نقوم من النوم صباحًا للذهاب إلى العمل، والسعي إلى الرزق من أجل الأبناء والزوجة، أو من أجل الوالدين، أو من أجل الذات فقط، لابد أن نتذكر أن هناك أناسًا يعملون من أجل البشرية جمعاء، وهبوا حياتهم بدون مقابل مادي لخير الإنسانية، دافعهم لذلك ديني، أو أيدولوجي، أو أخلاقي، المهم أن وجود هؤلاء في هذا العالم، أصبح ضرورة لا ترفًا يمكن الاستغناء عنه. ورغم كافة التهم وسوء الظن الذي يوجهه البعض لهم، فإنهم ماضون في طريقهم لأنهم لا ينتظرون من الناس جزاء ولا شكورًا. ربما أسهمت الكلمات التالية في تشجيع البعض على اللحاق بهؤلاء المتطوعين.
من روضة الأطفال حتى المفاعل النووي
إذا نظرنا إلى أوضاع رياض الأطفال في عالمنا العربي، فهي واحدة من ثلاث، إما أن تكون روضة خاصة، أنيقة حديثة مزودة بكل ما يحتاج إليه الطفل، وعندها ستكون التكلفة الشهرية باهظة، أو أن تكون حكومية برسوم رمزية، ولكنها تفتقد كل شيء، أو أن تكون ذات توجه ديني تابعة مثلًا للراهبات، فتجدها توفر الكثير من الخدمات، مقابل رسوم زهيدة، لأن العاملات فيها لا ينتظرن أجرًا في الأرض، ولا يحق لهن امتلاك أي شيء، فيخدمن الأطفال ويقدمن لهم من الحب والرعاية الكثير، لأنهن لا يحتجن إلى تبشير الأطفال بالكلمات، فيكفي أن ترى الطفلة المسلمة قدوتها في راهبة مسيحية.
إلا أن هناك في الغرب طريقًا رابعًا، وهو العمل التطوعي، فمع كل روضة أطفال تنشأ معها (جمعية رعاية الروضة)، عبارة عن خمسة أشخاص يسجلون أنفسهم في المحكمة، ويوزعون العمل فيما بينهم، فتجدهم يعرضون على أولياء الأمور الاشتراك في هذه الجمعية بقسط شهري يعادل يورو واحد، ويعملون احتفالات لاستقبال الأطفال الجدد، ويبيعون الفطائر والعصائر، وغير ذلك كثير من الأنشطة التي تجلب المال، ثم يمولون بهذا المال شراء احتياجات الروضة من ألعاب جديدة، إلى تحمل تكاليف رحلة يقوم بها الأطفال إلى حديقة الحيوان، إلى البحث بين الأهل عمن يجيد الأعمال اليدوية، لإصلاح الأعطال في الروضة.
وأهم ما في هذا العمل أن التزام أعضاء مجلس إدارة هذه الجمعية بالمهام التي فرضوها على أنفسهم صارم إلى حد لا يمكن تصوره، ومن لا يثبت جديته تجري إقالته واستبداله بآخر أو أخرى، دون إبطاء، حتى لا يتوقف العمل.
عمال المطافئ ليسوا موظفين
أما الأمر الغريب العجيب أن الغالبية العظمى من العاملين في مجال الإطفاء في ألمانيا مثلًا، ليسوا موظفي دولة، بل هم متطوعون، فإذا قرر الشخص أن ينضم إلى المطافي، فإنه يحصل على دورات سنوية، ويخصص له وقت عمل، بمعدل نوبة أسبوعية، يقتطع هذا الوقت من فراغه ونومه، دون أي أجر، فإذا جاءت نوبته توجه إلى مقر دائرة الإطفاء، وبقي هناك، فإذا جرى استدعاء المطافئ كان جاهزًا للعمل، وكان خبيرا في مجاله، وقادرًا على القيام بمهمته، أي يعرِّض حياته للخطر، والمقابل لا شيء، باستثناء الشعور بالمسؤولية، هذا الشعور الذي يجعله لا يعرف الأعذار، بتعطل السيارة، أو المرض أو الإرهاق في العمل الأصلي، أو غير ذلك من الأعذار التي نعرفها جميعًا، بل ونلجأ إليها كثيرًا، عند صاحب العمل الذي يدفع راتبًا، فما بالك إذا كان العمل مجانيًا؟
بالله عليكم هل نستطيع أن نشعر بالأمن وأن ننام في هدوء إذا قيل لنا إن غالبية المسؤولين عن إطفاء الحرائق في الحي الذي نسكن أناس متطوعون للعمل الشرفي؟
ولا يقتصر الأمر على عمال الإطفاء بل يشمل أيضًا العاملين في مواجهة الكوارث، ليس في داخل حدود دولتهم فحسب، بل في العالم أجمع، إذا وقع زلزال هنا أو هناك، أو إذا غمرت الفيضانات سواحل ومدن هذه الدولة أو تلك، عندها تفرض قوانين الدولة أن يعفي صاحب العمل الأصلي، موظفيه المدربين على العمل التطوعي في مناطق الكوارث، طوال فترة ممارستهم لهذا العمل التطوعي، حتى يعودوا إلى بلادهم.
المنظمات الإنسانية
كلنا يعرف الدعاية التي تصل إلينا عن طريق البريد أو في قنوات التلفزيون أو عن طريق الصحف والمجلات، من صور لأطفال أيتام يحتاجون إلى المال، أو صور أناس مشردين، أو صور نساء حزينات يقفن أمام بيوتهن المهدمة، وتحتها أرقام الحسابات البنكية التي ينبغي علينا أن نتبرع إليها.
وقد تعرضت هذه المنظمات الإنسانية في السنوات الأخيرة إلى اتهامات قاسية، بتمويل الإرهاب تارة، أو التربح منها تارة أخرى، إلى استغلالها لتحقيق أهداف سياسية أو دينية.
ورغم أن هذا الموضوع أوسع من أن يتم تناوله في سطور قلائل، إلى أنني أشير إلى أن بعض هذه المنظمات يهدر ثلث الأموال أو أكثر في أمور لا علاقة لها بمساعدة المحتاجين، فمثلًا حين يسافر مديرو هذه المنظمات بالطائرة، فإنهم يركبون في الدرجة الأولى، ويسكنون في أفخم الفنادق، ويأكلون ألذ الأطعمة، في حين يعتذرون للمرأة المشردة في معسكرات اللاجئين عن تزويدها بالحليب لطفلها الرضيع، لأن الميزانية مخصصة للمشردين من البالغين فقط، ويرفضون زيارة بيت للأيتام إذا كان الطريق وعرًا، أو داخل منطقة غير آمنة.
إلا أن الحقيقة التي لا يجب كتمها أيضًا أن هناك أناسًا وهبوا حياتهم للخير، فتجد مدير إحدى هذه المنظمات يرفض السكن في الفندق الفاخر، ويتنازل عن تكاليف السكن ليستفيد منها المحتاجون، ويقرر السكن معهم في نفس المعسكرات، ويتناول نفس طعامهم، ويرتدي نفس ملابسهم الرثة، بل والله تجده يبيع السيارة المخصصة لتنقلاته ليضع ثمنها تحت تصرف الأمهات الثكالى والأطفال الرضع.
فهناك مثلًا (منظمة أطباء بلا حدود)، وهي عبارة عن مجموعة من الأطباء من مختلف بقاع العالم، يقررون التوقف عن العمل في العيادات الخاصة أو المستشفيات الحكومية، ويتوجهون إلى مناطق الأزمات، ليعالجوا المرضى، وليساهموا في تخفيف محنتهم.
أما كيف نعرف المنظمة التي تستحق دعم أنشطتها من التي لا تستحق ذلك، فلابد من البعد عن المنظمات التي تميل إلى الإثارة بالصور المبالغ فيها، والتي لا تمتلك تقارير تثبت شفافيتها، ولابد من البحث في الإنترنت عن تقارير ليست صادرة عن هذه المنظمات، وليست دعائية، تتضمن المدح المفرط فيه، بل تقارير موضوعية ومتوازنة، وقبل كل ذلك لابد أن تكون الأجهزة المختلفة للدولة قد رخصت لها بالعمل، وسمحت لها بجمع التبرعات.
الرياضة والثقافة
إذا كانت ممارسة الرياضة في الكثير من الدول العربية تقتصر على السويعات القليلة التي يمضيها الطفل أو الشاب في حصص التربية الرياضية في المدرسة، أو اللعب في الشارع، أو في النوادي الرياضية التي لا يدخلها سوى أبناء الصفوة، لأن الاشتراك السنوي بالآلاف، ولأن الحصول على العضوية فيها أصلًا حلم لا يمكن تحقيقه، فإن الاتحادات الرياضية في الغرب، كلها تحت إشراف أشخاص متطوعين للعمل فيها، فالمدرب المحترف في أحد النوادي، يقوم في الحي الذي يسكن فيها بعمل دورات بأسعار رمزية لتغطية تكاليف التدفئة والإنارة في الأندية التي توفرها إدارة كل حي سكني، في حين لا يحصل هذا المدرب على أي مقابل مادي، ومع ذلك لا يكون أقل حماسًا مع فريقه الذي يدربه تطوعيًا، عن فريقه الذي يدربه بأجر باهظ.
كذلك فإن المكتبات العامة تعيش على أكتاف العاملين المتطوعين، هم يرتبون الكتب ويشرفون على الإعارة، ويقدمون النصح للزوار في كيفية اختيار الكتاب المناسب لهم.
وهناك في كل حي أيضًا دورات دراسية يومية بعد الظهر لمساعدة التلاميذ والطلاب في عمل الواجبات المنزلية، وغالبية الطلاب فيها من الأجانب الذين يعجز أهلهم عن مساعدتهم لعدم إتقان اللغة، أو لأنهم لم يدرسوا هذه المناهج التعليمية.
ولعل فكرة (المدارس الشعبية العليا) تجسد استراتيجية نشر العلوم والمعرفة في مختلف أوساط الشعب، وتحقيق مبدأ (التعليم طوال العمر)، بدون تكاليف باهظة، حيث تقام الدورات في المساء، بحيث تتاح الفرصة للعاملين في مختلف الجهات أن يطوروا معارفهم بمبالغ رمزية، بعد انتهاء أوقات العمل الرسمية.
وهناك دورات في كل شيء في هذه المدارس الشعبية، إذ تشمل طهي الطعام، والحرب العالمية الثانية، وأبعاد السياسة الأمريكية، وتعلم اللغة اليونانية، والتعريف بالفرق الصوفية في العالم العربي، وتنظيم الرحلات العلمية إلى المكسيك، وتعلم كيفية التعامل مع الطفل المعوق ذهنيًا، وتناول المتغيرات في مهام أجهزة الاستخبارات الغربية بين الحرب الباردة وبين مرحلة ما بعد 11/9.
أما عن المحاضرين في هذه الدورات فهم من كافة طبقات المجتمع، من الأستاذ الجامعي، إلى رجل الدين، إلى إعلاميين، إلى أجانب يستعرضون ملامح بلادهم، إلى فني أو طباخ أو مزارع، المهم أن يكون عنده ما يعلمه للآخرين، وأن يكون قادرًا على توصيل المعلومات بصورة سلسلة لمختلف الشرائح الاجتماعية والعلمية، وأن يكون مستعدًا للعمل التطوعي.
العمل ما أجل البشرية
إلا أن هناك أناسًا آخرين يركبون قاربًا صغيرًا، ليقفوا أمام ناقلة عملاقة، يتسرب منها النفط بسبب قدمها وتردي حالتها الفنية، ويجبرونها على العودة أدراجها من حيث جاءت، لإصلاح أعطلاها ووقف تلوث البيئة، أو للتوقف عن مغادرة الميناء، لأنها أصبحت غير قادرة على نقل النفط بسلام، ومن شاهد صور الناشطين في منظمة السلام الأخضر (جرين بييس) وهم في عرض البحر، يراهم مثل النملة التي تصارع فيلا، عندها لابد أن يتساءل عن العزيمة الجبارة التي تحرك هؤلاء الأشخاص، وعن هذا الإصرار الذي يمارسون به هذه المهمة، ويتحملون من أجلها السجن والغرامات المالية والإيذاء، المهم أن يحموا البشرية من الشر الذي يحدق بها، حسب اعتقادهم.
نفس الأمر ينطبق على أولئك الذين يربطون أنفسهم بالسلاسل على قضبان السكك الحديدية، بحيث لا تستطيع القطارات أن تواصل رحلاتها المكوكية، لجلب المخلفات النووية، من إحدى الدول، وتخزينها لسنوات طويلة في مكان آخر، قبل التخلص منها نهائيا، فيأبى هؤلاء النشطاء إلا أن يعطلوا السفينة، غير مكترثين بعواقب ذلك، فقد أصبح من المعتاد أن تصدر الشرطة فاتورة حساب تدخل كل هذا العدد من رجال الشرطة، وتطالب المنظمين لاعتراض طريق القطارات بدفع هذه الفاتورة.
من هم المتطوعون؟
ليس صحيحًا أن منظمات العمل التطوعي تقبل أي شخص للالتحاق بها، فمثلًا (جمعية النجم الأبيض)، الألمانية التي تشرف على ضحايا العمليات الإجرامية والاغتصاب، تشترط على المتطوعين لديها أن يكون سجل الحالة الجنائية الخاص بهم ناصع البياض، وكذلك من يعمل في خدمة الأطفال لابد أن يكون ذا خبرة في القضايا التربوية، وفي كيفية التعامل مع الأطفال.
كذلك فإن من الخطأ تصور أن المتطوعين هم أناس متقاعدون، يريدون التسلي بأوقات فراغهم، أو أنهن نسوة أرامل يردن الخروج من الجدران الأربعة التي يقبعون وراءها بعد موت أزواجهن.
المتطوعون أناس قادرون على العطاء، استنادًا إلى شهادات علمية وخبرات مهنية ، واجتياز المقابلة الشخصية، وإنهاء التدريب العملي بنجاح، عندها يجد الجميع يتسابق لكسبه.
لو فكر كل منا في حياته، لوجد الكثير مما يمكن أن يقوم به من أجله قريته أو مدينته، أو دولته أو حتى العالم أجمع، لأن الخروج عن حيز الذات الضيق، إلى حيث الاهتمام بالقرية والمدينة والمحافظة والدولة والعالم أجمع، يجعلنا أكثر سموًا بالنفس، وأرقى خلقًا، ويجعلنا نحقق مفهوم (القرية العالمية) بأسلوب إيجابي، وإظهار أن الجميع سيتضامن من أجل ألا يخرق أحد سفينتنا، فتغرق بنا جميعا، لأنه ليست هناك أطواق نجاة من المخاطر التي تتهدد العالم.
من روضة الأطفال حتى المفاعل النووي
إذا نظرنا إلى أوضاع رياض الأطفال في عالمنا العربي، فهي واحدة من ثلاث، إما أن تكون روضة خاصة، أنيقة حديثة مزودة بكل ما يحتاج إليه الطفل، وعندها ستكون التكلفة الشهرية باهظة، أو أن تكون حكومية برسوم رمزية، ولكنها تفتقد كل شيء، أو أن تكون ذات توجه ديني تابعة مثلًا للراهبات، فتجدها توفر الكثير من الخدمات، مقابل رسوم زهيدة، لأن العاملات فيها لا ينتظرن أجرًا في الأرض، ولا يحق لهن امتلاك أي شيء، فيخدمن الأطفال ويقدمن لهم من الحب والرعاية الكثير، لأنهن لا يحتجن إلى تبشير الأطفال بالكلمات، فيكفي أن ترى الطفلة المسلمة قدوتها في راهبة مسيحية.
إلا أن هناك في الغرب طريقًا رابعًا، وهو العمل التطوعي، فمع كل روضة أطفال تنشأ معها (جمعية رعاية الروضة)، عبارة عن خمسة أشخاص يسجلون أنفسهم في المحكمة، ويوزعون العمل فيما بينهم، فتجدهم يعرضون على أولياء الأمور الاشتراك في هذه الجمعية بقسط شهري يعادل يورو واحد، ويعملون احتفالات لاستقبال الأطفال الجدد، ويبيعون الفطائر والعصائر، وغير ذلك كثير من الأنشطة التي تجلب المال، ثم يمولون بهذا المال شراء احتياجات الروضة من ألعاب جديدة، إلى تحمل تكاليف رحلة يقوم بها الأطفال إلى حديقة الحيوان، إلى البحث بين الأهل عمن يجيد الأعمال اليدوية، لإصلاح الأعطال في الروضة.
وأهم ما في هذا العمل أن التزام أعضاء مجلس إدارة هذه الجمعية بالمهام التي فرضوها على أنفسهم صارم إلى حد لا يمكن تصوره، ومن لا يثبت جديته تجري إقالته واستبداله بآخر أو أخرى، دون إبطاء، حتى لا يتوقف العمل.
عمال المطافئ ليسوا موظفين
أما الأمر الغريب العجيب أن الغالبية العظمى من العاملين في مجال الإطفاء في ألمانيا مثلًا، ليسوا موظفي دولة، بل هم متطوعون، فإذا قرر الشخص أن ينضم إلى المطافي، فإنه يحصل على دورات سنوية، ويخصص له وقت عمل، بمعدل نوبة أسبوعية، يقتطع هذا الوقت من فراغه ونومه، دون أي أجر، فإذا جاءت نوبته توجه إلى مقر دائرة الإطفاء، وبقي هناك، فإذا جرى استدعاء المطافئ كان جاهزًا للعمل، وكان خبيرا في مجاله، وقادرًا على القيام بمهمته، أي يعرِّض حياته للخطر، والمقابل لا شيء، باستثناء الشعور بالمسؤولية، هذا الشعور الذي يجعله لا يعرف الأعذار، بتعطل السيارة، أو المرض أو الإرهاق في العمل الأصلي، أو غير ذلك من الأعذار التي نعرفها جميعًا، بل ونلجأ إليها كثيرًا، عند صاحب العمل الذي يدفع راتبًا، فما بالك إذا كان العمل مجانيًا؟
بالله عليكم هل نستطيع أن نشعر بالأمن وأن ننام في هدوء إذا قيل لنا إن غالبية المسؤولين عن إطفاء الحرائق في الحي الذي نسكن أناس متطوعون للعمل الشرفي؟
ولا يقتصر الأمر على عمال الإطفاء بل يشمل أيضًا العاملين في مواجهة الكوارث، ليس في داخل حدود دولتهم فحسب، بل في العالم أجمع، إذا وقع زلزال هنا أو هناك، أو إذا غمرت الفيضانات سواحل ومدن هذه الدولة أو تلك، عندها تفرض قوانين الدولة أن يعفي صاحب العمل الأصلي، موظفيه المدربين على العمل التطوعي في مناطق الكوارث، طوال فترة ممارستهم لهذا العمل التطوعي، حتى يعودوا إلى بلادهم.
المنظمات الإنسانية
كلنا يعرف الدعاية التي تصل إلينا عن طريق البريد أو في قنوات التلفزيون أو عن طريق الصحف والمجلات، من صور لأطفال أيتام يحتاجون إلى المال، أو صور أناس مشردين، أو صور نساء حزينات يقفن أمام بيوتهن المهدمة، وتحتها أرقام الحسابات البنكية التي ينبغي علينا أن نتبرع إليها.
وقد تعرضت هذه المنظمات الإنسانية في السنوات الأخيرة إلى اتهامات قاسية، بتمويل الإرهاب تارة، أو التربح منها تارة أخرى، إلى استغلالها لتحقيق أهداف سياسية أو دينية.
ورغم أن هذا الموضوع أوسع من أن يتم تناوله في سطور قلائل، إلى أنني أشير إلى أن بعض هذه المنظمات يهدر ثلث الأموال أو أكثر في أمور لا علاقة لها بمساعدة المحتاجين، فمثلًا حين يسافر مديرو هذه المنظمات بالطائرة، فإنهم يركبون في الدرجة الأولى، ويسكنون في أفخم الفنادق، ويأكلون ألذ الأطعمة، في حين يعتذرون للمرأة المشردة في معسكرات اللاجئين عن تزويدها بالحليب لطفلها الرضيع، لأن الميزانية مخصصة للمشردين من البالغين فقط، ويرفضون زيارة بيت للأيتام إذا كان الطريق وعرًا، أو داخل منطقة غير آمنة.
إلا أن الحقيقة التي لا يجب كتمها أيضًا أن هناك أناسًا وهبوا حياتهم للخير، فتجد مدير إحدى هذه المنظمات يرفض السكن في الفندق الفاخر، ويتنازل عن تكاليف السكن ليستفيد منها المحتاجون، ويقرر السكن معهم في نفس المعسكرات، ويتناول نفس طعامهم، ويرتدي نفس ملابسهم الرثة، بل والله تجده يبيع السيارة المخصصة لتنقلاته ليضع ثمنها تحت تصرف الأمهات الثكالى والأطفال الرضع.
فهناك مثلًا (منظمة أطباء بلا حدود)، وهي عبارة عن مجموعة من الأطباء من مختلف بقاع العالم، يقررون التوقف عن العمل في العيادات الخاصة أو المستشفيات الحكومية، ويتوجهون إلى مناطق الأزمات، ليعالجوا المرضى، وليساهموا في تخفيف محنتهم.
أما كيف نعرف المنظمة التي تستحق دعم أنشطتها من التي لا تستحق ذلك، فلابد من البعد عن المنظمات التي تميل إلى الإثارة بالصور المبالغ فيها، والتي لا تمتلك تقارير تثبت شفافيتها، ولابد من البحث في الإنترنت عن تقارير ليست صادرة عن هذه المنظمات، وليست دعائية، تتضمن المدح المفرط فيه، بل تقارير موضوعية ومتوازنة، وقبل كل ذلك لابد أن تكون الأجهزة المختلفة للدولة قد رخصت لها بالعمل، وسمحت لها بجمع التبرعات.
الرياضة والثقافة
إذا كانت ممارسة الرياضة في الكثير من الدول العربية تقتصر على السويعات القليلة التي يمضيها الطفل أو الشاب في حصص التربية الرياضية في المدرسة، أو اللعب في الشارع، أو في النوادي الرياضية التي لا يدخلها سوى أبناء الصفوة، لأن الاشتراك السنوي بالآلاف، ولأن الحصول على العضوية فيها أصلًا حلم لا يمكن تحقيقه، فإن الاتحادات الرياضية في الغرب، كلها تحت إشراف أشخاص متطوعين للعمل فيها، فالمدرب المحترف في أحد النوادي، يقوم في الحي الذي يسكن فيها بعمل دورات بأسعار رمزية لتغطية تكاليف التدفئة والإنارة في الأندية التي توفرها إدارة كل حي سكني، في حين لا يحصل هذا المدرب على أي مقابل مادي، ومع ذلك لا يكون أقل حماسًا مع فريقه الذي يدربه تطوعيًا، عن فريقه الذي يدربه بأجر باهظ.
كذلك فإن المكتبات العامة تعيش على أكتاف العاملين المتطوعين، هم يرتبون الكتب ويشرفون على الإعارة، ويقدمون النصح للزوار في كيفية اختيار الكتاب المناسب لهم.
وهناك في كل حي أيضًا دورات دراسية يومية بعد الظهر لمساعدة التلاميذ والطلاب في عمل الواجبات المنزلية، وغالبية الطلاب فيها من الأجانب الذين يعجز أهلهم عن مساعدتهم لعدم إتقان اللغة، أو لأنهم لم يدرسوا هذه المناهج التعليمية.
ولعل فكرة (المدارس الشعبية العليا) تجسد استراتيجية نشر العلوم والمعرفة في مختلف أوساط الشعب، وتحقيق مبدأ (التعليم طوال العمر)، بدون تكاليف باهظة، حيث تقام الدورات في المساء، بحيث تتاح الفرصة للعاملين في مختلف الجهات أن يطوروا معارفهم بمبالغ رمزية، بعد انتهاء أوقات العمل الرسمية.
وهناك دورات في كل شيء في هذه المدارس الشعبية، إذ تشمل طهي الطعام، والحرب العالمية الثانية، وأبعاد السياسة الأمريكية، وتعلم اللغة اليونانية، والتعريف بالفرق الصوفية في العالم العربي، وتنظيم الرحلات العلمية إلى المكسيك، وتعلم كيفية التعامل مع الطفل المعوق ذهنيًا، وتناول المتغيرات في مهام أجهزة الاستخبارات الغربية بين الحرب الباردة وبين مرحلة ما بعد 11/9.
أما عن المحاضرين في هذه الدورات فهم من كافة طبقات المجتمع، من الأستاذ الجامعي، إلى رجل الدين، إلى إعلاميين، إلى أجانب يستعرضون ملامح بلادهم، إلى فني أو طباخ أو مزارع، المهم أن يكون عنده ما يعلمه للآخرين، وأن يكون قادرًا على توصيل المعلومات بصورة سلسلة لمختلف الشرائح الاجتماعية والعلمية، وأن يكون مستعدًا للعمل التطوعي.
العمل ما أجل البشرية
إلا أن هناك أناسًا آخرين يركبون قاربًا صغيرًا، ليقفوا أمام ناقلة عملاقة، يتسرب منها النفط بسبب قدمها وتردي حالتها الفنية، ويجبرونها على العودة أدراجها من حيث جاءت، لإصلاح أعطلاها ووقف تلوث البيئة، أو للتوقف عن مغادرة الميناء، لأنها أصبحت غير قادرة على نقل النفط بسلام، ومن شاهد صور الناشطين في منظمة السلام الأخضر (جرين بييس) وهم في عرض البحر، يراهم مثل النملة التي تصارع فيلا، عندها لابد أن يتساءل عن العزيمة الجبارة التي تحرك هؤلاء الأشخاص، وعن هذا الإصرار الذي يمارسون به هذه المهمة، ويتحملون من أجلها السجن والغرامات المالية والإيذاء، المهم أن يحموا البشرية من الشر الذي يحدق بها، حسب اعتقادهم.
نفس الأمر ينطبق على أولئك الذين يربطون أنفسهم بالسلاسل على قضبان السكك الحديدية، بحيث لا تستطيع القطارات أن تواصل رحلاتها المكوكية، لجلب المخلفات النووية، من إحدى الدول، وتخزينها لسنوات طويلة في مكان آخر، قبل التخلص منها نهائيا، فيأبى هؤلاء النشطاء إلا أن يعطلوا السفينة، غير مكترثين بعواقب ذلك، فقد أصبح من المعتاد أن تصدر الشرطة فاتورة حساب تدخل كل هذا العدد من رجال الشرطة، وتطالب المنظمين لاعتراض طريق القطارات بدفع هذه الفاتورة.
من هم المتطوعون؟
ليس صحيحًا أن منظمات العمل التطوعي تقبل أي شخص للالتحاق بها، فمثلًا (جمعية النجم الأبيض)، الألمانية التي تشرف على ضحايا العمليات الإجرامية والاغتصاب، تشترط على المتطوعين لديها أن يكون سجل الحالة الجنائية الخاص بهم ناصع البياض، وكذلك من يعمل في خدمة الأطفال لابد أن يكون ذا خبرة في القضايا التربوية، وفي كيفية التعامل مع الأطفال.
كذلك فإن من الخطأ تصور أن المتطوعين هم أناس متقاعدون، يريدون التسلي بأوقات فراغهم، أو أنهن نسوة أرامل يردن الخروج من الجدران الأربعة التي يقبعون وراءها بعد موت أزواجهن.
المتطوعون أناس قادرون على العطاء، استنادًا إلى شهادات علمية وخبرات مهنية ، واجتياز المقابلة الشخصية، وإنهاء التدريب العملي بنجاح، عندها يجد الجميع يتسابق لكسبه.
لو فكر كل منا في حياته، لوجد الكثير مما يمكن أن يقوم به من أجله قريته أو مدينته، أو دولته أو حتى العالم أجمع، لأن الخروج عن حيز الذات الضيق، إلى حيث الاهتمام بالقرية والمدينة والمحافظة والدولة والعالم أجمع، يجعلنا أكثر سموًا بالنفس، وأرقى خلقًا، ويجعلنا نحقق مفهوم (القرية العالمية) بأسلوب إيجابي، وإظهار أن الجميع سيتضامن من أجل ألا يخرق أحد سفينتنا، فتغرق بنا جميعا، لأنه ليست هناك أطواق نجاة من المخاطر التي تتهدد العالم.