هو يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. كان يوسف عليه السلام أثيراً عند أبيه يخصه بقسط عظيم من محبته. ترتيب يوسف السابع من اثنى عشر ولداً لأبيه يعقوب عليه السلام. كان حب والده سبباً في حقد إخوته وسبباً في محنته التي كانت خيراً وبركة عليه وعلى الأمم القريبة من مصر، وعلى مصر. ذكر إسم يوسف في 26 آية في الكتاب الكريم: 24 آية في سورة يوسف، وآية في الأنعام، وآية في سورة غافر. أسباب نزول هذه السورة في القرآن الكريم: إن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم اليهود: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف فنزلت (النسفي).
قصة يوسف: أنه كان صغيراً رأى في منامه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدوا له، وأنه قص هذه الرؤية على والده في غيبة إخوته. رأى أبناء يعقوب من إيثار أبيهم ليوسف وعطفه عليه ما لم يكن منه لواحد منهم فغاظهم ذلك. وهم في سن الشباب وطيش الحداثة فأضمروا له الشر، وكان يعقوب عليه السلام قد أحس الشر الذي يضمره بنوه لأخيهم ولم يشأ أن يعلمهم بتخوفه جانبهم فقال: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ) ثم ترقى في تعليل ضنه به قائلاً ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) والله يعلم أنه يتخوف عدوانهم على ولده أكثر مما يتخوف من عدوان الذئب. لم يعجز أبناء يعقوب بجواب، بل أجابوه جوابا لا يبقى له علة يتشبث بها. جاء يوسف وعليه قميص مخطط قد خصه به والده. فقال أخوته قد جاء صاحب الأحلام لابس ( البحاد المخطط ) ، ثم فكروا ما يصنعون بأخيهم فانتهوا إلى أن يلقوه في الجب ( البئر ) بعد أن يخلعوا قميصه ولا يسفكوا دمه، وأن يخبروا أباهم بأن وحشاً افترسه . ولما كان المريب يشعر من نفسه بالتهمة ويتخيل أن كل واحد قد اطلع على خبيئة أمره قالوا لأبيهم (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) فلم يخف على أبيهم شأنهم. وكان يعقوب عليه السلام كأذكى المحققين في القضايا في هذه الأيام إذ أخذ القميص، وحين لم يجد به تمزيقاً ولا قطعاً قال لهم ساخراً: ما أحلم وأعطف الذئب الذي افترس ولدي ولم يمزق له قميصه ولم يترك ناباً ولا ظفراً، وقال لهم (َ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
بعد أن ترك يوسف في الجب (البئر) وكانت قليلة الماء جاءت سيارة (قافلة) فأرسلوا رجلاً ليحضر ماءً، فأدلى دلوه في الجب فتعلق به يوسف، فلما رفع الدلو فإذا بغلام وسيم فاستبشر الرجل ) قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَم)ٌ يقول المفسرون: أن الذين كانوا على الماء اعوا في القافلة أنهم اشتروه من سادته وأسروه بضاعة حتى وردوا مصر وباعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين. بيع يوسف لرئيس الشرطة في مصر ولم يعين البلد كان عاصمة الملك في البلاد المصرية في ذلك الزمان، والأقرب أنها مدينة (صان) (بمحافظة الشرقية) الآن، وذلك أن ملك مصر في ذلك الزمان كان من العماليق الذين وردوا مصر قبل نزول إبراهيم عليه السلام، وكان منهم الملك الذي أكرم مثوى إبراهيم وأعطاه الأموال الكثيرة، وهم الذين شغلوا تاريخ مصر من بين الأسرتين الرباعة عشرة والثامنة عشرة التي منه أحمس.
وعندما استقر المقام بيوسف عند رئيس الشرطة أحبه وقال لإمرأته ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) كان اسم رئيس الشرطه *فوطفيار* فكان يوسف أثيراً لديه فجعله صاحب أمره ونهيه والمتصرف في بيته. قد تولى الله تعالى يوسف بالهداية والتربية والتوفيق وعلمه من لدنه علماً عظيما, كما قال تعالى:وَ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).
كان جمال وحسن وبهاء يوسف عليه السلام سبباً في محنته، ومحنته كانت مكمناً لجماله عليه وآله وعلى أهل مصر وجميع الأمم التي تقترب من مصر (ربما كمنت المنن في المحن). ابن عطاء الله السكندري. انت تلك المحن أن إمرأة العزيز (رئيس الشرطة) نظرت ليوسف وما عليه من الخلق السوي والخلق المفرط في الحسن فأشعل ذلك في نفسها جذوة الحب، وصار يزداد ذلك بتكرار رؤيتها له إلى أن غلبها الحب على حيائها فأخذت تداعب يوسف لعاملين يكفي كل واحد منهما لعزوفه وامتناعه عما تريد، أولهما إيمانه بالله وامتثاله أوامر بالتزام الطهارة من الأرجاس الخلقية تلك الطهارة التي وجد عليها زباه وجده وجد أبيه. ثانيهما: أن زوجها الذي عطف عليه، وجعله متصرفاً في بيته، وأمواله ووثق به ثقة ليس لها حد، فلا ينبغي له أن يقابل نعمته بالجحود فلو لم يكن له دين يمنعه ويلزمه الطهارة لكان ذلك كافياً لحفظ العزيز في أهله والبعد عن تدنيس شرفه. كان ذلك أدب وسلوك يوسف معها إلى أن اعتزمت شفاء ما في نفسها من الحب والوجد فصارحته القول، ودعته إلى نفسه دعوة لا رجوع عنها احتاطت للأمر، وغلقت الأبواب وقالت ليوسف : (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) (فأبى وقال (إِنَّهُ) أي زوجها ( رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
شاب في ريعان الفتوة ونضارة الشباب تدعوه إمرأة جميلة إلى نفسها فيغلبه دينه ويعصمه رعي الذمام لزوجها، ثم يولي وجهه تجاه الباب يطلب نجاة من شيطانها، وهي تجاذبه ثوبه حتى تمزق من الخلف، إلى أن يفلت من يدها فيستبقان الباب، هو يريد فتحه وهي تحول بينه وبين ما يريد من الإفلات والهروب منها دون قضاء ما ترغب. حينئذ يجد زوجها وجهاً لوجه عند الباب.
في الأمثال (ضربني وبكى وسبقني واشتكى) هذا المثل هو إمرأة العزيز مع يوسف حين رأت زوجها عند الباب ومعه ابن عمها أرادت أن تشفي غل صدرها وحنقها على يوسف لما فوت عليها مارغبت فيه، وتوقعه في الشر جزاء ربائه وعزوفه عن مطاوعتها. تقدمت نحو زوجها باكية شاكية قائلة (ما جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وأفهمته أنه راودها عن نفسها وأنها أبت وامتنعت عليه. وجد يوسف نفسه في مأزق حرج وموقف لا يحسد عليه فالتزم النجاة بالصدق، وأنه اللائق بمقابلة العزيز بما صنع معه من مكارم فقال (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) وأنا أبيت حتى نازعتني ثوبي، ظهرت هنا فراسة ابن عمها في إحقاق الحق من قولهما فقال (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ *26* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ).
كلمة أوردها الإمام الفخر الرازي في تفسيره خلاصتها:
إن يوسف قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقد شهد الشيطان ببراءته بقوله قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *82* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) وشهد ببراءته الشاهد من أهل العزيز إذ قال (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيديهن بقولهن (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) وشهدت ببراءته زوجة العزيز بقولها (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
عزيزي القارئ الذي يريد أن يتهم يوسف بالهم والرغبة في إمرأة العزيز عليه أن يختار أن يكون من حزب الله أو من حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف فلا مفر له من الإقرار بالحق على أية حال، وهو براءة يوسف من الهم والرغبة والإيقاع بإمرأة العزيز.
شاع نبأ حادثة امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولا كته الألسنة لائمة هذا الفعل، فرأى العزيز وحسن له مشيروه أنه لا يخلصهم من هذا العار وكف ألسنة الناس عنه وزوجته إلا سجنه، وليوهموا الناس إن سجنه لأنه إثم كاذب في ادعاء البراءة، وأن زوجة العزيز بريئة مما قذفت به، وهذا مصداق لقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ .(
أدخل يوسف السجن على غير فعل أتاه. ودخل معه السجن رجلان، أحدهما: رئيس الخبازين عند الملك، والثاني رئيس سقاته، وقصا على يوسف منامين رأياه في مناميهما. انتهز يوسف هذه الفرصة ليعلن لهما دينه ويدعوهما إليه، وقام فيهما خطيباً ينبئهما بمقدرته على تأويل الرؤيا. بعد تلك السنين أراد الله أن يعجل بالفرج ليوسف بعد ما أمضاه من السنين في السجن، فهيأ الله لذلك من الأسباب، وذلك أن الملك رأى رؤيا أفزعته فأصبح فرعون منزعجاً لما رآه فدعا بالسحرة وكل من له علم، يسألهم عن تأويل هذا المنام فلم يجد عند أحد منهم جواباً. انتبه رئيس سقاة الملك الذي سجن مع يوسف للأمر، وعرضه على الملك وقص عليه حلمه وحلم رئيس الخبازين، وأن غلاماً عبرانياً في السجن - لرئيس الشرطة - قد عبر لهما رؤياهما، فكان الأمر كما قال، وطلب منه أن يأتي بالتعبير الذي لا مراء فيه من يوسف، فلما التقى رئيس السقاة بيوسف قال له: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) تأكل الخضر فأخبره يوسف بتأويل ذلك. بأن مصر يأتي عليها سبع سنين تجود الارض فيها بالغلات الوافرة، ثم سبع سنين مجدبة تأتي على المخزون من السنين السبع التي تقدمتها. ثم بعد ذلك تأتي أعوام الخصب والنماء والرغد، وأن عليهم أن يقتصدوا في سنين الخصب ويخزنوا ما زاد وفضل عن القوت في سنبله حتى إذا حل الجدب والفقر وجدوا فيما يخزنزن ما يسد الحاجة والرمق إلى أن يأتي الخصب.
خف رئيس السقاة راجعاً لمليكه حاملاً تأويل رؤياه فسر بها، وعلم أنه تأويل مناسب، فقال لاملك ائتوني بيوسف، فلما أرادوه على ذلك أبى أن يخرج من محبسه حتى يعرف أمره على جليته وطلب يوسف إلى الرسول أن يعود لمليكه ويسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن (صاحبات امرأة رئيس الشرطة) ولا بد أن يكون قد سماهن، فلما حضرن سألهن عن شأن يوسف، فقلن: حاش لله ما علمنا عليه سوءاً، وأنكرن أن يكن سمعن شيئاً عن شأنه وأمر زوجة العزيز. يمكن أن يفهم قولهن هذا على أنهن لم يسمعن عن يوسف شيئاً حينئذ يكن قد أنكرن الشهادة ولم يؤدين ما طلب يوسف وهو الشهادة بما سمعنه من امرأة العزيز وتوعدها يوسف بالسجن إذا لم يصدع بأمرها، وفيه يكن قد خيبن أمل يوسف فيهن). فإن عدم علمهن بالسوء عليه لا يجعله بريئاً في الواقع، وهذه شهادة نفي لا تثبت بها الوقائع التي أراد يوسف إثباتها . رأت امرأة العزيز (رئيس الشرطة) أن لا منجاة لها حين أراد الملك اختيار يوسف له وأن الله أكرمه، وأن تماديها في الاتهام بما لم يصنع يوسف، بعدما رمته بما منه براء، فأٌرت مغلوبة على نفسها وباحت لزوجها وآلها بما كتمته سنين عدة . فقالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ). بهذا الإقرار الدال على صدق يوسف وبراءته مما اتهم به ظلماً ما كان يظن أن يصدر من زوج العزيز التي جنت عليه وأدخلته السجن دون جريرة، لم يعد في حاجة لجمع الأدلة والبراهين على أنه حبس ظلماً. حين ظهرت براءة يوسف لفرعون، خرج يوسف واضح الحجة مستقيم الحجة.
قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي. فجاء للملك وكلمه سر الملك به وأعجبه عقلهن وسأله عما يرضيه عملاً له ويكون فيه سروره؟ فقال يوسف: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .التفت فرعون إلى يوسف وقال له: بعد ما أعلمك الله كل هذان ليس بصير وحكيم مثلك أنت تكون على بيتي، إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك. وقال له الملك: قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع خاتمه من يده وجعله في يد يوسف وألبسه طوقاً من ذهب وأركبه مركبته الثانية، ونادوا على الناس أمامه بالركوع له، وسمي يوسف * صفنات فعنيح * بلغ يوسف عليه السلام ثلاثين عاماً حين ذلك الحادث فخرج وارتحل متفقداً كل أرض مصر ليقف على الأحوال وتهيئة الأعمال اللازمة لمقاومة الجوع والقحط في البلاد.
مرت السبع المخصبة وأعد يوسف عدته فيها، واتخذ الخزائن لخزن الغلات في غلفها. ثم جاءت السبع المجدبة فاشتد الجدب في جميع الأنحاء من الأرض - ذهب المصريون لفرعون يطلبون القوت فأحالهم على (صفنات فعنيح) يوسف، ففتح المخازن وباع لهم ما يكفيهم من الطعام. أحس أهل فلسطين الجوع فعلموا أن الطعام بمصر، فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الدواب لحمل الطعام وأعطاهم الثمن، فقدموا إلى مصر لشراء قوت أهلهم فلما قدموا إلى مصر رآهم يوسف فعرفهم ولم يعرفوه. باع يوسف ما احتاجه إخوته من مؤن، وقال لهم إئتوني بأخ لكم من أبيكم أعاملكم وأبيع لكم ثانية، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم ولا تأتوا إلى. رأى يوسف إخوته جميعاً إلا أخاه شقيقه من أمه ويعقوب (بنيامين) وهو أصغر منه .عاد أخوة يوسف لأبيهم وأخبروه أن (وزير التموين والتجارة) منعهم الشراء من الطعام فيما بعد حتى يأتوه باخيهم، فتذكر يعقوب ما جرى ولوعته على يوسف فقال لهم (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). شد القحط والجدب الذي عم الأنحاء جعل يعقوب يرضى بذهاب ابنه وأوصى أبناءه ألا يدخلوا من باب واحد إذا أتوا مصر، حتى لا يظن بهم أنهم جواسيس أو استطلاع لمن واءهم ممن يريد الإغارة على البلاد من الأقوام التي عضها الجوع والقفر والجدب.
وصل أخوة يوسف أرض مصر، فلما رأى يوسف أخوته ومعهم بنيامين أمر رجاله بإضافتهم وأن يهيئوا طعاماً لأكله معهم وقت الظهر. ولما جاء يوسف وقت الغداء قدموا إليه الهدايا، ونظر إلى بنيامين وقال: أهذا أخوكم الصغير الذي قلتم لي عنه؟ ودعا قائلاً الله ينعم عليك يا بني! ولم يطق يوسف الجلوس معهم لما حضره من الحنين لأخيه فذهب منفرداً وبكى ثم عاد وسألهم عن أبيه. ثم قدم إليهم الطعام، وأكل وحده.
أمر يوسف بتجهيز أخوته وأن توضع فضة كل واحد في عدله وتوضع طاسة في عدل الصغير، التي كان يشرب فيها، فساروا غير بعيد ففاجأهم وكيل يوسف يناديهم ويوبخهم على ما صنعوا وأنهم قابلوا الإحسان بالجحود وأنهم سرقوا سقاية الملك (يوسف) فأظهروا البراءة وقالوا: من وجدت سقاية الملك في رحله يؤخذ عبداً للملك. ففتش أعدالهم. فوجد السقاية في رحل بنيامين، فاستعطفوا يوسف فلم يقبل وقال يؤخذ الذي وجد الطاس في عدله عبداً لي. فقالوا بوجود يوسف: قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل, أي يوسف فقد سرق لأبي أمِّه صنماً من ذهب فكسره لئلا يعبده (فأسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها) يظهرها (لهم) والضمير للكلمة التي في قوله (قال) في نفسه (أنتم شرٌّ مكاناً) من يوسف وأخيه لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له (والله أعلم) عالم (بما تصفون).
عاد أخوة يوسف عدا أكبرهم وأصغرهم إلى أبيهم وأخبروه بالأمر على جليته، فأحاله على تدبير منهم كما دبروا ليوسف من قبل فزداد حزنه حتى ابيضت عيناه، فقالك يا أسفا على يوسف! أمر يعقوب أولاده بالعودة لمصر ليتحسسوا شأن يوسف وأخيه وأمرهم بعدم اليأس من روح الله، فذهبوا كما أمرهم.
جاء أخوة يوسف و (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فقال لهم يوسف مذكراً بما كان منهم من الإساءة: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ). كلمهم بلغتهم أول مرة، فعرفوا أنه يوسف لذلك (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين ).
شد يعقوب وآله أجمعون رحالهم لمصر، فدخلوا على يوسف فآوى أبويه (يعقوب وزوجته:- خالة يوسف) فخروا له سجدا :قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (( أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا ( وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) أي التي كان قصها على أبيه من قبل ( إني رأيت أحد عشر كوكبا ) الآية وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى هذا مضمون قول قتادة وغيره وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماهذا يا معاذ فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت حق أن يسجد لك يا رسول الله فقال لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها وفي حديث آخر أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وكان سلمان حديث عهد بالإسلام فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تسجد لي ياسلمان واسجد للحي الذي لا يموت والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ولهذا خروا له سجدا)). قال يوسف لأبيه يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً. وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجعلني على خزائن الأرض، وجاء بكم بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي وهذا كله من لطف الله بي وبكم إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم. من ذلك بمخيلة يوسف فجاء يشكر الله تعالى معلناً نعمته عليه بما منحه من علم وملك داعياً الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة، وأن يتوفاه مسلماً (أي مطيعاً) لله غير عاص ولا آثم وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.
قصة يوسف: أنه كان صغيراً رأى في منامه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدوا له، وأنه قص هذه الرؤية على والده في غيبة إخوته. رأى أبناء يعقوب من إيثار أبيهم ليوسف وعطفه عليه ما لم يكن منه لواحد منهم فغاظهم ذلك. وهم في سن الشباب وطيش الحداثة فأضمروا له الشر، وكان يعقوب عليه السلام قد أحس الشر الذي يضمره بنوه لأخيهم ولم يشأ أن يعلمهم بتخوفه جانبهم فقال: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ) ثم ترقى في تعليل ضنه به قائلاً ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) والله يعلم أنه يتخوف عدوانهم على ولده أكثر مما يتخوف من عدوان الذئب. لم يعجز أبناء يعقوب بجواب، بل أجابوه جوابا لا يبقى له علة يتشبث بها. جاء يوسف وعليه قميص مخطط قد خصه به والده. فقال أخوته قد جاء صاحب الأحلام لابس ( البحاد المخطط ) ، ثم فكروا ما يصنعون بأخيهم فانتهوا إلى أن يلقوه في الجب ( البئر ) بعد أن يخلعوا قميصه ولا يسفكوا دمه، وأن يخبروا أباهم بأن وحشاً افترسه . ولما كان المريب يشعر من نفسه بالتهمة ويتخيل أن كل واحد قد اطلع على خبيئة أمره قالوا لأبيهم (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) فلم يخف على أبيهم شأنهم. وكان يعقوب عليه السلام كأذكى المحققين في القضايا في هذه الأيام إذ أخذ القميص، وحين لم يجد به تمزيقاً ولا قطعاً قال لهم ساخراً: ما أحلم وأعطف الذئب الذي افترس ولدي ولم يمزق له قميصه ولم يترك ناباً ولا ظفراً، وقال لهم (َ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
بعد أن ترك يوسف في الجب (البئر) وكانت قليلة الماء جاءت سيارة (قافلة) فأرسلوا رجلاً ليحضر ماءً، فأدلى دلوه في الجب فتعلق به يوسف، فلما رفع الدلو فإذا بغلام وسيم فاستبشر الرجل ) قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَم)ٌ يقول المفسرون: أن الذين كانوا على الماء اعوا في القافلة أنهم اشتروه من سادته وأسروه بضاعة حتى وردوا مصر وباعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين. بيع يوسف لرئيس الشرطة في مصر ولم يعين البلد كان عاصمة الملك في البلاد المصرية في ذلك الزمان، والأقرب أنها مدينة (صان) (بمحافظة الشرقية) الآن، وذلك أن ملك مصر في ذلك الزمان كان من العماليق الذين وردوا مصر قبل نزول إبراهيم عليه السلام، وكان منهم الملك الذي أكرم مثوى إبراهيم وأعطاه الأموال الكثيرة، وهم الذين شغلوا تاريخ مصر من بين الأسرتين الرباعة عشرة والثامنة عشرة التي منه أحمس.
وعندما استقر المقام بيوسف عند رئيس الشرطة أحبه وقال لإمرأته ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) كان اسم رئيس الشرطه *فوطفيار* فكان يوسف أثيراً لديه فجعله صاحب أمره ونهيه والمتصرف في بيته. قد تولى الله تعالى يوسف بالهداية والتربية والتوفيق وعلمه من لدنه علماً عظيما, كما قال تعالى:وَ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).
كان جمال وحسن وبهاء يوسف عليه السلام سبباً في محنته، ومحنته كانت مكمناً لجماله عليه وآله وعلى أهل مصر وجميع الأمم التي تقترب من مصر (ربما كمنت المنن في المحن). ابن عطاء الله السكندري. انت تلك المحن أن إمرأة العزيز (رئيس الشرطة) نظرت ليوسف وما عليه من الخلق السوي والخلق المفرط في الحسن فأشعل ذلك في نفسها جذوة الحب، وصار يزداد ذلك بتكرار رؤيتها له إلى أن غلبها الحب على حيائها فأخذت تداعب يوسف لعاملين يكفي كل واحد منهما لعزوفه وامتناعه عما تريد، أولهما إيمانه بالله وامتثاله أوامر بالتزام الطهارة من الأرجاس الخلقية تلك الطهارة التي وجد عليها زباه وجده وجد أبيه. ثانيهما: أن زوجها الذي عطف عليه، وجعله متصرفاً في بيته، وأمواله ووثق به ثقة ليس لها حد، فلا ينبغي له أن يقابل نعمته بالجحود فلو لم يكن له دين يمنعه ويلزمه الطهارة لكان ذلك كافياً لحفظ العزيز في أهله والبعد عن تدنيس شرفه. كان ذلك أدب وسلوك يوسف معها إلى أن اعتزمت شفاء ما في نفسها من الحب والوجد فصارحته القول، ودعته إلى نفسه دعوة لا رجوع عنها احتاطت للأمر، وغلقت الأبواب وقالت ليوسف : (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) (فأبى وقال (إِنَّهُ) أي زوجها ( رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
شاب في ريعان الفتوة ونضارة الشباب تدعوه إمرأة جميلة إلى نفسها فيغلبه دينه ويعصمه رعي الذمام لزوجها، ثم يولي وجهه تجاه الباب يطلب نجاة من شيطانها، وهي تجاذبه ثوبه حتى تمزق من الخلف، إلى أن يفلت من يدها فيستبقان الباب، هو يريد فتحه وهي تحول بينه وبين ما يريد من الإفلات والهروب منها دون قضاء ما ترغب. حينئذ يجد زوجها وجهاً لوجه عند الباب.
في الأمثال (ضربني وبكى وسبقني واشتكى) هذا المثل هو إمرأة العزيز مع يوسف حين رأت زوجها عند الباب ومعه ابن عمها أرادت أن تشفي غل صدرها وحنقها على يوسف لما فوت عليها مارغبت فيه، وتوقعه في الشر جزاء ربائه وعزوفه عن مطاوعتها. تقدمت نحو زوجها باكية شاكية قائلة (ما جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وأفهمته أنه راودها عن نفسها وأنها أبت وامتنعت عليه. وجد يوسف نفسه في مأزق حرج وموقف لا يحسد عليه فالتزم النجاة بالصدق، وأنه اللائق بمقابلة العزيز بما صنع معه من مكارم فقال (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) وأنا أبيت حتى نازعتني ثوبي، ظهرت هنا فراسة ابن عمها في إحقاق الحق من قولهما فقال (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ *26* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ).
كلمة أوردها الإمام الفخر الرازي في تفسيره خلاصتها:
إن يوسف قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقد شهد الشيطان ببراءته بقوله قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *82* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) وشهد ببراءته الشاهد من أهل العزيز إذ قال (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيديهن بقولهن (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) وشهدت ببراءته زوجة العزيز بقولها (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
عزيزي القارئ الذي يريد أن يتهم يوسف بالهم والرغبة في إمرأة العزيز عليه أن يختار أن يكون من حزب الله أو من حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف فلا مفر له من الإقرار بالحق على أية حال، وهو براءة يوسف من الهم والرغبة والإيقاع بإمرأة العزيز.
شاع نبأ حادثة امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولا كته الألسنة لائمة هذا الفعل، فرأى العزيز وحسن له مشيروه أنه لا يخلصهم من هذا العار وكف ألسنة الناس عنه وزوجته إلا سجنه، وليوهموا الناس إن سجنه لأنه إثم كاذب في ادعاء البراءة، وأن زوجة العزيز بريئة مما قذفت به، وهذا مصداق لقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ .(
أدخل يوسف السجن على غير فعل أتاه. ودخل معه السجن رجلان، أحدهما: رئيس الخبازين عند الملك، والثاني رئيس سقاته، وقصا على يوسف منامين رأياه في مناميهما. انتهز يوسف هذه الفرصة ليعلن لهما دينه ويدعوهما إليه، وقام فيهما خطيباً ينبئهما بمقدرته على تأويل الرؤيا. بعد تلك السنين أراد الله أن يعجل بالفرج ليوسف بعد ما أمضاه من السنين في السجن، فهيأ الله لذلك من الأسباب، وذلك أن الملك رأى رؤيا أفزعته فأصبح فرعون منزعجاً لما رآه فدعا بالسحرة وكل من له علم، يسألهم عن تأويل هذا المنام فلم يجد عند أحد منهم جواباً. انتبه رئيس سقاة الملك الذي سجن مع يوسف للأمر، وعرضه على الملك وقص عليه حلمه وحلم رئيس الخبازين، وأن غلاماً عبرانياً في السجن - لرئيس الشرطة - قد عبر لهما رؤياهما، فكان الأمر كما قال، وطلب منه أن يأتي بالتعبير الذي لا مراء فيه من يوسف، فلما التقى رئيس السقاة بيوسف قال له: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) تأكل الخضر فأخبره يوسف بتأويل ذلك. بأن مصر يأتي عليها سبع سنين تجود الارض فيها بالغلات الوافرة، ثم سبع سنين مجدبة تأتي على المخزون من السنين السبع التي تقدمتها. ثم بعد ذلك تأتي أعوام الخصب والنماء والرغد، وأن عليهم أن يقتصدوا في سنين الخصب ويخزنوا ما زاد وفضل عن القوت في سنبله حتى إذا حل الجدب والفقر وجدوا فيما يخزنزن ما يسد الحاجة والرمق إلى أن يأتي الخصب.
خف رئيس السقاة راجعاً لمليكه حاملاً تأويل رؤياه فسر بها، وعلم أنه تأويل مناسب، فقال لاملك ائتوني بيوسف، فلما أرادوه على ذلك أبى أن يخرج من محبسه حتى يعرف أمره على جليته وطلب يوسف إلى الرسول أن يعود لمليكه ويسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن (صاحبات امرأة رئيس الشرطة) ولا بد أن يكون قد سماهن، فلما حضرن سألهن عن شأن يوسف، فقلن: حاش لله ما علمنا عليه سوءاً، وأنكرن أن يكن سمعن شيئاً عن شأنه وأمر زوجة العزيز. يمكن أن يفهم قولهن هذا على أنهن لم يسمعن عن يوسف شيئاً حينئذ يكن قد أنكرن الشهادة ولم يؤدين ما طلب يوسف وهو الشهادة بما سمعنه من امرأة العزيز وتوعدها يوسف بالسجن إذا لم يصدع بأمرها، وفيه يكن قد خيبن أمل يوسف فيهن). فإن عدم علمهن بالسوء عليه لا يجعله بريئاً في الواقع، وهذه شهادة نفي لا تثبت بها الوقائع التي أراد يوسف إثباتها . رأت امرأة العزيز (رئيس الشرطة) أن لا منجاة لها حين أراد الملك اختيار يوسف له وأن الله أكرمه، وأن تماديها في الاتهام بما لم يصنع يوسف، بعدما رمته بما منه براء، فأٌرت مغلوبة على نفسها وباحت لزوجها وآلها بما كتمته سنين عدة . فقالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ). بهذا الإقرار الدال على صدق يوسف وبراءته مما اتهم به ظلماً ما كان يظن أن يصدر من زوج العزيز التي جنت عليه وأدخلته السجن دون جريرة، لم يعد في حاجة لجمع الأدلة والبراهين على أنه حبس ظلماً. حين ظهرت براءة يوسف لفرعون، خرج يوسف واضح الحجة مستقيم الحجة.
قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي. فجاء للملك وكلمه سر الملك به وأعجبه عقلهن وسأله عما يرضيه عملاً له ويكون فيه سروره؟ فقال يوسف: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .التفت فرعون إلى يوسف وقال له: بعد ما أعلمك الله كل هذان ليس بصير وحكيم مثلك أنت تكون على بيتي، إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك. وقال له الملك: قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع خاتمه من يده وجعله في يد يوسف وألبسه طوقاً من ذهب وأركبه مركبته الثانية، ونادوا على الناس أمامه بالركوع له، وسمي يوسف * صفنات فعنيح * بلغ يوسف عليه السلام ثلاثين عاماً حين ذلك الحادث فخرج وارتحل متفقداً كل أرض مصر ليقف على الأحوال وتهيئة الأعمال اللازمة لمقاومة الجوع والقحط في البلاد.
مرت السبع المخصبة وأعد يوسف عدته فيها، واتخذ الخزائن لخزن الغلات في غلفها. ثم جاءت السبع المجدبة فاشتد الجدب في جميع الأنحاء من الأرض - ذهب المصريون لفرعون يطلبون القوت فأحالهم على (صفنات فعنيح) يوسف، ففتح المخازن وباع لهم ما يكفيهم من الطعام. أحس أهل فلسطين الجوع فعلموا أن الطعام بمصر، فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الدواب لحمل الطعام وأعطاهم الثمن، فقدموا إلى مصر لشراء قوت أهلهم فلما قدموا إلى مصر رآهم يوسف فعرفهم ولم يعرفوه. باع يوسف ما احتاجه إخوته من مؤن، وقال لهم إئتوني بأخ لكم من أبيكم أعاملكم وأبيع لكم ثانية، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم ولا تأتوا إلى. رأى يوسف إخوته جميعاً إلا أخاه شقيقه من أمه ويعقوب (بنيامين) وهو أصغر منه .عاد أخوة يوسف لأبيهم وأخبروه أن (وزير التموين والتجارة) منعهم الشراء من الطعام فيما بعد حتى يأتوه باخيهم، فتذكر يعقوب ما جرى ولوعته على يوسف فقال لهم (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). شد القحط والجدب الذي عم الأنحاء جعل يعقوب يرضى بذهاب ابنه وأوصى أبناءه ألا يدخلوا من باب واحد إذا أتوا مصر، حتى لا يظن بهم أنهم جواسيس أو استطلاع لمن واءهم ممن يريد الإغارة على البلاد من الأقوام التي عضها الجوع والقفر والجدب.
وصل أخوة يوسف أرض مصر، فلما رأى يوسف أخوته ومعهم بنيامين أمر رجاله بإضافتهم وأن يهيئوا طعاماً لأكله معهم وقت الظهر. ولما جاء يوسف وقت الغداء قدموا إليه الهدايا، ونظر إلى بنيامين وقال: أهذا أخوكم الصغير الذي قلتم لي عنه؟ ودعا قائلاً الله ينعم عليك يا بني! ولم يطق يوسف الجلوس معهم لما حضره من الحنين لأخيه فذهب منفرداً وبكى ثم عاد وسألهم عن أبيه. ثم قدم إليهم الطعام، وأكل وحده.
أمر يوسف بتجهيز أخوته وأن توضع فضة كل واحد في عدله وتوضع طاسة في عدل الصغير، التي كان يشرب فيها، فساروا غير بعيد ففاجأهم وكيل يوسف يناديهم ويوبخهم على ما صنعوا وأنهم قابلوا الإحسان بالجحود وأنهم سرقوا سقاية الملك (يوسف) فأظهروا البراءة وقالوا: من وجدت سقاية الملك في رحله يؤخذ عبداً للملك. ففتش أعدالهم. فوجد السقاية في رحل بنيامين، فاستعطفوا يوسف فلم يقبل وقال يؤخذ الذي وجد الطاس في عدله عبداً لي. فقالوا بوجود يوسف: قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل, أي يوسف فقد سرق لأبي أمِّه صنماً من ذهب فكسره لئلا يعبده (فأسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها) يظهرها (لهم) والضمير للكلمة التي في قوله (قال) في نفسه (أنتم شرٌّ مكاناً) من يوسف وأخيه لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له (والله أعلم) عالم (بما تصفون).
عاد أخوة يوسف عدا أكبرهم وأصغرهم إلى أبيهم وأخبروه بالأمر على جليته، فأحاله على تدبير منهم كما دبروا ليوسف من قبل فزداد حزنه حتى ابيضت عيناه، فقالك يا أسفا على يوسف! أمر يعقوب أولاده بالعودة لمصر ليتحسسوا شأن يوسف وأخيه وأمرهم بعدم اليأس من روح الله، فذهبوا كما أمرهم.
جاء أخوة يوسف و (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فقال لهم يوسف مذكراً بما كان منهم من الإساءة: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ). كلمهم بلغتهم أول مرة، فعرفوا أنه يوسف لذلك (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين ).
شد يعقوب وآله أجمعون رحالهم لمصر، فدخلوا على يوسف فآوى أبويه (يعقوب وزوجته:- خالة يوسف) فخروا له سجدا :قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (( أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا ( وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) أي التي كان قصها على أبيه من قبل ( إني رأيت أحد عشر كوكبا ) الآية وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى هذا مضمون قول قتادة وغيره وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماهذا يا معاذ فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت حق أن يسجد لك يا رسول الله فقال لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها وفي حديث آخر أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وكان سلمان حديث عهد بالإسلام فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تسجد لي ياسلمان واسجد للحي الذي لا يموت والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ولهذا خروا له سجدا)). قال يوسف لأبيه يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً. وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجعلني على خزائن الأرض، وجاء بكم بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي وهذا كله من لطف الله بي وبكم إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم. من ذلك بمخيلة يوسف فجاء يشكر الله تعالى معلناً نعمته عليه بما منحه من علم وملك داعياً الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة، وأن يتوفاه مسلماً (أي مطيعاً) لله غير عاص ولا آثم وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.