] الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشكعة، م س، ص: 75.
[6] نفح الطيب من غصن الأندلُس الرَّطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 222.
[7] الأدب الأندلُسي: موضوعاته وفنونه، مصطفى الشَّكعة، م س، ص: 409.
[8] جاء في "لسان العرب"، الزَّبَرْجَد: حجرٌ يشبه الزمرُّد وهو ألوانٌ كثيرة، والمشْهور منها الأخضر.
[9] نفح الطيب من غصن الأندَلُس الرَّطيب، أحمد بن محمد المقّري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر، بيروت، لبنان، السنة: 1968، ج: 1، ص: 148.
[10] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 209، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، دار المعارف للنشر، الطبعة: العاشرة. دون تاريخ، ص: 411.
[11] لسان الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد بن الخطيب، انتقلت أسرته من قرطبة إلى طليطِلة بعد وقعة الربض أيَّام الحكم الأوَّل، ثم رجعت إلى مدينة لوشة واستقرَّت بها، وبعد ولادة لسان الدِّين في رجب سنة 713هـ انتقلت العائلة إلى غرناطة حيث دخل والده في خدمة السلطان أبي الحجاج يوسف، وفي غرناطة درس لسان الدين الطب والفلسفة والشريعة والأدب، ولما قتل والده سنة 741هـ في معركة طريف كان مُتَرْجَمنا في الثامنة والعشرين، فحلَّ مكان أبيه في أمانة السِّر للوزير أبي الحسن بن الجيّاب.
[12] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، م س، ج: 1، ص: 148.
[13] الأدب الأندلسي: موضوعاته و فنونه، مصطفى الشكعة، م س، ص: 80 - 81.