السلام عليكم
بسم الله الرحمن الرحيم
أقرأوها
وتمعنوا فيها... أثابكم الله وقد ذكرها الشيخ خالد الراشدكثيرا... ويُقال
انها قصته الشخصية:
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّلأبنائي..
ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في
إحدىالاستراحات.. كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ.. بل بالغيبة والتعليقات
المحرمة... كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم.. وغيبة الناس.. وهم
يضحكون.
أذكر ليلتهاأنّي أضحكتهم كثيراً.. كنت أمتلك موهبة عجيبة في
التقليد.. بإمكاني تغيير نبرة صوتيحتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه..
أجل كنت أسخر من هذا وذاك.. لم يسلم أحدمنّي أحد حتى أصحابي.. صار بعض
الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني.
أذكر أني تلكالليلة سخرت من أعمى
رأيته يتسوّل في السّوق... والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامهفتعثّر وسقط يتلفت
برأسه لا يدري ما يقول.. وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق..
عدتإلى بيتي
متأخراً كالعادة.. وجدت زوجتي في انتظاري.. كانت في حالة يرثى لها..
قالتبصوت متهدج: راشد.. أين كنتَ ؟
قلت ساخراً: في المريخ.. عند أصحابي
بالطبع ..
كان الإعياء ظاهراً عليها.. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا
تعبة جداً .. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
سقطت دمعة صامته على
خدها.. أحسست أنّيأهملت زوجتي.. كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من
سهراتي.. خاصة أنّها في شهرهاالتاسع .
حملتها إلى المستشفى بسرعة.. دخلت
غرفة الولادة.. جعلت تقاسي الآلامساعات طوال.. كنت أنتظر ولادتها بفارغ
الصبر.. تعسرت ولادتها.. فانتظرت طويلاً حتىتعبت.. فذهبت إلى البيت وتركت
رقم هاتفي عندهم ليبشروني.
بعد ساعة.. اتصلوا بيليزفوا لي نبأ قدوم سالم
ذهبت إلى المستشفى فوراً.. أول ما رأوني أسأل عن غرفتها.. طلبوا منّي
مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي.
صرختُ بهم: أيُّ طبيبة؟!
المهم أن أرى ابني سالم.
قالوا، أولاً راجع الطبيبة ..
دخلت
علىالطبيبة.. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار .. ثم قالت: ولدك به
تشوه شديد فيعينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
خفضت رأسي.. وأنا أدافع
عبراتي.. تذكّرت ذاكالمتسوّل الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه
الناس.
سبحان الله كما تدينتدان ! بقيت واجماً قليلاً.. لا أدري ماذا
أقول.. ثم تذكرت زوجتي وولدي .. فشكرتالطبيبة على لطفها ومضيت لأرى زوجتي
..
لم تحزن زوجتي.. كانت مؤمنة بقضاءالله.. راضية. طالما نصحتني أن أكف
عن الاستهزاء بالناس.. كانت تردد دائماً، لاتغتب الناس ..
خرجنا من
المستشفى، وخرج سالم معنا. في الحقيقة، لم أكن أهتم بهكثيراً. اعتبرته غير
موجود في المنزل. حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها. كانت زوجتي
تهتم به كثيراً، وتحبّه كثيراً. أما أنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطعأن
أحبّه !
كبر سالم.. بدأ يحبو.. كانت حبوته غريبة.. قارب عمره السنة
فبدأيحاول المشي.. فاكتشفنا أنّه أعرج. أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر. أنجبت
زوجتي بعدهعمر وخالداً.
مرّت السنوات وكبر سالم، وكبر أخواه. كنت لا أحب
الجلوس في البيت. دائماً مع أصحابي. في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
لم
تيأس زوجتي منإصلاحي. كانت تدعو لي دائماً بالهداية. لم تغضب من تصرّفاتي
الطائشة، لكنها كانتتحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي
إخوته.
كبر سالم وكبُر معههمي. لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى
المدارس الخاصة بالمعاقين. لم أكن أحسبمرور السنوات. أيّامي سواء .. عمل
ونوم وطعام وسهر.
في يوم جمعة، استيقظتالساعة الحادية عشر ظهراً. ما
يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي. كنت مدعواً إلى وليمة. لبست وتعطّرت وهممت
بالخروج. مررت بصالة المنزل فاستوقفني منظر سالم. كان يبكيبحرقة!
إنّها
المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً. عشرسنوات مضت،
لم ألتفت إليه. حاولت أن أتجاهله فلم أحتمل. كنت أسمع صوته ينادي أمهوأنا
في الغرفة. التفت ... ثم اقتربت منه. قلت: سالم! لماذا تبكي؟!
حين
سمعصوتي توقّف عن البكاء. فلما شعر بقربي، بدأ يتحسّس ما حوله بيديه
الصغيرتين. ما بِهيا ترى؟! اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول:
الآن أحسست بي. أين أنت منذعشر سنوات ؟! تبعته ... كان قد دخل غرفته. رفض
أن يخبرني في البداية سبب بكائه. حاولت التلطف معه .. بدأ سالم يبين سبب
بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض.
أتدري ماالسبب!! تأخّر عليه أخوه عمر،
الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد. ولأنها صلاة جمعة،خاف ألاّ يجد مكاناً في
الصف الأوّل. نادى عمر.. ونادى والدته.. ولكن لا مجيب.. فبكى.
أخذت أنظر
إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين. لم أستطع أن أتحمل بقيةكلامه. وضعت
يدي على فمه وقلت: لذلك بكيت يا سالم !!..
قال: نعم ..
نسيتأصحابي،
ونسيت الوليمة وقلت: سالم لا تحزن. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟
قال:
أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
قلت: لا .. بل أنا سأذهب بك ..
دهش
سالم .. لم يصدّق. ظنّ أنّي أسخر منه. استعبر ثم بكى. مسحت دموعه
بيديوأمسكت يده. أردت أن أوصله بالسيّارة. رفض قائلاً: المسجد قريب... أريد
أن أخطو إلىالمسجد - إي والله قال لي ذلك.
لا أذكر متى كانت آخر مرّة
دخلت فيها المسجد،لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على
ما فرّطته طوال السنواتالماضية. كان المسجد مليئاً بالمصلّين، إلاّ أنّي
وجدت لسالم مكاناً في الصفالأوّل. استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى
بجانبي... بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه ..
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي
سالم مصحفاً. استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟ كدتأن أتجاهل طلبه، لكني
جاملته خوفاً من جرح مشاعره. ناولته المصحف ... طلب منّي أنأفتح المصحف على
سورة الكهف. أخذت أقلب الصفحات تارة وأنظر في الفهرس تارة .. حتىوجدتها.
أخذ
مني المصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة ... وعيناه مغمضتان ... يا
الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة!!
خجلت من نفسي. أمسكت مصحفاً ...
أحسست برعشة في أوصالي... قرأت وقرأت.. دعوت الله أن يغفر لي ويهديني. لم
أستطعالاحتمال ... فبدأت أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزال في المسجد
يصلي السنة ... خجلت منهم فحاولت أن أكتم بكائي. تحول البكاء إلى نشيج
وشهيق ...
لم أشعر إلا ّبيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي. إنه
سالم !! ضممته إلى صدري... نظرتإليه. قلت في نفسي... لست أنت الأعمى بل أنا
الأعمى، حين انسقت وراء فساق يجروننيإلى النار.
عدنا إلى المنزل. كانت
زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحوّلإلى دموع حين علمت أنّي صلّيت
الجمعة مع سالم ..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاةجماعة في المسجد. هجرت
رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد. ذقتطعم الإيمان
معهم. عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو
صلاةالوتر. ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله
يغفر لي غيبتيوسخريتي من النّاس. أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي. اختفت
نظرات الخوف والشفقةالتي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامة ما عادت تفارق
وجه ابني سالم. من يراهيظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله كثيراً على
نعمه.
ذات يوم ... قرر أصحابيالصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق
البعيدة للدعوة. تردّدت في الذهاب. استخرتالله واستشرت زوجتي. توقعت أنها
سترفض... لكن حدث العكس !
فرحت كثيراً، بلشجّعتني. فلقد كانت تراني في
السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً.
توجهتإلى سالم. أخبرته أني
مسافر فضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً...
تغيّبت عن البيتثلاثة أشهر
ونصف، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّثأبنائي.
اشتقت إليهم كثيراً ... آآآه كم اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته...
هوالوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت. إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد
ساعة اتصاليبهم.
كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه، كانت تضحك فرحاً
وبشراً، إلاّ آخر مرّةهاتفتها فيها. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة. تغيّر صوتها
..
قلت لها: أبلغي سلاميلسالم، فقالت: إن شاء الله ... وسكتت...
أخيراً
عدت إلى المنزل. طرقت الباب. تمنّيت أن يفتح لي سالم، لكن فوجئت بابني
خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره. حملته بين ذراعي وهو يصرخ: بابا ..
بابا .. لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلتالبيت.
استعذت بالله من
الشيطان الرجيم ..
أقبلت إليّ زوجتي ... كان وجههامتغيراً. كأنها تتصنع
الفرح.
تأمّلتها جيداً ثم سألتها: ما بكِ؟
قالت: لاشيء .
فجأة
تذكّرت سالماً فقلت .. أين سالم ؟
خفضت رأسها. لم تجب. سقطتدمعات حارة
على خديها...
صرخت بها ... سالم! أين سالم ..؟
لم أسمع حينهاسوى صوت
ابني خالد يقول بلغته: بابا ... ثالم لاح الجنّة ... عند الله...
لمتتحمل
زوجتي الموقف. أجهشت بالبكاء. كادت أن تسقط على الأرض، فخرجت من الغرفة.
عرفت
بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين فأخذته زوجتي
إلىالمستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه ... حين فارقت روحه جسده ..
إذا
ضاقتعليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا الله
إذا
بارتالحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ... يا الله
لا
اله الاالله رب السموات السبع ورب العرش العظيم
ملاحظة : اذا كان نشرها
سيرهقك فلاتنشرها فلن تستحق اخذ ثوابها لأن ثوابها عظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أقرأوها
وتمعنوا فيها... أثابكم الله وقد ذكرها الشيخ خالد الراشدكثيرا... ويُقال
انها قصته الشخصية:
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّلأبنائي..
ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في
إحدىالاستراحات.. كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ.. بل بالغيبة والتعليقات
المحرمة... كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم.. وغيبة الناس.. وهم
يضحكون.
أذكر ليلتهاأنّي أضحكتهم كثيراً.. كنت أمتلك موهبة عجيبة في
التقليد.. بإمكاني تغيير نبرة صوتيحتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه..
أجل كنت أسخر من هذا وذاك.. لم يسلم أحدمنّي أحد حتى أصحابي.. صار بعض
الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني.
أذكر أني تلكالليلة سخرت من أعمى
رأيته يتسوّل في السّوق... والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامهفتعثّر وسقط يتلفت
برأسه لا يدري ما يقول.. وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق..
عدتإلى بيتي
متأخراً كالعادة.. وجدت زوجتي في انتظاري.. كانت في حالة يرثى لها..
قالتبصوت متهدج: راشد.. أين كنتَ ؟
قلت ساخراً: في المريخ.. عند أصحابي
بالطبع ..
كان الإعياء ظاهراً عليها.. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا
تعبة جداً .. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
سقطت دمعة صامته على
خدها.. أحسست أنّيأهملت زوجتي.. كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من
سهراتي.. خاصة أنّها في شهرهاالتاسع .
حملتها إلى المستشفى بسرعة.. دخلت
غرفة الولادة.. جعلت تقاسي الآلامساعات طوال.. كنت أنتظر ولادتها بفارغ
الصبر.. تعسرت ولادتها.. فانتظرت طويلاً حتىتعبت.. فذهبت إلى البيت وتركت
رقم هاتفي عندهم ليبشروني.
بعد ساعة.. اتصلوا بيليزفوا لي نبأ قدوم سالم
ذهبت إلى المستشفى فوراً.. أول ما رأوني أسأل عن غرفتها.. طلبوا منّي
مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي.
صرختُ بهم: أيُّ طبيبة؟!
المهم أن أرى ابني سالم.
قالوا، أولاً راجع الطبيبة ..
دخلت
علىالطبيبة.. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار .. ثم قالت: ولدك به
تشوه شديد فيعينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
خفضت رأسي.. وأنا أدافع
عبراتي.. تذكّرت ذاكالمتسوّل الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه
الناس.
سبحان الله كما تدينتدان ! بقيت واجماً قليلاً.. لا أدري ماذا
أقول.. ثم تذكرت زوجتي وولدي .. فشكرتالطبيبة على لطفها ومضيت لأرى زوجتي
..
لم تحزن زوجتي.. كانت مؤمنة بقضاءالله.. راضية. طالما نصحتني أن أكف
عن الاستهزاء بالناس.. كانت تردد دائماً، لاتغتب الناس ..
خرجنا من
المستشفى، وخرج سالم معنا. في الحقيقة، لم أكن أهتم بهكثيراً. اعتبرته غير
موجود في المنزل. حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها. كانت زوجتي
تهتم به كثيراً، وتحبّه كثيراً. أما أنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطعأن
أحبّه !
كبر سالم.. بدأ يحبو.. كانت حبوته غريبة.. قارب عمره السنة
فبدأيحاول المشي.. فاكتشفنا أنّه أعرج. أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر. أنجبت
زوجتي بعدهعمر وخالداً.
مرّت السنوات وكبر سالم، وكبر أخواه. كنت لا أحب
الجلوس في البيت. دائماً مع أصحابي. في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
لم
تيأس زوجتي منإصلاحي. كانت تدعو لي دائماً بالهداية. لم تغضب من تصرّفاتي
الطائشة، لكنها كانتتحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي
إخوته.
كبر سالم وكبُر معههمي. لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى
المدارس الخاصة بالمعاقين. لم أكن أحسبمرور السنوات. أيّامي سواء .. عمل
ونوم وطعام وسهر.
في يوم جمعة، استيقظتالساعة الحادية عشر ظهراً. ما
يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي. كنت مدعواً إلى وليمة. لبست وتعطّرت وهممت
بالخروج. مررت بصالة المنزل فاستوقفني منظر سالم. كان يبكيبحرقة!
إنّها
المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً. عشرسنوات مضت،
لم ألتفت إليه. حاولت أن أتجاهله فلم أحتمل. كنت أسمع صوته ينادي أمهوأنا
في الغرفة. التفت ... ثم اقتربت منه. قلت: سالم! لماذا تبكي؟!
حين
سمعصوتي توقّف عن البكاء. فلما شعر بقربي، بدأ يتحسّس ما حوله بيديه
الصغيرتين. ما بِهيا ترى؟! اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول:
الآن أحسست بي. أين أنت منذعشر سنوات ؟! تبعته ... كان قد دخل غرفته. رفض
أن يخبرني في البداية سبب بكائه. حاولت التلطف معه .. بدأ سالم يبين سبب
بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض.
أتدري ماالسبب!! تأخّر عليه أخوه عمر،
الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد. ولأنها صلاة جمعة،خاف ألاّ يجد مكاناً في
الصف الأوّل. نادى عمر.. ونادى والدته.. ولكن لا مجيب.. فبكى.
أخذت أنظر
إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين. لم أستطع أن أتحمل بقيةكلامه. وضعت
يدي على فمه وقلت: لذلك بكيت يا سالم !!..
قال: نعم ..
نسيتأصحابي،
ونسيت الوليمة وقلت: سالم لا تحزن. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟
قال:
أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
قلت: لا .. بل أنا سأذهب بك ..
دهش
سالم .. لم يصدّق. ظنّ أنّي أسخر منه. استعبر ثم بكى. مسحت دموعه
بيديوأمسكت يده. أردت أن أوصله بالسيّارة. رفض قائلاً: المسجد قريب... أريد
أن أخطو إلىالمسجد - إي والله قال لي ذلك.
لا أذكر متى كانت آخر مرّة
دخلت فيها المسجد،لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على
ما فرّطته طوال السنواتالماضية. كان المسجد مليئاً بالمصلّين، إلاّ أنّي
وجدت لسالم مكاناً في الصفالأوّل. استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى
بجانبي... بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه ..
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي
سالم مصحفاً. استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟ كدتأن أتجاهل طلبه، لكني
جاملته خوفاً من جرح مشاعره. ناولته المصحف ... طلب منّي أنأفتح المصحف على
سورة الكهف. أخذت أقلب الصفحات تارة وأنظر في الفهرس تارة .. حتىوجدتها.
أخذ
مني المصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة ... وعيناه مغمضتان ... يا
الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة!!
خجلت من نفسي. أمسكت مصحفاً ...
أحسست برعشة في أوصالي... قرأت وقرأت.. دعوت الله أن يغفر لي ويهديني. لم
أستطعالاحتمال ... فبدأت أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزال في المسجد
يصلي السنة ... خجلت منهم فحاولت أن أكتم بكائي. تحول البكاء إلى نشيج
وشهيق ...
لم أشعر إلا ّبيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي. إنه
سالم !! ضممته إلى صدري... نظرتإليه. قلت في نفسي... لست أنت الأعمى بل أنا
الأعمى، حين انسقت وراء فساق يجروننيإلى النار.
عدنا إلى المنزل. كانت
زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحوّلإلى دموع حين علمت أنّي صلّيت
الجمعة مع سالم ..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاةجماعة في المسجد. هجرت
رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد. ذقتطعم الإيمان
معهم. عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو
صلاةالوتر. ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله
يغفر لي غيبتيوسخريتي من النّاس. أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي. اختفت
نظرات الخوف والشفقةالتي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامة ما عادت تفارق
وجه ابني سالم. من يراهيظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله كثيراً على
نعمه.
ذات يوم ... قرر أصحابيالصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق
البعيدة للدعوة. تردّدت في الذهاب. استخرتالله واستشرت زوجتي. توقعت أنها
سترفض... لكن حدث العكس !
فرحت كثيراً، بلشجّعتني. فلقد كانت تراني في
السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً.
توجهتإلى سالم. أخبرته أني
مسافر فضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً...
تغيّبت عن البيتثلاثة أشهر
ونصف، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّثأبنائي.
اشتقت إليهم كثيراً ... آآآه كم اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته...
هوالوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت. إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد
ساعة اتصاليبهم.
كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه، كانت تضحك فرحاً
وبشراً، إلاّ آخر مرّةهاتفتها فيها. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة. تغيّر صوتها
..
قلت لها: أبلغي سلاميلسالم، فقالت: إن شاء الله ... وسكتت...
أخيراً
عدت إلى المنزل. طرقت الباب. تمنّيت أن يفتح لي سالم، لكن فوجئت بابني
خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره. حملته بين ذراعي وهو يصرخ: بابا ..
بابا .. لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلتالبيت.
استعذت بالله من
الشيطان الرجيم ..
أقبلت إليّ زوجتي ... كان وجههامتغيراً. كأنها تتصنع
الفرح.
تأمّلتها جيداً ثم سألتها: ما بكِ؟
قالت: لاشيء .
فجأة
تذكّرت سالماً فقلت .. أين سالم ؟
خفضت رأسها. لم تجب. سقطتدمعات حارة
على خديها...
صرخت بها ... سالم! أين سالم ..؟
لم أسمع حينهاسوى صوت
ابني خالد يقول بلغته: بابا ... ثالم لاح الجنّة ... عند الله...
لمتتحمل
زوجتي الموقف. أجهشت بالبكاء. كادت أن تسقط على الأرض، فخرجت من الغرفة.
عرفت
بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين فأخذته زوجتي
إلىالمستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه ... حين فارقت روحه جسده ..
إذا
ضاقتعليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا الله
إذا
بارتالحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ... يا الله
لا
اله الاالله رب السموات السبع ورب العرش العظيم
ملاحظة : اذا كان نشرها
سيرهقك فلاتنشرها فلن تستحق اخذ ثوابها لأن ثوابها عظيم