لم تعد فيينا رمز الحضارة و العمران، و مهد الأدب و العلوم، كما كان يفخر بذلك أهلها، فآثار الدمار بادية على معالمها، حيث خربت الديار و انهارت الجامعة العتيقة التي أنجبت جهابذة الأدباء و المفكرين، و خيم الصمت على ساحة ستيفنز بعد أن كان يملؤها ضجيج الناس و موسيقى طلبة الأكاديمية. حتى أن الوافد إليها يلحظ من وهلته الأولى طبع الحزن مرتسما على محيا سكانها، فلم تقتصر الحرب على نسف المباني و العمران بل تمادت في طغيانها لتخطف الابتسامة من شفاههم و تُبدلَها حزنا و أسى.
فتح هانز عينيه المنتفختين بصعوبة بالغة ، ليرى نور الشمس متسللا من نافذة المستشفى العسكري، فربما لا يتذكر شيئا بعد الغارة الجوية للحلفاء منذ شهر، فقد كان في غيبوبة طويلة. لا أحد كان يصدق أنه ستُكتب له حياة جديدة، حتى عائلته الثرية حمدت الله على ذلك رغم علمهم بإصابته بشلل قد يبقيه حبيس كرسي متحرك بقية عمره، لم يتقبل هانز الأمر بسهولة فقد كان شابا وسيما في مقتبل العمر، ذكيا نشيطا، متفائلا بغد أفضل، غادر هانز المستشفى مكتئبا مهموما، يفكر كيف يمضي حياته عاجزا عن الوقوف على رجليه. لكن همّ أسرته تمثل في ضرورة إيجاد ممرضة ترعاه و تقدم له الدواء في موعده المحدد، إلى أن وجدت ضالتها بعد بحث مضن، إنها الممرضة كريستين فتاة من أصل بلغاري جذابة و مرحة، تعمل بعيدة عن أهلها هناك، لتبعث لهم ما يسد رمقهم، قبلت كريستين العرض المغري و على الفور التحقت بالقصر.
لم تلفت كريستين انتباه هانز رغم ما تملكه من جاذبية و روح دعابة، فما زالت الصدمة لم تفارق تفكيره، كما أنه لا يود طرق باب قد يعود عليه بالندم و الحزن، و استمر الحال أياما، هو يطالع كتبا غير مفارق فراشه، وهي تنتظر موعد الدواء أو حصة الترويض و التدليك، أو رنين الجرس لعله يريد الخروج في فسحة بأرجاء القصر.
ذات يوم، استقيظ هانز مبكرا كعادته ففوجئ بممرضة أخرى تقدم له الدواء الصباحي، فاستفسر عن كريستين، فأًخبر بأنها سافرت إلى بلغاريا بسبب وفاة والدتها. لم تمر المدة التي غابت فيها كريستين على نحو يسير، فقد أحس بوحشة و اغتراب لم يعهده من قبل، ربما بدأ شعور جميل يدب في قلب هانز، فمعاملتها الطيبة، و كلامها الرقيق، لا يقاومه إنسان، كما أن مصارحتها له ببعض تفاصيل حياتها أضافت جرعة ثقة هو في أمس الحاجة إليها، فقرر أن يبوح لها ما بقلبه، لكنه اعترف بصعوبة المهمة، فكريستين فتاة كاملة بكل المقاييس، تستحق حياة أفضل مما قد يوفره لها بحكم إعاقته، لكنه استحضر كلامها الذي لطالما تردده على مسامعه حول التضحية من أجل الحب، و السعادة الحقيقية. بينما هو بين أخذ و رد، عادت كريستين في حدادها الثالث، فأرجأ هانز طرح الموضوع إلى وقت مناسب، لأن حالة كريستين تتطلب التريث.
مع مرور الأيام، لاحظت كريستين نظرات مريبة لم تعهدها من هانز، كما أن أسلوب خطابه تحسن و لم يعد يطبعه الجفاء و التعالي، وفي يوم من أيامه المتشابهة انتفض هانز لينقلب على وضعه المهزوز، فيكفيه غما عجزه عن الحراك، ليضيف إليه عجز اللسان و القلب، سمعت كريستين رنين الجرس في غير موعده. فاستغربت الأمر خاصة و أن الثلوج تتساقط بكثافة فلا سبيل للخروج، دخلت الغرفة بلا استئذان، و طلب منها أن تجالسه قليلا، فرحبت بالأمر، ثم سألها وهو ينظر في عينيها بعمق: - " لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟ " استقبلت السؤال كالصاعقة، و عرفت مغزاه و مراميه فتأكدت بذلك الشكوك التي راودتها بعد عودتها من صوفيا، فقررت الحسم في هذه الليلة، و بذلك أجابت بعد أن استجمعت أنفاسها: - " حتى أجد الرجل الذي أحبه." عرف أنه تسرع في هذا السؤال لأنه لم يكن مثمرا بل زاد في ارتباكه، فأردف بسؤال أكثر دقة و عيناه لا تفارق عينيها: - " ألم تجديه بعد؟ " أدركت أنه يستعجل الجواب العسير، فقررت مصارحته بما يختلج صدرها نحوه من إعجاب و تقدير، لكنها فضلت أن تستمر في المراوغة لرأي استأثرته لنفسها و أجابت: - " أنا لا أفتقده إنه معي لأنه نفسي، لكنه بدأ يبتعد عني يوما بعد يوم." بدأ اليأس يتسلل إليه، فهي لم تعطه إشارات واضحة تشجعه على البوح بحبه لها، فقال لها خاتما حواره الذي لم ينفعه في شيء : - " أتمنى ألاّ تفقديه، فمن الصعب أن تجدي حبيبا هذه الأيام. " فهمت قصده إنهاء الحوار، فأومأت برأسها و قد اغرورقت عيناها بالدموع وهي مغادرة الغرفة ببطء لعله يناديها فيطفئ حرقتها، لكنه لم يفعل، كانت تأمل أن ينتصر على عجزه و تردده في الاعتراف بحبه، فقد أحبته فعلا رغم عجز بدنه، لكنها لا تستطيع أن تضحي أكثر بسبب عجز لسانه.
فتح هانز عينيه المنتفختين بصعوبة بالغة ، ليرى نور الشمس متسللا من نافذة المستشفى العسكري، فربما لا يتذكر شيئا بعد الغارة الجوية للحلفاء منذ شهر، فقد كان في غيبوبة طويلة. لا أحد كان يصدق أنه ستُكتب له حياة جديدة، حتى عائلته الثرية حمدت الله على ذلك رغم علمهم بإصابته بشلل قد يبقيه حبيس كرسي متحرك بقية عمره، لم يتقبل هانز الأمر بسهولة فقد كان شابا وسيما في مقتبل العمر، ذكيا نشيطا، متفائلا بغد أفضل، غادر هانز المستشفى مكتئبا مهموما، يفكر كيف يمضي حياته عاجزا عن الوقوف على رجليه. لكن همّ أسرته تمثل في ضرورة إيجاد ممرضة ترعاه و تقدم له الدواء في موعده المحدد، إلى أن وجدت ضالتها بعد بحث مضن، إنها الممرضة كريستين فتاة من أصل بلغاري جذابة و مرحة، تعمل بعيدة عن أهلها هناك، لتبعث لهم ما يسد رمقهم، قبلت كريستين العرض المغري و على الفور التحقت بالقصر.
لم تلفت كريستين انتباه هانز رغم ما تملكه من جاذبية و روح دعابة، فما زالت الصدمة لم تفارق تفكيره، كما أنه لا يود طرق باب قد يعود عليه بالندم و الحزن، و استمر الحال أياما، هو يطالع كتبا غير مفارق فراشه، وهي تنتظر موعد الدواء أو حصة الترويض و التدليك، أو رنين الجرس لعله يريد الخروج في فسحة بأرجاء القصر.
ذات يوم، استقيظ هانز مبكرا كعادته ففوجئ بممرضة أخرى تقدم له الدواء الصباحي، فاستفسر عن كريستين، فأًخبر بأنها سافرت إلى بلغاريا بسبب وفاة والدتها. لم تمر المدة التي غابت فيها كريستين على نحو يسير، فقد أحس بوحشة و اغتراب لم يعهده من قبل، ربما بدأ شعور جميل يدب في قلب هانز، فمعاملتها الطيبة، و كلامها الرقيق، لا يقاومه إنسان، كما أن مصارحتها له ببعض تفاصيل حياتها أضافت جرعة ثقة هو في أمس الحاجة إليها، فقرر أن يبوح لها ما بقلبه، لكنه اعترف بصعوبة المهمة، فكريستين فتاة كاملة بكل المقاييس، تستحق حياة أفضل مما قد يوفره لها بحكم إعاقته، لكنه استحضر كلامها الذي لطالما تردده على مسامعه حول التضحية من أجل الحب، و السعادة الحقيقية. بينما هو بين أخذ و رد، عادت كريستين في حدادها الثالث، فأرجأ هانز طرح الموضوع إلى وقت مناسب، لأن حالة كريستين تتطلب التريث.
مع مرور الأيام، لاحظت كريستين نظرات مريبة لم تعهدها من هانز، كما أن أسلوب خطابه تحسن و لم يعد يطبعه الجفاء و التعالي، وفي يوم من أيامه المتشابهة انتفض هانز لينقلب على وضعه المهزوز، فيكفيه غما عجزه عن الحراك، ليضيف إليه عجز اللسان و القلب، سمعت كريستين رنين الجرس في غير موعده. فاستغربت الأمر خاصة و أن الثلوج تتساقط بكثافة فلا سبيل للخروج، دخلت الغرفة بلا استئذان، و طلب منها أن تجالسه قليلا، فرحبت بالأمر، ثم سألها وهو ينظر في عينيها بعمق: - " لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟ " استقبلت السؤال كالصاعقة، و عرفت مغزاه و مراميه فتأكدت بذلك الشكوك التي راودتها بعد عودتها من صوفيا، فقررت الحسم في هذه الليلة، و بذلك أجابت بعد أن استجمعت أنفاسها: - " حتى أجد الرجل الذي أحبه." عرف أنه تسرع في هذا السؤال لأنه لم يكن مثمرا بل زاد في ارتباكه، فأردف بسؤال أكثر دقة و عيناه لا تفارق عينيها: - " ألم تجديه بعد؟ " أدركت أنه يستعجل الجواب العسير، فقررت مصارحته بما يختلج صدرها نحوه من إعجاب و تقدير، لكنها فضلت أن تستمر في المراوغة لرأي استأثرته لنفسها و أجابت: - " أنا لا أفتقده إنه معي لأنه نفسي، لكنه بدأ يبتعد عني يوما بعد يوم." بدأ اليأس يتسلل إليه، فهي لم تعطه إشارات واضحة تشجعه على البوح بحبه لها، فقال لها خاتما حواره الذي لم ينفعه في شيء : - " أتمنى ألاّ تفقديه، فمن الصعب أن تجدي حبيبا هذه الأيام. " فهمت قصده إنهاء الحوار، فأومأت برأسها و قد اغرورقت عيناها بالدموع وهي مغادرة الغرفة ببطء لعله يناديها فيطفئ حرقتها، لكنه لم يفعل، كانت تأمل أن ينتصر على عجزه و تردده في الاعتراف بحبه، فقد أحبته فعلا رغم عجز بدنه، لكنها لا تستطيع أن تضحي أكثر بسبب عجز لسانه.