تأملات في سورة العصر
الدكتور رشيد كهوس )المعروف بياسر(
المغرب الأقصى
تربى سادتنا الصحابة عليهم من الله الرضوان في محضن الصحبة النبوية على خصال تربوية سامية، مجموعة في سورة من ثلاث آيات، وهي سورة العصر، يقو ل الحق جل وعلا: {وَالْعَصْرِ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
فقوله جل وعلا:{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} نلمح منه أهمية الصحبة الصالحة –صحبة السلوك-في إنقاذ البشرية من الخسران، ولهذا فالصحبة النبوية أنقذت الصحابة من الجاهلية الجهلاء التي تقود من الخسران المبين، وأنقذت الأمة من أوحال الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالبشرية في حاجة إلى الرسل ثم إلى من اهتدى بهديهم من بعدهم، لدلالة الناس على الله، وإنقاذهم من الوقوع في حمأة الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
فبعثة الرسل "هي التي فرقت بين الحق والباطل، وميزت بين من يستحق العبادة ومن لا يستحق، بواسطة هذه البعثة، يدعو هؤلاء الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إلى الله –عز وجل- ويشرفون عباد الله –سبحانه- بالتقرب إليه، والاتصال به، وبهذه البعثة تُعلم مرضيات الله وأوامره"([1">).
ثم إن الخطاب الإلهي الوارد في الآية الثالثة من سورة العصر جاء بصيغة الجمع ، لينبهنا إلى أهمية الجماعة والاجتماع:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، هذه الآية جامعة لما تَبَقَّ من الخصال المذكورة.
وقوله تبارك وتعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ هؤلاء المؤمنين أو الجماعة المؤمنة تميزت بسمتها الإسلامي، وزايلت الشرك والجاهلية.
وقوله عز من قائل:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ يشمل العلم النافع والعمل الصالح:هذه الجماعة المؤمنة آمنت وعملت عملا صالحا، وذكرت الله ولزمت غرز نبيه الكريم، والعمل يقتضي العلم، فلابد لأن تعلم ما هو هذا العمل الصالح، ثم تعمل به.
وقوله سبحانه:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}؛ هذه الجماعة المؤمنة تتواصى بينها بالحق لإعلاء كلمة الله تعالى والجهاد في سبيله، والصدق مع الحق سبحانه وتعالى، قال الإمام القشيري رحمه الله في التواصي بالحق:"وهو الإيثار مع الخلق، والصدق مع الحق"([2">).
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: وتتواصى بالتؤدة أي الصبر على مشاق الطريق لتجديد القصد إلى تعالى، والصبر على تحمل الأذى في سبيل الله، "على أن التواصي بالحق، " لا يتصور إلا في جماعة يوصي بعضهم بعضا، ويتعاون الجميع في بناء صرح الإسلام"([3">).
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد الصلابي:"إن كلمة الصبر قصيرة سهلة لا تجاوز ثلاثة حروف، يستطيع كل إنسان أن ينطقها، وأن يوصي بها؛ ولكن معاناتها أمر آخر والصبر في حقيقته أنواع منها، صبر على المعاصي وهو واجب على كل مؤمن فضلا عن الدعاة، وصبر على الطاعات، وهو واجب كل مؤمن فضلا عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من الطاعات، لأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.وصبر على البلاء" ([4">).
ولذلك فالصبر " هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته. درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس. تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائماً على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة "([5">).
هذه الخصال العشر يجمعها أصل واحد وهو المحبة، فالمحبة تقتضي الاتباع للمصحوب الأعظم r والاقتداء به في العبادة والذكر...، والصدق في الاتباع، وبذل النفس والمال في سبيل الله، والعلم والعمل يما يعمق هذه المحبة، وزُيَال الشرك وعادات الجاهلية، والصبر وتحمل الأذى، وإقامة الوجه لله تعالى بتجديد القصد والكفاية المعاشية، وبذل الجهد لنصرة دين الله والدفاع عن حمى شريعته.
والناظر في السيرة العطرة يجد أن هذه المحبة جعلت من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أبطالا وشجعانا استولت على الأرواح وشاعت في القلوب وامتزجت بغياهب الصدور، وسيطرت سيطرة كاملة على الحياة، فرفعوا راية الإسلام في الصحاري والقفار، والبراري والبحار، وخاطبوا الأباطرة والقياصرة في عقر قصورهم خطابا عزيزا قويا.
مسك الختام:
مما سبق ذكره نجمل تلك الخصال فيما يأتي:
الأولى: الصحبة الصالحة وسط جماعة المؤمنين: صحبة النبي t في در الأرقم بن أبي الأرقم لما كانوا بمكة، وفي مسجد المدينة بعد الهجرة إليها.
الثانية: الصدق: وقد رأينا صدق أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
الثالثة: ذكر الله تعالى: بمفهومه الشامل من عبادات فرائض ونوافل، وحضور مجالس الذكر والعلم، والدعاء، وقراءة القرآن، وقيام اليل...
الرابعة: البذل: بذل الصحابة رضي الله عنهم الغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، بذلوا أرواحهم وتركوا أموالهم وديارهم وهاجروا إلى الله تعالى طلبا للزلفى لديه.
الخامسة: العلم: وقد تعلم الصحابة العالم والنافع وتفقهوا في الشريعة فكان منهم أهل القرآن منهم القراء، وكان منهم أهل الفقه كأمنا مولاتنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكان منهم أهل الحديث كسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه...
السادسة: العمل: ما كان الصحابة رضي الله عنهم رجال ركود وكسل، بل كان رجال عمل متواصل دؤوب.
السابعة: السمت الحسن: التميز عن المجتمع الجاهلي شكر ومضمونا ومفارقة الشرك والكفر، وقد قرأنا في سيرة الصحابة ذلك التميز عن مجتمع الشرك والأوثان.
الثامنة: الصبر وتحمل الأذى.
التاسعة: تجديد الاقتصاد إلى الله تعالى.
العاشرة: الجهاد في سبيل الله تعالى بمعناه الشامل.
--------------------------------------------------------------------------------
([1">) رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الشيخ أبو الحسن علي الندوي، 3/227.
([2">) تفسير القشيري، 6/318.
([3">) منهج النبي r في الدعوة، للدكتور محمد أمحزون، ص152.
([4">) فقه النصر والتمكين، للدكتور محمد الصلابي، ص245.
([5">) في ظلال القرآن، للشهيد سيد قطب، 6/3913.
الدكتور رشيد كهوس )المعروف بياسر(
المغرب الأقصى
تربى سادتنا الصحابة عليهم من الله الرضوان في محضن الصحبة النبوية على خصال تربوية سامية، مجموعة في سورة من ثلاث آيات، وهي سورة العصر، يقو ل الحق جل وعلا: {وَالْعَصْرِ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
فقوله جل وعلا:{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} نلمح منه أهمية الصحبة الصالحة –صحبة السلوك-في إنقاذ البشرية من الخسران، ولهذا فالصحبة النبوية أنقذت الصحابة من الجاهلية الجهلاء التي تقود من الخسران المبين، وأنقذت الأمة من أوحال الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالبشرية في حاجة إلى الرسل ثم إلى من اهتدى بهديهم من بعدهم، لدلالة الناس على الله، وإنقاذهم من الوقوع في حمأة الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
فبعثة الرسل "هي التي فرقت بين الحق والباطل، وميزت بين من يستحق العبادة ومن لا يستحق، بواسطة هذه البعثة، يدعو هؤلاء الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إلى الله –عز وجل- ويشرفون عباد الله –سبحانه- بالتقرب إليه، والاتصال به، وبهذه البعثة تُعلم مرضيات الله وأوامره"([1">).
ثم إن الخطاب الإلهي الوارد في الآية الثالثة من سورة العصر جاء بصيغة الجمع ، لينبهنا إلى أهمية الجماعة والاجتماع:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، هذه الآية جامعة لما تَبَقَّ من الخصال المذكورة.
وقوله تبارك وتعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ هؤلاء المؤمنين أو الجماعة المؤمنة تميزت بسمتها الإسلامي، وزايلت الشرك والجاهلية.
وقوله عز من قائل:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ يشمل العلم النافع والعمل الصالح:هذه الجماعة المؤمنة آمنت وعملت عملا صالحا، وذكرت الله ولزمت غرز نبيه الكريم، والعمل يقتضي العلم، فلابد لأن تعلم ما هو هذا العمل الصالح، ثم تعمل به.
وقوله سبحانه:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}؛ هذه الجماعة المؤمنة تتواصى بينها بالحق لإعلاء كلمة الله تعالى والجهاد في سبيله، والصدق مع الحق سبحانه وتعالى، قال الإمام القشيري رحمه الله في التواصي بالحق:"وهو الإيثار مع الخلق، والصدق مع الحق"([2">).
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: وتتواصى بالتؤدة أي الصبر على مشاق الطريق لتجديد القصد إلى تعالى، والصبر على تحمل الأذى في سبيل الله، "على أن التواصي بالحق، " لا يتصور إلا في جماعة يوصي بعضهم بعضا، ويتعاون الجميع في بناء صرح الإسلام"([3">).
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد الصلابي:"إن كلمة الصبر قصيرة سهلة لا تجاوز ثلاثة حروف، يستطيع كل إنسان أن ينطقها، وأن يوصي بها؛ ولكن معاناتها أمر آخر والصبر في حقيقته أنواع منها، صبر على المعاصي وهو واجب على كل مؤمن فضلا عن الدعاة، وصبر على الطاعات، وهو واجب كل مؤمن فضلا عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من الطاعات، لأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.وصبر على البلاء" ([4">).
ولذلك فالصبر " هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته. درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس. تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائماً على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة "([5">).
هذه الخصال العشر يجمعها أصل واحد وهو المحبة، فالمحبة تقتضي الاتباع للمصحوب الأعظم r والاقتداء به في العبادة والذكر...، والصدق في الاتباع، وبذل النفس والمال في سبيل الله، والعلم والعمل يما يعمق هذه المحبة، وزُيَال الشرك وعادات الجاهلية، والصبر وتحمل الأذى، وإقامة الوجه لله تعالى بتجديد القصد والكفاية المعاشية، وبذل الجهد لنصرة دين الله والدفاع عن حمى شريعته.
والناظر في السيرة العطرة يجد أن هذه المحبة جعلت من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أبطالا وشجعانا استولت على الأرواح وشاعت في القلوب وامتزجت بغياهب الصدور، وسيطرت سيطرة كاملة على الحياة، فرفعوا راية الإسلام في الصحاري والقفار، والبراري والبحار، وخاطبوا الأباطرة والقياصرة في عقر قصورهم خطابا عزيزا قويا.
مسك الختام:
مما سبق ذكره نجمل تلك الخصال فيما يأتي:
الأولى: الصحبة الصالحة وسط جماعة المؤمنين: صحبة النبي t في در الأرقم بن أبي الأرقم لما كانوا بمكة، وفي مسجد المدينة بعد الهجرة إليها.
الثانية: الصدق: وقد رأينا صدق أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
الثالثة: ذكر الله تعالى: بمفهومه الشامل من عبادات فرائض ونوافل، وحضور مجالس الذكر والعلم، والدعاء، وقراءة القرآن، وقيام اليل...
الرابعة: البذل: بذل الصحابة رضي الله عنهم الغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، بذلوا أرواحهم وتركوا أموالهم وديارهم وهاجروا إلى الله تعالى طلبا للزلفى لديه.
الخامسة: العلم: وقد تعلم الصحابة العالم والنافع وتفقهوا في الشريعة فكان منهم أهل القرآن منهم القراء، وكان منهم أهل الفقه كأمنا مولاتنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكان منهم أهل الحديث كسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه...
السادسة: العمل: ما كان الصحابة رضي الله عنهم رجال ركود وكسل، بل كان رجال عمل متواصل دؤوب.
السابعة: السمت الحسن: التميز عن المجتمع الجاهلي شكر ومضمونا ومفارقة الشرك والكفر، وقد قرأنا في سيرة الصحابة ذلك التميز عن مجتمع الشرك والأوثان.
الثامنة: الصبر وتحمل الأذى.
التاسعة: تجديد الاقتصاد إلى الله تعالى.
العاشرة: الجهاد في سبيل الله تعالى بمعناه الشامل.
--------------------------------------------------------------------------------
([1">) رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الشيخ أبو الحسن علي الندوي، 3/227.
([2">) تفسير القشيري، 6/318.
([3">) منهج النبي r في الدعوة، للدكتور محمد أمحزون، ص152.
([4">) فقه النصر والتمكين، للدكتور محمد الصلابي، ص245.
([5">) في ظلال القرآن، للشهيد سيد قطب، 6/3913.