Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    الإعداد لعين جالوت الجزء الرابع

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 61736
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 33

    الإعداد لعين جالوت الجزء الرابع Empty الإعداد لعين جالوت الجزء الرابع

    مُساهمة من طرف GODOF الأربعاء 28 أكتوبر - 18:31

    ولابد أن يُربى الآباء والأمهات على أن يشجعوا أبناءهم على الجهاد، لا على أن يبعدوا أبناءهم عن كل ما يسبب "المشاكل"، ويهدد الروح ولو كان الدين!..
    ولابد أن تُربى الزوجات على حياة الجهاد.. فتحفز الزوجة زوجها على الخروج للجهاد، وترعى أولادها حق الرعاية في غياب زوجها، ولابد أن تُربى على استقبال خبر الشهادة بصبر واحتساب، بل بفرح!.. لقد صعد الشهيد من أرض الموقعة إلى الجنة مباشرة..
    إعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة.. وهي ليست سهلة أو بسيطة.. إنما تحتاج لمجهود كبير، ولمناهج مكثفة، ولإخلاص عميق، ولوقت قد يكون طويلاً.. وبدون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، وحياة الحروب، وحياة الحصار..
    الأمر ـ يا إخواني ـ في غاية الجدّية..
    ليس هناك وقت للترفيه ولا للّعب ولا للمزاح!..
    وليس معنى هذا أن الترفيه واللعب والمزاح بالضوابط الشرعية حرام.. ولكن حياة الأمة المجاهدة تختلف عن حياة غيرها من الأمم.. الأمة المجاهدة حياتها جادة, فيها شيء من الترفيه.. وليست حياتها لاهية فيها شيء من الجد!
    هذه التربية المركزة جداً تحتاج إلى تغيير جذري في كيان الشعب وفي طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى مربين من نوع خاص.. ولابد من تفعيل دور العلماء للقيام بهذا الواجب العظيم..

    وانطلق علماء الأزهر ليقوموا بمهمتهم النبيلة جداً.. لقد فقه علماء الأزهر أن عملهم بالأزهر ليس مجرد وظيفة تدر دخلاً لمجابهة متطلبات الحياة، وليست وظيفة لمجرد الظهور في المحافل المختلفة، وليست وظيفة لإرضاء حاكم أو أمير.. إنما فقهوا وظيفتهم السامية في تعبيد الناس ـ كل الناس ـ لرب العالمين، وبالطريقة التي أرادها رب العالمين..
    انطلق علماء الأزهر يقومون بالدور الذي طالما قاموا به منذ أن أقر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السنّي في مصر.. الدور الذي قاموا به أيام الحملات الصليبية، وأيام التتار، والذي قاموا به بعد ذلك في معارك المسلمين اللاحقة مع الصليبيين.. ومع الحملة الفرنسية على مصر، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومع الاحتلال اليهودي لمصر..
    ونسأل الله عز وجل أن يضع دائماً أقدام علماء الأزهر على الطريق الصحيح لقيادة الأمة في قضاياها الحرجة، ومواقفها الخطيرة..
    وأصبح شعب مصر مؤهلاً تماماً ليوم اللقاء..
    واستمر إعداد الجيش وتجهيزه، وجمع المتطوعين، وتدريب المجاهدين، وذلك لمدة خمسة شهور، من شهر ربيع الأول سنة 658 هجرية إلى نهاية شهر رجب من نفس السنة..

    مشكلة "عكا"!:
    وفي هذه الأثناء ـ وتجهيز الجيش على قدم وساق ـ كانت هناك جهود دبلوماسية رائعة يقوم بها قطز رحمه الله لتمهيد الطريق إلى اللقاء الكبير المرتقب مع التتار..
    لقد كانت هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا ـ وخاصة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ـ محتلة من قبل الإمارات الصليبية، فكانت هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية وغيرها.. وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهذه الإمارة تقع في طريق قطز رحمه الله إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين.. فماذا يفعل قطز رحمه الله مع الصليبيين في عكا؟!..
    تعالوا نفكر مع قطز رحمه الله..
    ـ أولاً: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداء الأمة، بل إن الصليبيين - كما أشرنا قبل ذلك ـ أشد خطراً على الإسلام من التتار؛ لأن حرب التتار حرب همجية ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، فهي لمجرد التدمير، لا لشيء غير التدمير، أما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حرباً عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم لحرب الإسلام نفسه، بينما كان التتار يحاربون أي بشر وأي حضارة، والمشروع الصليبي يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمة الأصلية سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش!.. الجيوش التترية ليس لها - مستقبلاً - إلا المغادرة لا محالة، أما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان.. فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، وكونهم يحاربون ليستوطنوا في البلاد, وليعيشوا فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية أشد فتكاً وأكثر تدميراً من حروب الصليبيين، وكلاهما مُرّ.. فقطز رحمه الله يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولابد أن يوضع هذا في الحسبان..
    ـ ثانياً: تاريخ التعاون الصليبي مع التتار قديم ومعروف، فهم الذين رغّبوا التتار أصلاً في بلاد المسلمين من أيام جنكيزخان، وهم الذين ساعدوا هولاكو في إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالُف التتار مع الأرمن والكرج وأنطاكية ببعيد.. فوارد جداً أن يصل التتار إلى تحالف استراتيجي خطير مع الصليبيين في عكا..
    ـ ثالثاً: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، إلا أن قطز رحمه الله كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار أيضاً كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط بل يخافون منهم كذلك.. فالتتار لا عهد لهم أبداً.. ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوروبا وفي روسيا لا تُنسى، وأعداد النصارى الذين قُتلوا على أيدي التتار لا تحصى، كما أن نهب إماراتي صيدا وبيروت على يد التتار لم يمض عليه إلا شهور قليلة.. هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو لأنه فرض بطريركاً أرثوذكسياً يونانياً على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية، وذلك في سابقة لم تحدث قبل ذلك أبداً، والجميع يعلم العداء المستحكم بين الأرثوذكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جداً، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلاً أن يحدث معهم في عكا.. فكل هذه الخلفيات تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد..
    ـ رابعاً: الصليبيون في ذلك الوقت ـ في سنة 658 هجرية ـ يعانون من ضعف شديد، فمنذ هزيمة المنصورة سنة 648 هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي.. منذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر.. فإذا أضفنا إلى كل ما سبق تحرير بيت المقدس قبل ذلك في سنة 643 هجرية على يد الصالح أيوب رحمه الله يتضح الوضع الحقيقي للصليبيين الآن.. فكل هذه التداعيات أدّت إلى هبوط كبير في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا.. ومن هنا فقطز يعلم أنه يتعامل مع عدو شديد الكراهية، ولكنه ليس شديد القوة..
    ـ خامساً: إمارة عكا إمارة حصينة جداً جداً.. بل هي أحصن مدينة على الإطلاق في كل الشام وفلسطين، واستولى عليها النصارى سنة 492 هجرية، أي منذ مائة وست وستين سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون (بمن فيهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله) يفشلون دائماً في فتحها، ولا شك أن قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جداً، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها..
    إذن خلاصة هذه الأمور أن الصليبيين أعداء المسلمين كما أن التتار أعداؤهم، وتحالف الصليبيين في عكا مع التتار أمر وارد، وإن كان الصليبيون في عكا يكرهون التتار ويخافون منهم، والصليبيون في أشد حالات ضعفهم الإعدادي والمعنوي، وإن كانت مدينتهم عكا ما زالت أحصن مدن الشام وفلسطين..

    في ضوء هذه المعطيات وجد قطز رحمه الله أن قتال الصليبيين في عكا سيؤثّر سلباً على جيشه.. نعم الهدف العام والنهائي لقطز هو تحرير كل البلاد الإسلامية من أي احتلال سواء كان تترياً أم صليبياً، لكن الهدف المرحلي الآن هو قتال التتار، وحصار المدينة الحصينة عكا وقتال حاميتها سيضعف جيش المسلمين، وسيضيع عليهم وقتاً، وسيبدد طاقاتهم، وسيرهق جيشهم قبل الموقعة الكبيرة مع التتار..
    لكن قطز - في نفس الوقت - لا يستطيع أن يحارب التتار في فلسطين دون الانتهاء من مشكلة الصليبيين في عكا، فلو حدث تعاون (صليبي ـ تتري) فإن هذا سيضع الجيش المسلم بين شقي الرحى.. بين التتار من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى..
    ومن ثم وجد قطز رحمه الله أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالف الصليبيون مع التتار..
    وأسرع قطز رحمه الله بإرسال سفارة إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، ولو وُفق الوفد المسلم في هذه الهدنة فإن هذا سيحيّد جيش الصليبيين من جهة، وسيُؤمّن ظهر الجيش المسلم من ناحية أخرى، وبالفعل جلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، وكان الصليبيون من الضعف بحيث إنهم خافوا ألا يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون، ولذلك فقد تقبلوا فكرة الهدنة بسرعة، بل أن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار، غير أن هذه الفكرة لم تلق موافقة من كلا الطرفين.. فبقية أمراء الصليبيين كانوا يخشون من الخروج من عكا بجيشهم فيدخل المسلمون عكا إذا انتصروا على التتار، كما أن المسلمين كانوا لا يضمنون خيانة الصليبيين أثناء القتال، وخاصة أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك وأمراء النصارى (ملك أرمينيا وملك الكرج وأمير أنطاكية(، كما أن قائد التتار الحالي نصراني وهو كتبغا..
    لذلك قبل الطرفان بفكرة الهدنة المؤقتة، وأصر الوفد المسلم على أن تكون هذه الهدنة مؤقتة تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعاً أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب للأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض واستيطانها، واذكروا أن الصليبيين يعيشون الآن في عكا منذ مائة وست وستين سنة، أي أن هناك أجيالاً كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز أبداً بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة..
    ولكن لأن قطز رحمه الله يعلم أن هؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإنه أخذ حذره عن طريق الترهيب والترغيب مع الصليبيين.. فقد حذرهم الوفد المسلم بشدة من أنه إذا حدثت أي خيانة للعهد، فإن المسلمين سيتركون التتار وينقلبون على الصليبيين، ولن يتركوهم حتى يحرروا عكا، وهكذا فالمعاهدة من منطلق القوة والبأس تختلف كثيراً عن المعاهدة من منطلق الضعف والخَوَر.. القوي دائماً يملي شروطه، والضعيف يتلقى شروط الآخر، ولذلك فإذا عاهد المسلمون قوماً آخرين سواء كانوا تتاراً أو صليبيين أو يهوداً فإنهم لابد أن يملكوا وسيلة العقاب للطرف الآخر إذا خالف المعاهدة أو نقض بنداً من بنودها، وإلا فلا معنى للمعاهدة، لأنهم حتماً سيخالفون إذا وجدوا فرصة..
    " أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون"..
    كان هذا هو جانب الترهيب.. أما الترغيب فإن قطز قد وعدهم أنه في حالة الانتصار على جيش التتار، فإنهم سيبيعون خيول المغول لأهل عكا بأسعار مخفضة.. وهذا إغراء كبير، وذلك لحاجة الناس والأمراء والجيوش الشديدة للخيول.. وخيول التتار مشهورة بالقوة..
    هذا وقد اتفق قطز أيضاً مع الصليبيين في عكا أن يسهموا في إمداد الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء تواجده في فلسطين ووافق الصليبيون على ذلك..
    وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمناً، وبدأ قطز رحمه الله يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعداداً للانطلاق..

    ..وتطهَّر الجيش المسلم!
    وسبحان الله!.. برغم كل هذا الإعداد المادي والدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي لهذا الجيش، وبرغم التحفيز العظيم الذي قام به العلماء لحثّ الناس على الجهاد، إلا أن هناك بعض المسلمين الضعفاء لم يصدقوا أن القتال أصبح أمراً واقعاً.. وبالطبع أنا أقصد ضعفاء القلب لا ضعفاء البدن، فإنهم طوال هذه الفترة يعتقدون أن هذه مجرد نفرة حماسية، وسوف تهدأ الأمور بعدها، اعتقدوا أن هذه كلمات تقال من قطز كعادة الزعماء في الضحك على شعوبهم لمجرد التنفيس عن الضغوط لكي لا يحدث انفجار، وما اعتقدوا أبداً أن قطز رحمه الله يُعدّ إعداداً حقيقياً للقتال.. فلما اقتربت ساعة الصفر أيقن هؤلاء أن الأمر حقيقي، وأن اللقاء قريب، بل قريب جداً..
    هنا تزعزعت قلوب هؤلاء الرجال ـ أو صور الرجال ـ وبدءوا يفكرون في الهرب من الجيش.. ثم بدأ بعضهم فعلاً في الفرار، والاختباء عن أعين المراقبين, بل إن منهم من خرج بالكلية من مصر ليهرب إلى قطر آخر: فمنهم من هرب إلى الحجاز، ومنهم من هرب إلى اليمن, ومنهم من وصل في هروبه إلى بلاد المغرب!!..
    قد يعتبر بعض المحللين أن هذه خسارة.. وأن الجيش فقد بعضاً من عناصره الهامة، أو على الأقل سيصبح الجيش قليلاً في أعين الأعداء..
    لكن سبحان الله!.. الخير كل الخير كان في هروب هؤلاء في هذه اللحظات السابقة للقتال!.. ولعل الله عز وجل يصعّب جداً من اللقاء قبل حدوثه حتى ينقّي الصف، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت..
    ماذا يحدث لو خرج هؤلاء المتذبذبون في جيش المسلمين؟
    لقد ردّ الله عز وجل على هذا السؤال بوضوح في سورة التوبة فقال:
    " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سمّاعون لهم، والله عليم بالظالمين"..
    هؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثّوا فيه الاضطراب والقلق، تارة عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بُغية إثارة الفتنة، ورغبة في إضعاف الصف، وهذه ليست المشكلة الوحيدة، بل المشكلة الأكبر أن بعض المسلمين الصادقين قد يستمع إلى كلامهم ويقتنع بتشكيكاتهم، فيفقد المسلمون قوة أخرى هامة.. وذلك كما يقول الله عز وجل: "..وفيكم سمّاعون لهم".. ولذلك فخروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر كان مصلحة للجيش المسلم، وإن ظهر للعين غير ذلك، ولذلك لم يحرص قطز رحمه الله كثيراً على إعادة ضمّ هؤلاء؛ فالجندية الحقيقية في الإسلام لا يُهرب منها، بل يُشتاق إليها..
    وهكذا طُهّر الجيش المسلم..

    إلى فلسطين..
    وبدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق، وكان هذا المعسكر في منطقة الصالحية بمحافظة الشرقية الآن (انظر الخريطة رقم 18)، وهي منطقة صحراوية واسعة تستوعب الفرق العسكرية المختلفة، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق..
    وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين..
    اللهم أنت الصاحب في السفر.. والخليفة في الأهل..
    اللهم هوّن علينا سفرنا هذا.. واطو عنا بُعده..
    اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر, وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل..
    واتجه الجيش المسلم من الصالحية إلى اتجاه الشمال الشرقي حتى وصل إلى سيناء، ثم اتجه شمالاً أكثر ليسلك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط..
    كان هذا التحرّك في أوائل شهر شعبان سنة 658 هجرية وهذا يوافق شهر يوليو من سنة 1260 ميلادية، أي أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حرّاً، والسير في الصحراء القاحلة الطويلة في سيناء، وليس في الطريق مدن آهلة اللهم إلا العريش.. ومع ذلك فقد صبر الجيش المجاهد.. وليتذكر الجميع غزوة تبوك وما صاحبها من صعوبات شديدة الشبه بما يصاحب هذه الموقعة؛ فالمسلمون في تبوك فوق الحر وفوق الأزمة الاقتصادية وفوق قطع المسافة الصحراوية الطويلة كانوا يذهبون لقتال قوة هائلة هي قوة الرومان، وهذه المرة كذلك يقطع المسلمون المسافة الطويلة في هذا الحر وفي هذه الأزمة الاقتصادية ليقابلوا جيشاً هائلاً هو جيش التتار.. والتاريخ يكرّر نفسه.. غير أن المسلمين في تبوك لم يجدوا الرومان في انتظارهم فلم تتم المعركة، أما في موقفنا هذا فالتتار كانوا في الانتظار..
    كان قطز رحمه الله يتحرك على تعبئة.. بمعنى أنه يتحرك وقد رتّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجئه جيش التتار كان مستعداً.
    وكان قطز رحمه الله قد وضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصراً ـ ولو جزئياً ـ مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد..
    وكان قطز أيضاً قد سلك في ترتيب جيشه أمراً لم يكن يعهده المعاصرون في زمانه، وذلك على سبيل التجديد في القيادة والإعداد حتى يربك خطط العدو، فكون قطز رحمه الله مقدمة الجيش من فرقة كبيرة نسبياً على رأسها ركن الدين بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيراً عن بقية الجيش، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفي بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتر اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعداد التتار على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له..

    أول النصر.. غزة!!:
    وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 يوليو سنة1260 ميلادية، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره .. واجتازوا رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جداً من غزة (انظر الخريطة رقم 19).. وكما ذكرنا من قبل, فإن التتار كانوا قد احتلوا غزة، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله, واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وتم فعلاً بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية، ولكن كما ذكرنا كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًا، والجيش التتري الرئيسي على مسافة كبيرة من غزة، فقد كان جيش التتر بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلومتر تقريباً من غزة، فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة.. وقُتل بعض جنود الحامية التترية، وفرّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان..
    لقد فوجئت الحامية التترية في غزة!.. وكانت المفاجأة سبباً لهزيمة قاسية لهم، وليست المفاجأة الوحيدة في وقعة غزة هي مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الأبعاد الاستراتيجية في اتخاذ المواقع المناسبة أو غير ذلك من مفاجآت فنون الحرب.. إنما المفاجأة الحقيقية للتتار كانت اكتشاف أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل، وما زالت تحمل السيوف, وما زالت تدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن كرامتها.. لقد ألف التتار أن يجدوا جموع المسلمين يفرون ويهربون، وألف زعماء التتار أن يجدوا زعماء المسلمين يطلبون التحالف المخزي والركوع المذل.. وما توقعوا أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن حقها..
    لقد كان هذا هو ظن التتار، وهو ظن ليس في محلّه حتماً، فإن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لا تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظلّ فيها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة..
    روى الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
    "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله"
    وسبحان الله!!.. ففي رواية الإمام أحمد عن أبي إمامة رضي الله عنه هناك زيادة هامة، وهي أن الصحابة سألوا عن هذه الطائفة فقالوا: "يا رسول الله وأين هم؟" قال" ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس!"..
    ومع أن الذين قاتلوا التتار في غزة, ثم بعد ذلك في عين جالوت لم يكونوا - في المعظم ـ من أهل بيت المقدس ولا فلسطين، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا المكان الطاهر "فلسطين" موطناً لانتصارات المسلمين..
    نعم قد تحدث هنّات وسقطات.. لكن حتماً يكون هناك قيام..
    على أرض فلسطين وما حولها من أرض الشام وُجهت ضربات إسلامية موجعة للإمبراطورية الرومانية في أجنادين وبيسان واليرموك وبيت المقدس..
    وعلى أرض فلسطين وما حولها وجهت ضربات إسلامية موجعة للصليبيين في حطين وطبرية وبيت المقدس..
    وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للتتار في غزة ثم في عين جالوت كما سنرى ثم في بيسان.
    وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة لبقايا الصليبيين بعد ذلك في عكا وعسقلان وحيفا..
    وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للفرنسيين في عكا..
    وعلى أرض فلسطين كذلك وجهت ضربات إسلامية موجعة للإنجليز في الثورات المختلفة وأشهرها ثورة 1936 والتي استمرت قرابة أربع سنوات..
    وعلى أرض فلسطين وُجِّهَت ـ وما زالت تُوَجَّه ـ ضربات إسلامية موجعة لليهود..
    وسيكون هلاك اليهود ـ بإذن الله ـ على هذه الأرض..
    وستكون الحرب الأخيرة بين المسلمين واليهود على هذه الأرض، وسيقتلهم المسلمون..
    هذا ليس استنتاجاً أو استنباطاً، إنما هو حقيقة كونية، وبشارة نبوية!!..
    روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ, فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ.. حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ, فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ.. يَا عَبْدَ اللَّهِ.. هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ... إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ "...
    نعود إلى بيبرس وإلى قطز وإلى الجيش المسلم..
    لقد انتصر المسلمون على التتار، ولو كان هذا الانتصار جزئياً أو مرحلياً أو بسيطاً..
    بعض المؤرخين يُبَسّطون جداً من شان معركة غزة، حتى يتغافلها بعضهم تماماً، والحق أنها كانت - في رأيي - من أهمّ المواقع الحربية في تاريخ المسلمين، ليس لكثرة قتلى التتار، ولا لأهمية غزّة الاستراتيجية ولا لغير ذلك، إنما في الأساس لأنها عالجت الهزيمة النفسية عند المسلمين..
    لقد رأى المسلمون بأعينهم أن التتار يفرّون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة، التي كانت تقول: "من قال لك أن التتار يُهزمون فلا تصدقه"..
    الآن من الممكن أن تصدقه.. هذه أول مرة يهزم فيها التتار منذ سنين طويلة..
    لقد كان لموقعة غزة أثر إيجابي هائل على جيش المسلمين، وكان لها أيضاً أثر سلبي هائل على جيش التتار..
    ولا يجب أن يستصغر المسلمون عملاً من الأعمال..
    لا يستصغرنّ مسلم أن حجارة تُلقى على يهودي فيجري ويهرب..
    ولا يستقلنّ مسلم أن يُقتل جندي يهودي أو أمريكي..
    الهزيمة الحقيقية يا إخوة هي هزيمة الروح والنفس.. والانتصارات المرحلية البسيطة ـ وإن كانت عسكرياً لا تمثل الكثير ـ إلا أنها تفيد كثيراً في رفع الروح المعنوية للأمة..

    إلى عين جالوت..:
    اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال وهم يسيرون بحذاء ساحل البحر الأبيض المتوسط ليمرّوا على المدن الإسلامية العظيمة الواحدة تلو الأخرى، فمرّوا على عسقلان ثم على يافا )المدينة الإسلامية الجميلة) - نسأل الله أن يحررها وأن يحرر كل فلسطين من دنس اليهود - ومن المعروف يا أخواني أن مدينة تل أبيب قد أنشئت في شمال يافا مباشرة، ثم أكمل قطز والجيش المسلم طريقه في اتجاه الشمال، فمرّ في غرب طولكرم، ثم وصل إلى مدينة حيفا، ثم اتجه شمالاً بعدها إلى عكا المدينة المسلمة المحتلة من قبل الصليبيين (انظر الخريطة رقم 19)..
    وعسكر قطز رحمه الله في الحدائق المحيطة بحصن عكا في السهل الواقع في شرق عكا، ثم بدأت المراسلات بين قطز رحمه الله وأمراء عكا الصليبيين للتأكيد على الاتفاقيات السابقة، وأرسل قطز رحمه الله وفداً من الأمراء المسلمين، فدخلوا حصن عكا، وأحسن الأمراء الصليبيون استقبال المسلمين، وأكّد الطرفان على ما سبق الاتفاق عليه، وتكررت الزيارات أكثر من مرة، واطمأن الطرفان على استقرار الوضع، ومن ثم عزم قطز على الرحيل من عكا واختيار مكان مناسب للّقاء الهام المرتقب بينه وبين التتار..
    وعندما بدأ قطز رحمه الله في مغادرة منطقة عكا أشار عليه أحد الأمراء الذين قاموا بالسفارة بينه وبين الأمراء الصليبيين أن عكا الآن في أشد حالات ضعفها، وأنهم مطمئنون إلى المعاهدة الإسلامية، وغير جاهزين للقتال، فإذا انقلب عليهم قطز فجأة فقد يتمكن من إسقاط حصن عكا، وتحرر المدينة الإسلامية بعد مائة وست وستين سنة من الاحتلال، فرد عليه قطز رحمه الله رداً قاطعاً صارماً واضحاً.. قال: " نحن لا نخون العهود!"..
    يا الله!! الرؤية واضحة جداً جداً في عين قطز رحمه الله..
    هذه قيادة تأخذ بأسباب النصر الحقيقية.. ومن أسباب النصر الحقيقية اتباع شروط الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وحفظ العقود وعدم نقض المواثيق من صميم شرع الله عز وجل..
    يقول الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "..
    وأنا أريد أن أنقل للصليبيين ولليهود وللتتار وللعالم أجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي حسن صحيح عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    "من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يَحُلنَّ عهداً، ولا يشدنه )أي لا يغيرن العهد بأي طريقة) حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء"..
    فإما أن تنقضي مدة العهد، وإما أن تخبر أعداءك بأنك لسبب أو لآخر ستقطع العهد .. أما الغدر فلا مكان له في العقود الإسلامية..
    هذا هو دين الإسلام.. وهذا هو شرع الإسلام.. وهذه هي قوانين الإسلام.. وهؤلاء هم قادة الإسلام..
    وهكذا ترك قطز رحمه الله عكا، واتجه إلى الجنوب الشرقي منها ليبحث عن مكان يصلح للمعركة القادمة..

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 14 نوفمبر - 17:49