إن الحقوق التي يتحدث عنها الجنرال ديغول في خطاب قسنطينة الأول والتي بلورها قانون 7 مارس 1944 لا تشمل إلا حق الانتخاب فقط، وبصورة فردية، وهذا ما حمل آنذاك الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء، على إدانة هذا المشروع واعتباره خطوة نحو الإدماج، الذي يرفضه الشعب الجزائري المسلم رفضا باتا. كما أن مصالي الحاج، زعيم حزب الشعب، رفض المشروع لنفس السبب، معتبرا أن تطور الجزائريين لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل دولة جزائرية ومواطنة جزائرية.
بينما رحب بالمشروع ممثلو الحزب الشيوعي الجزائري آنذاك واعتبره خطوة إلى الأمام.
فأين نحن من النظرة التحريرية للمشكل الكولونيالي التي يقال أن الجنرال ديغول كان يؤمن بها منذ ندوة برازافيل؟!.
إن هذه الإصلاحات التي اقتصرت على المجال الانتخابي، والتي شملت عددا محدودا جدا كما رأينا من الجزائريين، لم تكن هي كل شيء، فالذي يذكره سكان المستعمرات للنظام الذي كان يرأسه الجنرال ديغول، هو عمليات القمع التي وجهت بها مطالب التحرر.
فقط سقط في الجزائر يوم 8 ماي 1945 والأيام الموالية، ما لا يقل عن خمس وأربعون ألف ضحية تحت رصاص القوات الفرنسية، واستعملت الطائرات في ضرب القرى وتقتيل وتخريب المنازل، وعرف سكان مدغشقر، بعد ذلك، عام 1947 عمليات مماثلة قدر ضحاياها بنحو سبعين ألفا.
فشعوب البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي قد فهمت في غمرة تلك المآسي ماذا تعني مقولة الجنرال ديغول عن "الربط النهائي لمصيرها بمصير فرنسا"، إنه ربط يعني استمرار الخضوع وتأييد السيطرة.
قد يقال، لكن لماذا يحاسب الجنرال ديغول على وقائع ترجع للأربعينات؟
ألا يكون قد غير رأيه، خلال اعتزاله الحكم في كولمبي، ومراقبته المتأنية للتطورات التي حدثت بالمستعمرات، والتي استقلت خلالها تونس والمغرب قبل عودته إلى الحكم في 1958؟!.
عاد الجنرال ديغول إلى الحكم ليختار مدينة قسنطينة ويلقي فيها خطابا لم يقل شهرة عن الأول، وان اختلفت ظروف كل منهما، فقد كان خطاب قسنطينة الأول، في خضم الحرب العالمية الثانية، بعد مرور أربع سنوات على اندلاعها، وكان المقصود منه، في التصور الديغولي للمشكل الجزائري آنذاك، هو تسكين الفورة الوطنية، التي تعززت بالتطور الذي حدث في صفوف جزء من النخبة الجزائرية التي كانت تؤمن بالفرنسة، فأصبحت تؤمن بالشخصية الجزائرية المتميزة ومقوماتها الخاصة.
وهكذا حدث نوع من الإجماع الوطني حول حد أدنى من المطالب الوطنية رفعت إلى السلطات الحاكمة بالجزائر في فبراير 1943، وما لبثت أن ظهرت حركة جماهيرية واسعة، ضمت أهم الحركات والأحزاب الوطنية.
وعلى الرغم من تعود السلطات الاستعمارية على قمع كل بادرة تحرك وطني، فإنها لزمت الحذر آنذاك لأنها لم تكن سيدة الموقف، فنزول الحلفاء في مدينة الجزائر، والحاجة إلى الكتل البشرية التي تقدم طعاما لمدافع ونيران المحور، فقد اضطرت السلطات الفرنسية إلى التغاضي عن تلك الحركة التي تطورت بسرعة، حتى بلغ عدد المنخرطين فيها نحو خمسمائة ألف شخص.
أما خطاب قسنطينة الثاني، فقد تم في خضم حرب التحرير الجزائري، بعد مضي أربع سنوات على اندلاع ثورة نوفمبر. وكان الجنرال ديغول في هذه المرة يواجه قوتين أساسيتين: قوة اليمين الاستعماري المتطرف التي تعتبر أن الجنرال مدين لها بالعودة إلى الحكم، وقوة جبهة التحرير الوطني التي وضعت أمامها الاستقلال هدفا، لا تصرفها عنه أية حسابات سياسية فرنسية.
وكانت عناصر اليمين الاستعماري تنتظر بفارغ الصبر هذا الخطاب، الذي كان أول مناسبة يظهر فيها الجنرال – الرئيس بعد نجاح استفتاء 28 سبتمبر1958. وكان اليمين الاستعماري ينتظر من الجنرال أن يؤكد سياسة الإدماج على أساس أن فيها أعلى نسبة من السكان المسلمين بالنسبة للاوروبيين، بالمقارنة مع المدن الكبرى الأخرى في الجزائر.
عمد الجنرال ديغول في هذا الخطاب إلى الإعلان عن مشروع اقتصادي هو عبارة عن خطة خمسية، اشتهرت هي أيضا باسم مشروع قسنطينة، وقد حدد الهدف الاجتماعي – الاقتصادي لتلك الخطة عندما قال إنها تهدف إلى ".. إدخال تغيير عميق على هذا البلد الحيوي والشجاع، والصعب والمتألم في الوقت نفسه".
أما الإطار السياسي المحلي الذي تندرج فيه تلك الخطة، فقد قال عنه في الخطاب نفسه:
"في ظرف شهرين تنتخب الجزائر ممثليها حسب الشروط نفسها التي تتم بها الانتخابات في الوطن الأم، لكن يجب على الأقل أن يكون الثلثان من ممثلي الجزائر مواطنين مسلمين. إن مستقبل الجزائر سوف يبنى، لأن تلك هي طبيعة الأشياء على قاعدة مزدوجة: شخصيتها وتضامنها الوثيق مع الوطن الأم".
أما الهدف النهائي لكل هذا المسعى، والذي يبلور التبعات السياسة التي تستلزمها هذه المعالجة، فالجنرال ديغول يتساءل عنه ليقدم إجابة هي عبارة عن "لا، جواب"، فهو يقول:
" ما هي التبعات السياسية لهذا التطور؟ إنه يبدو لي من غير المجدي أن نحدد مسبقا بالكلمات ما سوف تشكله المحاولة نفسها شيئا فشيئا".
إن هذا السكوت المتعمد عن الغاية السياسية للمشروع، تؤكد ما أسلفنا ذكره، فهو لا يريد أن يغضب العناصر الفرنسية المعتدلة بذكر كلمة "الإدماج"، و يريد أن يكسب الجيش بالتركيز على الأهداف السياسية للمشروع التي تستلزم القضاء على جبهة التحرير كقوة سياسية، إن شنه للحرب على وجهتين، ضد الجبهة وضد المعمرين المتطرفين، يستعمل كوسيلة نفسية للانتصار في هذه الحرب، والغموض سلاحا لتنويم اليقظة، وتسكين المخاوف وكسب المترددين.
ويتضح من ذلك كله أن غائية المشروع الاقتصادي والسياسي المعلن في خطاب قسنطينة، هي تكوين فئات جزائرية تستفيد من الحرب بصورة مختلفة، ويعتمد عليها في إيجاد قوة سياسية تنافس جبهة التحرير الجزائري وتستخدم ضدها، هذه النية تبرزها وتؤكدها التعليمات التي أصدرها بعد ذلك بتاريخ 14 أكتوبر 1958، بشأن الانتخابات التي كان يجري الإعداد لها والتي جاء فيها على الأخص:
"إن المصلحة العليا للبلد تحتم أن تتم الاستشارة في ظروف من الحرية والجدية المطلقة، وأن تظهر قوائم انتخابية تمثل كل الاتجاهات – أقول كل الاتجاهات – يجب أن يكون في استطاعة كل الآراء أن تعبر عن رأيها، وأن تساهم في الحملة الانتخابية مهما كانت برامجها، بما فيها التي تتعلق بنظام الجزائر أو مصيرها السياسي. ولا يستبعد من ذلك إلا العناصر التي تساهم في العمل الإرهابي، وتقع تبعا لذلك تحت طائلة التتبع الجنائي...".
ثم تفصح التعليمات الديغولية في قسمها الأخير عن مقصد السياسي النهائي عندما تقول:
"إن الهدف المراد تحقيقه يتمثل في السعي إلى أن تبرز بكل حرية، نخبة سياسية جزائرية".
فالتحرر الذي يمكن استخلاصه من هذا العرض هو تحرر بقياس إلى اليمين المتطرف، وليس بالقياس إلى مطلب الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، بل إنه هنا صريح في استبعاد الأغلبية الساحقة من الجزائريين عن طريق استبعاد من يمثلونهم، بحجة أنهم "عناصر تعمل في الحقل الإرهابي".
لقد قام المسعى الديغولي على تجاهل مطلب التحرر، وعلى تحطيم القوة السياسية لجبهة التحرير وأداتها العسكرية الضاربة جيش التحرير.
على أن التذكير ببعض مشاريع القوانين التي تقدمت بها الحكومة الجنرال إلى البرلمان الفرنسي في عام 1959، يؤكد استمرارية النظرة الاستعمارية عند الجنرال ديغول من خطاب قسنطينة الأول إلى الخطاب الثاني، ويفصح عن قناعته التي تطمح إلى ربط الجزائر بالمصير الفرنسي.
فقد تقدمت حكومته في النصف الأول من عام 1959 إلى مجلس النواب بثلاثة مشاريع، الأول على إلغاء الاستقلال المالي للجزائر، ودمج ميزانيتها في الميزانية الفرنسية، وينص المشروع الثاني على توحيد الشارات النقدية بين الجزائر وفرنسا، بينما ينص المشروع الثالث على إلغاء الرقابة الجمركية على السلع والأشخاص في حالة التنقل بين فرنسا والجزائر والعكس.
إن الاستعمار الفرنسي ظل منذ القرن التاسع عشر يعتبر الجزائر أرضا غير فرنسية، على الأقل فيما يتعلق بالاقتصاد والجمارك والمالية. فقد كانت مالية الجزائر ونقدها وجماركها مسيرة بمجموعة من القوانين، تختلف عن تلك التي تسير النظام المالي والجمركي والنقدي الفرنسي. إن هذه المؤسسات كانت بأيدي فرنسيين وليس بأيدي جزائريين، ولكن الجزائر كانت مزودة، فيما يتعلق بالميزانية والنقد والجمارك، بهيا كل دولة، وهذا الاستقلال المالي يرجع إلى عام 1900، وكان محكوما بمجموعة قوانين مثل قانون 19 ديسمبر 1900، وقد تعزز بعد ذلك بقانون آخر هو مرسوم 15 سبتمبر 1945، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالنقد، إذ كانت نقود الجزائر تختلف شارات ووزنا عن نقود فرنسا، كما أن نقل البضائع والأشخاص كان يخضع لنظام خاص.
إن هذا الإجراء الديغولي كان موجها ضد سيطرة المعمرين الأوروبيين في الجزائر، لأنهم هم الذين كانوا يستفيدون من هذا الاستقلال المالي، خصوصا أن الجنرال ديغول كان له حساب مع المعمرين الأوروبيين في الجزائر، لأنهم هم الذي كانوا يستفيدون من هذا الاستقلال المالي، والجنرال ديغول كان له حساب مع المعمرين الأوروبيين في الجزائر نظرا لانحيازهم، خلال الحرب العالمية الثانية، لنظام فيشي، وعدم تكيفهم مع سلطة المقاومة الفرنسية التي كان يقودها الجنرال ديغول، بعد أن استقر ممثلوه في مدينة الجزائر.
لكن ذلك لا يمثل إلا مظهرا واحد من المظاهر الكثيرة التي تترتب على مشروع الدمج المالي والاقتصادي والجمركي، الذي يعني على الأخص تأكيد الخطة الفرنسية، وتجاهل المطامح الأساسية للشعب الجزائري المكافح.
وإذا انتقلنا من المجال الداخلي إلى المجال المغربي الأوسع ، نجد أن المقارنة بين الفترتين اللتين احتك خلالهما الجنرال ديغول بالجزائر والمغرب العربي وإفريقيا، على مدى خمسة عشر عاما تكشف هي الأخرى عن استمرارية عجيبة. فالعقلية الاستعمارية ظلت ترفض كل مشروع وحدة بين أقطار المغرب العربي إذ تجمعها تحت الجزمة الفرنسية.
فبعد الإنزال الأمريكي في شمال إفريقيا توجه الأميرال دارلان في 11 ديسمبر 1942 بنداء إلى "مسلمي شمال إفريقيا ومسلمي إفريقيا الغربية الفرنسية" كي يضموا جهودهم إلى جهود مسلمي مصر وليبيا"، ويقفوا في وجه "أهداف المحور الذي يريد استبعاد مئات الآلاف من الأهالي" لأن ماضي فرنسا "يضمن بأنها لن تتخلى عن واجباتها" وهكذا يمكن "بحول الله أن تنتصر فرنسا والإسلام موحدين".
لكل أبرز الكوادر السياسية الجزائرية ردت على هذا الخطاب بالمسعى الذي بلوره البيان وملحقه والذي بلوره البيان وملحقه والذي ينص على ضرورة أن تكون الجزائر "أمة ذات سيادة" ولا يتحدث عن أي اتحاد فيدرالي إلا تونس والمغرب.
وهذا بالضبط ما رفضه مندوب المقاومة الفرنسية في الجزائر – أي مندوب الجنرال ديغول عمليا – عندما أدلى بتصريح لصحيفة "تام". T.A.M. وهي الأحرف الأولى بالفرنسية من تونس – الجزائر – المغرب، جاء فيها "ان الشمال الإفريقي يجب أن يتخلص من الانجذاب نحو الشرق، وان يدور في فلك فرنسا، لأن المحميتين الفرنسيتين تونس والمغرب لا يمكن أن تدخلا إلا في اتحاد للأراضي الفرنسية".
وعلى الرغم من التغيرات الهيكلية التي طرأت على المنطقة خلال خمسة عشر عاما، بما فيها استقلال تونس والمغرب، فقد حاول الجنرال ديغول أن يبني مغربا عربيا – فرنسيا تكون فيه لباريس الكلمة العليا.
وإذا كان ديغول معذورا – في 1958- بأنه لم يمكن مطلق الحرية نظرا لليمين القوي من جهة، وللجيش الفرنسي من جهة أخرى الذي كان يعارض فكرة الاستقلال، فماذا كان عذره في الحرب العالمية الثانية، عندما تحطمت قوة المعمرين بفعل تعاونها مع نظام فيشي، وعندما كان إطار التحالف الغربي يدعى أنه انسب إطار لخدمة تيار الحرية تحت مظلة "الميثاق الأطلسي".؟
إن الجنرال ديغول قد وضع كل أماله في خططه التي ضبطها كي ينتصر على جبهة التحرير سياسيا وعسكريا، علما بأن انتصاره المخطط على اليمين المتطرف كان في حسابه أحد عناصر الانتصار السياسي على الجبهة.
لكن فشل برنامج "شال" العسكري قد فجأة، ومن هنا نظم رحلة، فيما بين 3و5 مارس 1960 إلى أهم المراكز العسكرية والنقاط الساخنة في الجزائر. بعض أقوال الجنرال ديغول في هذه الرحلة تكشف إلى حد كبير عن حقيقة نواياه في هذه الفترة.
فهو يقول في زيارته لمركز "حجر مفروش" في الشمال القسنطيني ما يلي: "لن يحدث ديان بيان فو في الجزائر، لن ينجح التمرد في طردنا من هنا".
ليضيف: "أننا لا نستطيع أن نعمل أي شيء إذا نحن لم نحقق انتصار ساحقا في الميدان... إن ما يسمى الاستقلال ليس إلا البؤس والتشرد والكارثة".
ويقول في مركز "رجاس" في شمال قسنطينة دائما، لا يجوز أن ترحل فرنسا من الجزائر، أن من حقها أن تبقى.. وستبقى".
أما الحل السياسي المقبل فيقول عنه في المركز نفسه "... بعد الانتهاء من العمليات العسكرية، سوف يمر زمن طويل قبل أن نشرع في التشاور، وسوف يمتد ذلك على مدى سنوات".
أما في "بوغاري" فهو يقول: ".. يكون الجزائريون هم الذين يتخذون القرار، وأنا اعتقد أنهم سوف يقررون جزائر جزائرية مرتبطة بفرنسا".
ويقول في مركز آخر من المرحلة نفسها:" إن نظام السيطرة المباشرة القائم على الاحتلال لن يعود من جديد، أما الاستقلال فهو يبدو لي رؤية تجريدية، رؤية متعصبة عمياء".
ظل الجنرال ديغول حتى السنة الثالثة من عودته للحكم، يؤمن بالخيار العسكري، وقد كانت بعض العبارات المبهمة التي يطلقها من حين لآخر، مثل "الجزائر جزائرية"، تهدف إلى تنويم الرأي العام الجزائري وتخدير الطاقات النضالية، وقد ظل إلى ما بعد ذلك يراهن على الانتصار العسكري، بناء على انه إذا تحقق فمن الذي يجرؤ على إجبار فرنسا على أن تترك الجزائر.
إن السياسة الديغولية لم تقتصر في خططها المواجهة جبهة التحرير وسحق جيش التحرير على الجانب العسكري والسياسي الداخلي والاقتصادي، بل ضبطت خطة سياسة خارجية متعددة الأوجه من أجل تأمين دعم أوربي واسع، على أساس أن مهمة فرنسا في الجزائر تندرج في نطاق رسالة "العالم الحر" ضد "عالم الاستبداد".
فالسيد ديلوفربي، الذي كان قد عين مندوبا عاما في الجزائر، والذي أوكلت إليه مهمة إنجاح مشروع قسنطينة الاقتصادي وما ترتب عليه من نتائج سياسية، لم يتردد في أن يصرح في ربيع 1959، أثناء استقباله لوفد من رؤساء عدد من البلديات الأوروبية الغربية قائلا:
"ان المعركة الدائرة في الجزائر لا تختلف عن معركة الدائرة في برلين".
ان هذا التصريح الذي قيل في إطار المسعى لجلب رؤوس أموال غربية إلى الجزائر، يكشف عن الربط بين الجوانب الاقتصادية والعسكرية لحرب الجزائر ومحاولة ربط ذلك إيديولوجيا بمعركة العسكر الغربي الأطلسي.
فقد كانت الخطة الديغولية في المجال الخارجي تراهن على مثل هذا التحليل حتى تضمن دعم مجموعة الكتلة الغربية لباريس في حرب الجزائر.
وهنا تجدر الإشارة إلى المهارة الديغولية في توظيف ما عرف عنه من سعي لفك تبعية فرنسا لأمريكا، واستغلال ذلك خارجيا لتحييد المعسكر السوفياتي فيما يتعلق بالجزائر، ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه السياسة الديغولية لضمان الدعم الأطلسي الغربي لها في حرب الجزائر وتعزز وحداتها المقاتلة التي قاربت عام 1959 ثمانمائة ألف جندي كانت في الوقت نفسه توظف ميلها للاستقلال عن أميركا من أجل كسب تأييد سوفياتي أملا في أن تعطي موسكو الأولوية لإمكانية إيجاد شرخ في الحلف الأطلسي بين فرنسا وأمريكا، على واجب التضامن مع الثورة الجزائرية، وبذلك تكون باريس قد أصابت عصفورين بحجر واحد: تأييد الولايات المتحدة، رغم التناقضات الداخلية الأطلسية، وتحييد الاتحاد السوفياتي بفضل التناقضات نفسها.
في هذا الإطار يمكن القول بأن بوادر الانفراج الدولي في تلك الفترة كانت تبدو من المنظور الديغولي، كما لو كانت تخدم السياسة الاستعمارية الجديدة أكثر مما تخدم الثورة الجزائرية وحركات التحرير بصورة عامة. وبذلك تكون السياسة الديغولية قد أحكمت حلقاتها ضد الثورة الجزائرية. ويكون المجهود العسكري الضخم ضد جيش التحرير قد تعزز بعمل دبلوماسي وسياسي ذكي،مغربيا وإفريقيا ودوليا. ولم يبق أمام ديغول إلا أن يضرب "ضربة معلم"، تمثلت في مشروعه الاعلام الاستعماري كما لو كان نموذجا للتفتح والتفهم والاستعداد الجدي للتفاوض، بل ان أثار هذا الاعلام ما تزال بادية حتى الآن في بعض القطاعات السياسية والفكرية، في العالم الثالث. فقد عرف هذا المشروع بأنه "مشروع تقرير المصير" ولم يأخذ الناس منه إلا محتوى العنوان، دون مضمون المشروع نفسه.
إن إستقلال الجزائر لم يكن أبدا من صنع ديغول أو غيره، ولكن صنعه صمود الشعب وراء قيادته المتمثلة في جبهة التحرير الوطني، والشعارات التي رفعتها والخيارات التي طرحتها، والتي كانت حصيلة نضال سياسي وديني وثقافي استمر سنوات طويلة.
وكل ما يمكن ان يقال في هذا المجال لفائدة الجنرال ديغول انه كان واقعيا، لأنه عندما تأكد من تمسك الشعب الجزائري بجبهة التحرير الوطني وإصراره على انتزاع الاستقلال، استخلص النتيجة من ذلك، بعد إن استنفذ وسائل القوة والإكراه واستفرغ أساليب المناورة والتضليل.
لقد حاول أن يستعمل إفريقيا ضد الجزائر، مثلما حاول أن يستعمل جناحي المغرب العربي ضدها، حتى إذا فشل في ذلك سلم باستقلال الجزائر حتى يضمن المصالح الفرنسية في البلدان الافريقية جنوب الصحراء، إدراكا منه لدور الثورة الجزائرية وصداها في تلك الأصقاع.
إن الجنرال ديغول إذ اكتشف انعكاسات الحرب الجزائرية على المصالح الفرنسية في إفريقيا وفي العالم العربي، مغربه ومشرقة، ساير حركة التاريخ مكرها، سعيا لأن تكون علاقاته الحسنة مع الجزائر مفتاحا لإعادة الاعتبار لمكانة فرنسا ليس فقط في إقريقيا، ولكن في مجموع العالم الثالث.
__________________