Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    موقعة عين جالوت

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 61736
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 33

    موقعة عين جالوت Empty موقعة عين جالوت

    مُساهمة من طرف GODOF الأربعاء 28 أكتوبر - 18:34

    موقعة عين جالوت

    جاء جيش كتبغا وقد امتلأ بالصلف والغرور والكبر تسبقه سمعته العالية في سفك الدماء وتخريب الديار وإفناء البشر.. وقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً.. ومر الجيش غرب بيسان، وانحدر جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتري..
    وبينما قطز في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريبًا..
    سبحان الله!!..
    لابد أن نتساءل..
    أين كان هؤلاء المتطوعون يوم جاءت فرقة تترية بسيطة فاخترقت فلسطين من شمالها إلى جنوبها حتى احتلت مدينة من أواخر المدن في فلسطين: مدينة غزة؟!..
    كيف تحرك هؤلاء الآن إلى سهل عين جالوت؟
    لماذا قعدوا قبل ذلك؟ ولماذا قاموا الآن؟!!
    الإجابة في منتهى البساطة..
    إنها القدوة..
    "التربية بالقدوة"..
    هذه كلمة ذكرناها كثيراً منذ أن تكلمنا عن قطز رحمه الله وعن جيشه الصادق..
    هناك الكثير من المؤمنين الصادقين الذين يريدون خدمة الدين ورفعة الإسلام، لكنهم لا يجدون قدوة صالحة يقلدونها، أو قائداً مخلصاً يتبعونه.. لقد ألف هؤلاء البسطاء في فلسطين أن يروا قوادهم في الشام يعقدون الأحلاف المهينة مع التتار، ويفتحون لهم الحصون والديار، ويمدون لهم الجسور، ويمهدون لهم الطريق..
    لقد افتقد هؤلاء المسلمون البسطاء القدوة الصالحة.. فلم يظهر الخير الكثير الذي بداخلهم، فلما جاء قطز رحمه الله ومن معه من المؤمنين الصادقين، وقطعوا هذا الطريق كله إلى أرض الموقعة، وهم يتقدمون في ثبات، ولم يفعلوا مثلما فعل الناصر يوسف الأيوبي عندما فر بمجرد سماعه أن جيش التتار قد اقترب... لما رأوا كل ذلك تحمست قلوبهم، وخرجت العواطف الكامنة في صدورهم، وتحركت فيهم الحمية لهذا الدين، فهانت عليهم التضحية، وهان عليهم الجهاد..
    نعم هؤلاء ليسوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، لكنهم متحمسون ومتشوقون إلى العمل في سبيل الله.. وهذه الحماسة تنفع كثيراً في ميادين القتال.. كما أن قطز رحمه الله استخدمهم في سلاح الخدمات الخاص بالقوات الإسلامية، ووفر طاقة الجنود الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال، واستخدم هؤلاء الجنود في العمليات القتالية بعد أن قام المتطوعون بدورهم..
    وسلاح الخدمات يشمل نقل العتاد والمعدات، والاهتمام بشئون الطعام والشراب، وإمداد الجنود بالسهام والرماح، ورعاية الخيول، ونقل الجرحى ومداواتهم.. وهذه أعمال كثيرة تستنفد جهداً ووقتاً، وهي ـ وإن كان لا يشترط فيها كفاءة قتالية، ولا مهارة عسكرية - إلا أن لها أهمية قصوى في نجاح المعركة.. وهكذا استفاد قطز رحمه الله من كل طاقات المتطوعين الفلسطينيين.. وكل ميسر لما خلق له..
    ثم إنه بالإضافة إلى هذه الأعمال فإن الجيش المسلم سيظهر في عيون الجيش الكافر أضعافاً مضاعفة، ولا شك أن هذا سيبث الرعب في قلوب الكافرين.. فتكثير سواد المسلمين أمر لا يُستهان به أبداً..
    وإلى جانب أولئك المتطوعين اجتمع الكثير من الفلاحين من القرى المختلفة ممن لا يستطيع قتالاً ولا خدمة، إما لكبر سن أو لعجز أو لمرض، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد كبيرة على طرفي سهل عين جالوت، وقد علت أصواتهم بالتكبير والدعاء، وارتفعت صيحاتهم التشجيعية للقوات الإسلامية، وتحركت ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم بالدعاء لرب العالمين أن ينصر الإسلام وأهله، ويُذل الشرك وأهله..
    كل هذه الأحداث في يوم 24 رمضان من سنة 658 هجرية، وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة: عين جالوت..

    جند الله في جيش التتار!!:
    وبينما هم كذلك جاء رجل من أهل الشام وهو يسرع المسير، ويطلب أن يقابل أمير القوات الإسلامية قطز ومن معه من بقية الأمراء، وقال إنه رسول جاء من قبل "صارم الدين أيبك"..
    وصارم الدين أيبك هو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو عند غزوه بلاد الشام، ثم قبل الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قَبِل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين.. لا ندري هذا، فهذا بينه وبين الله عز وجل..
    لكن ما نعلمه أنه قبيل موقعة عين جالوت قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع!.. وسبحان الله.. "وما يعلم جنود ربك إلا هو"..
    فهذا الرجل لا يعرفه قطز، ولا يعرفه أمراء الجيش الإسلامي، ولكن الله عز وجل وضعه في هذا المكان ليقدم للمسلمين خدمات جليلة.. والذي ساقه في ذلك التوقيت الفريد هو الذي ساق نعيم بن مسعود رضي الله عنه من قبل ليسلم في أثناء غزوة الأحزاب، وليكون سبباً رئيسياً من أسباب نصر المسلمين!!
    ولنلاحظ تدبير رب العالمين: لما جاءت القوات الإسلامية إلى فلسطين، وتحرك كتبغا في اتجاه عين جالوت، أرسل صارم الدين أيبك ذلك الرسول إلى قطز ليخبره ببعض المعلومات الهامة جداً عن جيش التتار..
    وقد نقل هذا الرسول إلى قطز رحمه الله المعلومات التالية:
    ـ أولاً: جيش التتار ليس بقوته المعهودة، فقد أخذ هولاكو معه عدداً من القادة والجند (وذلك عند ذهابه إلى تبريز بفارس)؛ فلم يعد الجيش على نفس الهيئة التي دخل بها إلى الشام، فلا تخافوهم..
    وكانت هذه معلومة في غاية الأهمية فعلاً، لأنها رفعت الروح المعنوية جداً عند من كان في قلبه خوف من التتار، ولابد أنك ستجد في هذا الجيش من يحدث نفسه أو يحدث أخاه عن حروب التتار السابقة، وكيف أنهم أهلكوا البلاد والعباد.. فكانت هذه المعلومة الهامة شحنة قوية أمدت الجيش الإسلامي بطاقة عالية..
    ـ ثانيا: ميمنة التتار أقوى من ميسرتهم، فعلى جيش المسلمين أن يقوي جداً من ميسرته والتي ستقابل ميمنة التتار..
    ـ ثالثاً: (وهو خبر هام) أن الأشرف الأيوبي أمير حمص سيكون في جيش التتار بفرقته، ومعه صارم الدين أيبك، ولكنهم سوف ينهزمون بين يدي المسلمين.. أي أن الرسالة تقول أن الأشرف الأيوبي قد راجع نفسه، وآثر أن يكون مع جيش قطز، ولكنه خرج مع جيش التتار مكيدة لهم، وتفكيكاً لصفهم..
    كانت هذه الأخبار في غاية الأهمية، وجاءت في وقت مناسب، ولكن الحكمة تقتضي ألا يعتمد المسلمون على هذه المعلومات، لأنها قد تكون خدعة من التتار أو من الأشرف الأيوبي أو من صارم الدين أيبك ..
    لذلك قال الأمراء بعضهم لبعض في حكمة بالغة، وخبرة عسكرية فائقة:
    "لا يكون هذا معمولية على المسلمين"..
    يعني لا يكون هذا شيئاً عمله التتار ليخدعوا به المسلمين..
    ومع ذلك أخذ المسلمون حذرهم، واستفادوا من هذه الأمور دون تفريط في إعداد، أو تهاون في الاحتياط والحذر..
    وبذلك انتهى يوم الرابع والعشرين من رمضان..
    وقضى المسلمون الليل في القيام والابتهال والدعاء والرجاء..
    لقد كانت هذه ليلة من أعظم ليالي السنة لأنها في العشر الأواخر من رمضان..
    بل إنها كانت ليلة وترية، ومن المحتمل أن تكون ليلة القدر..
    غير أنها كانت كذلك ليلة من أعظم ليالي الدنيا لأنها الليلة التي تسبق يوم الجهاد، وفي صبحها سيكون لقاء عظيم يثأر فيه المسلمون لدماء الملايين من المسلمين التي سُفكت على أيدي هؤلاء التتار الهمج..
    هذه يا أخوة ليلة خالدة حقاً..
    ترى كيف كانت أحاسيس قطز رحمه الله في هذه الليلة؟
    أكاد أجزم أنها كانت قريبة من أحاسيس خالد بن الوليد رضي الله عنه في الليالي التي تسبق معاركه!!
    يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه:
    "ما ليلة تزف إليّ فيها عروس ـ أنا لها محب ـ أو أبشر فيها بغلام، بأحب عندي من ليلة شديدة البرد، في سرية من المهاجرين، أصبّح بهم أعداء الله"..
    متعة حقيقية لا يشعر بها إلا المجاهدون حقيقة..
    لا شك أن قطز رحمه الله كان يقضي هذه الليلة في محرابه يدعو الله عز وجل أن ينزل نصره على أوليائه، وأن يثبت أقدام المجاهدين.. لقد كانت هذه ليلة طال انتظارها.. فهذه ليلة كان يعد لها قطز منذ أن ارتقى عرش مصر وإلى الآن..
    لقد اجتهد قطز رحمه الله كثيراً في الزرع، وغداً هو يوم الحصاد..

    وحان وقت الفجر.. وصلى المسلمون الفجر في خشوع.. ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس.. هذا يوم الجمعة الخامس والعشرون من رمضان سنة 658 هجرية, وبشروق الشمس أضاءت الدنيا, ورأى المسلمون من بعيد.... جيش التتار!!..
    أتى الجيش التتري المهول من اتجاه الشمال، وبدأ في الاقتراب من سهل عين جالوت، وعلى أبواب السهل وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعدته القوية..
    ولم يكن بالسهل أحد من المسلمين، فقد كانوا يقفون جميعاً خلف التلال..
    لكن ـ كما أشرنا من قبل ـ فإن مقدمة جيش المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس كانت لا تخفي نفسها، وذلك حتى يعتقد جواسيس التتار أن هذه المقدمة هي كل الجيش.. ومع ذلك فعند قدوم جيش التتار كانت هذه المقدمة مختفية هي الأخرى، ثم أشار لها قطز رحمه الله أن تنزل من فوق التلال للوقوف على باب السهل لقتال الجيش التتري..

    "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب!":
    وبدأت القوات الإسلامية تنساب من فوق التل إلى داخل سهل عين جالوت، ثم تتجه إلى شمال السهل للاقتراب من جيش التتار..
    ولم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل، وفي صورة عجيبة..
    وأترك الحديث لصارم الدين أيبك ـ الرجل المسلم في جيش التتار ـ والذي كان يقف بجوار "كتبغا" وهو يصف القوات الإسلامية وهي تنزل من فوق التلال..
    يقول صارم الدين أيبك:
    "فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام، وكان أول سنجق أحمر وأبيض، وكانوا لابسين العدد المليحة"..
    موقف في غاية الروعة..
    لقد نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة أحمر في أبيض.. للفرقة كلها زي واحد، وكانوا يلبسون العدد المليحة، بمعنى أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة مليحة )جميلة(.. لقد نزلوا بخطوات ثابتة، وبنظام بديع..
    الجنود الإسلاميون ينزلون إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة والبهاء.. وكأنهم في عرض عسكري.. لهم هيبة.. وعليهم جلال.. ويوقعون في قلب من يراهم الرهبة..
    وهذه هي الكتيبة الأولى..
    استمعوا إلى وصف صارم الدين أيبك وهو يتكلم عن كتبغا السفاح التتري الجبار..
    يقول صارم الدين أيبك:
    "فبهت كتبغا .. وبهت من معه من التتار"..
    سبحان الله!!.. "فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين"..
    هذه أول مرة يرى فيها كتبغا جيش المسلمين على هذه الصورة، لقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعاً من جيش التتار، أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار!!.. كان كتبغا معتاداً على رؤية المسلمين في إحدى هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً!!
    قال كتبغا في فزع: "يا صارم، رُنك من هذا؟! "
    "ورنك" كلمة فارسية تعني "لون"، وهو يقصد كتيبة من هذه؟ إنها كتيبة مرعبة..
    وكانت فرق المماليك تتميز عن بعضها البعض بلون خاص.. فهذه الفرقة مثلاً لونها الأحمر في الأبيض، فكانت تلبس الأحمر والأبيض، ولها رايات بنفس اللون، وتضع على خيولها وجمالها وأسلحتها نفس الألوان، وتضع على خيامها نفس الألوان، وكذلك على بيوتها في مصر، وعلى مخازنها وغير ذلك.. فكانت هذه بمثابة الشارة التي تميز هذه الفرقة أو الكتيبة..
    فسأل كتبغا في فزع: رنك من هذا؟
    فقال صارم الدين أيبك: رنك "سنقر الرومي" أحد أمراء المماليك..
    ومهما كانت عظمة الكتيبة المسلمة وبهاؤها فإننا لا نستطيع أن نفهم رعب القائد التتري السفاح زعيم الجيش التتري المهول من هذه الكتيبة الصغيرة جداً بالقياس إلى جيش التتار إلا في ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقال فيه:
    "نُصِرت بالرعب مسيرة شهر"..
    وفي رواية أحمد عن أبي إمامة زيادة: "نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي"..
    يقول الإمام السندي رحمه الله في شرح الحديث: هذا رعب يُقذف في قلوب الأعداء بلا أسباب ظاهرية، ومع ذلك فقد أخذ قطز رحمه الله بالأسباب الظاهرية قدر استطاعته، فحُسن الإعداد، وجمال الصورة، ودقة التنظيم، وبراعة الترتيب.. كل هذه أمور جعلت رعب التتار أمراً متحققاً، بالإضافة إلى أن الرعب جندي من جنود الله عز وجل..
    ويقول الإمام السندي رحمه الله: إن هذه خاصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بقيت آثار هذه الخاصية في خلفاء أمته ما داموا على حاله..
    نعود إلى كتبغا سفاح التتار وهو يراقب نزول الكتائب الإسلامية من فوق التلال..
    فبعد نزول الكتيبة الأولى: كتيبة سنقر الرومي نزلت كتيبة أخرى تلبس الملابس الصفراء عليها من البهاء والجمال ما لا يوصف..
    تزلزل كتبغا وقال لصارم: هذا رنك من؟
    قال صارم: هذا رنك بلبان الرشيدي أحد أمراء المماليك..
    ثم تتابعت الكتائب الإسلامية بألوانها الرائعة المختلفة، وكلما نزلت كتيبة سأل كتبغا: رنك من هذا؟.. فيقول صارم: فصرت أي شيء يطلع على لساني قلته.. يعني بدأ يقول أسماء مخترعة لا أصل لها، لأنه لا يعرف هذه الكتائب، ولكنه يريد أن يرعب كتبغا بكثرة الفرق الإسلامية..
    وكل هذه الفرق ـ يا إخواني ـ هي مقدمة جيش المسلمين فقط، وهي أقل بكثير من جيش التتار الرهيب؛ فقد احتفظ قطز رحمه الله بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات التتار..
    وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها وتضرب صنوجها النحاسية.. لقد كانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء.. فكانت هناك ضربات معينة للميمنة وضربات معينة للميسرة وضربات معينة للقلب، وكانت هناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وكانت هناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية، وبذلك يستطيع القائد قطز رحمه الله أن يقود المعركة عن بعد، وعلى مساحة شاسعة من الأرض من خلال دقات هذه الآلات الضخمة.. هذا فوق الرهبة التي كانت تقع في قلوب الأعداء من جراء سماع هذه الأصوات المزلزلة، بينما كانت هذه الدقات تثبت المسلمين، وتشعرهم بمعية القائد لهم في كل تحرك من تحركاتهم..
    ووقف الأمير ركن الدين بيبرس بقواته على المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، بينما ترك السهل بكامله خالياً من خلفه، واقتربت جداً ساعة الصفر..

    واحتدم اللقاء!
    ونظر كتبغا إلى مقدمة القوات الإسلامية وكان لا يدرك شيئاً عن القوات الرئيسية المختبئة خلف التلال، فوجد أن قوات المقدمة الظاهرة أمامه قليلة جداً بالنسبة لقواته.. ومع ذلك فهي في هيئة حسنة ومنظر مهيب، فأراد كتبغا أن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها.. لذلك قرر أن يدخل بكامل جيشه وقواته لحرب مقدمة المسلمين..
    وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله ..
    وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته..
    وانهمرت جموع التتار الرهيبة وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين..
    أعداد هائلة من الفرسان ينهبون الأرض في اتجاه القوات الإسلامية..
    أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس فقد كان يقف في رباطة جأش عجيبة, ومعه الأبطال المسلمون يقفون في ثبات، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة واطمئناناً، وكأنهم لا يرون جحافل التتار..
    حتى إذا اقتربت جموع التتار أعطى بيبرس إشارة البدء لرجاله.. فانطلقوا في شجاعة نادرة في اتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار..
    وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً..
    وارتفعت سحب الغبار في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجند..
    واحتدمت المعركة في لحظات.. ورأى الجميع من الهول ما لم يروه في حياتهم قبل ذلك..
    كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة التترية الأولى.. والذي يحرز النصر في بداية المعركة يستطيع غالبًا أن يحافظ عليه إلى النهاية.. ليس فقط للتفوق العسكري ولكن أيضاً للتفوق المعنوي..
    وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابقة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك منذ عشر سنوات في سنة 648 هجرية، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب..

    غباء القوة!!
    وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري..
    كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة..
    ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور..
    ومع الفجوة الهائلة في العدد بين الفريقين إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات..
    كان هذا هو الجزء الأول من الخطة الإسلامية: استنزاف القوات التترية في حرب متعبة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم..
    ثم جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة.. ودقت الطبول دقات معينة لتصل بالأوامر من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني من الخطة..
    وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، وحبذا لو سُحب الجيش بكامله، بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها..
    وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ هذا الجزء من الخطة على صعوبته، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع.. وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال..
    وقد كانت هذه العوامل متوافرة في الجيش بحمد الله، وقبل هذا بالطبع كان توفيق الله عز وجل عونًا لهذا الجيش الصامد..
    هذه الخطة يا إخواني هي نفس خطة القوات الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة ضد القوات الفارسية وذلك في سنة19 من الهجرة، وكان يقوم بدور ركن الدين بيبرس القائد الإسلامي الفذ الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرّن رضي الله عنه، وقام ساعتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الذي قضى على قوات الفرس تماماً في نهاوند..
    وهنا في عين جالوت يستفيد قطز رحمه الله من تجارب المسلمين السابقة ويطبق خطة نهاوند بحذافيرها..
    وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة تقدم جيش التتار في مكانه..
    وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وهم يضغطون على المسلمين، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل بل أخذ معه كل جنوده!!
    كيف فعل كتبغا ذلك؟
    إنه خطأ عسكري لا ريب !!
    وكتبغا قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فقد جاوز الستين من عمره، ولعله جاوز السبعين، فهو من الذين عاصروا جنكيزخان، وجنكيزخان مات قبل هذه الموقعة بأربعة وثلاثين سنة، قضاها كتبغا كلها في حروب وقيادة..
    لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قوات احتياط خارج السهل لتؤمن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي..
    لكن هذا لم يحدث !!
    لقد توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في وقت حساس جداً من أوقات المعركة.. قد يفسر ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم، وقد يفسر بضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي، وقد يفسر بالغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه مما جعله يستهين تماماً بقوات المسلمين، وقد يفسر بأن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن كتبغا لا نعرفها..
    قد يفسر بأي شيء من هذا أو بغيره.. لكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية, فضلاً عن قائد مخضرم مثل "كتبغا"!!
    ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول في مثل هذا الموقف هو أن هذا تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، الذي يخرج عن القياسات العادية للبشر، ويدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة.. ولو تكررت نفس الظروف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس القرار أبداً، ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة على يد الجيش المسلم، فدفع كتبغا إلى اتخاذ قرار لا يتناسب أبداً مع إمكانيته كقائد عسكري، ولا يتناسب مع قوات جيشه كجيش ضخم، ولا يتناسب مع ساحة المعركة التي تعتبر كالقفص الذي له باب واحد، فإذا دخل الجيش بكامله القفص وأغلق الباب فالنجاة تكاد تكون مستحيلة..
    "ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين"
    وقد رأينا قبل ذلك غزوة بدر الكبرى أن أبا جهل هو الذي دفع جيشه الكافر للدخول في معركة بدر بعد أن عارضه جل قومه.. فكانت الهلكة لمعظم رءوس الكفر في مكة..
    ورأينا أيضاً مسيلمة الكذاب في موقعة اليمامة الشهيرة يدفع قواته إلى حتفها..
    ورأينا الفيروزان في موقعة نهاوند يدفع الفرس إلى مثواها الأخير..
    ورأينا باهان قائد الروم في موقعة اليرموك يدفع جيوشه إلى الهاوية..
    وليس هناك مجال لقول قائل: لو تروى القائد لكان كذا وكذا، ولو تريث القائد.. ولو سمع القائد نصيحة فلان أو رأي فلان..
    يا إخواني .. إنهم يُدفعون دفعاً إلى مصارعهم..
    إنهم مهما بلغت قوتهم، وتعددت جيوشهم.. وتنوعت أسلحتهم لا يخرجون أبداً عن إرادة الله عز وجل.. والله عز وجل يريد النصر لعباده الذي نصروه..
    " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "
    قاعدة أصيلة لا خلف لها..
    وهكذا دفع كتبغا جيشه دفعاً للدخول بكامله في سهل عين جالوت..
    وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحاً مبهراً..
    وبدأ تنفيذ الجزء الثالث من الخطة..
    وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق..

    "كتبغا" في المصيدة!!
    ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة.. نزلت من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم..
    الخطة تسير في منتهى الإحكام والدقة، ومع ذلك فهذه الخطة تحمل في طياتها خطورة عظيمة على الجيش الإسلامي نفسه.. لماذا؟ لأن حصار التتار دون ترك فرصة الهروب لهم سوف يدفع كل الجنود التتار لإخراج كل طاقاتهم.. إنهم سيقاتلون قتال المستميت..
    قتال المحصور.. قتال الحياة أو الموت وليس قتال الهزيمة أو النصر..
    لكن في نفس الوقت إن نجحت الخطة فسوف يكون فيها هلاك عدد ضخم من الجيش التتري.. وقد تكون هذه هي الضربة القاصمة القاضية على هذا الجيش الرهيب..
    واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية بعد فوات الأوان، وحُصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ.. لا مجال للهرب، ولا مجال للمناورات.. السهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع.. لا بديل عن القتال حتى الموت..
    حرب ضارية بشعة.. أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة.. والمسلمون صابرون ثابتون..
    وظهر تفوق الميمنة التترية ـ كما أخبر بذلك رسول صارم الدين أيبك ـ وبدأت الميمنة التترية تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون حول الجيش الإسلامي، وتتعادل بذلك الكفتان، وقد ترجح كفة التتار.. ويصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين..
    وقطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه فِرَق الجيش إلى سد الثغرات، ويخطط لكل كبيرة وصغيرة..
    وشاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعل بعضهم قد شك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه إنه لا يهزم..

    واإسلاماه!!
    وقطز رحمه الله يشاهد ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، هنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له..
    لابد أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال..
    لابد أن يثبّت جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم... طريقة القدوة!
    لابد أن يوضح لجنوده بطريقة عملية أن الموت في سبيل الله غاية ومطمح وهدف..
    نحن نريد الآخرة.. وهم يريدون الدنيا.. وشتان!!
    هنا فعل قطز رحمه الله فعلاً مجيداً..
    لقد ألقى بخوذته على الأرض.. تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلب الموازين في أرض المعركة..
    لقد صرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه..!!
    وألقى بنفسه رحمه الله وسط الأمواج المتلاطمة من البشر..
    وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم.. يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون.. ويقاتل كما يقاتلون..
    أي تأييد؟! وأي تثبيت؟! وأي سكينة؟! وأي اطمئنان؟!!
    القضية إذن واضحة جداً أمام الجميع.. القضية قضية إغاثة الإسلام والدفاع عنه.. القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك.. أو حماية لكرسي.. القضية ليست حرصاً على توريث لابن أو عائلة..
    القضية ـ يا إخواني ـ قضية صادقة..
    وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه.. والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه..
    والتهب حماس الجنود، وهانت عليهم جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة..
    إنها ليست هجمة على ذواتهم.. إنها هجمة على الإسلام..
    واشتعل القتال في سهل عين جالوت.. وعلا صوت تكبير الفلاحين على كل شيء.. ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان..
    وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيباً..
    ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله..
    ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع، وقال: "ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!"
    وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية!!
    وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك..
    فقال قطز في يقين رائع: "أما أنا كنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان... حتى عد خلقاً من الملوك )مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام "..
    رحمك الله يا قطز.. كنت ـ ولا زلت والله ـ قدوة للمسلمين..
    وعلى أكتاف أمثالك تنهض الأمم..
    ونتيجة مثل هذه المواقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة..
    وبدأت الكفة - بفضل الله - تميل من جديد لصالح المسلمين.. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. وكان يوماً على الكافرين عسيراً..
    مصرع الطاغية!
    وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمس، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسناً في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفقة حتى وصل في اختراقه إلى … … … كتبغا.. قائد التتار!!!
    لقد ساقه الله إليه!!
    ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا.. وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال.. وسقط زعيم التتار.. وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"..
    وتغير سيناريو القتال عند التتار.. فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب.. وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً..
    وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية..
    ضاعت السمعة .. وسقطت الهيبة.. ومُزّق الجيش الرهيب ..

    وعند "بيسان" تجدد القتال!!
    وركز التتار جهدهم على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي.. واستطاعوا بعد لأي شديد أن يُحْدثوا ثغرة في الصف المسلم الواقف على باب المدخل، وانطلق التتار في سرعة عجيبة يولون الأدبار، وخرجت أعداد كبيرة يسرعون الخطا في اتجاه الشمال لعل هناك مهربًا.. وجيوش المسلمين تجري خلف جيوش التتار.. لا يتركونهم.. فليس الغرض هو الانتصار في موقعة ما، وتحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده.. إنما الغرض تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد..
    التتار ينهبون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم..
    ووصل التتار الفارون إلى بيسان )حوالي عشرين كيلومتر إلى الشمال الشرقي من عين جالوت( ووجد التتار أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد، لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية.. ورأى قطز رحمه الله كل ذلك..
    فهو لم يكن "قريباً من الأحداث".. بل كان "في وسط الأحداث"..
    فانطلق قطز يحفز الناس، ويدعوهم للثبات..
    ثم أطلق صيحته الخالدة:
    واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه..
    قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع:
    "يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار! "..
    الله أكبر..
    ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام!..
    يا الله.. انصر "عبدك" قطز على التتار..
    لستُ أنا الملكَ المظفر.. لستُ أميرَ المسلمين.. لستُ سلطانَ مصر..
    إنما أنا عبدك..
    بالله عليكم.. كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله.. ثم يتركه الله عز وجل؟
    روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"..
    لقد دق قطز على الباب الذي ما طرق عليه صادق إلا وفتح له..
    لقد تقرب قطز إلى من بيده ملكوت السموات والأرض..
    وعندما يخشع ملوك الأرض يا إخوة، لابد أن يرحم جبار السموات والأرض..
    لقد كان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار فأهلكهم..
    ما إن انتهى من دعائه وطلبه ـ رحمه الله ـ إلا وخارت قوى التتار تماماً..

    نهاية الأسطورة!!
    وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان..
    قضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يقهر..
    وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار..
    وجاءت اللحظة التي ينتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو تزيد..
    "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم "..
    أتدرون كم بقي من جيش التتار بعد عين جالوت؟!
    لقد أبيد جيش التتار بكامله !!
    لم يبق على قيد الحياة من الجيش أحد بالمرة.. هل سمعتم أمراً كهذا؟!
    لقد فني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية..
    فني الجيش الذي سفك دماء الملايين وخرب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً..
    وانتصر الجيش الإسلامي العظيم..
    هنيئاً لكم أيها المسلمون بالنصر العظيم!!
    هنيئاً لك يا قطز.. فقد حان وقت قطف الثمار!!

    "وما النصر إلا من عند الله.."
    ماذا فعل قطز رحمه الله عندما رأى جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة؟
    لقد نزل البطل المجاهد العظيم التقي الورع.. نزل من على فرسه..
    ومرّغ وجهه في الأرض.. يسجد شكراً لله عز وجل!!
    ما دخله غرور المنتصرين.. وما رفع رأسه بزهو المتكبرين..
    وما شعر أنه قد فعل شيئاً..
    بل إن الفضل والمنة لله عز وجل.. هو الذي أنعم عليه بأن اختاره ليكون مجاهداً.. هو الذي من عليه بالثبات.. هو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي.. هو الذي هداه السبيل..
    هنا بيت القصيد..

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 14 نوفمبر - 18:13