"كم ظلمتني يا أبي"
في كثير من الأحيان أعجب لحال الجمهور الهندي,فكثير من الأفلام الرائعة والمتميزة تفشل في شباك التذاكر, ولا يدخل ليراها سوى قلة قليلة من متابعي السينما,على خلاف عدد من الأفلام المتوسطة المنتوج والتي تجد إقبالا جماهيريا مكثفا فقط لكونها تشمل على ممثل محبوب أو مشاهد تغلب عليها الفانتازيا والحماس.
« ghandi, my father » واحد من الأفلام المتميزة التي أتحفتنا بها السينما الهندية في سنة 2007, فيلم يجمع بين كثير من العناصر السينمائية ويربط بين عدد من المواصفات التي لا نجدها إلا في الأفلام العالمية الكبرى,لكن رغم هذا فالفيلم فشل في شباك التذاكر,في مشهد غريب ينبئنا بحقيقة الذوق الجمالي لدى اغلب متابعي بوليوود في الهند.
تابعت الفيلم البارحة للمرة الأولى,وكم تمنيت لو أنني شاهدته قبل ذلك,فقد كنت على علم به,لكنني لم أود مشاهدته بعد اطلاعي على نتائج طرحه في السوق,لكن ذلك التقييم الذي وجدته في موقع IMDB والذي أعطى للفيلم معدلا متميزا جعلني ابحث عنه بشغف إلى ان تمكنت من اقتنائه.
الفيلم من إخراج فيروز عباس خان ومن إنتاج انيل كابور,وقد قام بأداء أدواره الرئيسية كل من اكشي خانا و بهوميكا شاولا و دارشان جاريوالا, وهو ماخوذ من وقائع حقيقية,لان موضوعه تناول جوانبا من سيرة الرجل العظيم غاندي الذي أنار الهند بأفكاره وكان من الأسباب الرئيسة التي كنت وراء إخراج المستعمر الانجليزي من البلاد.
اعتقد أن الكثير منا يعرف سيرة غاندي,ذلك الرجل الذي كان محاميا في جنوب إفريقيا وناضل ضد التمييز العنصري بين السود والبيض,قبل أن يترك المحاماة ويتفرغ للعمل السياسي وللنضال ضد الاحتلال,كثير من يعرف عددا من تفاصيل هذا المناضل الكبير,لكن قليل منا من يعرف أن غاندي كان أبا لجميع الهنود باستثناء ابنه!
ابن غاندي,هاريلال, كان عليه ان يدفع ثمن مبادئ أبيه حتى ولو لم تكن تتماشى مع طموحاته,فقتل في بادئ الأمر حلمه بان يكون محاميا,ثم ابتعد عن زوجته وأولاده,ثم تخلى فيما بعد عن الدراسة وعن التحصيل لان والده كان يقول له دائما ان المراكز المتقدمة في الحياة لا تأتي بالشهادات,هاريلال كان يتمنى أن يكون اسم غاندي الذي يحمله تشريفا له ومساعدة له لان يحمل تلك الهيبة وان يحقق أحلامه,لكنه اكتشف أن هذا الاسم كان عبئا عليه,عبئ جعله يذوق السجن ويحتسي طعم التشرد والمهانة!
"هاريلال" قتلت أحلامه أولا على يد والده الذي أراد منه مثالا أخر غير الذي يريده الابن,وثانيا على يده وذلك عندما تجاذبته الأمواج فلم يعرف ماذا يختار,هل يختار بين الدراسة أو العمل؟؟هل يختار بين الهند او جنوب إفريقيا؟هل يختار بين العمل الصالح ام الطالح؟هل يختار بين الهندوسية او الإسلام؟؟اختيارات لم يستطع ان يسلك طريق أي منها لتكون النهاية كمجرد سكير متشرد نزلت روحه في احد شوارع مومباي.
الفيلم تكمن عظمته في كونه بين جوانب مظلمة من سيرة غاندي,هذا الشخص العظيم الذي احترمه الجميع سوى ابنه,هذا المناضل الشريف الذي افرح الجميع الا ابنه,هذا الإنسان المميز الذي أعطى الأمل للجميع باستثناء ابنه...
فنيا,إخراج الفيلم كانت فيه لمحات متعددة من الإبداع,أولا عن طريق تقنية الفلاش باك والتي ابدع فيها المخرج باقتدار,زد على ذلك تقنية تصوير الأحداث الكبرى في تاريخ الهند,والتي تحس لدى مشاهدتها انك بصدد تحليل وثيقة تاريخية وليس بصدد مشاهدة فيلم ما,الموسيقى التصويرية كانت موجهة باقتدار,موسيقى امتزجت بالشكل الهادئ للفيلم, وانسابت معه بشكل حريري رغم عدم وجود تلك الأغاني المعتادة في بوليوود,أما حوار الفيلم فقد كان مسبوكا بطريقة احترافية,حوار تناغم مع أحداث الفيلم ومع شخوصه,فحوارات غاندي كانت حوارات هادئة ورزينة على خلال حوارات "هاريلال" التي اتسمت بنوع من الغضب والانفعال.
أكثر ما شدني في الفيلم , كان هو الأداء التمثيلي,خاصة لاكشي خانا الذي أدى دور "هاريلال" بكثير من الإتقان والإبداع,أداء اكشي كان صادقا وكان متناسقا مع ثيمة الفيلم ومع الشخصية التاريخية لهاريلال,فبين الابن المطيع لأباه,وبين السكير والمسلم والهندوسي والطالب,ظهر لنا اكشي خانا كواحد من عباقرة التمثيل في بوليوود, فان تجمع بين عدة ادوار متحولة في فيلم واحد,لشيء لا يقوم به إلا ممثل محترف بكل معنى الكلمة.
« ghandi,my father » ليس بذلك الفيلم الموجه للعامة وليس بذلك الفيلم الذي تأمل من ورائه قضاء بعض الوقت بل هو من طينة تلك الأفلام المتميزة التي تستلزم منك ورقة وقلم أثناء وبعد مشاهدتها,فهو ليس بفيلم تجاري ترى من خلاله أشكال جديدة للسيارات او الموضة,وليس بفيلم يحتوى على ممثلين بلغوا من الشهرة عتيا,بل هو فيلم يجعل عددا من الأسئلة تتفاعل في عقلك عن ماهية الإبداع الفني الحقيقي.
مجرد نصيحة: شاهدوه ولن تندموا.