Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Research - Scripts - cinema - lyrics - Sport - Poemes

عــلوم ، دين ـ قرآن ، حج ، بحوث ، دراسات أقســام علمية و ترفيهية .


    الإعداد لعين جالوت الجزء الثالث

    avatar
    GODOF
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 10329
    نقــــاط التمـــيز : 61736
    تاريخ التسجيل : 08/04/2009
    العمر : 33

    الإعداد لعين جالوت الجزء الثالث Empty الإعداد لعين جالوت الجزء الثالث

    مُساهمة من طرف GODOF الثلاثاء 27 أكتوبر - 12:37

    عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فوراً في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط..
    أما قطز رحمه الله فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، إنه لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، فخيار السلام ـ أو "الاستسلام" ـ في هذا الموقف غير وارد عنده أبداً، وهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا "توهب" بل "تؤخذ"، وأن الجيوش المعتدية لا " تُقنع" بالعودة إلى بلادها، بل "تُرغم" على العودة إلى بلادها..
    هكذا كانت الرؤية في منتهى الوضوح عند قطز رحمه الله..
    لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم.. نعم لديهم حمية دينية عالية، ونعم يحبون الإسلام حباً جماً، ونعم على درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، لكن الاختبار صعب جداً..
    لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وإمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة.. لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين أعداد التتار وأسلحة التتار، وأعداد المصريين وأسلحة المصريين، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذُبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هُزِمت أمام جيوش التتار..
    لقد شاعت في تلك الأزمان كلمة تناقلها العوام والخواص.. كانوا يقولون:
    "إذا أخبرك أحد أن التتار يُهزمون فلا تصدقه!!"..
    كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه.. وظهر عليهم الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض!
    كيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟
    كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟
    كيف يقنع قادة جيشه بأمر يعتقدونه مستحيلاً؟!
    تعالوا نتعلم من قطز رحمه الله..

    "أنا ألقى التتار بنفسي..!"
    لقد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية، ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس..
    أما الطريق الأول فهو طريق "التربية بالقدوة"..
    لقد قال لهم قطز في شجاعة وعزم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
    قطز الذي يجلس على عرش الدولة العظيمة مصر سيخرج بنفسه للقاء التتار!..
    قطز الذي لم "يستمتع" أو "يستفد" بعد من كرسيه ومنصبه سيخرج للجهاد!..
    قطز الشاب الذي ما زالت أمامه الحياة طويلة ـ كما يقولون ـ سيخرج للموت في سبيل الله!!..
    لن يرسل جيشاً لمقابلة التتار ويبقى هو في قصره الآمن في القاهرة، بل سيتحمل مع شعبه ما يتحمل، وسيعاني مع جيشه ما يعاني.. ولو أرسل قطز جيشاً وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة.. كما أنه يشتاق إلى الجهاد، ويشتاق إلى الشهادة، ويشتاق إلى الجنة..
    وفي كل الأحوال هو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله له..
    لقد فقه قطز عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً.. وهو أنه "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".. لكن مَن مِن المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟!
    إن الناس تتصارع دائماً لأجل زيادة الرزق، وتتصارع دائماً لأجل زيادة العمر، لكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبداً من الأرزاق، ولا تقصر مطلقاً من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده في الحياة.
    كما فقه قطز رحمه الله الحقيقة الرائعة وهي أن الحياة بعزة ولو ساعة، خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان..
    ماذا كان ردّ فعل الأمراء؟!
    لا شك أن الأمراء والوزراء لما شاهدوا قطز رحمه الله بهذه الحمية تحمست قلوبهم..
    هذه هي القدوة أيها المؤمنون..
    "فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل"..
    إن القائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، لكنهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يجدوه معهم، بل سيؤمن نفسه وأحبابه فقط، ويترك جنوده وشعبه لمصيرهم، فإن هذه الجولات وهذه الخطب لا تؤثر شيئاً في الناس..
    وقدوتنا العظمى في القادة الذين يعيشون هموم شعبهم، ويشاركونهم في كل صغيرة وكبيرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    روى البخارى عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة، عُري ما عليه سرج، في عنقه السيف، فقال: لقد وجدته بحراً"..
    لقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم صوتاً مفزعاً في الليل وهو في المدينة، فما أمر أحداً بالخروج للبحث عن مصدر الصوت، مع أنه قائد المدينة المنورة ورسول المسلمين، وكان خروجه سريعاً حتى إنه استعار فرساً من أبي طلحة ولم ينتظر وضع السرج عليه، ولكنه فقط أخذ سيفه، وركب الفرس، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت.. ولما اطمأن أنه لا شيء يهدد المدينة عاد إليها وقد خرج الناس فزعين فإذا هو يطمئنهم: "لن تراعوا"، أي لن تفزعوا، ثم قال كلمة يثني فيها على الفرس الذي كان مشهوراً بالبطء، فقال: "لقد وجدته بحراً" أي سريعاً في الجري.. يقول ثابت أحد رواة الحديث كما جاء في سنن ابن ماجة: "كان فرساً لأبي طلحة رضي الله عنه يُبطأ (يُتَّهم بالبطء) فما سُبق بعد ذلك اليوم"..
    والشاهد من الموقف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش هموم شعبه، ويفتديهم بروحه، ويضحي بنفسه من أجلهم، ولا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء الذي يضحون بشعوبهم بكاملها من أجل أنفسهم..
    يروي الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
    "كنا إذا احمرَّ البأس (اشتدَّت الحرب)، ولقي القومُ القومَ، اتقينا (احتمينا) برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"..
    هذه هي "التربية بالقدوة"..
    وهكذا فعل قطز رحمه الله مع الأمراء والقواد حين قال لهم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
    كان هذا هو الطريق الأول الذي سلكه قطز رحمه الله في تحميس القوم.

    "من للإسلام؟.. إن لم نكن نحن؟!"
    أما الطريق الثاني فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض..
    إنه يرتفع بنفوس الناس من مطامع الناس المادية البحتة إلى آفاق عالية جداً جداً.. إنه يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله عز وجل، وبنصرة الدين..
    إذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين..
    هذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز.. أن تعظم الغاية والهدف إلى أقصى درجة.. فيصبح جهادُك واستعدادُك وحركتك نوعًا من العبادة لله رب العالمين..
    لم يحفزهم قطز بدنيا، ولم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بقومية مصرية أو غيرها، ولم يحفزهم بقومية عربية أو بغيرها، ولم يحفزهم حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت.. بل إنه حفزهم بالحرص على الموت!!..
    وشتان بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على أن لا يموت!!.. شتان فعلاً..
    لقد قال لهم قطز في صراحة:
    "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال)"..
    كلام في منتهى الدقة، وفي منتهى الروعة..
    القضية بوضوح قضية إيمان..
    إذا علمت أن الله مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك..
    ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُكره منافقاً على الخروج معه للقتال.. بل كان يترك الأمر على السعة، بل إنه إذا تخلف المسلمون المؤمنون )كما حدث في غزوة تبوك من بعض المؤمنين) فإنه لا يكرههم، بل كان إذا ذُكر له رجل تخلف قال: "دعوه، فإن يكن فيه خير سيُلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه"..
    وهكذا فعل قطز رحمه الله..
    من أراد أن يخرج للجهاد في سبيل الله فليفعل، ومن أراد النكوص على عقبيه، والركون إلى الدنيا فليعلم أن الله مطلع عليه، وليعلم أن حرمات المسلمين والمسلمات التي تُنتهك في رقبته..
    ولا يخفي علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد هو استغلال المنصب لأقصى درجة لزيادة الثروة، من الحلال وغير الحلال على السواء، وما عاد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب وليس سيداً عليهم، وأنه كما أن له حقوقاً فإن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم أو دينار.. لقد كانت هذه الكلمات من قطز تهدف إلى إيقاظ الضمير، وإلى إحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.. لقد كان قطز يرى بوضوح ما بداخل كل وزير!!
    ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول:
    "يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن"..
    كلمة رائعة.. كلمة هائلة!!..
    كلمة تصلح أن تكون منهجاً للحياة..
    إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أبداً أمة الإسلام..
    أحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين.. ينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، ولكنه قليلاً ما يفكر هو في التحرك.. بل كثيراً ما يقوم بعملية نقد وتحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، أما هو فلا يتحرك!
    أحياناً ينتظر المسلم أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره، أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرج هؤلاء من بيته هو شخصياً..
    لماذا لا تكون أنت صلاح الدين الأيوبي؟
    لماذا لا تكون أنت يوسف بن تاشفين؟
    لماذا لا تكون أنت نور الدين محمود الشهيد؟
    لماذا؟
    من للإسلام إن لم نكن نحن؟
    ووقعت الكلمة في قلوب الأمراء.. فضجوا جميعاً بالبكاء!!..
    لقد خشعت القلوب.. ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله..
    وقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، فقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن، وهكذا نجح قطز رحمه الله في خطوة هي من أصعب خطوات حياته، وهي في ذات الوقت من أعظم خطوات حياته..
    إذن مصر تعلن الحرب على التتار!!..
    قرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً.. وهو قرار لا ينفع أن يرجع عنه القائد أو الجيش أو الشعب، وقطز رحمه الله يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة، وتحت تأثير التذكير بالله، وبالواجب نحو الإسلام، لكن من الممكن لهذه القلوب أن تتردد وأن تخاف، ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمراً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!..

    ماذا قرر قطز؟!
    لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب، وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلاناً للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلباً على التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل الأربعة هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل الجادّ للجهاد، فبعد قتل الرسل الأربعة لن يقبل التتار باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون..
    كان هذا هو اجتهاد قطز رحمه الله والأمراء..
    ومع ذلك فلنا وقفة مع هذا الحدث..

    وقفة أمام قتل الرسل:
    فأنا لا أدري ما هو السند الشرعي لقطز رحمه الله في عملية القتل هذه؟!..
    فالرسل في الإسلام لا تقتل.. لا رسل المسلمين، ولا رسل الكفار، ولا حتى رسل المرتدين عن الإسلام!.
    يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟ " قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما"..
    يعلّق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على هذا الحديث فيقول: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل..
    هذا الحديث رواه الإمام أحمد والحاكم، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي مختصراً..
    وفي رواية لأحمد وأبي داود عن نعيم بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الموقف: "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما"..
    يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه القيم "نيل الأوطار": هذان الحديثان )حديث عبد الله بن مسعود وحديث نعيم بن مسعود رضي الله عنهما) يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين..
    لهذا فالحكم الشرعي في الإسلام أن الرسل لا تقتل، ولا أدري ما الحجة الشرعية التي استخدمها قطز ليقتل هؤلاء الرسل؟ ولا أدري لماذا سكت العلماء في زمانه عن هذه النقطة؟ أو لعلهم تكلموا ولم يصل إلينا قولهم، ولعل قطز اجتهد في أن التتار قد هتكوا كل الأعراف والقوانين والمواثيق، فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، وبأعداد لا تحصى، وقد قتلوا في بغداد وحدها مليون مسلم، هذا غير المدن التي سبقت والتي لحقت، ولعله اجتهد هذا الاجتهاد بعد أن أساء الرسل الأدب معه، وأغلظوا له في القول، وتكبروا عليه.. لعل هذا كان اجتهاده، وإن كنت أقول إننا لا يجب أن نُجرّ أبداً إلى قذارات السياسة المادية، وإلى أخلاق الكفار.. فإذا قتل الكفارُ الأطفالَ المسلمين فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا أطفال الكفار بحجة أن العقاب بالمثل، وإذا قتل الكفار النساء المسلمات وهتكوا أعراضهن فليس هذا مبرراً لقتل النساء الكافرات غير المقاتلات وهتك أعراضهن، وهتك العرض طبعاً غير مقبول سواء للمقاتلة أو غير المقاتلة، وإذا خان الكفار العهد فلا يجوز للمسلمين خيانة عهودهم.. وعلى نفس الوتيرة لا يقتل المسلمون الرسل، ولا يقتل المسلمون الكفارَ الذين أخذوا أماناً من المسلمين..
    كلُّ هذا ليبقى دين الإسلام نقياً خالصاً غير مختلط بقذارات القوانين الوضيعة.. وليظل المثل الإسلامي الرفيع، والخلق الإسلامي العالي وسيلة باقية لدعوة شعوب الأرض إلى هذا الدين الرائع.. دين الإسلام..
    لكل ما سبق فإني أعتبر ما حدث من قطز والأمراء في هذه الخطوة هو هفوة وخطأ في الاجتهاد.. ولابد لكل إنسان مهما عظم قدره أن يكون له أخطاء إلا الأنبياء المعصومين.. ويكفي المرء فخراً أن تعد معايبه..

    المشكلة الاقتصادية:
    بعد هذا الاجتماع الخطير، وبعد هذا القرار الصعب، وبعد قتل الرسل.. بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جداً لحظة المواجهة..
    لكن واجهت قطز مشكلة أخرى ضخمة لا تقل عن المشاكل التي قابلها قبل ذلك.. ولاحِظوا أن قطز رحمه الله قد تولّى عرش مصر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، وجاءته رسالة هولاكو قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائداً إلى منغوليا بعد وفاة زعيم التتار منكوخان، وهولاكو غادر الشام بعد سقوط حلب بقليل، وقبل فتح دمشق، وحلب سقطت في صفر 658 هجرية، ودمشق سقطت في ربيع الأول سنة 658 هجرية.. أي بعد تولّي قطز رحمه الله لرئاسة مصر بثلاثة شهور فقط..
    إذن كل الترتيبات والخطوات التي أخذها قطز رحمه الله أخذت في ثلاثة شهور فقط، والمشاكل التي قابلها تحتاج فعلاً إلى سنوات - بل إلى عقود كاملة - حتى يتم حلها على الوجه الأمثل.. لكنه رحمه الله استعان بالله، وبدأ بحمية ونشاط يتعامل مع المشكلة تلو الأخرى، والهدف في ذهنه واضح جداً:
    "لابدّ من القضاء على هذه القوة الهمجية.. قوة التتار، وتحرير بلاد المسلمين"..
    والمشكلة الجديدة التي أمام قطز الآن هي...... "المشكلة الاقتصادية!!"..
    لابدّ من تجهيز الجيش المسلم، وإعداد التموين اللازم له، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار.. هذه أمور ضخمة جداً.. والأزمة الاقتصادية التي تمر بالبلاد أزمة طاحنة، وليس هناك وقت لخطة خمسية أو عشرية.. والتتار على الأبواب.. لقد كان التتار في غزة!!..
    ماذا يفعل قطز رحمه الله؟!
    من جديد جمع قطز رحمه الله مجلسه الاستشاري، ودعا إليه ـ إلى جانب الأمراء والقادة ـ العلماء والفقهاء، وعلى رأسهم سلطان العلماء الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله.. وبدءوا يفكرون في حلّ للأزمة الاقتصادية الطاحنة، وكيف يوفرون الدعم الكافي لتجهيز الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار..
    واقترح قطز رحمه الله أن تفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية، لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة جداً، ومؤقتة جداً، ولابدّ من وجود سند شرعي يبيح ذلك.. وإلا صارت الضرائب مكوساً، وفارض الضرائب بغير حق عقابه أليم عند الله عز وجل..
    روى الإمام احمد وأبو داود رحمها الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة صاحب مكس"..
    ولما زنت المرأة الغامدية ـ وكانت متزوجة ـ فرجمت بالحجارة بعد أن اعترفت بالزنا لتطهر نفسها من الذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظم من شأن توبتها:
    ".. فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له"..
    جاء ذلك في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه..
    وفي هذا تقبيح شديد لعملية فرض الضرائب إن فرضت في غير حق، وصرفت في غير حق..
    يقول الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: "إن المكس من أقبح المعاصي، ومن الذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها"..
    فقطز رحمه الله يقترح الأمر، وينتظر رأي العلماء في هذه القضية..
    ومع أن الغاية نبيلة، والمال المطلوب سوف يجهّز به جيش للقتال في سبيل الله، إلا أن الشيخ العزّ بن عبد السلام كان عنده تحفظ خطير على هذا القرار، فلم يوافق عليه إلا بشرطين.. والشرطان عسيران جداً!!

    فتوى في منتهى الجرأة!!..:
    قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: .
    "إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم )أي العالم الإسلامي(، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم )أي فوق الزكاة( بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء )هذا هو الشرط الأول) أما الشرط الثاني فكان أصعب!.. قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: "وأن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون(، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا!!"..
    فتوى في منتهى الجرأة!!..
    يقول الشيخ العزّ بن عبد السلام لقطز رحمه الله إنه لا يجوز فرض ضرائب إلا بعد أن يتساوى الوزراء والأمراء مع العامة في الممتلكات، ويجهز الجيش بأموال الأمراء والوزراء، فإن لم تكف هذه الأموال جاز هنا فرض الضرائب على الشعب بالقدر الذي يكفي لتجهيز الجيش، وليس أكثر من ذلك..
    وإن كانت هذه الفتوى عجيبة في جرأتها، فإن استجابة قطز رحمه الله كانت أعجب!!..
    لقد قبل قطز رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة!.. وبدأ بنفسه, فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك!.. فانصاع الجميع, وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية.. واكتشف المسلمون في مصر اكتشافاً عجيباً.. لقد اكتشفوا أن مصر غنية جداً، وأن البلد به أموال ضخمة برغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة.. وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول.. لقد كانت ثروات بعضهم تكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد.. وكانت ثروات بعضهم تكفي لسد حاجة الفقراء والمساكين.. وتكفي لإصلاح الوضع الاقتصادي..
    وللأسف الشديد فإن كثيراً من هذه الأموال قد دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق؛ فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق... وهكذا بُددت أموال الدولة العظيمة مصر!.. وأصبحت مصر دولة فقيرة نامية بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة!!
    ثم جاء قطز رحمه الله وبدأ في عملية تنظيف منظمة للبلد!.. تنظيف لليد والقلب..
    أخيراً اصطلح القائد مع شعبه بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب.. فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب.. غايته نبيلة.. وأمواله حلال.. ودعاء الناس له مستفيض.. وإعداده جيد..
    كيف لا يُنصر جيش مثل هذا؟!..
    إن معادلة النصر في الإسلام ليست صعبة..
    المعادلة تقول: "إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم"..
    ونصر الله عز وجل لا يكون إلا بتطبيق شرعه، والجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله عز وجل.. فالبداية بيد المسلمين.. انصر الله عز وجل ينصرك الله عز وجل..
    وهكذا.. جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعداداً عظيماً..

    حتمية الجهاد.. في فلسطين:
    وجاء وقت إعداد الخطة، ووضع الخريطة لتحرك الجيش..
    واجتمع قطز مع المجلس العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وليبحثوا توفير أفضل ظروف لتحقيق الانتصار..
    وقام قطز رحمه الله بإلقاء بيانه الذي يوضح فيه رأيه في الخطة العسكرية.. وبمجرد أن ألقى برأيه، قام المجلس ولم يقعد!.. لقد أحدث رأي قطز دوياً هائلاً في المجلس العسكري!!..
    ماذا أراد قطز رحمه الله؟
    لقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار.... في فلسطين!..
    لقد قرر ألا ينتظر في مصر حتى يأتي التتار إليه، بل يذهب هو بجيشه لمقابلتهم..
    واعترض أغلب الأمراء.. لقد أراد الأمراء أن يبقى قطز في مصر ليدافع عنها.. فمصر ـ في رأي الأمراء ـ هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى!!.. لقد نظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة.. بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر فإننا نكون قد تجنبنا لقاءً دموياً هائلاً.. أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذ سوى المعركة..
    أما قطز رحمه الله فكانت نظرته أوسع من ذلك..
    وبدأ قطز رحمه الله يناقش الأمراء ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده.. لقد أفهمهم قطز رحمه الله حقائق غابت - ولمدة سنوات طويلة ـ عن أذهان الكثيرين منهم..
    من هذه الحقائق:
    ـ أولاً: أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية؟!.. العقل يؤكد أنه من المتوقع جداً أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، وتهدد مصر في عمقها، فلابد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو بمساعدة من يقاتلونه هناك.. هذا هو التفكير العقلي والمنطقي..
    ـ ثانياً: من الأفضل عسكرياً أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه، فإن ذلك سوف يؤثر سلباً على نفوس أعدائه، كما أنه سيوفر له خط رجعة آمنًا إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، أما إذا حدثت الهزيمة للجيش المصري المسلم في داخل مصر، فإن ذلك سيفتح الطريق أمام العدو إلى القاهرة..
    ـ ثالثاً: من الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، فيختارون هم ميعاد المعركة ومكانها بدلاً من أن يختار العدو ذلك، والمسلمون إذا فاجئوا عدوهم فإن هذا يعطيهم أفضل الفرص للنصر، لأن الجيش المعادي لن يكون مستعداً الاستعداد الكافي، هذا إلى جانب الهزيمة النفسية التي ستلحق به..
    ـ رابعاً: (وهذه نقطة هامة جداً) أن للمسلمين في مصر دوراً هاماً ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وفي سوريا وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي أذربيجان وفي الشيشان... ولا يستقيم أن تُقام المذابح للمسلمين في تلك البلاد، وتُنتهك الحرمات، وتُهدم الديار، ولا يتحرك المسلمون في مصر.. إن حركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلاً أو نافلة، إنما هي فرض عليهم.. وليست فرض كفاية، إنما فرض عين.. لقد دهم العدو فعلاً أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، أي مصر والأقطار الأخرى المجاورة مثل سوريا والأردن ولبنان، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد... وهكذا، حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض..
    القضية خطيرة جداً..
    انتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة.. ولذلك فإن قطز رحمه الله سيذهب لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها، حتى لو لم يفكر التتار أصلاً في غزو مصر..
    ـ خامساً: للمسلمين دور ناحية التتار أنفسهم.. فهؤلاء إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، حتى ولو كانوا في بلادهم، فما بالك لو كانوا في بلاد المسلمين.. ووجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة، وبهذه الحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة في الأرض.. ولابد للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة، لأن دور المسلمين في الأرض أكبر بكثير من مجرد تأمين حدود القطر الذي يعيشون فيه، بل عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وتعليم الناس الإسلام، والأخذ بأيدي كل الناس في كل بقعة على وجه الأرض إلى الله عز وجل..
    يقول الله عز وجل: .
    "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"..
    ويقول أبو هريرة رضي الله عنه تعليقاً على هذه الآية كما جاء في صحيح البخارى:
    "خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ"..
    والمقصود بذلك: الفتوح الإسلامية.. فالناس يكونون في البداية كارهين لمن يغزو بلادهم، ثم بعد ذلك يعرفون الإسلام فيدخلون فيه، فيُستنقذون بذلك من النار ويدخلون الجنة، ولو ظلّوا على حالهم يعبدون صنماً أو خشباً أو بقراً أو ناراً أو بشراً ما دخلوا الجنة، ولا شموا رائحتها..
    "إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"..
    إذن هذه خمسة أسباب تجعل قطز رحمه الله يفكر في أخذ جيشه، ونقل ميدان المعركة إلى فلسطين بدلاً من مصر..
    وعلى الجانب الآخر فلابد أن قطز كان يعلم أنه كانت هناك بعض الفوائد لانتظار جيش التتار في مصر، فانتقال جيش التتار من فلسطين إلى مصر سيُطيل على التتار خطوط الإمداد والمواصلات، فينقطع التتار بذلك عن قواعدهم، كما أنه سيرغم التتار على اجتياز الصحراء الواسعة في سيناء، وهي صحراء مهلكة للجيش الذي لا يعرف مسالكها ودروبها، كما أن انتظار التتار سيوفر على جيش مصر اجتياز صحراء سيناء وهذا سيوفر كثيراً من طاقة الجيش..
    ومع ذلك فقياس الفوائد المتحققة من نقل ميدان المعركة إلى فلسطين بالنسبة للفوائد المتحققة من انتظار التتار في مصر يجعل القضية واضحة في ذهن قطز، ففوق الأسباب الخمسة التي ذكرناها، والتي تؤيد انتقاله إلى فلسطين.. كان يعلم أن القوات التترية قد أثبتت قبل ذلك كفاءة عالية في اجتياز الموانع الطبيعية المختلفة، وأنهم يجندون الكثير من أبناء المسلمين الذين يبحثون عن الثراء السريع، أو الراغبين في السلطة، أو في الأمان، وهؤلاء سيدلونهم على أقصر الطرق إلى مصر، وأكثرها أمناً، ولذلك فعبور سيناء بالنسبة للجيش التتري أمر متوقع، كما أن قطز رحمه الله كان يطمئن كثيراً إلى جيشه، ويثق في قدراته الحركية، وكفاءته التدريبية، ويعلم أن انتقاله عبر سيناء إلى فلسطين أمر ممكن، بل ميسور إن شاء الله..
    وهكذا ترجحت كفة الانتقال إلى فلسطين.. واقتنع الحضور في المجلس العسكري الأعلى الذي عقده قطز رحمه الله برأيه الموفق.. وبدأ قطز رحمه الله في إعداد الجيش، وتجهيزه التجهيز المناسب لعبور سيناء وللقاء التتار..

    أول القوة.. الإيمان:
    وتبدأ حملة إعلامية تربوية في غاية الأهمية.. ليست للقائد أو للجيش فقط.. بل للشعب بأكمله!
    لابد أن يُجهّز الشعب لهذا اللقاء الهام..
    لابد أن يعيش الشعب حياة الجد والكفاح، ويترك حياة اللهو واللعب..
    لابد أن يحب الشعب الجهاد.. وتتضح في عينه الأهداف..
    ولابد أن يقوم بالحملة الإعلامية رجال مخلصون.. فأحياناً يقف بعض المنافقين يتحدثون عن الجهاد، ويشرحون مآسي المسلمين في قطر ما، وما يفعلون ذلك إلا لمصلحة سياسية مؤقتة، فإذا انقضت المصلحة انقطع الوازع، وانقطع معه الكلام عن الجهاد وعن الحرب..
    هؤلاء الخطباء المنافقون، وهذه الأقلام المأجورة لا تصلح لهذه المهمات النبيلة.. ولذلك كان لابد أن يحمل مسؤولية الدعاية الإعلامية لحرب التتار علماء الأمة وفقهاؤها..
    انطلق الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله ومن معه من علماء الأمة، يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد.. وما أجمل حديث الجهاد..
    لقد رغّبوا الناس في الجنة.. وزهّدوهم في الدنيا.. وعظّموا لهم أجر الشهداء..
    لقد حدثوهم عن عظماء المسلمين المجاهدين.. حدثوهم عن خالد والقعقاع والزبير والنعمان.. حدثوهم عن طارق بن زياد وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي..
    لقد ذكّروهم بأيام الله.. ببدر.. والأحزاب.. وفتح مكة.. واليرموك.. والقادسية.. ونهاوند..
    ذكّروهم بموقعة حطين الخالدة التي لم يمضِ عليها إلا خمسة وسبعون عاماً..
    كما ذكّروهم بموقعتي المنصورة وفارسكور والتي لم يمض عليهما سوى عشر سنين..
    واشتعل الحماس في قلوب الشعب..
    لابد ـ أيها المؤمنون الصادقون ـ من تأهيل الشعب لهذا اليوم..
    لابد أن يُربى الأطفال والشباب على حب الموت في سبيل الله، وعلى تعظيم أمر الجهاد، وعلى حب الجنة..

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 14 نوفمبر - 18:09