مصير "الناصر يوسف":
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!..
لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله..
وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين..
ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر..
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين..
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!..
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!..
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً..
ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله:
ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز..
ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(..
ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية..
ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة..
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا)..
الشعب.. قبل المعركة:
إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟.
كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟
هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.
لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس..
ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود..
لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل..
كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام..
وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله..
أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة.. وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا..
وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!..
لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً.. ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة..
لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام..
ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر..
وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء"..
وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..
سلطان العلماء!
"العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..
وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
"والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!
وكان رد الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..
يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء..
ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟
لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"..
يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله بصفة عامة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء..
إذن من حديثنا السابق عن العلماء وعن الشيخ العز بن عبد السلام كمثال لهم، يتبين أن قيمة العلم والعلماء كانت عالية جداً، ومحفوظة تماماً في الشعب المصري أيام الأيوبيين والمماليك، وهذا ولا شك سيكون عوناً هاماً لقطز رحمه الله في بث معاني الجهاد والتضحية في الشعب بعد ذلك..
الجهاد في سبيل الله:
أما القيمة الثانية ـ بعد قيمة العلم والعلماء ـ التي كانت محفوظة في مصر فهي قيمة الجهاد في سبيل الله..
لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.. ما سقطت قيمة الجهاد في سبيل الله حتى في أوقات الضعف، وحتى في أوقات الصراع على السلطة، وحتى في أوقات الأزمات الاقتصادية
وكانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وعلموا أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى "بالسلام الدائم".. هذا أمر مستحيل فعلاً.. لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل.. وسيظل الحق موجوداً إلى يوم القيامة، وسيظل كذلك الباطل موجوداً إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل، ولذلك فأكذوبة "السلام الدائم" هي أكذوبة ما يراد بها إلا خداع الشعوب وتسكينها وإبعادها عن الاستعداد الدائم للحرب..
لقد كان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة "الجهاد في سبيل الله"، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، ولأن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة على توجيه النية كاملة لله عز وجل.. ولكل ذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه "إرهابي" أو "متطرف" أو "أصولي".. لم تكن كلمة الجهاد سبّة، إنما كانت فضلاً عظيماً، وهدفاً سامياً..
ولذلك كان الجيش المصري آنذاك مستعداً دائماً، حريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوة والإعداد، ولم يُفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي أصلاً أن تجاهد، إنما كان الجيش متفرغاً للتدريب العسكري، وتحديث السلاح، والتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وإفراز القيادات الجديدة الماهرة، وحماية البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ونجدة المسلمين في البقاع المختلفة..
لقد كان الجيش المصري مستعداً دائماً.. وكان الشعب المصري كذلك مستعداً دائماً..
وشتان بين شعب رُبي على هذه المعاني، وشعب آخر رُبي على أنه لا بديل للسلام، وعلى أن خيار الحرب غير مطروح، وعلى أن الاستراتيجية الصحيحة هي المفاوضات والموائد المستديرة والمستطيلة، والمباحثات الهلامية، والاتفاقات الهزلية..
الشعب الذي من هذه الصورة الأخيرة ينشأ شعباً رخواً مائعاً لا لون له، ولا طعم، ولا هدف له، ولا حمية عنده..
وشعب مصر أيام قطز رحمه الله لم يكن على تلك الصورة..
إذن.. كان الشعب في مصر في الأيام التي صعد فيها قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم على الرغم من أزماته الاقتصادية، وظروفه الصعبة، وفزعه من أخبار التتار، وفقدانه الثقة في كثير من زعمائه... كان شعباً واعياً فاهماً مقدراً لقيمة العلم والعلماء، ومحترماً لقيمة الجهاد في سبيل الله كوسيلة حتمية لحل الصراع مع الدول التي تغير على بلاد المسلمين..
وقطز رحمه الله ـ كما رأينا ـ كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته من يوم أن كان طفلاً أغار التتار على بلده، وقتلوا أهله، ومروراً بكل مراحل حياته الصعبة، وحياة الرق والعبودية، وانتهاءً بصعوده إلى أعلى منصب في مصر..
ورأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيراً ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضاً، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد، ولذلك على الأمم التي تريد أن تعيش أن تكون جاهزة ومستعدة بصورة دائمة..
"قطز " في المواجهة!
فبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث.. وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، وشاء الجيش أم أبى، وشاء الشعب أم أبى، فالصراع سيكون قريباً، وقريباً جداً بين أي فئة مؤمنة، وبين أكبر قوة في الأرض إن كانت هذه القوة ظالمة، فالظالمون المتكبرون لا يقبلون أبداً بصديق ولا حليف ولا محايد، إنما فقط يريدون التابع، ولابد أن يكون التابع ذليلاً!!..
جاءت رسل هولاكو لعنه الله، وهي تحمل رسالة تقطر سماً، وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً.. لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله عز وجل..
"ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"..
وبفضل الله ثبّت الله عز وجل قطز، فقرأ الرسالة برباطة جأش عجيبة، وكذلك المؤمن الصادق، إذا خوّفه أحد الظالمين، استحضر هيبة الله تعالى، فهان عليه كل ظالم أو متكبر..
جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر.. وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
"بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه..
الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس "المماليك"..
صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها..
أنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه..
فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر..
فاتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أمركم..
قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ..
فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى..
فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد..
فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب..
فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟
وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟
فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص
فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق..
وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!
فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع!
لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان..
فأبشروا بالمذلة والهوان
)فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(..
وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة..
وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة..
فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم عينا من سبيل..
فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا رد الجواب..
قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها..
فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً..
وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية..
فقد أنصفناكم، إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم"..
وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلاناً صريحاً بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولابد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق..
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!..
لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله..
وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين..
ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر..
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين..
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!..
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!..
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً..
ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله:
ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز..
ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(..
ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية..
ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة..
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا)..
الشعب.. قبل المعركة:
إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟.
كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟
هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.
لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس..
ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود..
لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل..
كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام..
وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله..
أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة.. وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا..
وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!..
لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً.. ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة..
لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام..
ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر..
وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء"..
وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..
سلطان العلماء!
"العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..
وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
"والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!
وكان رد الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..
يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء..
ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟
لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"..
يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله بصفة عامة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء..
إذن من حديثنا السابق عن العلماء وعن الشيخ العز بن عبد السلام كمثال لهم، يتبين أن قيمة العلم والعلماء كانت عالية جداً، ومحفوظة تماماً في الشعب المصري أيام الأيوبيين والمماليك، وهذا ولا شك سيكون عوناً هاماً لقطز رحمه الله في بث معاني الجهاد والتضحية في الشعب بعد ذلك..
الجهاد في سبيل الله:
أما القيمة الثانية ـ بعد قيمة العلم والعلماء ـ التي كانت محفوظة في مصر فهي قيمة الجهاد في سبيل الله..
لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.. ما سقطت قيمة الجهاد في سبيل الله حتى في أوقات الضعف، وحتى في أوقات الصراع على السلطة، وحتى في أوقات الأزمات الاقتصادية
وكانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وعلموا أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى "بالسلام الدائم".. هذا أمر مستحيل فعلاً.. لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل.. وسيظل الحق موجوداً إلى يوم القيامة، وسيظل كذلك الباطل موجوداً إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل، ولذلك فأكذوبة "السلام الدائم" هي أكذوبة ما يراد بها إلا خداع الشعوب وتسكينها وإبعادها عن الاستعداد الدائم للحرب..
لقد كان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة "الجهاد في سبيل الله"، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، ولأن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة على توجيه النية كاملة لله عز وجل.. ولكل ذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه "إرهابي" أو "متطرف" أو "أصولي".. لم تكن كلمة الجهاد سبّة، إنما كانت فضلاً عظيماً، وهدفاً سامياً..
ولذلك كان الجيش المصري آنذاك مستعداً دائماً، حريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوة والإعداد، ولم يُفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي أصلاً أن تجاهد، إنما كان الجيش متفرغاً للتدريب العسكري، وتحديث السلاح، والتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وإفراز القيادات الجديدة الماهرة، وحماية البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ونجدة المسلمين في البقاع المختلفة..
لقد كان الجيش المصري مستعداً دائماً.. وكان الشعب المصري كذلك مستعداً دائماً..
وشتان بين شعب رُبي على هذه المعاني، وشعب آخر رُبي على أنه لا بديل للسلام، وعلى أن خيار الحرب غير مطروح، وعلى أن الاستراتيجية الصحيحة هي المفاوضات والموائد المستديرة والمستطيلة، والمباحثات الهلامية، والاتفاقات الهزلية..
الشعب الذي من هذه الصورة الأخيرة ينشأ شعباً رخواً مائعاً لا لون له، ولا طعم، ولا هدف له، ولا حمية عنده..
وشعب مصر أيام قطز رحمه الله لم يكن على تلك الصورة..
إذن.. كان الشعب في مصر في الأيام التي صعد فيها قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم على الرغم من أزماته الاقتصادية، وظروفه الصعبة، وفزعه من أخبار التتار، وفقدانه الثقة في كثير من زعمائه... كان شعباً واعياً فاهماً مقدراً لقيمة العلم والعلماء، ومحترماً لقيمة الجهاد في سبيل الله كوسيلة حتمية لحل الصراع مع الدول التي تغير على بلاد المسلمين..
وقطز رحمه الله ـ كما رأينا ـ كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته من يوم أن كان طفلاً أغار التتار على بلده، وقتلوا أهله، ومروراً بكل مراحل حياته الصعبة، وحياة الرق والعبودية، وانتهاءً بصعوده إلى أعلى منصب في مصر..
ورأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيراً ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضاً، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد، ولذلك على الأمم التي تريد أن تعيش أن تكون جاهزة ومستعدة بصورة دائمة..
"قطز " في المواجهة!
فبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث.. وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، وشاء الجيش أم أبى، وشاء الشعب أم أبى، فالصراع سيكون قريباً، وقريباً جداً بين أي فئة مؤمنة، وبين أكبر قوة في الأرض إن كانت هذه القوة ظالمة، فالظالمون المتكبرون لا يقبلون أبداً بصديق ولا حليف ولا محايد، إنما فقط يريدون التابع، ولابد أن يكون التابع ذليلاً!!..
جاءت رسل هولاكو لعنه الله، وهي تحمل رسالة تقطر سماً، وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً.. لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله عز وجل..
"ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"..
وبفضل الله ثبّت الله عز وجل قطز، فقرأ الرسالة برباطة جأش عجيبة، وكذلك المؤمن الصادق، إذا خوّفه أحد الظالمين، استحضر هيبة الله تعالى، فهان عليه كل ظالم أو متكبر..
جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر.. وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
"بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه..
الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس "المماليك"..
صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها..
أنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه..
فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر..
فاتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أمركم..
قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ..
فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى..
فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد..
فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب..
فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟
وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟
فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص
فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق..
وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!
فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع!
لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان..
فأبشروا بالمذلة والهوان
)فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(..
وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة..
وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة..
فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم عينا من سبيل..
فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا رد الجواب..
قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها..
فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً..
وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية..
فقد أنصفناكم، إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم"..
وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلاناً صريحاً بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولابد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق..