لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أن فيه تسليما،
ولا أنهم كانوا يسلمون منه؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل وغيره من العلماء لا
يعرفون فيه التسليم. وأحمد في إحدى الروايتين عنه لا يسلم فيه؛ لعدم ورود
الأثر بذلك. وفي الرواية الأخرى يسلم واحدة أو اثنتين، ولم يثبت ذلك
بنص، بل بالقياس، وكذلك من رأي فيه تسليما من الفقهاء ليس معه نص، بل
القياس، أو قول بعض التابعين.
وقد تكلم الخطابي على حديث نافع عن
ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا
مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه. قال: فيه بيان أن السنة أن يكبر
للسجود، وعلى هذا مذاهب أكثر أهل العلم، وكذلك يكبر إذا رفع رأسه من
السجود، قال: وكان الشافعي وأحمد يقولان يرفع يديه إذا أراد أن يسجد.
وعن ابن سيرين وعطاء: إذا رفع رأسه من السجود يسلم. وبه قال إسحاق بن
راهويه.
قال: واحتج لهم في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم
تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. وكان أحمد لا يعرف ـ وفي لفظ ـ لا
يرى التسليم في هذا.
قلت: وهذه الحجة إنما تستقيم لهم أن ذلك
داخل في مسمى الصلاة، لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم أنها صلاة، فيتناقض
قوله. وحديث ابن عمر رواه البخاري في صحيحه وليس فيه التكبير. قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد،
حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته. وفي لفظ: حتى ما يجد أحدنا مكانا
لجبهته.
فابن عمر قد أخبر أنهم كانوا يسجدون مع النبي صلى الله
عليه وسلم، ولم يذكر تسليما، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم
أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلى
على وضوء، لكان هذا مما يعلمه عامتهم؛ لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان
هذا شائعا في الصحابة، فإذا لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود
التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة، وقد بقى إلى آخر
الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هو مما يبين أنه لم يكن معروفا
بينهم أن الطهارة واجبة لها. ولو كان هذا مما أوجبه النبي صلى الله عليه
وسلم لكان ذلك شائعًا بينهم، كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة،
وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على
الطهارة أفضل باتفاق المسلمين.
وقد يقال: إنه يكره سجودها على
غير طهارة مع القدرة على الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم
عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم، وقال: كرهت أن أذكر الله إلاَّ على طهر،
فالسجود أوكد من رد السلام. لكن كون الإنسان إذا قرأ وهو محدث يحرم عليه
السجود، ولا يحل له أن يسجد للَّه إلا بطهارة، قول لا دليل عليه. وما
ذكر أيضاً يدل: على أن الطواف ليس من الصلاة، ويدل على ذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب) والطواف
والسجود لا يقرأ فيهما بأم الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن
الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) والكلام
يجوز في الطواف، والطواف ـ أيضًا ـ ليس فيه تسليم، لكن يفتتح بالتكبير، كما
يسجد للتلاوة بالتكبير، ومجرد الافتتاح بالتكبير لا يوجب أن يكون المفتتح
صلاة. فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، كلما
أتى الركن أشار إليه بشيء بيده، وكبر. وكذلك ثبت عنه: أنه كبر على
الصفا والمروة، وعند رمى الجمار؛ ولأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه.
وقد
اعترض ابن بطَّال على احتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث ابن
عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ [النجم] فسجد، وسجد معه
المسلمون والمشركون والجن والإنس) وهذا السجود متواتر عند أهل العلم، وفي
الصحيح ـ أيضًا ـ من حديث ابن مسعود قال: (قرأ النبي صلى الله عليه
وسلم بمكة النجم فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفًا من حصى أو تراب
فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفينى هذا، قال: فرأيته بعدُ قُتِل
كافرًا).
قال ابن بطَّال: هذا لا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين
لم يكن على وجه العبادة للَّه، والتعظيم له، وإنما كان لما ألقى الشيطان
على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم في قوله:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن
شفاعتهن قد ترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم. فلما علم النبي صلى
الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل
الله ـ تعالى ـ تأنيساً له وتسلية عما عرض له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} [الحج: 52]، أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
فلا
يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا يصح
له وضوء، ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام.
فيقال: هذا ضعيف، فإن
القوم إنما سجدوا لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ
سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
[النجم:59-62]،
فسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه امتثالا لهذا الأمر، وهو السجود
للَّه والمشركون تابعوه في السجود الله.
وما ذكر من التمني إذا
كان صحيحًا فإنه هو كان سبب موافقتهم له في السجود للَّه، ولهذا لما جرى
هذا، بلغ المسلمين بالحبشة ذلك، فرجع منهم طائفة إلى مكة، والمشركون ما
كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه، ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى، كما
أخبر الله عنهم بذلك، فكان هذا السجود من عبادتهم للَّه، وقد قال: سجد
معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وأما قوله: لا سجود إلا
بعد عقد الإسلام، فسجود الكافر بمنزلة دعائه للَّه. وذكره له، وبمنزلة
صدقته. وبمنزلة حجهم للَّه، وهم مشركون فالكفار قد يعبدون الله وما فعلوه
من خير أثيبوا عليه في الدنيا، فإن ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في
الآخرة، وإن ماتوا على الإيمان فهل يثابون على ما فعلوه في الكفر؟ فيه
قولان مشهوران، والصحيح أنهم يثابون على ذلك، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم لحكيم بن حزام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وغير ذلك من
النصوص، ومعلوم أن اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود. وإن كان ذلك لا
ينفعهم في الآخرة إذا ماتوا على الكفر.
وأيضًا، فقد أخبر الله في غير
موضع من القرآن عن سجود سحرة فرعون كما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46-48]، وذلك سجود مع إيمانهم. وهو
مما قبله اللّه منهم، وأدخلهم به الجنة، ولم يكونوا على طهارة. وشرع من
قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه. ولو قرئ القرآن على كفار فسجدوا
للَّه سجود إيمان باللَّه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو رأوا آية من
آيات الإيمان فسجدوا للَّه مؤمنين باللّه ورسوله، لنفعهم ذلك.
ومما
يبين هذا أن السجود يشرع منفردًا عن الصلاة كسجود التلاوة، وسجود الشكر،
وكالسجود عند الآيات، فإن ابن عباس لما بلغه موت بعض أمهات المؤمنين سجد،
وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا رأينا آية أن نسجد.
وقد
تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب. هل هو عبادة، أم لا؟ ومن
سوغه يقول: هو خضوع للَّه، والسجود هو الخضوع قال تعالى: {وَإِذْ
قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ
رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ}
[البقرة: 58]، قال أهل اللغة: السجود في اللغة هو الخضوع، وقال غير
واحد من المفسرين: أمروا أن يدخلوا ركعا منحنين، فإن الدخول مع وضع
الجبهة على الأرض لا يمكن، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، وقال تعالى: {وَلِلّهِ
يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}
[الرعد: 15]، ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه، ليس سجود هذه المخلوقات
وضع جباهها على الأرض. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر
لما غربت الشمس: (إنها تذهب فتسجد تحت العرش). رواه البخاري
ومسلم.
فَعُلِم أن السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع للَّه، وأعز
ما في الإنسان وجهه، فَوَضْعُه على الأرض للَّه غاية خضوعه ببدنه، وهو غاية
ما يقدر عليه من ذلك. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد) وقال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فصار من جنس أذكار الصلاة التي
تشرع خارج الصلاة، كالتسبيح؛ والتحميد، والتكبير، والتهليل، وقراءة القرآن،
وكل ذلك يستحب له الطهارة.
وأما سجود السهو: فقد جوزه ابن حزم
أيضًا على غير طهارة، وإلى غير القبلة كسجود التلاوة بناء على أصله الضعيف؛
ولهذا لا يعرف عن أحد من السلف، وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر؛ لأن هذا
سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح ـ حديث الشك ـ: (إذا شك أحدكم فلم يدر ثلاثًا صلى أم
أربعًا فليطرح الشك وْليَبْنِ على ما استيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم،
فإن صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإلا كانتا ترغيما للشيطان). وفي
لفظ: (وإن كانت صلاته تمامًا كانتا ترغيما). فجعلهما كالركعة
السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوًا.
وفي الجملة، سجدتا
السهو من جنس سجدتى الصلاة. لا من جنس سجود التلاوة والشكر؛ ولهذا يفعلان
إلى الكعبة، وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم، ولم ينقل عن أحد أنه فعلها
إلى غير القبلة، ولا بغير وضوء. كما يفعل ذلك في سجود التلاوة. وإذا
كان السهو في الفريضة كان عليه أن يسجدهما بالأرض كالفريضة، ليس له أن
يفعلهما على الراحلة.
وأيضا فإنهما واجبتان كما دل عليه نصوص كثيرة،
وهو قول أكثر الفقهاء، بخلاف سجود الشكر، فإنه لا يجب بالإجماع، وفي
استحبابه نزاع، وسجود التلاوة في وجوبه نزاع، وإن كان مشروعًا بالإجماع،
فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها.
ولما كان المحدث له أن يقرأ،
فله أن يسجد بطريق الأولى، فإن القراءة أعظم من مجرد سجود التلاوة.
والمشركون
قد سجدوا، وما كانوا يقرؤون القرآن، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن
يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فَعُلِم أن القرآن أفضل من هذه
الحال.
وقوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) أي من
الأفعال، فلم تدخل الأقوال في ذلك. ويفرق بين الأقرب والأفضل. فقد يكون
بعض الأعمال أفضل من السجود، وإن كان في السجود أقرب: كالجهاد فإنه سنام
العمل. إلا أن يراد السجود العام، وهو الخضوع. فهذا يحصل له في حال
القراءة وغيرها، وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا
يحصل له في حال السجود.
ولا أنهم كانوا يسلمون منه؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل وغيره من العلماء لا
يعرفون فيه التسليم. وأحمد في إحدى الروايتين عنه لا يسلم فيه؛ لعدم ورود
الأثر بذلك. وفي الرواية الأخرى يسلم واحدة أو اثنتين، ولم يثبت ذلك
بنص، بل بالقياس، وكذلك من رأي فيه تسليما من الفقهاء ليس معه نص، بل
القياس، أو قول بعض التابعين.
وقد تكلم الخطابي على حديث نافع عن
ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا
مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه. قال: فيه بيان أن السنة أن يكبر
للسجود، وعلى هذا مذاهب أكثر أهل العلم، وكذلك يكبر إذا رفع رأسه من
السجود، قال: وكان الشافعي وأحمد يقولان يرفع يديه إذا أراد أن يسجد.
وعن ابن سيرين وعطاء: إذا رفع رأسه من السجود يسلم. وبه قال إسحاق بن
راهويه.
قال: واحتج لهم في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم
تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. وكان أحمد لا يعرف ـ وفي لفظ ـ لا
يرى التسليم في هذا.
قلت: وهذه الحجة إنما تستقيم لهم أن ذلك
داخل في مسمى الصلاة، لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم أنها صلاة، فيتناقض
قوله. وحديث ابن عمر رواه البخاري في صحيحه وليس فيه التكبير. قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد،
حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته. وفي لفظ: حتى ما يجد أحدنا مكانا
لجبهته.
فابن عمر قد أخبر أنهم كانوا يسجدون مع النبي صلى الله
عليه وسلم، ولم يذكر تسليما، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم
أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلى
على وضوء، لكان هذا مما يعلمه عامتهم؛ لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان
هذا شائعا في الصحابة، فإذا لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود
التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة، وقد بقى إلى آخر
الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هو مما يبين أنه لم يكن معروفا
بينهم أن الطهارة واجبة لها. ولو كان هذا مما أوجبه النبي صلى الله عليه
وسلم لكان ذلك شائعًا بينهم، كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة،
وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على
الطهارة أفضل باتفاق المسلمين.
وقد يقال: إنه يكره سجودها على
غير طهارة مع القدرة على الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم
عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم، وقال: كرهت أن أذكر الله إلاَّ على طهر،
فالسجود أوكد من رد السلام. لكن كون الإنسان إذا قرأ وهو محدث يحرم عليه
السجود، ولا يحل له أن يسجد للَّه إلا بطهارة، قول لا دليل عليه. وما
ذكر أيضاً يدل: على أن الطواف ليس من الصلاة، ويدل على ذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب) والطواف
والسجود لا يقرأ فيهما بأم الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن
الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) والكلام
يجوز في الطواف، والطواف ـ أيضًا ـ ليس فيه تسليم، لكن يفتتح بالتكبير، كما
يسجد للتلاوة بالتكبير، ومجرد الافتتاح بالتكبير لا يوجب أن يكون المفتتح
صلاة. فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، كلما
أتى الركن أشار إليه بشيء بيده، وكبر. وكذلك ثبت عنه: أنه كبر على
الصفا والمروة، وعند رمى الجمار؛ ولأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه.
وقد
اعترض ابن بطَّال على احتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث ابن
عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ [النجم] فسجد، وسجد معه
المسلمون والمشركون والجن والإنس) وهذا السجود متواتر عند أهل العلم، وفي
الصحيح ـ أيضًا ـ من حديث ابن مسعود قال: (قرأ النبي صلى الله عليه
وسلم بمكة النجم فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفًا من حصى أو تراب
فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفينى هذا، قال: فرأيته بعدُ قُتِل
كافرًا).
قال ابن بطَّال: هذا لا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين
لم يكن على وجه العبادة للَّه، والتعظيم له، وإنما كان لما ألقى الشيطان
على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم في قوله:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن
شفاعتهن قد ترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم. فلما علم النبي صلى
الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل
الله ـ تعالى ـ تأنيساً له وتسلية عما عرض له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} [الحج: 52]، أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
فلا
يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا يصح
له وضوء، ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام.
فيقال: هذا ضعيف، فإن
القوم إنما سجدوا لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ
سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
[النجم:59-62]،
فسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه امتثالا لهذا الأمر، وهو السجود
للَّه والمشركون تابعوه في السجود الله.
وما ذكر من التمني إذا
كان صحيحًا فإنه هو كان سبب موافقتهم له في السجود للَّه، ولهذا لما جرى
هذا، بلغ المسلمين بالحبشة ذلك، فرجع منهم طائفة إلى مكة، والمشركون ما
كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه، ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى، كما
أخبر الله عنهم بذلك، فكان هذا السجود من عبادتهم للَّه، وقد قال: سجد
معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وأما قوله: لا سجود إلا
بعد عقد الإسلام، فسجود الكافر بمنزلة دعائه للَّه. وذكره له، وبمنزلة
صدقته. وبمنزلة حجهم للَّه، وهم مشركون فالكفار قد يعبدون الله وما فعلوه
من خير أثيبوا عليه في الدنيا، فإن ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في
الآخرة، وإن ماتوا على الإيمان فهل يثابون على ما فعلوه في الكفر؟ فيه
قولان مشهوران، والصحيح أنهم يثابون على ذلك، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم لحكيم بن حزام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وغير ذلك من
النصوص، ومعلوم أن اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود. وإن كان ذلك لا
ينفعهم في الآخرة إذا ماتوا على الكفر.
وأيضًا، فقد أخبر الله في غير
موضع من القرآن عن سجود سحرة فرعون كما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46-48]، وذلك سجود مع إيمانهم. وهو
مما قبله اللّه منهم، وأدخلهم به الجنة، ولم يكونوا على طهارة. وشرع من
قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه. ولو قرئ القرآن على كفار فسجدوا
للَّه سجود إيمان باللَّه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو رأوا آية من
آيات الإيمان فسجدوا للَّه مؤمنين باللّه ورسوله، لنفعهم ذلك.
ومما
يبين هذا أن السجود يشرع منفردًا عن الصلاة كسجود التلاوة، وسجود الشكر،
وكالسجود عند الآيات، فإن ابن عباس لما بلغه موت بعض أمهات المؤمنين سجد،
وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا رأينا آية أن نسجد.
وقد
تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب. هل هو عبادة، أم لا؟ ومن
سوغه يقول: هو خضوع للَّه، والسجود هو الخضوع قال تعالى: {وَإِذْ
قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ
رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ}
[البقرة: 58]، قال أهل اللغة: السجود في اللغة هو الخضوع، وقال غير
واحد من المفسرين: أمروا أن يدخلوا ركعا منحنين، فإن الدخول مع وضع
الجبهة على الأرض لا يمكن، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، وقال تعالى: {وَلِلّهِ
يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}
[الرعد: 15]، ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه، ليس سجود هذه المخلوقات
وضع جباهها على الأرض. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر
لما غربت الشمس: (إنها تذهب فتسجد تحت العرش). رواه البخاري
ومسلم.
فَعُلِم أن السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع للَّه، وأعز
ما في الإنسان وجهه، فَوَضْعُه على الأرض للَّه غاية خضوعه ببدنه، وهو غاية
ما يقدر عليه من ذلك. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد) وقال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فصار من جنس أذكار الصلاة التي
تشرع خارج الصلاة، كالتسبيح؛ والتحميد، والتكبير، والتهليل، وقراءة القرآن،
وكل ذلك يستحب له الطهارة.
وأما سجود السهو: فقد جوزه ابن حزم
أيضًا على غير طهارة، وإلى غير القبلة كسجود التلاوة بناء على أصله الضعيف؛
ولهذا لا يعرف عن أحد من السلف، وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر؛ لأن هذا
سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح ـ حديث الشك ـ: (إذا شك أحدكم فلم يدر ثلاثًا صلى أم
أربعًا فليطرح الشك وْليَبْنِ على ما استيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم،
فإن صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإلا كانتا ترغيما للشيطان). وفي
لفظ: (وإن كانت صلاته تمامًا كانتا ترغيما). فجعلهما كالركعة
السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوًا.
وفي الجملة، سجدتا
السهو من جنس سجدتى الصلاة. لا من جنس سجود التلاوة والشكر؛ ولهذا يفعلان
إلى الكعبة، وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم، ولم ينقل عن أحد أنه فعلها
إلى غير القبلة، ولا بغير وضوء. كما يفعل ذلك في سجود التلاوة. وإذا
كان السهو في الفريضة كان عليه أن يسجدهما بالأرض كالفريضة، ليس له أن
يفعلهما على الراحلة.
وأيضا فإنهما واجبتان كما دل عليه نصوص كثيرة،
وهو قول أكثر الفقهاء، بخلاف سجود الشكر، فإنه لا يجب بالإجماع، وفي
استحبابه نزاع، وسجود التلاوة في وجوبه نزاع، وإن كان مشروعًا بالإجماع،
فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها.
ولما كان المحدث له أن يقرأ،
فله أن يسجد بطريق الأولى، فإن القراءة أعظم من مجرد سجود التلاوة.
والمشركون
قد سجدوا، وما كانوا يقرؤون القرآن، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن
يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فَعُلِم أن القرآن أفضل من هذه
الحال.
وقوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) أي من
الأفعال، فلم تدخل الأقوال في ذلك. ويفرق بين الأقرب والأفضل. فقد يكون
بعض الأعمال أفضل من السجود، وإن كان في السجود أقرب: كالجهاد فإنه سنام
العمل. إلا أن يراد السجود العام، وهو الخضوع. فهذا يحصل له في حال
القراءة وغيرها، وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا
يحصل له في حال السجود.