شارل ديغول.. أو الجنرال.. كما يحلو للفرنسيين أن يطلقوا عليه من منطلق الفكرالفرنسي، حيث تعني عبارة «جنرال» بالنسبة إليهم: الزعيم.. ولعله الزعيم الذي أعطى فرنسا الكثير من حضورها المتوهج، لأنه كان يتبنى فكرة بالوطن الأم.. أي.. الذي يشمل العديد من الأوطان الأخرى أيضا، وهذه غلطته الأيديولوجية التي يقول الكثير من المحللين انها كانت سببا مباشرا في فشله، وسقوطه، ليس سياسيا فقط، بل أيديولوجيا أيضا منذ اللحظة الذي أراد فيها محاربة الشمولية السلبية بمزيد من الشمولية السلبية، فعندما كان «شارل ديغول» يتكلم بلغته الشعرية عن « فيكتور هوجو» و«دولامانيير» و«فونتين» و«جان بول سارتر»، كان العالم يتغير، بحيث ان الرؤية الشمولية للقوة بدت أكثر حدة ووضوحا إلى درجة أنه أراد التصدي إليها بعبارته الشهيرة للشعب الفرنسي «لقد فهمت ماذا تريدون، تريدون فرنسا القوية؟ هذا بالضبط ما سيكون..!»
الكتاب الذي نعرضه اليوم يتناول حياة «الجنرال» الذي كان يثير تحفظ الغرب، وتحديدا تحفظ الأمريكيين الذين لم يرتاحوا له قط، ربما لأنه لم يكن يخفي رأيه الصريح إزاء الرغبة الأمريكية في قيادة شؤون الدول الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. فقد كانت حقبة الحرب العالمية بمثابة جس النبض للعديد من الدول التي كنت تراهن على ما بعد «الإمبراطورية النازية» على أساس ما يمكن أن تسفر عنه الانتصارات التي كان يحققها الحلفاء ضد الألمان وضد التوسع النازي والفاشي في العالم.
سقوط باريس تحت أقدام الألمان كان بمثابة مفترق الطرق السياسي، لشارل ديغول الذي قاد أكبر مقاومة فرنسية من الخارج، من بريطانيا تحديدا سنة 1940، حين ألقى عبر ال(بي بي سي) خطبته الشهيرة لأجل «التحرير الوطني إنقاذا لفرنسا الأم».. كانت خطبته المفاجئة تلك إعلانا ديغوليا عن الوجهة الفرنسية التي سوف تصبح بمثابة السياسة الحقيقية التي بموجبها اتسعت دوائر الاختلاف الغربية معه ومع فرنسا الجديدة.. قال «شارل ديغول» للملايين من الفرنسيين عبر ال(بي بي سي) يومها: «لا! صدقوني، أنا الذي يتحدث معكم من منطلق واقعي وحقيقي، أن لا شيء قد ضاع بالنسبة لفرنسا، الوسائل نفسها التي تسببت في خسارتنا هي التي سوف تساهم في انتصاراتنا القادمة.. لأن فرنسا ليست وحيدة في معركتها اليوم.. ليست وحيدة! ليست وحيدة! فخلفها تقف سنوات طويلة من الفخر والإنجاز والحضارة.. ولأنها لا تقل عن الإمبراطورية البريطانية في شيء، ولأنها وهذا المهم لنا جميعا، سوف تستفيد مثل بريطانيا، من الإمكانيات الصناعية الأمريكية من دون طأطأة الرأس لأحد، فهذه الحرب ليست حربا صغيرة، بل حرب عالمية، يجب أن نخوضها ليس كأتباع لأحد، بل كمقاومين سوف يهزمون النازية والفاشية برفقة غيرهم من المقاومين، لأننا على حق!».
كان تاريخ 1940 حاسما بالنسبة للجنرال شارل ديغول الذي تحول فجأة إلى أسطورة في نظر الفرنسيين، الذين انضم بعضهم إلى الثورة لأجل خوض التجربة الديغولية التي وعدتهم بالكثير، والبعض اكتفى بالإعجاب عن بعد، بينما كان الغرب يشعر بشيء من الخصومة لرجل اعتبر المواقف الأوروبية أمرا واجبا فحسب..! لكن «ديغول» كان يريد المضي قدما نحو فكرته وآرائه التي كان يرى أنها تعكس فكر ورأي الفرنسيين ككل.. لهذا لم يكن من الصعب عليه أن يقود المقاومة الفرنسية من الخارج ومن الداخل على حد سواء، بمساعدة من صديقه الكبير «جون مولان». ويقول الكتاب: على الرغم من أن الأمريكيين حاولوا قطع الطريق أمامه باختيارهم الجنرال «جيرو» كواحد من الموالين للسياسة الأمريكية في فرنسا، لكن «شارل ديغول» صمد وأوقف «جيرو» الذي لم يستطع فعل شيء أمام الشعبية الكبيرة التي كان «شارل ديغول» يحظى بها في فرنسا.
تسلط ديغولي
كانت قضية «جيرو» بمثابة القشة التي قصمت ظهر «ديغول» بحيث ان انتهاءها لصالحه أعطاه سببا آخر في الوقوف في وجه الأمريكيين سياسيا وهو ما فعله في اجتماع الحلف الأطلسي سنة 1946.. في مذكراته الشخصية ذكر «ديغول» رؤيته الخاصة لذلك الصراع الخفي قائلا: «بيننا وبين الأمريكيين خلاف عميق على أكثر من صعيد، ليس من مصلحتنا المضي فيه، ولا من مصلحة الأمريكيين أنفسهم لأن فرنسا ليست دويلة نائية، ولأن الفرنسيين ليسوا مجرد أفراد عاديين، وهذا شيء سوف يدركه الأمريكيون غدا، أو بعد ثلاثين سنة حين يكتشفون أنهم يحتاجون إلى الفرنسيين كثيرا للمشي نحو ما يسمونه «حرية دولية مكتملة» ونسميه نحن «احتلالا فكريا رهيبا..!» البريطانيون الذين كانوا يؤيدون «ديغول» في الخفاء أبدوا امتعاضهم منه حين أعلن من داخل مقر الحلف الأطلسي قائلا: «لن يسمح لكم أحد بتحويلنا إلى مجرد أغنام تتبع خطى راعيها للعودة إلى البيت..!» حيث مثلت جملته تلك القطرة التي أفاضت الكأس!
الذين عرفوا الجنرال «شارل ديغول» يتكلمون عن مزاجه العصبي، وعن تمسكه برأيه إلى درجة كبيرة.. كان من النوع الذي لا يتكلم، ولكنه يسمع كثيرا، ثم بعد ذلك يقول لمحدثه: «لقد قررت أن أفعل هذا.. أو قررت أن أتصرف كالآتي».. كان متسلطا يقول «جون ميشيل فونتين» الذي كان رفيق دربه إبان المقاومة الفرنسية على النازيين.. كتب في مذكرات شخصية قائلا: «تسلط شارل ديغول جزء من شخصيته، فأنت حين تقابله لا بد أنك تعجب به، لأنه مثقف، ولأنه سياسي جيد، ومتحدث لبق، يمكنه إبهارك بقصيدة شعرية جميلة، لكن في النهاية، تشعر بالصدمة لأن رأيه هو الذي يمشي، وليس رأيك أو اقتراحك أنت، كأن يصافحك فجأة قاطعا جلسة ما بقوله «سررت بمعرفتك» التي تعني في النهاية «لا ترني وجهك ثانية!».
الاعتراف الصعب
بعد 1946، حين فقد «شارل ديغول» كل أمل في الاستمرار بعد أن كثر معارضوه داخل الحكومة الفرنسية المؤقتة، انسحب إلى كتابة مذكراته الخاصة، كما قال معلقا على ردة فعل الزملاء القدامى منه.. ولكنه، عاد إلى الضوء وبقوة، عندما كانت الثورة الجزائرية تزداد اشتعالا سنة 1958، وحين قرر الفرنسيون أن منقذهم من خسائرهم في الجزائر اسمه: شارل ديغول! عاد ليحتل منصب رئيس اللجنة القومية الفرنسية، وهو المنصب الذي أعطاه الضوء الأخضر لإعادة صياغة الدستور الفرنسي، بحيث إنه أراد أن يصنع دستورا خاصا بقرار الإعلان الذي أصدره، والذي يخص إعلان ولادة الجمهورية الفرنسية الخامسة، الذي صار رئيسها.. بيد أن الزحف الذي حققته الثورة الجزائرية نحو النصر أجبر «شارل ديغول» على التفاوض مع الثوار، ومن ثم إعلان وقف إطلاق النار في مارس 1962..
يقول عن هذه المرحلة بالذات: «ليس من السهل على أحد أن يعترف بالخسارة، لقد كانت الجزائر بالنسبة للفرنسيين امتدادا مهما، ليس على المستوى الاستراتيجي فقط، بل على المستوى الاقتصادي والسياسي.. الخسارة ليست أشد مرارة من الواقع، فنحن نعتقد دوما أن استقلال دولة ما لا يعني انتصارها، مهما كان نوع ذلك الاستقلال..!» والحال أن تلك الحرقة وجهته إلى اعتبار أن الدول الافريقية جزء من فرنسا لاعتبارات لغوية و«تاريخية» (الاحتلال الفرنسي لها منذ القرن السابع عشر)..
عاد سنة 1963 إلى صياغة جديدة للدستور الفرنسي مانحا حق الترشيح ثانية لرئيس الجمهورية.. ذلك التعديل فتح الباب أمام الأحزاب اليسارية كي تتحرك ضده، وكي تضعف مواقفه.. في ابريل من سنة 1969، رفض الشعب الفرنسي مشروعا سياسيا لشارل ديغول، أكثر من 81% من نسبة الأصوات قالت «لا» للجنرال التاريخي الذي اعتبرها كلمة نهائية بالنسبة إليه، قرر على أساسها تقديم استقالته يوم 27 ابريل من نفس السنة، تاركا العمل السياسي إلى الأبد..
توفي في التاسع من نوفمبر من سنة 1970..
علاقاته الدولية
في الفصل الثامن من الكتاب، يمكنك أن تطلع على علاقة الجنرال ديغول بالشخصيات الكبيرة، ويمكنك الوقوف على الكثير من الحقائق عن علاقة الجنرال الفرنسي العنيد بشخصيات معروفة مثل «ويستون تشرشل».. يكشف الكتاب العلاقة المزاجية المتصادمة للرجلين فيما بينهما على عكس ما كان يعتقده الرأي العام في البلدين.. كان الجنرال «ديغول» يعتبر «تشرشل» شخصا فضوليا وثرثارا ومقرفا بمنطقه المتغير، وكان «تشرشل» يعتبر «شارل ديغول» مغرورا ومدعيا، وغير كفؤ.. أرسل « وينستون تشرشل» إلى «شارل ديغول» رسالة يحذره فيها من مواقفه المعارضة للسياسة البريطانية داخل الحلف الأطلسي، كتب له فيها العبارة الشهيرة التي يعرفها الجميع: «إن أنت وضعت عراقيل في طريقي فسوف أسحقك!» وكان رد الجنرال الفرنسي له بعبارة: «أنت حر في سقوطك غير المشرف إلى الحضيض!» وهي العبارة نفسها تقريبا التي ذكرها ديغول إلى الجنرال «ريجو» الذي أراد الأمريكيون فرضه على رأس المجلس الفرنسي الأعلى..!
أما علاقته بالرئيس الأمريكي «روزفلت» فكانت سيئة أيضا، ربما لأن «شارل ديغول» لم ينس أن الأمريكيين أرادوا تحقير دوره إبان الحرب العالمية الثانية وبالخصوص فيما يخص دور المقاومة الفرنسية.. «روزفلت» الذي قال ل«ديغول» مرة «عليك أن تتواضع قليلا لتعرف أن انتصاركم على الألمان كان بفضلنا».. وغضب ديغول كثيرا، بحيث إنه اعتبر ذلك الكلام تجريحا مباشرا له، رد عليه بجملته الشهيرة: «سيكون لنا الفضل ذات يوم لإجباركم على الاعتذار للعالم بهامات منحنية!».
الجانب الفكري للجنرال
لدى الجنرال الفرنسي ثقافة كلاسيكية جيدة اكتسبها عن والده المغرم بالقراءة.. كان ديغول شغوفا بالأدب الكلاسيكي، يقرأ الشعر كثيرا وغالبا ما كان يكتب على دفتر خاص به قصيدة تعجبه لينتقي منها بعض السطور أثناء إلقاء خطاب ما.. كان مهووسا بالحضارات القديمة، الإغريقية واليونانية.. كما يعتبر الفلسفة جزءا من السياسة.. يقرأ لأدباء الشعب مثل «دولا فونتين» و«بوسييه» كما يحب المسرح الواقعي.. لا يحب الأدباء التجديديين الذين يتطاولون على المبادئ (كما يقول في مذكراته ).. يقول عنه صديقه «جون ميشيل فونتين» يعتقد «شارل ديغول» أن أي أديب يجب أن يكون دوره القومي أهم من أي دور آخر، وهذا سبب آخر في انتقاد العديد من الكتاب التجديديين لسياسته.. لكن ما يبقى مهماً بالنسبة للفرنسيين اليوم هو أن الجنرال شارل ديغول كان زعيما وقائدا، ومثقفا.. ما زال صوته الهادئ والواضح يغري أجيالا من السياسيين الفرنسيين الذين يستعملون في كلامهم تلك العبارة الديغولية الشهيرة التي تلخص حياته وصراعاته وموته أيضا: «ليس مهما أن تكون سياسيا فحسب، بل عليك أن تكون فرنسيا حقيقيا.. عليك أن تكون شعبيا جديرا، وعليك أن تحسن طريقتك في الحياة، كي يكون اختلافك مع الآخر مسألة مبدأ أنت بصدد الدفاع عنه، كي يكون موتك سببا آخر يعطيك القناعة انك عشت مخلصا لوطنك الأم وأن موتك هوالدليل على إخلاصك لمبادئك!»
[right]الكتاب الذي نعرضه اليوم يتناول حياة «الجنرال» الذي كان يثير تحفظ الغرب، وتحديدا تحفظ الأمريكيين الذين لم يرتاحوا له قط، ربما لأنه لم يكن يخفي رأيه الصريح إزاء الرغبة الأمريكية في قيادة شؤون الدول الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. فقد كانت حقبة الحرب العالمية بمثابة جس النبض للعديد من الدول التي كنت تراهن على ما بعد «الإمبراطورية النازية» على أساس ما يمكن أن تسفر عنه الانتصارات التي كان يحققها الحلفاء ضد الألمان وضد التوسع النازي والفاشي في العالم.
سقوط باريس تحت أقدام الألمان كان بمثابة مفترق الطرق السياسي، لشارل ديغول الذي قاد أكبر مقاومة فرنسية من الخارج، من بريطانيا تحديدا سنة 1940، حين ألقى عبر ال(بي بي سي) خطبته الشهيرة لأجل «التحرير الوطني إنقاذا لفرنسا الأم».. كانت خطبته المفاجئة تلك إعلانا ديغوليا عن الوجهة الفرنسية التي سوف تصبح بمثابة السياسة الحقيقية التي بموجبها اتسعت دوائر الاختلاف الغربية معه ومع فرنسا الجديدة.. قال «شارل ديغول» للملايين من الفرنسيين عبر ال(بي بي سي) يومها: «لا! صدقوني، أنا الذي يتحدث معكم من منطلق واقعي وحقيقي، أن لا شيء قد ضاع بالنسبة لفرنسا، الوسائل نفسها التي تسببت في خسارتنا هي التي سوف تساهم في انتصاراتنا القادمة.. لأن فرنسا ليست وحيدة في معركتها اليوم.. ليست وحيدة! ليست وحيدة! فخلفها تقف سنوات طويلة من الفخر والإنجاز والحضارة.. ولأنها لا تقل عن الإمبراطورية البريطانية في شيء، ولأنها وهذا المهم لنا جميعا، سوف تستفيد مثل بريطانيا، من الإمكانيات الصناعية الأمريكية من دون طأطأة الرأس لأحد، فهذه الحرب ليست حربا صغيرة، بل حرب عالمية، يجب أن نخوضها ليس كأتباع لأحد، بل كمقاومين سوف يهزمون النازية والفاشية برفقة غيرهم من المقاومين، لأننا على حق!».
كان تاريخ 1940 حاسما بالنسبة للجنرال شارل ديغول الذي تحول فجأة إلى أسطورة في نظر الفرنسيين، الذين انضم بعضهم إلى الثورة لأجل خوض التجربة الديغولية التي وعدتهم بالكثير، والبعض اكتفى بالإعجاب عن بعد، بينما كان الغرب يشعر بشيء من الخصومة لرجل اعتبر المواقف الأوروبية أمرا واجبا فحسب..! لكن «ديغول» كان يريد المضي قدما نحو فكرته وآرائه التي كان يرى أنها تعكس فكر ورأي الفرنسيين ككل.. لهذا لم يكن من الصعب عليه أن يقود المقاومة الفرنسية من الخارج ومن الداخل على حد سواء، بمساعدة من صديقه الكبير «جون مولان». ويقول الكتاب: على الرغم من أن الأمريكيين حاولوا قطع الطريق أمامه باختيارهم الجنرال «جيرو» كواحد من الموالين للسياسة الأمريكية في فرنسا، لكن «شارل ديغول» صمد وأوقف «جيرو» الذي لم يستطع فعل شيء أمام الشعبية الكبيرة التي كان «شارل ديغول» يحظى بها في فرنسا.
تسلط ديغولي
كانت قضية «جيرو» بمثابة القشة التي قصمت ظهر «ديغول» بحيث ان انتهاءها لصالحه أعطاه سببا آخر في الوقوف في وجه الأمريكيين سياسيا وهو ما فعله في اجتماع الحلف الأطلسي سنة 1946.. في مذكراته الشخصية ذكر «ديغول» رؤيته الخاصة لذلك الصراع الخفي قائلا: «بيننا وبين الأمريكيين خلاف عميق على أكثر من صعيد، ليس من مصلحتنا المضي فيه، ولا من مصلحة الأمريكيين أنفسهم لأن فرنسا ليست دويلة نائية، ولأن الفرنسيين ليسوا مجرد أفراد عاديين، وهذا شيء سوف يدركه الأمريكيون غدا، أو بعد ثلاثين سنة حين يكتشفون أنهم يحتاجون إلى الفرنسيين كثيرا للمشي نحو ما يسمونه «حرية دولية مكتملة» ونسميه نحن «احتلالا فكريا رهيبا..!» البريطانيون الذين كانوا يؤيدون «ديغول» في الخفاء أبدوا امتعاضهم منه حين أعلن من داخل مقر الحلف الأطلسي قائلا: «لن يسمح لكم أحد بتحويلنا إلى مجرد أغنام تتبع خطى راعيها للعودة إلى البيت..!» حيث مثلت جملته تلك القطرة التي أفاضت الكأس!
الذين عرفوا الجنرال «شارل ديغول» يتكلمون عن مزاجه العصبي، وعن تمسكه برأيه إلى درجة كبيرة.. كان من النوع الذي لا يتكلم، ولكنه يسمع كثيرا، ثم بعد ذلك يقول لمحدثه: «لقد قررت أن أفعل هذا.. أو قررت أن أتصرف كالآتي».. كان متسلطا يقول «جون ميشيل فونتين» الذي كان رفيق دربه إبان المقاومة الفرنسية على النازيين.. كتب في مذكرات شخصية قائلا: «تسلط شارل ديغول جزء من شخصيته، فأنت حين تقابله لا بد أنك تعجب به، لأنه مثقف، ولأنه سياسي جيد، ومتحدث لبق، يمكنه إبهارك بقصيدة شعرية جميلة، لكن في النهاية، تشعر بالصدمة لأن رأيه هو الذي يمشي، وليس رأيك أو اقتراحك أنت، كأن يصافحك فجأة قاطعا جلسة ما بقوله «سررت بمعرفتك» التي تعني في النهاية «لا ترني وجهك ثانية!».
الاعتراف الصعب
بعد 1946، حين فقد «شارل ديغول» كل أمل في الاستمرار بعد أن كثر معارضوه داخل الحكومة الفرنسية المؤقتة، انسحب إلى كتابة مذكراته الخاصة، كما قال معلقا على ردة فعل الزملاء القدامى منه.. ولكنه، عاد إلى الضوء وبقوة، عندما كانت الثورة الجزائرية تزداد اشتعالا سنة 1958، وحين قرر الفرنسيون أن منقذهم من خسائرهم في الجزائر اسمه: شارل ديغول! عاد ليحتل منصب رئيس اللجنة القومية الفرنسية، وهو المنصب الذي أعطاه الضوء الأخضر لإعادة صياغة الدستور الفرنسي، بحيث إنه أراد أن يصنع دستورا خاصا بقرار الإعلان الذي أصدره، والذي يخص إعلان ولادة الجمهورية الفرنسية الخامسة، الذي صار رئيسها.. بيد أن الزحف الذي حققته الثورة الجزائرية نحو النصر أجبر «شارل ديغول» على التفاوض مع الثوار، ومن ثم إعلان وقف إطلاق النار في مارس 1962..
يقول عن هذه المرحلة بالذات: «ليس من السهل على أحد أن يعترف بالخسارة، لقد كانت الجزائر بالنسبة للفرنسيين امتدادا مهما، ليس على المستوى الاستراتيجي فقط، بل على المستوى الاقتصادي والسياسي.. الخسارة ليست أشد مرارة من الواقع، فنحن نعتقد دوما أن استقلال دولة ما لا يعني انتصارها، مهما كان نوع ذلك الاستقلال..!» والحال أن تلك الحرقة وجهته إلى اعتبار أن الدول الافريقية جزء من فرنسا لاعتبارات لغوية و«تاريخية» (الاحتلال الفرنسي لها منذ القرن السابع عشر)..
عاد سنة 1963 إلى صياغة جديدة للدستور الفرنسي مانحا حق الترشيح ثانية لرئيس الجمهورية.. ذلك التعديل فتح الباب أمام الأحزاب اليسارية كي تتحرك ضده، وكي تضعف مواقفه.. في ابريل من سنة 1969، رفض الشعب الفرنسي مشروعا سياسيا لشارل ديغول، أكثر من 81% من نسبة الأصوات قالت «لا» للجنرال التاريخي الذي اعتبرها كلمة نهائية بالنسبة إليه، قرر على أساسها تقديم استقالته يوم 27 ابريل من نفس السنة، تاركا العمل السياسي إلى الأبد..
توفي في التاسع من نوفمبر من سنة 1970..
علاقاته الدولية
في الفصل الثامن من الكتاب، يمكنك أن تطلع على علاقة الجنرال ديغول بالشخصيات الكبيرة، ويمكنك الوقوف على الكثير من الحقائق عن علاقة الجنرال الفرنسي العنيد بشخصيات معروفة مثل «ويستون تشرشل».. يكشف الكتاب العلاقة المزاجية المتصادمة للرجلين فيما بينهما على عكس ما كان يعتقده الرأي العام في البلدين.. كان الجنرال «ديغول» يعتبر «تشرشل» شخصا فضوليا وثرثارا ومقرفا بمنطقه المتغير، وكان «تشرشل» يعتبر «شارل ديغول» مغرورا ومدعيا، وغير كفؤ.. أرسل « وينستون تشرشل» إلى «شارل ديغول» رسالة يحذره فيها من مواقفه المعارضة للسياسة البريطانية داخل الحلف الأطلسي، كتب له فيها العبارة الشهيرة التي يعرفها الجميع: «إن أنت وضعت عراقيل في طريقي فسوف أسحقك!» وكان رد الجنرال الفرنسي له بعبارة: «أنت حر في سقوطك غير المشرف إلى الحضيض!» وهي العبارة نفسها تقريبا التي ذكرها ديغول إلى الجنرال «ريجو» الذي أراد الأمريكيون فرضه على رأس المجلس الفرنسي الأعلى..!
أما علاقته بالرئيس الأمريكي «روزفلت» فكانت سيئة أيضا، ربما لأن «شارل ديغول» لم ينس أن الأمريكيين أرادوا تحقير دوره إبان الحرب العالمية الثانية وبالخصوص فيما يخص دور المقاومة الفرنسية.. «روزفلت» الذي قال ل«ديغول» مرة «عليك أن تتواضع قليلا لتعرف أن انتصاركم على الألمان كان بفضلنا».. وغضب ديغول كثيرا، بحيث إنه اعتبر ذلك الكلام تجريحا مباشرا له، رد عليه بجملته الشهيرة: «سيكون لنا الفضل ذات يوم لإجباركم على الاعتذار للعالم بهامات منحنية!».
الجانب الفكري للجنرال
لدى الجنرال الفرنسي ثقافة كلاسيكية جيدة اكتسبها عن والده المغرم بالقراءة.. كان ديغول شغوفا بالأدب الكلاسيكي، يقرأ الشعر كثيرا وغالبا ما كان يكتب على دفتر خاص به قصيدة تعجبه لينتقي منها بعض السطور أثناء إلقاء خطاب ما.. كان مهووسا بالحضارات القديمة، الإغريقية واليونانية.. كما يعتبر الفلسفة جزءا من السياسة.. يقرأ لأدباء الشعب مثل «دولا فونتين» و«بوسييه» كما يحب المسرح الواقعي.. لا يحب الأدباء التجديديين الذين يتطاولون على المبادئ (كما يقول في مذكراته ).. يقول عنه صديقه «جون ميشيل فونتين» يعتقد «شارل ديغول» أن أي أديب يجب أن يكون دوره القومي أهم من أي دور آخر، وهذا سبب آخر في انتقاد العديد من الكتاب التجديديين لسياسته.. لكن ما يبقى مهماً بالنسبة للفرنسيين اليوم هو أن الجنرال شارل ديغول كان زعيما وقائدا، ومثقفا.. ما زال صوته الهادئ والواضح يغري أجيالا من السياسيين الفرنسيين الذين يستعملون في كلامهم تلك العبارة الديغولية الشهيرة التي تلخص حياته وصراعاته وموته أيضا: «ليس مهما أن تكون سياسيا فحسب، بل عليك أن تكون فرنسيا حقيقيا.. عليك أن تكون شعبيا جديرا، وعليك أن تحسن طريقتك في الحياة، كي يكون اختلافك مع الآخر مسألة مبدأ أنت بصدد الدفاع عنه، كي يكون موتك سببا آخر يعطيك القناعة انك عشت مخلصا لوطنك الأم وأن موتك هوالدليل على إخلاصك لمبادئك!»